الأحد، 1 سبتمبر 2019

مجاهد بن جبير




هو الإمام شيخ القراء والمفسرين مجاهد بن جبير أبو الحجاج المكي الأسود، مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، ويقال: مولى عبد الله بن السائب القارئ، ويقال: مولى قيس بن الحارث المخزومي، عده ابن سعد في الطبقة الثانية من التابعين.
بلد المعيشة والرحلات:

كان مجاهد بن جبير كثير الأسفار والرحلات، فقد سافر إلى مصر وعاش فيها فترة من الزمن، ثم انتقل إلى الكوفة وعاش فيها فترة من الزمن، وسافر إلى اليمن للسياحة والتأمل.
الصحابة الذين تعلم على أيديهم

روى عن عبد الله بن عباس فأكثر وأطاب، وعنه أخذ القرآن والتفسير والفقه، وكان ملازمًا لابن عباس، ومن خاصة تلاميذه، وكان يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات أوقفه على كل آية أسأله فيم نزلت؟ وكيف كانت؟
وروى عن أبي هريرة وعائشة أم المؤمنين وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر ورافع بن خديج وأم كرز وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأم هانئ بنت أبي طالب وأسيد بن ظهير، وعدة من أصحاب الرسول .
من تعلموا على يديه

تعلم على يديه وأخذ عنه عكرمة مولى ابن عباس وطاوس بن كيسان وعطاء بن أبي رباح وهم من أقرانه، وعمرو بن دينار وأبو الزبير والحكم بن عتيبة وابن أبي نجيح ومنصور بن المعتمر وسليمان الأعمش وأيوب السختياني وابن عون وعمر بن ذر ومعروف ابن مشكان، وقتادة بن دعامة والفضل بن ميمون وإبراهيم بن مهاجر وحميد الأعرج وبكير بن الأخنس والحسن الفقيمي وخصيف وسليمان الأحول وسيف بن سليمان وعبد الكريم الجزري وأبو حصين والعوام ابن حوشب وفطر بن خليفة والنضر بن عربي، وخلق كثير.
من أهم ملامح شخصيته

العلم

يعد مجاهد من أوعية العلم وقد أخذ ابن عمر  بركابه يومًا وقال له: وددت من ابني سالمًا وغلامي نافعًا يحفظان حفظك. وقد تفقه على يد عبد الله بن عباس حبر الأمة حتى صار أعلم أهل زمانه بالتفسير، ولم يرد بعلمه يومًا مالاً أو دنيا، حتى قيل: إنه لم يكن أحد يريد بالعلم وجه الله إلا مجاهد وطاوس. وجاء في كنز العمال: أنه قدم عمرو بن العاص على عمر بن الخطاب، فسأله عمر: من استخلفت على مصر؟ قال: مجاهد بن جبير. فقال له عمر: مولى ابنة غزوان. قال: نعم، إنه كاتب. فقال عمر: إن العلم ليرفع بصاحبه.
وكان عالمًا بالقرآن الكريم؛ فعن قتادة قال: أعلم من بقي بالحلال والحرام الزهري، وأعلم من بقي بالقرآن مجاهد.
وتمنى بعض العلماء لو تعلم على يد مجاهد، وأخذ عنه ولو شيئًا يسيرًا، يقول ابن جريج: لأنْ أكون سمعت من مجاهد فأقول سمعت مجاهدًا أحب إليَّ من أهلي ومالي.
السير في الأرض للتأمل والتدبر

وكان مجاهد بن جبير رجل قرأ القرآن وتشبع بمعانيه، وقرأ فيه {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} [العنكبوت: 20] فخرج في الأرض للسير فيها متفكرًا متدبرًا في خلق الله ؛ فعن الأعمش قال: كان مجاهد لا يسمع بأعجوبة إلا ذهب فنظر إليها، فذهب إلى حضرموت إلى بئر برهوت. يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: بلغنا أنه ذهب إلى بابل وطلب من متوليها من يوقفه على هاروت وماروت، قال: فبعث معي يهوديًّا حتى أتينا تنورًا في الأرض فكشف لنا عنهما، فإذا بهما معلقان منكسان، فقلت: آمنت بالذي خلقكما. فاضطربا فغشي عليَّ وعلى اليهودي، ثم أفقنا بعد حين فلامني اليهودي وقال: كدت من تهلكنا.
منهجه في التفسير

صنف مجاهد تفسير القرآن، وكان مجاهد من أهل الاستنباط والاجتهاد، والحرية العقلية، فربما يصرف النصوص عن ظاهرها كتأويل المسخ قردةً بمسخ القلوب، وقد عرَّضه ذلك لاحقًا لشيء من الانتقاد، وما كان ذلك لينقص من قدره، فعليه اعتماد الشافعي في التفسير، وكذا البخاري في صحيحه.
من تفسيراته

عن مجاهد بن جبير من اليهود لما صلبوا ذلك الرجل الذي شبه لهم وهم يحسبونه المسيح وسلم لهم أكثر النصارى بجهلهم ذلك، تسلطوا على أصحابه بالقتل والضرب والحبس، فبلغ أمرهم إلى صاحب الروم وهو ملك دمشق في ذلك الزمان، فقيل له: إن اليهود قد تسلطوا على أصحاب رجل كان يذكر لهم أنه رسول الله، وكان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويفعل العجائب، فعدوا عليه فقتلوه وأهانوا أصحابه وحبسوهم، فبعث فجيء بهم وفيهم يحيى بن زكريا وشمعون وجماعة، فسألهم عن أمر المسيح فأخبروه عنه، فبايعهم في دينهم وأعلى كلمتهم وظهر الحق على اليهود، وعلت كلمة النصارى عليهم، وبعث إلى المصلوب فوضع عن جذعه وجيء بالجذع الذي صلب عليه ذلك الرجل فعظمه.
ولمجاهد أقوال وغرائب في العلم والتفسير تُسْتنكر. فقد ذهب إلى بابل، وطلب من متوليها من يوقفه على هاروت وماروت، قال: فبعث معي يهودي، حتى أتينا تنورًا في الأرض، فكشف لنا عنهم، فإذا بهما معلَّقان منكَّسان، فقلت: آمنت بالذي خلقكم. فاضطربا فغُشِي عليَّ وعلى اليهودي، ثم أفقنا بعد حين، فلامني اليهودي، وقال: كِدْتَ من تهلكنا.
قال أبو بكر بن عياش: قلت للأعمش: ما لهم يتقون تفسير مجاهد؟ قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب.
آراء العلماء فيه

قال عنه ابن كثير: "أحد أئمة التابعين والمفسرين، كان من أخصاء أصحاب ابن عباس، وكان أعلم أهل زمانه بالتفسير، حتى قيل إنه لم يكن أحد يريد بالعلم وجه الله إلا مجاهد وطاوس. وقال مجاهد: أخذ ابن عمر بركابي وقال: وددت من ابني سالمًا وغلامي نافعًا يحفظان حفظك. وقيل إنه عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة وقيل مرتين، أقفه عند كل آية وأسأله عنه".
قال عنه سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وقال عنه الذهبي: "أبو الحجاج المكي المقرئ المفسر أحد الأعلام".
قال الثوري: خذوا التفسير على أربعة: مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والضحاك. وقال خصيف: كان مجاهد أعلمهم بالتفسير.
وقال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد. وقال عنه الأعمش: "كان إذا نطق خرج من فمه اللؤلؤ". قال ابن جريج: "لأن أكون سمعت من فأقول: سمعت مجاهدًا أحب إليَّ من أهلي وما لي".
قال ابن معين وجماعة: مجاهد ثقة. وقيل: سكن الكوفة بأخرة.
قال سلمة من كهيل: "ما رأيت أحدًا يريد بهذا العلم وجه الله إلا هؤلاء الثلاثة: عطاء، ومجاهد، وطاوس".
وعن قتادة، قال: أعلم من بقي بالحلال والحرام الزهري، وأعلم من بقي بالقرآن مجاهد.
من كلماته

قال مجاهد: من أعز نفسه أذل دينه ومن أذل نفسه أعز دينه. وقال: إن الله  ليصلح بصلاح العبد ولده وولد ولده.
وكان يقول: لا تحد النظر إلى أخيك، ولا تسأله من أين جئت وأين تذهب. وقال: ذهبت العلماء فما بقي إلا المتعلمون، وما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيمن كان قبلكم.
وعن مجاهد قال: لو لم يصب المسلم من أخيه إلا من حياء منه يمنعه من المعاصي، لكان في ذلك خير.
وقال: الفقيه من يخاف الله وإن قل علمه، والجاهل من عصى الله وإن كثر علمه، والعبد إذا أقبل على الله بقلبه أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه.
وفاته

قال الفضل بن دكين: مات مجاهد سنة اثنتين ومائة يوم السبت وهو ساجد. وقال يوسف بن سليمان: توفي مجاهد بمكة سنة ثلاث ومائة. وعن يحيى بن سعيد قال: مات مجاهد سنة أربع ومائة. وقال ابن جريج: بلغ مجاهد يوم مات ثلاثًا وثمانين سنة رحمه الله تعالى.

سلسلة قَصَصُ الأنْبِيَاءِ للإمام ابن الحافظ ابن كثير{ 6~قصة لوط عليه السلام }

             قصة لوط عليه السلام



ومما وقع في حياة إبراهيم الخليل من الأمور العظيمة قصة قوم لوط عليه السلام، وما حل بهم من النقمة العميمة.

وذلك أن لوطاً بن هاران بن تارح، وهو آزر، كما تقدم، ولوط ابن أخي إبراهيم الخليل، فإبراهيم، وهاران وناحور إخوة كما قدمنا. ويقال: إنَّ هاران هذا هو الذي بنى حرّان. وهذا ضعيف لمخالفته ما بأيدي أهل الكتاب والله تعالى أعلم.

وكان لوط قد نزح عن محلة عمه الخليل عليهما السلام بأمره له وأذنه، فنزل بمدينة سدوم من أرض غور، زُغَر، وكان أمّ تلك المحله، ولها أرض ومعتملات وقرى، مضافة إليها ولها أهل من أفجر الناس وأكفرهم وأسوأهم طوية، وأرداهم سريرة وسيرة، يقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر، ولا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.

ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، وهي إتيان الذكران من العالمين، وترك ما خلق الله من النسوان لعباده الصالحين.

فدعاهم لوط إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات، والفواحش المنكرات، والأفاعيل المستقبحات، فتمادوا على ضلالهم وطغيانهم، واستمروا على فجورهم وكفرانهم، فأحل الله بهم من البأس الذي لا يرد ما لم يكن في خلدهم وحسبانهم، وجعلهم مثله في العالمين، وعبرة يتعظ بها الألباء من العالمين.

ولهذا ذكر الله تعالى قصتهم في غير ما موضع في كتابه المبين، فقال تعالى في سورة الأعراف: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ، وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ، فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}.

وقال تعالى في سورة هود: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ، قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ، يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ، وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ، وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ، قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ، قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيب، فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.

وقال تعالى في سورة الحجر: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ، قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ، قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ، قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ، قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ، فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ، قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ، قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ، وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ، فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ، وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ، وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلاَءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِي، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِي، قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ الْعَالَمِينَ، قَالَ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ، لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون، فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ، فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ، وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}.



وقال تعالى في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِين، أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ، قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ، قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ، فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.

وقال تعالى في سورة النمل: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ، أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ، فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنْ الْغَابِرِينَ، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ}.

وقال تعالى في سورة العنكبوت: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ، أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ، قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ، وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ، قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ، وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ، إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

وقال تعالى في سورة الصافات: {وَإِنَّ لُوطاً لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ، وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.

وقال تعالى في الذاريات بعد قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم إياه بغلام عليم: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ، فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ}.

وقال في سورة القمر: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ، نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ، وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ، وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرّ، فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.



وقد تكلمنا على هذه القصص في أماكنها من هذه السورة في التفسير.

وقد ذكر الله لوطاً وقومه في مواضع أخر من القرآن، تقدم ذكرها مع نوح وعاد وثمود.

والمقصود الآن إيراد ما كان من أمرهم وما أحل الله بهم مجموعاً من الآيات والآثار وبالله المستعان. وذلك أن لوطاً عليه السلام لما دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي ما ذكر الله عنهم من الفواحش، لم يستجيبوا له ولم يؤمنوا به، حتى ولا رجل واحد منهم، ولم يتركوا ما عنه نهوا، بل استمروا على حالهم، ولم يرتدعوا عن غيهم وضلالهم، وهمّوا بإخراج رسولهم من بين ظهرانيهم. {واستضعفوه وسخروا منه} وما كان حاصل جوابهم عن خطابهم إذ كانوا لا يعقلون إلا أن قالوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} فجعلوا غاية المدح ذماً يقتضي الإخراج، وما حملهم على مقالتهم هذه إلا العناد واللجاج.

فطهره الله وأهله إلا امرأته، وأخرجهم منها أحسن إخراج، وتركهم في محلتهم خالدين، لكن بعد ما صيّرها عليهم بحرة منتنة، ذات أمواج، لكنها عليهم في الحقيقة نار تأجج، وحرّ يتوهج، وماؤها ملح أجاج.

وما كان هذا جوابهم إلاّ لما نهاهم عن الطامة العظمى والفاحشة الكبرى، التي لم يسبقهم إليها أحد من أهل الدنيا. ولهذا صاروا مثلة فيها وعبرة لمن عليها. وكانوا مع ذلك يقطعون الطريق، ويخونون الرفيق، ويأتون في ناديهم، وهو مجتمعهم ومحل حديثهم وسمرهم، المنكر من الأقوال والأفعال، على اختلاف أصنافه، حتى قيل: إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم، ولا يستحيون من مجالسهم، وربما وقع منهم الفعلة العظيمة في المحافل، ولا يستنكفون ولا يرعوون لوعظ واعظ، ولا نصيحة من عاقل، وكانوا في ذلك وغيره كالأنعام بل أضل سبيلاً، ولم يقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر، ولا ندموا على ما سلف من الماضي، ولا راموا في المستقبل تحويلاً، فأخذهم الله أخذاً وبيلاً.

وقالوا له فيما قالوا: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ} فطلبوا منه وقوع ما حذّرهم عنه من العذاب الأليم وحلول البأس العظيم.

فعند ذلك دعا عليهم نبيهم الكريم، فسأل من رب العالمين وإله المرسلين، أن ينصره على القوم المفسدين.

فغار الله لغيرته، وغضب لغضبته، واستجاب لدعوته، وأجابه إلى طلبته، وبعث رسله الكرام، وملائكته العظام، فمروا على الخليل إبراهيم، وبشّروه بالغلام العليم، وأخبروه بما جاؤا له من الأمر الجسيم والخطب العميم {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ، قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} وقال: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ، قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ} وقال الله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}. وذلك إنه كان يرجو أن يجيبوا أو ينيبوا ويسلموا ويقلعوا ويرجعوا. لهذا قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ، يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}. أي أعرض عن هذا وتكلم في غيره فإنه قد حتم أمرهم ووجب عذابهم وتدميرهم وهلاكهم إنه قد جاء أمر ربك أي قد أمر به من لا يرد أمره ولا يرد بأسه ولا معقب لحكمه وإنهم آتيهم عذاب غير مردود.

وذكر سعيد بن جبير والسُّدِّي وقتادة ومُحَمْد بن إسحاق أن إبراهيم عليه السلام جعل يقول "أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن قالوا لا قال فمائتا مؤمن قالوا لا قال فأربعون مؤمناً قالوا: لا قال فأربعة عشر مؤمناً قالوا لا) قال ابن إسحاق: إلى أن قال: "أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد قالوا لا" قال: { إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} الآية.

وعند أهل الكتاب أنه قال "يا رب أتهلكهم وفيهم خمسون رجلاً صالحاً؟ فقال الله: لا أهلكهم وفيهم خمسون صالحاً، ثم تنازل عشرة فقال الله: "لا أهلكهم وفيهم عشرة صالحون".

حبيب بن زيد ( أسطورة فداء وحب )

 حبيب بن زيد ( أسطورة فداء وحب )



  في بيعة العقبة الثانية التي مر بنا ذكرها كثيرا, والتي بايع الرسول صلى الله عليه وسلم فيها سبعون رجلا وسيدتان من أهل المدينة, كان حبيب بن زيد وأبوه زيد بن عاصم رضي الله عنهما من السبعين المباركين..

وكانت أمه نسيبة بنت كعب أولى السيدتان اللتين بايعتا رسول الله صلى الله عليه وسلم..

أم السيدة الثانية فكانت خالته..!!

هو إذن مؤمن عريق جرى الإيمان في أصلابه وترائبه..

ولقد عاش إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة لا يتخلف عن غزوة, ولا يقعد عن واجب..

 

  وذات يوم شهد جنوب الجزيرة العربية كذابين عاتيين يدّعيان النبوة ويسوقان الناس إلى الضلال..

خرج أحدهما بصنعاء, وهو الأسود بن كعب العنسي..

وخرج الثاني باليمامة, وهو مسيلمة الكذاب..

وراح الكذابان يحرّضان الناس على المؤمنين الذين استجابوا لله, وللرسول في قبائلهما, ويحرّضان على مبعوثي رسول الله إلى تلك الديار..

وأكثر من هذا, راحا يشوّشان على النبوة نفسها, ويعيثان في الأرض فسادا وضلالا..



  وفوجئ الرسول يوما بمبعوث بعثه مسيلمة يحمل منه كتابا يقول فيه "من مسيلمة رسول الله, إلى محمد رسول الله.. سلام عليك.. أم بعد, فاني قد أشركت في الأمر معك, وان لنا نصف الأرض, ولقريش نصفها, ولكنّ قريشا قوم يعتدون"..!!!

ودعا رسول الله أحد أصحابه الكاتبين, وأملى عليه ردّه على مسيلمة:

" بسم الله الرحمن الرحيم..

من محمد رسول الله, إلى مسيلمة الكذاب.

السلام على من اتبع الهدى..

أما بعد, فان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده, والعاقبة للمتقين"..!!

وجاءت كلمات الرسول هذه كفلق الصبح. ففضحت كذاب بني حنيفة الذي ظنّ النبوّة ملكا, فراح يطالب بنصف الأرض ونصف العباد..!

وحمل مبعوث مسيلمة رد الرسول عليه السلام إلى مسيلمة الذي ازداد ضلالا وإضلالا..

 

  ومضى الكذب ينشر إفكه وبهتانه, وازداد أذاه للمؤمنين وتحريضه عليهم, فرأى الرسول أن يبعث إليه رسالة ينهاه فيها عن حماقاته..

ووقع اختياره على حبيب بن زيد ليحمله الرسالة مسيلمة..

وسافر حبيب يغذّ الخطى, مغتبطا بالمهمة الجليلة التي ندبه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ممنّيا نفسه بأن يهتدي إلى الحق, قلب مسيلمة فيذهب حبيب بعظيم الأجر والمثوبة.



  وبلغ المسافر غايته..

وفضّ مسيلمة الكذاب الرسالة التي أغشاه نورها, فازداد إمعانا في ضلاله وغروره..

ولما لم يكن مسيلمة أكثر من أفّاق دعيّ, فقد تحلى بكل صفات الأفّاقين الأدعياء..!!

وهكذا لم يكن معه من المروءة ولا من العروبة والرجولة ما يردّه عن سفك دم رسول يحمل رسالة مكتوبة.. الأمر الذي كانت العرب تحترمه وتقدّسه..!!

وأراد قدر هذا الدين العظيم, الإسلام, أن يضيف إلى دروس العظمة والبطولة التي يلقيها على البشرية بأسرها, درسا جديدا موضوعه هذه المرة, وأستاذه أيضا, حبيب بن زيد..!!



  جمع الكذاب مسيلمة قومه, وناداهم إلى يوم من أيامه المشهودة..

وجيء بمبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم, حبيب بن زيد, يحمل آثار تعذيب شديد أنزله به المجرمون, مؤملين أن يسلبوا شجاعة روحه, فيبدو أمام الجميع متخاذلا مستسلما, مسارعا إلى الإيمان بمسيلمة حين يدعى إلى هذا الإيمان أمام الناس.. وبهذا يحقق الكذاب الفاشل معجزة موهومة أمام المخدوعين به..

 

  قال مسيلمة لـ حبيب:

" أتشهد أن محمدا رسول الله..؟

وقال حبيب:

نعمأشهد أن محمدا رسول الله.

وكست صفرة الخزي وجه مسيلمة وعاد يسأل:

وتشهد أني رسول الله..؟؟

وأجاب حبيب في سخرية قاتلة:

إني لا أسمع شيئا..!!

وتحوّلت صفرة الخزي على وجه مسيلمة إلى سواد حاقد مخبول..

لقد فشلت خطته, ولم يجده تعذيبه, وتلقى أمام الذين جمعهم ليشهدوا معجزته.. تلقى لطمة قوية أسقطت هيبته الكاذبة في الوحل..

هنالك هاج كالثور المذبوح, ونادى جلاده الذي أقبل ينخس جسد حبيب بسنّ سيفه..

ثم راح يقطع جسده قطعة قطعة, وبضعة بضعة, وعضوا عضوا..

والبطل العظيم لا يزيد على همهمة يردد بها نشيد إسلامه:

" لا إله إلا الله محمد رسول الله"..

 

  لو أن حبيبا أنقذ حياته يومئذ بشيء من المسايرة الظاهرة لمسيلمة, طاويا على الإيمان صدره, لما نقض إيمانه شيئا, ولا أصاب إسلامه سوء..

ولكن الرجل الذي شهد مع أبيه, وأمه, وخالته, وأخيه بيعة العقبة, والذي حمل منذ تلك اللحظات الحاسمة المباركة مسؤولية بيعته وإيمانه كاملة غير منقوصة, ما كان له أن يوازن لحظة من نهار بين حياته ومبدئه..

ومن ثمّ لم يكن أمامه لكي يربح حياته كلها مثل هذه الفرصة الفريدة التي تمثلت فيها قصة إيمانه كلها.. ثبات, وعظمة, وبطولة, وتضحية, واستشهاد في سبيل الهدى والحق يكاد يفوق في حلاوته, وفي روعته كل ظفر وكل انتصار..!!



  وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ استشهاد مبعوثه الكريم, واصطبر لحكم ربه, فهو يرى بنور الله مصير هذا الكذاب مسيلمة, ويكاد يرى مصرعه رأي العين..

أما نسيبة بنت كعب أم حبيب فقد ضغطت على أسنانها طويلا, ثم أطلقت يمينا مبررا لتثأرن لولدها من مسيلمة ذاته, ولتغوصنّ في لحمه الخبيث برمحها وسيفها..

وكان القدر الذي يرمق آنئذ جزعها وصبرها وجلدها, يبدي إعجابا كبيرا بها, ويقرر في نفس الوقت أن يقف بجوارها حتى تبرّ بيمينها..!!

ودارت من الزمان دورة قصيرة.. جاءت على أثرها الموقعة الخالدة, موقعة اليمامة..

وجهّز أبو بكر الصدّيق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الإسلام الذاهب إلى اليمامة حيث أعدّ مسيلمة أضخم جيش..

وخرجت نسيبة مع الجيش..

وألقت بنفسها في خضمّ المعركة, في يمناها سيف, وفي يسراها رمح, ولسانها لا يكفّ عن الصياح:

" أين عدوّ الله مسيلمة".؟؟

ولما قتل مسيلمة, وسقط أتباعه كالعهن المنفوش, وارتفعت رايات الإسلام عزيزة ظافرة.. وقفت نسيبة وقد ملأ جسدها الجليل, القوي بالجراح وطعنات الرمح..



وقفت تستجلي وجه ولدها الحبيب, الشهيد حبيب فوجدته يملأ الزمان والمكان..!!

أجل..

ما صوّبت نسيبة بصرها نحو راية من الرايات الخفاقة المنتصرة الضاحكة إلا رأت عليها وجه ابنها حبيب خفاقا.. منتصرا.. ضاحكا..



الصحابي زيد بن الدثنة رضي الله عنه

زيد بن الدثنة
رضي الله عنه

يوم الرجيع
في سنة ثلاث للهجرة ، قدم على الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أحد نفر من عضل والقارة فقالوا :( يا رسول الله ، إن فينا إسلاما ، فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين ، ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام ) فبعث معهم مرثد بن أبي مرثد ، وخالد بن البكير ، وعاصم بن ثابت ، وخبيب بن عدي ، وزيد بن الدثنة ، وعبدالله بن طارق ، وأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- على القوم مرثد بن أبي مرثد

فخرجوا حتى إذا أتوا على الرجيع ( وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز على صدور الهدأة ) غدروا بهم ، فاستصرخوا عليهم هذيلا ، ووجد المسلمون أنفسهم وقد أحاط بهم المشركين ، فأخذوا سيوفهم ليقاتلوهم فقالوا لهم :( إنا والله ما نريد قتلكم ، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم ) فأما مرثد بن أبي مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت فقالوا :( والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا ) ثم قاتلوا القوم وقتلوا

وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبدالله بن طارق فلانوا ورقوا فأسروا وخرجوا بهم الى مكة ليبيعوهم بها ، حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبدالله بن طارق يده من الأسر وأخذ سيفه وقاتلهم وقتل وفي مكة باعوا خبيب بن عدي لحجير بن أبي إهاب لعقبة بن الحارث ابن عامر ليقتله بأبيه ، وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف


استشهاده
زيد بن الدثنة ابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف ، وبعث به صفوان بن أمية مع مولى له يقال له نِسْطاس ، الى التنعيم -موضع بين مكة وسرف ،على فرسخيـن من مكة- وأخرجوه من الحرم ليقتلـوه واجتمع رهـط من قريش فيهم أبوسفيان بن حـرب ، فقال له أبو سفيان حين قـدم ليقتل :( أنشدك الله يا زيد ، أتُحبُّ أن محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك ؟) قال :( والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي !) يقول أبو سفيان :( ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً !) ثم قتله نِسْطاس ، يرحمه الله 

سفيانُ بن عُيينةَ (إمامُ الصِّحة والتَّوثيق)

     سفيانُ بن عُيينةَ (إمامُ الصِّحة والتَّوثيق)

اسمه ومولده وصفته



اسمه: سُفيان بنُ عيينة بن أبي عمران؛ ميمونُ الهلاليُّ؛ أبو محمد الكوفيُّ, مولى محمد بن مزاحم, أخي الضَّحاك بن مزاحم، الإمام الكبير حافظ العصر, شيخ الإسلام, أبو محمد الهلاليُّ الكوفي, ثم المكيُّ.



مولده: عن محمد بن عمر, قال: "أخبرني ابنُ عيينة: أنه وُلد سنة سبع ومائة".

قال: ابنُ سعد: "وكان أصلُه من أهل الكوفة, وكان من عمال خالد بن عبدالله القسريِّ, فلما عُزل خالدٌ عن العراق, وولي يوسف بن عمر الثقفيُّ, طلب عمالَ خالد, فهربوا منه, فلحق عيينةُ بن أبي عمران بمكة , فنزلها".



صفته: قال المزيُّ: "وكان أعور".



طلب الحديث, وهو حَدَثٌ, بل غلامٌ, ولقي الكبار, وحمل عنهم علماً جماً, وأتقن, وجوَّد, وجمع, وصنَّف, وعمَّر دهراً, وازدحم الخلق عليه, وانتهى إليه علوُّ الإسناد, ورُحِل إليه من البلاد, وألحق الأحفاد بالأجداد.



سمعت أحمد بن النَّضر الهلاليَّ, سمعت أبي يقول: "كنت في مجلس سُفيان بن عيينة, فنظر إلى صبيٍّ, فكأنَّ أهلَ المسجد تهاونوا به لصغره, فقال سفيان: (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) [النساء: من الآية94], ثم قال: يا نضر، لو رأيتني ولي عشر سنين, طولي خمسةُ أشبار, ووجهي كالدِّينار, وأنا كشُعلة نار, ثيابي صغار, وأكمامي قصار, وذيلي بمقدار, ونعلي كآذان الفأر, أختلف إلى علماء الأمصار, كالزُّهريِّ, وعمرو بن دينار, أجلسُ بينهم كالمسمار, مِحبرتي كالجوزة, ومقلمتي كالموزة, وقلمي كاللوزة, فإذا أتيتُ, قالوا: أوسِعوا للشيخ الصغير، ثم ضحك.



قال غياثُ بن جعفر: "سمعتُ ابنَ عيينة يقول: أوَّلُ من أسندني إلى الأسطوانة, مِسعر بن كدام, فقلت له: إنِّي حَدَثٌ, قال: إنَّ عندك الزُّهريَّ, وعمرو بن دينار".



كان أبي صيرفياً بالكوفة, فركبه دينٌ فحملنا إلى مكة, فصرتُ إلى المسجد, فإذا عمرو بن دينار, فحدَّثني بثمانيةِ أحاديث, فأمسكتُ له حماره حتى صلَّى, وخرج, فعرضتُ الأحاديثَ عليه, فقال: بارك الله فيك.

أحمد ياسين صنع جيل النصر ورحل

بعد خمسة أعوام من استشهاده - نحسبه كذلك - نَتَحَدَّث عنه، ونحن قريبو عهْدٍ بنصرٍ عظيم، حَقَّقَهُ أتباعُه وتلاميذه - بفَضْل الله عَزَّ وَجَلَّ ونعمته - نَتَحَدَّث عنه ونحن نرى إخوانه قد أذلُّوا بني صِهْيَوْن، وكانوا رجالاً فلم يَتَزَعْزَعُوا، ولم يهتزُّوا، ولم ينطق لسانُهم يومًا بكلمة تُقِرُّ الظُّلْم، وتُفَرِّط في الأرض، وتعترف بشرعيَّة المحتلِّ.

نعم، "إنَّه الشيخ أحمد ياسين مُؤَسِّس حركة المقاوَمة الإسلامية حماس"، إنَّه مؤسس مشروع المُقاوَمة والتحرير في أرْضِ الجِهاد، وَفْق المنهج الإسلامي القائِم على الكِتاب والسُّنَّة، فلم يَسِر وفْق دعوات شيوعيَّة، واشتراكيَّة، وليبراليَّة، ولم يخدعْ نفسه وشَعْبَه بادِّعاءات السلام والتَّسْوية؛ لِعِلْمِه أنها مصطلحاتٌ زائِفة خادِعة، مضمونها سراب.

منَ المسجد أَسَّسَ في فترة وجيزة - بفَضْل الله عزَّ وجل أولاً، وتوفيقه لتلك الأيادي المُخْلِصة أمثال ياسين وإخوانه - جيلاً جعل منَ المستحيل مُمْكنًا، وجَعَلَ الصَّعْب سهلاً، فمَن كان يظُنُّ أنَّ هذا الشعب - الذي لم يكنْ لديه سوى الحجارة والسلاح الأبيض - أصبح على يد رجال حماس - تلاميذ ياسين - يمتلك مجموعة متنوِّعةً منَ الأسلحة الخفيفة، وأصبح قادرًا على تصنيع مثل هذه الأسلحة محليًّا.

إنَّها التربية الإيمانيَّة والعَقَديَّة الصَّحيحة على كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان ياسين - رغم مرضه وعجزه الجسدي - يجلس في المجلِس، يلقي الدروس للأطفال والصِّبْية، والشباب والرجال، كلٌّ بما يناسِبُه، لم يتكبَّرْ على أحدٍ، عَلَّمَهُمْ جميعًا معنى الإيمان بالله، عَلَّمَهُم جميعًا أنَّ الإسلام يحتاج رجالاً قادرين على حَمْل الأمانة، وتبليغ الرسالة، والموت في سبيل الله، فخرج مِن تحت يده رجالٌ صنعوا المعجزات، فها هو يحيى عيَّاش يُجَنِّد له العدوُّ مئات العُمَلاء ليقتلوه، وعندما استُشهد - رحمه الله - لَمْ يَكُنْ قد أكمل الثلاثين من عمره، وغيره الكثير.

عَلَّمَهُمْ أيضًا التفكير العميقَ، وعدم التسرُّع، وإعداد العدّة؛ ولذلك فهو لم يؤسِّس حماسًا بين ليلة وضحاها، بل أمضى سنينَ وهو يعدُّ العدَّة لتلك الانطلاقة، فقد اعتُقل الشيخُ في عام 1984، بتهمة جَمْع الأسلحة؛ ولهذا عندما تأسَّسَتْ حماس بَرَزَ ووضح دورُها منذ اليوم الأول، ولم تمضِ بضع سنوات حتى تصدَّرَتْ حماس كافَّة فصائل المقاوَمة، ليس في فِلَسْطين وحدها، بل أصبحتْ هي الأبرز على مستوى العالَم العربي والإسلامي ككُل.

الشيخ أحمد ياسين رَبَّى جيلاً قادرًا على تحقيق نَصْرٍ على قوى البَغْي والظُّلْم والعدوان الصِّهْيَوْنِي، جيلاً لا يعرف شيئًا يُسَمَّى الخُضُوع، جيلاً إذا وَعَد وَفَّى، وإذا عاهَدَ صَدَقَ.

رَحَلَ ياسين بعدما أحسن بناء جيلٍ عظيمٍ، رَحَلَ ياسين وترك فينا فِكْرَهُ ومَنْهَجه، الذي اسْتَقَاهُ من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - رَحَلَ ياسين وترك خلفه رجالاً عَلَّمَهُمُ الأمانةَ، رَحَلَ ياسين فترك خلفه رجالاً حملوا المسؤولية، وساروا نحو الطريق الذي رسم لهم من قبلُ؛ فلم يَتَزَعْزَعُوا، ولم يركعوا؛ رغم كثرة ضربات العدوِّ، ومع فقدان الحركة الإسلامية في فِلَسْطين كوكبة عظيمة من الشهداء الأبرار - نحسبهم كذلك - في وقتٍ وجيزٍ، على رأسهم: أحمد ياسين، وعبدالعزيز الرنتيسي، وإبراهيم المقادمة، وإسماعيل أبو شنب، وصلاح شحادة، وغيرهم الكثير.

إنَّ هذا الجيل الذي ترَبَّى على يد الشيخ أحمد ياسين ورفاقه، هو ذاته الذي جَعَلَ قطاع غزة جحيمًا للصهاينة الجبناء، فهربوا منه كالفئران المذعورة، وعندما اغْتَرَّ العدو بقوته، وظَنَّ أنَّه قادر على إذلال هذا الشعب، ووقف مقاومته، وشَنَّ حربًا عمياء لا رحمة فيها ولا شفقة، حينئذٍ برز أسود حماس؛ يُواجِهُون هذا العدو المغرور، فقتلوا وجرحوا وأسروا - بحمد الله - ولكن العدو قتل أسراه؛ حتى لا يضطرَّ إلى إطلاق الأسْرَى الفِلَسْطِينيين، بل رأينا كيف وصلتِ القوةُ العسكريَّة للمقاومة بصفة عامة، وحركة حماس بصفة خاصة، إلى درجة لم نكنْ نتوقعها من صواريخ وقذائف وأسلحة مضادة للدبابات وللدروع، ومع أنَّ العدوَّ أسْقَطَ المئات من الشهداء، إلاَّ أن حماسًا - ومِن خلفها شعبها - لم تَتَزَحْزَح، فاتَّجَه العدو إلى تَصْفِية قيادات المقاوَمة، فلحق نزار ريان وسعيد صيام بشيخهما أحمد ياسين - أَسْكنهم الله فسيح جنَّاتِه.

لقد كان الشيخُ ياسين رجلاً ذا فراسة، ففي حوار له على قناة الجزيرة في برنامج "شاهد على العصر" قبل حوالي عشرة أعوام: سُئِل الشيخ عمَّن سيخلف عرفات، فقال بالنَّصِّ: "هناك أسماء مطروحة بالداخل منها محمود عباس، وأحمد قريع، فأنا في رأيي الذي يخلفه هو الأكثر طواعية في يد أمريكا وإسرائيل، والراجح أنَّ المُرَاهَنة" بتمشي" أن يكونَ محمود عباس"، وقد صَدَق الشيخُ الجليلُ؛ فبعد اغتيال عرفات جاء محمود عباس؛ ليقومَ بدوره الذي وكِل إليه، وليحارب المقاوَمة، وليكون هو الذراع الطولي للعدو الصِّهْيَوْنِي.

وفي النهاية أريد أنْ أقولَ:
لقد قال الشيخ ياسين في نفس البرنامج: "الكيان الغاصب قامَ على الظُّلْم والاغتصاب، وكلُّ كيانٍ يقوم على الظلم والاغتصاب مصيره الدمار، الكيان الغاصب بائد - إن شاء الله - في القرن القادم في الربع الأول منه، وبالتحديد في 2027 سيكون الكيان الغاصب غير موجود، فالقرآن حَدَّثَنا أن الأجيال تَتَغَيَّر كل أربعين سنة، في الأربعين عامًا الأولى كانت نكبة، وفي الأربعين عامًا الثانية كانتِ انتفاضة ومُواجَهة وتحدٍّ، وقتالٌ وقنابل، وفي الأربعين الثالثة تكون النِّهاية - إن شاء الله تعالى".

وإنِّي لأسأل الله العلي العظيم أن يجعلَ توقُّعات الشيخ ياسين حقيقيَّة، كما جَعَل توقعه بخصوص عباس حقيقيًّا.

قصة حزقيل

من انبياء بنى اسرائيل قصة حزقيل



قال الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.

قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه :إن كالب بن يوفنا لما قبضه الله إليه بعد يوشع خلف في بني إسرائيل حزقيل بن بوذى وهو ابن العجوز وهو الذي دعا للقوم الذين ذكرهم الله في كتابه فيما بلغنا.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ}



قال ابن إسحاق: فروا من الوباء فنزلوا بصعيد من الأرض فقال لهم الله موتوا فماتوا جميعاً فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، فمضت عليهم دهور طويلةفمر بهم حزقيل عليه السلامفوقف عليهم متفكراً

فقيل له: أتحب أن يبعثهم الله وأنت تنظر؟

فقال: نعم. فأمر أن يدعو تلك العظام أن تكتسي لحماً وأن يتصل العصب بعضه ببعض فإذا هم عن أمر الله له بذلك، فقام القوم أجمعون وكبروا تكبيرة رجل واحد.



عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}.

قالوا: كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط، وقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها، فنزلوا ناحية منها، فهلك من بقي في القرية، وسلم الآخرون فلم يمت منهم كثير، فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين،

فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا بقينا، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم. فوقع فيهم مرة اخرى، فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفاً، حتى نزلوا ذلك المكان، وهو واد أفيح،

فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا فماتوا حتى إذا هلكوا وبقيت أجسادهم

ومرّ بهم نبي يقال له حزقيل، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم، ويلوي شدقيه وأصابعه،

فأوحى الله إليه: تريد أن أريك كيف أحييهم؟

قال: نعم. وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم،

فقيل له: ناد. فنادى: أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً فاكتست لحماً ودماً وثيابها التي ماتت فيها.

ثم قيل له: ناد.

فنادى: أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي فقاموا.



قال أسباط: فزعم منصور عن مجاهد أنهم قالوا حين أحيوا"سبحانك الله وبحمدك لا إله إلا أنت"

فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوباً إلا عاد رسماً، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم.



وعن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه ثمانية آلاف،

وعن أبي صالح تسعة آلاف، وعن ابن عباس أيضاً كانوا أربعين ألفاً.

وعن سعيد بن عبد العزيز كانوا من أهل أذرعات.



وقال ابن جريج عن عطاء: هذا مثل. يعني أنه سيق مثلاً مبيناًأنه لن يغني حذر من قدر!



عن عبد الله بن عباس، أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء وقع بالشام. فذكر الحديث. يعني في مشاورته المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه

فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيباً ببعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علماًسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه"

فحمد الله عمر ثم انصرف.

وقال الإمام أحمد: أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشامعن النبي صلى الله عليه وسلمأن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم، فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه. قال: فرجع عمر من الشام.



قال محمد بن إسحاق ولم يذكر لنا مدة لبث حزقيل في بني إسرائيل ثم إن الله قبضه إليه، فلما قبض نسي بنو إسرائيل عهد الله إليهم وعظُمت فيهم الأحداث وعبدوا الأوثان وكان من جملة ما يعبدونه من الأصنام صنم يقال له بعل، فبعث الله إليهم إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران.

زياد علي

زياد علي محمد