الجمعة، 23 أغسطس 2019

نبي الله يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام (ج2

دخول يوسف عليه الصلاة والسلام السجن ودعوته فيه إلى دين الله وعبادة الله وحده

قال الله تعالى:{ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}سورة يوسف، يذكر الله تعالى عن العزيز وامرأته وغيرهما أنهم بدا لهم وظهر لهم من الرأي سجن يوسف مع علمهم ببراءته إلى وقت، ليكون ذلك تخفيفًا لكلام الناس في تلك القضية، وليظن الناس بحبس يوسف عليه السلام أنه هو الذي راودها عن نفسها ودعاها إلى ذلك، ولذلك سجنوا يوسف الصديق ظُلمًا وعُدوانًا من غير جريمة اقترفها وارتكبها.

دخل السجن مع يوسف عليه السلام فَتَيان أحدُهما رئيس سقاة الملك، والثاني رئيس الخبازين عنده، وكان الملك قد اتهمهما في دسّ السم له لاغتياله والتخلص منه، فسجنهما ورأى كل من ساقي الملك وخبازه في ليلة واحدة رؤيا شغلت فكرهما، أما الساقي فقد رأى كأن ثلاثة قضبان من الكرم والعنب قد أورقت وأينعت فيها عناقيد العنب فأخذها واعتصرها في كأس الملك وسقاه منها، ورأى الخباز على رأسه ثلاث سلال من خبز وضواري الطيور تأكل من السلة العليا، فقصّ كل من الساقي والخباز رؤييهما على يوسف عليه السلام وطلبا منه أن يفسر لكل واحد منهما رؤياه ويعبرها لهما بعدما أعلمهما يوسف عليه السلام وأعلم أهل السجن بأنه يعبّر الأحلام ويفسرها، وبعدما رأيا من يوسف الصديق في السجن من حُسن السيرة وعظيم الاخلاق وكثرة عبادته لربه ما أعجبهما أشد الإعجاب، يقول الله تبارك وتعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}سورة يوسف.

فلما استمع يوسف عليه السلام إلى الرجلين وسمع ما رأيا في منامهما من رؤيا قال لهما:{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا}سورة يوسف، أي مهما رأيتما من حلم ومنام فإني أعبره وأفسره لكما قبل وقوعه فيكون كما أقول، ثم قال لهما:{ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}سورة يوسف.

أخذ نبي الله يوسف الصديق وهو في السجن يدعو إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الاصنام، فدعا الرجلين اللذين طلبا منه أن يفسر لهما رؤييهما إلى دين الإسلام وعبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام وأخذ يُصغر لهما أمر الأصنام ويحقرها لأنها لا تضرُّ ولا تنفع، وبيّن لهما أنّ ما هما عليه وءاباؤهم من عبادة أحجار هي عبادةٌ باطلة لأن الله تبارك وتعالى هو وحده الذي يستحق العبادة لأنه هو المتصرف في خلقه وهو الفعال لما يريد الخالق لكل شيء الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

لقد أراد يوسف عليه السلام بحكمته أن يتحدث معهما في الأهم والأولى، وكانت دعوته لهما إلى عبادة الله وحده وإلى دين الإسلام في هذه الحال في غاية الكمال لأن نفوسهما كانت مُعظمة ليوسف عليه السلام سهلة الانقياد على تلقي ما يقول بالقبول، فناسب من نبي الله يوسف عليه السلام أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما مما سألا عنه وطلبا منه، يقول الله تبارك وتعالى إخبارًا عن يوسف عليه السلام وما قاله لصاحبيه في السجن:{إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ}سورة يوسف، الآية أي اتبعت دين الإسلام دين ءابائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب،{مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ}أي إن الله عصمنا من الكفر والشرك فلم نشرك بالله ولم نعبد إلا الله وحده.

وقال لهما:{ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا}سورة يوسف، أي إنَّ اتباعنا الإيمان بتوفيق الله{وَعَلَى النَّاسِ}يعني المؤمنين بأنه دلهم على دينه وهداهم للإيمان والإسلام.

ثم قال لهما:{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}سورة يوسف، فبيّن لهما أن الله سبحانه وتعالى هو الإله الواحد القهار الذي يستحق الألوهية بخلاف الأصنام صغيرها وكبيرها، ثم قال لهما:{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}سورة يوسف.

بعد أن تحدث يوسف عليه السلام مع صاحبيه في السجن عن الأهم والأولى وهو دعوتهما إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام، أخبرهما بعد ذلك بتأويل رؤياهما فقال للأول وهو الساقي: أما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام يبعث إليك الملك بعد انقضائها فيردك إلى عملك ساقيًا.

ثم قال للخباز: السلال الثلاث ثلاثة أيام ثم يبعث إليك الملك عند انقضائهما فيقتلك ويصلبك ويأكل الطير من رأسك، قال الله تعالى إخبارًا عن يوسف عليه السلام:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ}سورة يوسف.

يقال: إن الرجلين لما سمعا تأويل رؤييهما وتعبيرهما من يوسف عليه السلام قالا: ما رأينا شيئًا، فقال لهما: قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان.

وبعد أن عبّر وفسّر نبي الله يوسف عليه السلام رؤييهما طلب من الذي ظنه ناجيًا من هذين الرجلين وهو الساقي:{اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}سورة يوسف، يعني اذكر أمري وما أنا فيه عند سيدك وهو الملك وأخبره أني محبوس ظُلمًا قال الله تعالى:{فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}سورة يوسف، أي فأنسى الناجي منهما الشيطانُ أن يذكر ما وصاه به يوسف عليه السلام، فلبث يوسف عليه السلام في السجن سبع سنوات، وكل هذا بمشيئة الله وإرادته.

تنبيه: تفسير كلمة ربك بالعزيز في الأول وبالملك في الثاني بمعنى السيد لأن يوسف كان صورة عبدًا مملوكًا للعزيز وهذا الثاني كان عبدًا مملوكًا للملك حقيقة، وذلك جائز لغة أن يقول العبد المملوك لسيده ربي بمعنى الذي يصرفني في أموره لا بمعنى خالقي، وذلك لأن هذه الكلمة في لغة العرب لها معانٍ متعددة فهذا اللفظ يطلق بمعنى الخالق وهو الله تعالى، وبمعنى السيد المتصرف في شأن من يملكه، وبمعنى المصلح، وبمعنى المربي وغير ذلك، ولا يجوز شرعًا إطلاقه على غير الله مُعَرَّفًا بالألف واللام فلا يجوز أن يقال لغير الله الرب بل يجوز أن يقال فلان رب فلان أي سيده، ويجوز أن يقال فلان رب هذا البيت رب هذا البستان رب هذا الفرس ونحو ذلك بمعنى مستحق الانتفاع به، لكن لا يجوز أن يقال لشخص له متجر ومعمل رب العمال لأنه لا يملكهم إنما يستحق الانتفاع بهم في مقابل ما يدفعه من الأجرة لهم.

وذكر المفسرون في تفسير قول الله تعالى:{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}، أنه عنى الله وهذا أحسن من التفسير الآخر لأن يوسف لم يكن عبدًا مملوكًا ولا تطرأ عليه العبودية الحقيقية لخلق من خلق الله لكنه كان صورة مشترى على أنه عبد مملوك ليس حرًا.



رؤيا الملك وخروج يوسف عليه السلام من السجن وظهور براءته

يقول الله تبارك وتعالى:{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}سورة يوسف.

قدر الله تبارك وتعالى بتقديره الأزلي أسبابًا لخروج نبيه يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام والإكرام، وذلك أن ملك مصر رأى في منامه سبع بقرات سمان خرجن من البحر وخرجت في ءاثارهن سبع بقرات هزال ضعاف، فأقبلت على البقرات السمان فأكلتهن، فاستيقظ الملك من نومه مذعورًا، ثم نام ثانية فرأى سبع سنبلات خضر وقد أقبل عليهن سبع يابسات فأكلتهن حتى أتين عليهن، فدعا أشراف قومه فقصها عليهم وطلب منهم أن يفتوه في رؤياه هذه، ولما لم يكن فيهم من يُحسن تعبيرها قالوا له:{قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}أي أخلاط أحلام من الليل وما نحن بتأويل الأحلام التي هذا وصفها بعالمين أي أنهم لا خبرة لهم بذلك، ولمّا سمع الناجي من السجن وهو ساقي الملك برؤيا الملك ورأى عجز الناس عن تعبيرها تذكر أمر يوسف عليه السلام وما وصاه به، قال الله تعالى:{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}سورة يوسف، أي تذكر بعد مدة من الزمان وهي بضع سنين التي قضاها يوسف عليه السلام في السجن:{أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}سورة يوسف،الآية أي إلى يوسف، فأرسلوه إلى يوسف عليه السلام فلمّا جاءه وقصّ عليه رؤيا الملك أجابه يوسف عليه السلام إلى طلبه فعبّر منام الملك بوقوع سبع سنين في الخصب والرخاء ثم سبع سنين جدب وذلك تأويل قوله تعالى:{ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ}سورة يوسف، يعني يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية{وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}يعني ما كانوا يعصرونه من الأعناب والزيتون والسمسم وغيرها.

فعبّر يوسف عليه السلام لهم رؤيا الملك ودلّهم على الخير وأرشدهم إلى ما يعتمدونه في حالتي خصبهم وجدبهم، وما يفعلونه من إدخار الحبوب في السنين السبع الأولى التي يكون فيها الخصب في سنبله إلا ما يُرصد بسبب الأكل، لأن ادخار الحب في سنابله أبقى له وأبعد من الفساد، ثم يأتي بعدها سبع سنين مجدبة يحصل فيها الجدب والقحط فتأتي على المخزون من السنين السبع التي تقدمتها أي نصحهم عليه السلام أن يدخروا الحبوب في سنابله إلا ما يرصد للأكل حتى إذا حلّ الجدب والقحط وجدوا في مخازنهم ما يسد الرمق ويمسك عنهم الضيق، حتى يأتي الله بالخصب والغيث، ففسر عليه السلام البقرات السمان بالسنين التي يكون فيها خصب، والبقرات العجاف بالسنين التي يكون فيها قحط وجدب، وكذلك السنبلات الخضر والسنبلات اليابسات، يقول الله تبارك وتعالى حكاية عن يوسف عليه السلام:{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}سورة يوسف.

وقيل: إن ساقي الملك لمّا أرسل إلى يوسف عليه السلام في السجن وقصّ عليه رؤيا الملك قال يوسف للساقي: قل للملك هذه سبع سنين مخصبات ومن بعدهن سبع سنين شداد إلا أن يحتال لهن، فانطلق الساقي إلى الملك فأخبره، فقال له الملك: ارجع اليه فقل له: كيف نصنع؟ فقال:{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ}سورة يوسف.

ولمّا رجع الساقي إلى الملك وأخبره بتأويل رؤياه التي سمعها من يوسف عليه السلام وقع في نفسه صحة ما قال عليه السلام، وأدرك ما عند يوسف من علم وعقل تام ورأي سديد فقال: ائتوني بالذي عبر رؤياي، وأمر بإحضاره إليه ليكون من جملة خاصته ومن المقربين اليه، فلما جاء رسول الملك إلى يوسف عليه السلام أبى يوسف أن يخرج من السجن حتى يتبين لكل واحد أنه حُبس ظلمًا وعدوانًا وأنه برىء الساحة مما نسبوه إليه في شأن امرأة العزيز قال تعالى:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}سورة يوسف.

أي ارجع إلى سيدك وهو الملك فاسأله أن يتعرف ما شأن تلك النسوة اللاتي قطعن أيديهن فإنّ الله عليم بكيدهن ليعلم صحة براءتي، وإنما أشفق يوسف أن يراه الملك بعين الشاك في أمره أو متهم بفاحشة وأحب أن يراه بعد استقرار براءته عنده، فرجع رسول الملك إلى الملك وأخبره بما قاله يوسف، فدعا الملك النسوة اللاتي قطعن أيديهن ومعهن امرأة العزيز وقال لهن:{مَا خَطْبُكُنَّ}أي ما كان شأنكم وقصتكم إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ فأجبنه وقلن للملك:{حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ}وأنكرن أن يكنّ علمن عليه سوءًا، وأعلم النسوة الملك براءة يوسف من السوء الذي نسب إليه كذبًا وبهتانًا.

ولما رأت امرأة العزيز أنّ يوسف عليه السلام الذي زجت به في السجن ظلمًا وعدوانًا قد أكرمه الله تعالى لعصمته وطهارته حتى صار من اهتمام الملك به أنّه يستدعيه ليستخلصه لنفسه اعترفت بما اقترفته وقالت:{الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ}أي ظهر الحق وصار واضحًا جليًا واعترفت بأنها هي التي راودته عن نفسه وطلبت منه فعل الفاحشة.

يقول تعالى إخبارًا عما جرى بين الملك والنسوة:{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ*ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}سورة يوسف.

يوسف عليه السلام بحضرة الملك

ولمّا ظهر وتبيّن للملك براءة يوسف عليه السلام ونزاهة ساحته عمّا كانوا نسبوه إليه رأى يوسفُ الصديق عليه السلام أن ليس هناك مانع من الخروج من السجن، فخرج وجاء يوسف عليه السلام الملك وكلمه فقال له الملك: إنّك من اليوم لدينا ذو مكانة وأمانة، يقول الله تعالى في ذلك:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ}سورة يوسف.

وطلب يوسف عليه السلام من الملك أن يوليه النظر فيما يتعلق بخزائن الأرض، قيل: هي خزائن الطعام لما يعلم من عدله ولما يتوقع من حصول الخلل في خزائن الطعام بعد مُضي السنين التي يكون فيها الخصب لينظر فيها ويحتاط فيها للأمر، وأخبر ملك البلاد أنه قوي على حفظ ما لديه وأمين على خزائن الأرض وما يخرج منها من الغلات والخيرات عليم بوجوه تصريفها وضبطها، يقول تعالى:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}سورة يوسف. ولما سمع الملك ما يريد يوسف عليه السلام وما يطلب، استجاب طلبه واستعمله وولاه على خزائن الأرض في مصر، وقيل: ردّ إليه عمل وزيره السابق العزيز "قطفير" بعدما مات وهلك.

يقول الله تبارك وتعالى:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيب بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}سورة يوسف.

هذا وإن يوسف عليه السلام بعدما مكّنه الله في الأرض وفوضه الملك أمر مصر وخزائن الأرض كان يدعو أهل مصر إلى دين الاسلام وعبادة الله وحده وأن لا يشرك به شىء بالحكمة والرفق، فآمن به من ءامن من أهل مصر وأحبوه لما وجدوا في دعوته من خير وسعادة ولما وجدوا فيه من تلطف معهم في المعاملة وحسن الخلق.

قدوم إخوة يوسف عليه السلام إلى مصر لجلب الطعام

مرت السنين السبع المخصبة وأعدّ يوسف عليه السلام عدته فيها، واتخذ الخزائن وخزن الغلات في غلفها، ثم جاءت السبع سنين المجدبة واشتدّ الجَدبُ والقحط في أنحاء الأرض، فأما أهل مصر فصار يوسف عليه السلام يبيعهم من الطعام ما يكفيهم، وأحسّ أهل فلسطين في بلاد الشام بالجوع والبلاء الذي عمّ في كثير من البلاد وعلموا أن الطعام بمصر، وذاع أمر نبيّ الله يوسف عليه السلام الموكل على خزائن الطعام في الآفاق، وانتشر عدله ورحمته ورأفته، فقال يعقوب عليه السلام لأولاده: يا بنيّ انه قد بلغني أن بمصر ملكًا صالحًا فانطلقوا إليه وأقرئوه مني السلام وانتسبوا إليه لعله يعرفكم، فانطلق أولاده ومعهم الجمال والحمير لحمل الطعام ومعهم الثمن إلى مصر لشراء قوت أهلهم، وقدموا مصر ودخلوا على يوسف عليه السلام فرءاهم فعرفهم وهم لم يعرفوه، لأنهم شاهدوا من لباسه وزيّه ما لم يكن عرفوه في أخيهم من قبل، وأما إخوته فهم على حالهم في ملبسهم ولغتهم ومنظرهم وحالهم، فجهز يوسف عليه السلام إخوته بجهازهم وإعطاهم من الطعام ما جرت به عادته من إعطاء كل إنسان حمل بعير بعد أن أكرمهم وأحسن ضيافتهم وأظهر لهم السماحة والكرم، قال لهم: ائتوني بأخ لكم من أبيكم وكان قد سألهم عن حالهم وكم هم؟ وذلك أنه رأى إخوته جميعًا إلا شقيقه بنيامين وهو أصغر منه، فأخذ عليه السلام في استدراجهم حتى علم منهم حياته وأنه عند أبيه لم يسمح بمفارقته لشدة تعلق قلبه بمحبته فقالوا له: كنّا اثني عشر رجلًا فذهب منّا واحد وبقي شقيقه عند أبينا، فقال لهم عليه السلام: إذا قدمتم العام المقبل فأتوني به معكم وقد أحسنتُ نزلكم وضيافتكم ورغبهم ليأتوه به ثم رهبهم وأخبرهم أنهم إن لم يأتوه به فلن يعطيهم الطعام، فأخبروه بأنهم سيطلبونه من أبيه ويجهدون في طلبه.

وخشي عليه السلام ألا يكون عند إخوته البضاعة التي يُبادلون بها الطعام لما يرجعون به مرة ثانية، فأمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم التي جاءوا بها ليبادلوا بها الطعام وغيره في أمتعتهم من حيث لا يشعرون لعلهم يرجعون إليه مرة ثانية، وقد جعل يوسف عليه السلام ذلك ليكون وسيلة ليعود إخوته اليه قال الله تبارك وتعالى:{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}سورة يوسف.

إخوة يوسف عليه السلام عند أبيهم يعقوب

عاد إخوة يوسف عليه السلام إلى أبيهم يعقوب عليه السلام وجمالهم محملة بالطعام وقالوا له: يا أبانا إن عزيز مصر قد أكرمنا إكرامًا زائدًا وإنّه ارتهن "شمعون" وقال: ائتوني بأخيكم الصغير من أبيكم، فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربوا بلادي، فأرسل معنا أخانا بنيامين يكتل لنفسه كيل بعير ءاخر زيادة على كيلنا وإنا لحافظون له من أن يناله مكروه معنا في سفره، قال الله تبارك وتعالى:{فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}سورة يوسف.

ولمّا قال إخوة يوسف لأبيهم مقالتهم هذه ليحثوه على إرسال أخيهم الصغير معهم قال لهم يعقوب:{هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}سورة يوسف، والمعنى هل ءامنكم على أخيكم من أبيكم الذي تسألونني أن أرسله معكم إلا كما أمنتكم على أخيه يوسف من قبل، يريد بذلك أنه لم ينفعه الأمن منهم إذ خانوه وأفقدوه إياه، ثم بيّن لهم أن الله تبارك وتعالى خير حافظًا منهم وهو أرحم الراحمين بخلقه.

ثم إنّ إخوة يوسف عليه السلام فتحوا متاعهم لاستخراج الطعام الذي أتوا به من مصر فوجدوا بضاعتهم [فضتهم] التي كانوا دفعوها ليوسف عليه السلام في مقابل ما أخذوه من الطعام بحالها لم تمس، فكان ذلك ممّا قوّى عزائمهم في الكلام مع أبيهم فقالوا له: يا أبانا ما نبغي! معناه أي شيء تريد بعد هذا وهذه بضاعتنا رُدّت الينا! فإذا سمحت بأخينا ليذهب معنا فإننا نجلب لأهلنا طعامًا ونحفظ أخانا ونزداد بسببه على أحمالنا من الطعام حمل بعير من الطعام يكال لنا وهذا شئ يسير عند الملك الذي طلب منا أخانا.
قال الله تبارك وتعالى:{وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}سورة يوسف، وكان نبي الله يعقوب عليه السلام شديد التعلق بولده بنيامين لأنه يشمّ فيه رائحة أخيه يوسف عليه السلام ويتسلى به عنه، والظاهر أن القحط والجدب في بلاد يعقوب كان شديدًا وقاسيًا ممّا جعل يعقوب يسمح بسفر ابنه بنيامين مع إخوته إلى مصر ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة والطعام لما كان ليبعث ولده العزيز على قلبه معهم، قال الله تعالى:{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}سورة يوسف، والمعنى: لن أرسل أخاكم إلى عزيز مصر حتى تعطوني ميثاقًا وعهدًا من الله أي تحلفوا بالله بأنكم تأتونني بأخيكم وترجعوا به إلا أن تُغلبوا جميعكم عن الإتيان به.

ولمّا أعطى أولاد يعقوب عليه السلام أباهم عهدهم وميثاقهم على الوفاء بما اشترطه عليهم قال: الله على ما نقول وكيل أي شهيد، ولمّا أراد أولاد يعقوب عليه السلام الخروج من عند أبيهم والسفر إلى مصر ليمتاروا ويجلبوا الطعام أوصاهم بعد أن أذن لأخيهم بنيامين في الرحيل معهم قال لهم:" يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ "حيث كان لمصر كما قيل: أربعة أبواب، حيث خاف عليهم أن يصيبهم أحد بالعين والحسد وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وأشكال حسنة جميلة، ثم بيّن لهم أنه لا يستطيع أن يدفع عنهم شيئًا مما قدره الله عليهم وشاءه لهم، لأنه لا رادّ لما قضى ولا مانع لما حكم، فمشيئته تعالى نافذة في كل شيء، يفعل ما يريد ويحكم في خلقه بما يشاء.

يقول الله تبارك وتعالى:{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}سورة يوسف.

رجوع إخوة يوسف عليه السلام إلى مصر ومعهم أخوهم بنيامين ودخولهم على يوسف عليه السلام

رجع إخوة يوسف عليه السلام إلى مصر ودخلوا من أبوابها المتفرقة كما أمرهم أبوهم يعقوب عليه السلام ثم دخلوا على يوسف الصديق عليه السلام فأنزلهم منزلًا رحبًا وأكرمهم وأحسن ضيافتهم وقدّم لهم الطعام والشراب وأجلس كل اثنين من إخوته على مائدة واحدة، فبقي بنيامين وحيدًا وقال بحزن ورأفة: لو كان أخي حيًّا لأجلسني معه، فسمع يوسف عليه السلام كلام أخيه من أبيه وأمه فضمه إليه وقال لإخوته الحاضرين: اني أرى هذا وحيدًا فأجلسه معه على مائدته، فلمّا جاء الليل جاءهم بالفُرُش فنام كل اثنين من إخوته على فراش فبقي بنيامين وحيدًا، فقال يوسف الصديق: هذا ينام معي.

فلمّا خلا وانفرد به قال له: هل لك أخ من أمك؟ فقال له بنيامين: كان لي أخ من أمي فمات، فقال له: إني أنا أخوك يوسف فلا تبتئس أي لا تحزن ولا تبأس بما كانوا يعملون فيما مضى من حسدنا وما حرصوا على صرف وجه أبينا عنا ولا تعلمهم بما أعلمتك، قال الله تبارك وتعالى:{وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}سورة يوسف.

نبي الله يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام (ج1

نبي الله يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام

قال الله تعالى:{لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ}سورة يوسف، وقال الله تعالى في حق نبيه يوسف عليه السلام:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}سورة يوسف.

نسبه عليه السلام

هو يوسف ابن نبي الله يعقوب – إسرائيل- بن إسحاق بن إبراهيم، وقد أعطي يوسف عليه السلام شطرَ الحُسن.وقد أثنى الله عليه ووصفه بالعفة والنزاهة والصبر والاستقامة قال تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}سورة يوسف.

كما أثنى عليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنّ الكريمَ ابنَ الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" رواه البخاري.

عدد المرات التي ذكر بها في القرءان

ذكر اسم يوسف عليه السلام في القرءان الكريم في ست وعشرين ءاية، منها أربع وعشرون ءاية في سورة يوسف، وءاية في الأنعام، وءاية في سورة المؤمن [غافر].

وهو من أشهر أنبياء بني إسرائيل، وقد ذُكرت قصة سيدنا يوسف عليه السلام في سورة يوسف مُفصلة، وفيها بيانٌ لحياته ومحنته مع إخوته ومحنته مع امرأة العزيز، ودخوله السجن ودعوته فيه إلى الله تعالى، ثم خروجه من السجن وتفسيرُه الرؤيا للملك واستلامه لخزائن الأرض أي أرض مصر، ثم مجيء إخوته إلى مصر بسبب القحط، وإبقاؤه لأخيه بنيامين عنده، ثم اجتماعه بأبيه وإخوته ودخولهم عليه وسجودهم له على وجه التحية والتعظيم وكان ذلك جائزًا في شريعتهم، إلى غير ذلك من إشارات دقيقة وعظات بالغة يُستفاد بها من حياة هذا النبي الكريم.

إخوته عليه السلام والأسباط

تقدم أن يعقوب عليه السلام تزوج ابنتي خاله "ليّا" و"راحيل" وأنهما ولدتا له عددًا من الأولاد.

وليعلم أن الأسباط هم ذرية إخوة يوسف عليه السلام وهم شعوب بني إسرائيل، وكان يوجد فيهم أنبياء نزل عليهم الوحي، ولم يكن من أولاد يعقوب نبي غير يوسف عليه السلام إلا أن هناك احتمالاً أن يكون بنيامين نبيًّا، وأما ما ذهب البعض إليه من القول بنبوة أخوته فمردودٌ لأنّ النبوة لا تصح لإخوة يوسف الذين فعلوا تلك الأفاعيل الخسيسة وهم من سوى بنيامين، فالأسباط الذين أنزل عليهم الوحي هم من نُبّئ من ذريتهم.

رؤيا يوسف عليه السلام في المنام

رأى يوسف عليه السلام في المنام وهو صغير لم يحتلم أن أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر تسجد له، قال المفسرون: كانت الكواكب في التأويل إخوته، والشمس أمه، والقمر أباه، فقصَّ يوسف عليه السلام هذه الرؤيا على أبيه قيل: كان عمره وقتئذ اثنتي عشرة سنة، فأشفق عليه أبوه يعقوب من حسد إخوته له، قال تعالى إخبارًا عن قول يعقوب: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا}(سورة يوسف) أي يدبروا حيلة لإهلاكك لأن الشيطان للإنسان عدو مبين.

قال الله تعالى:{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ*قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}سورة يوسف.

ولقد علم يعقوب عليه السلام أنه سيكون لابنه يوسف شأن عظيم وسينالُ رتبة علية ورفعة سامية في الدنيا والآخرة، لذلك أمره بكتمان ما رأى في المنام وألا يقصها على إخوته خوفًا عليه من كيدهم وحسدهم.

حسد إخوته وحقدهم عليه وعزمهم على التخلص منه

كان بقية أبناء يعقوب عليه السلام يحسدون يوسف وشقيقه بنيامين على هذه المحبة والخصوصية لهما وهم يعتبرون أنفسهم جماعة أقوياء نافعين له أحق بمحبته قال تعالى:{إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}سورة يوسف، وازداد كره إخوته وحسدهم ليوسف خاصة لمّا علموا بأمر رؤياه، ولذلك تآمروا فيما بينهم على أن يُفرقوا بينه وبين أبيه، وتشاوروا فيما بينهم على قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها ليخلو لهم وجه أبيهم أي لتتمحض محبته لهم عن شغله بيوسف، وقالوا سنتوب بعد ذلك لنكون من الصالحين، قال الله تعالى حكاية عنهم:{اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}سورة يوسف.

ولكنّ قائلًا منهم قيل هو أخوه يهوذا وقيل غيره، قال لهم: لا تقتلوا يوسف، وأمرهم أن يلقوه في قعر البئر فيلتقطه بعض المارة من المسافرين فيأخذونه وبذلك يتخلصون منه.

قال الله تبارك وتعالى:{قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}سورة يوسف، وأخذ عليهم أخوهم يهوذا العهود أنهم لا يقتلونه، فأجمعوا عند ذلك على أن يدخلوا على يعقوب ويكلموه في إرسال يوسف معهم إلى البرية ليلعب معهم ويأكل، لذلك دخلوا على أبيهم وطلبوا منه أن يسمح لهم باصطحاب يوسف إلى الصحراء وتعهدوا له أن يحافظوا عليه:{قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ*أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}سورة يوسف.

وكان يعقوب عليه السلام قد خطر له ما يضمره بنوه لأخيهم يوسف، وكان يعزّ عليه أن يذهبوا به لأنه كان يخشى عليه منهم، لذلك أراد أن يثنيهم عن هذا الأمر بقوله:{ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}سورة يوسف.

وهو كان يتخوّف على يوسف من عدوانهم أكثر مما يتخوف عليه عدوان الذئب ولكنهم كانوا بارعين في الدهاء لذلك قال تعالى:{قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ}سورة يوسف، أي لئن أكله الذئب ونحن جماعة كثيرون نكون إذًا عاجزين هالكين.

تنفيذ إخوة يوسف مؤامرتهم بإلقاء يوسف في البئر لإهلاكه

أرسل يعقوب يوسف مع إخوته لئلا يشعروا أن أباهم يخشى عليه منهم فيدبوا له مكيدة في غيابه فأرسله معهم على كِره ومضض، وما إن غابوا به عن عينيه انطلقوا به إلى البئر ليطرحوه فيه فخلعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه،لِمَ نزعتم قميصي؟ رُدُّوه عليّ أستر به عورتي ويكن كفنًا لي في مماتي، فقالوا له: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبًا تؤنسك، ثم أدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت، فكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فيها فقام عليها وجعل يبكي، فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم، فأرادوا أن يرجموه بالحجارة فمنعهم أخوه يهوذا، ولما ألقوه في قعر البئر أوحى الله إليه أنه لا بُدّ من فرج ومخرج من هذه الشدة والضيق ولتُخبرنّ إخوتك بصنيعهم هذا في وقت يكون لك فيه العزة والسيادة عليهم وهم لا يعلمون أمرك، قال الله تعالى:{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}سورة يوسف.

تلطيخ قميص يوسف بدم مكذوب لإخفاء الجريمة

بعد أن ألقى إخوة يوسف أخاهم في البئر أرادوا أن يُخفوا جريمتهم، لذلك عمدوا إلى جّدْي من الغنم فذبحوه ثم غمسوا قميص يوسف في دمه ورجعوا إلى أبيهم يعقوب في وقت العشاء يبكون، وإنما جاءوا وقت العتمة ليكونوا أجرأ في وقت الظلام على الاعتذار بالكذب، فلما دنوا منه صرخوا صراخ رجل واحد ورفعوا أصواتهم بالبكاء والعويل، فلما سمع يعقوب عليه السلام صوتهم فزع وقال: ما لكم يا بنيّ، هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فما أصابكم وأين يوسف؟ فقالوا له كاذبين: يا أبانا إنّا ذهبنا للسباق والرمي بالسهام وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وأنت لستَ بمصدقنا ولو كنا صادقين. قال تعالى:{وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ * قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}سورة يوسف.

وعندما سمع يعقوب عليه السلام كلام أبنائه وما ادعوه بكى وقال لهم: أين القميص؟ فجاءوا بالقميص عليه دم كذب وليس فيه خرقٌ، ويُروى أنّ يعقوب عليه السلام أخذ القميص وأخذ يقلبه وقال لهم متهكمًا: ما أحلم هذا الذئب الذي أكل ابني دون أن يمزق ثوبه!! وقال هذا الكلام تعريضًا بكذبهم وإيذانًا لهم بأن صنيعهم ومكرهم هذا لم يمر عليه، قال الله تعالى:{ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}سورة يوسف، أي لقد زينت لكم أنفسكم أمرًا غير ما تصفون فصبر جميل وربي المعين على ما تصفون من الكذب.

إنقاذ يوسف عليه السلام من البئر

أقام يوسف عليه السلام في البئر ثلاثة أيام وكان البئر قليل الماء ومرت قافلة من القوم أمام البئر الذي أُلقيَ فيه يوسف عليه السلام فبعثوا من يستقي لهم الماء من البئر، فلمّا أدلى دلوه في البئر الذي فيه يوسف عليه السلام تعلق به، فلما نزع الدلو يحسبها قد امتلأت ماء، إذا بها غلامٌ جميل حسن الوجه مُشرق المُحيّا فاستبشر الرجل به وقال لأصحابه: يا بُشرى هذا غلام، فأقبل أصحابه يسألونه الشركة فيه واستخرجوه من البئر، فقال بعضهم لبعض: اكتموه عن أصحابكم لئلا يسألوكم الشركة فيه، فإن قالوا: ما هذا؟ فقولوا: استبضعناه أهل الماء – أي وضعوه معنا بضاعة- لنبيعه لهم بمصر ولمّا استشعر إخوة يوسف عليه السلام بأخذ القافلة ليوسف عليه السلام لحقوهم وقالوا: هذا غلامنا [أي عبد لنا] أبقَ وهرب منا فصدقهم أهل القافلة فاشتروه منهم بثمن بخس وقليل من الدراهم المعدودة، قال الله تعالى:{وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}سورة يوسف.

بيعُ يوسف عليه السلام لعزيز مصر ووزيرها

لما ذهبت القافلة ومعها يوسف عليه السلام إلى مصر، وقفوا في سوق مصر يعرضونه للبيع، فأخذ الناس في مصر يتزايدون في ثمنه حتى اشتراه منهم عزيزُها وهو الوزير المؤتمن على خزائنها يقال له "قطفير" وكان ملك مصر يومئذٍ "الرَّيان ابن الوليد" وهو رجلٌ من العمالقة، وذهب الوزير الذي اشترى يوسف عليه السلام به إلى منزله فرحًا مسرورًا وقال لامرأته واسمها زَليخا وقيل: راعيل:{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}سورة يوسف، وكان هذا الوزير لا يأتي من النساء ولا يميل لهنّ وكانت امرأته "زليخا" امرأة جميلة حسناء ناعمة في ملكٍ ودنيا.

ولما رأى هذا الوزير في يوسف عليه السلام الذكاء والأمانة والعلم والفهم جعله صاحب أمره ونهيه والرئيس على خدمه وهذا إكرام من الله حيث قيَّض الله تبارك وتعالى ليوسف الصدّيق عليه السلام العزيز وامرأته يُحسنان إليه ويعتنيان به، كما أنقذه من إخوته حين همُّوا في البداية بقاله إلى أن ألقوه في البئر ثم أخرجه منه وصيّره إلى هذه الكرامة والمنزلة الرفيعة عند عزيز مصر ووزيرها، ومكن له في الأرض وجعله على خزائنها وتولاه الله بعنايته وعلّمه من لدنه علمًا عظيمًا وأعطاه علمَ تعبير الرؤيا والله تعالى غالبٌ على أمره نافذ المشيئة في مخلوقاته، فعّال لما يريد لا أحد يمنع ما شاءه الله وقدّره، يقول تعالى:{وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}سورة يوسف.

ولما بلغ يوسف عليه السلام شدته وقوته في شبابه وبلغ أربعين سنة ءاتاه الله الحكم والعلم وجعله نبيًا وكذلك يجزي الله المحسنين من عباده القائمين بأمره المهتدين إلى طاعته، قال تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}سورة يوسف.

محنة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز

أقام يوسف عليه السلام في بيت عزيز مصر ووزيرها مُنعمًا مُكرمًا وكان فائق الحسن والجمال، فلما شب وكبر أحبته امرأة العزيز حبًا جمًا وعشقته وشغفها حبُّه لما رأت من حسنه وجماله الفائق. وذات يوم وقيل: كان عمر يوسف سبعة عشر عامًا أرادت امرأة العزيز أن تحمله على مُواقعتها وما يريد النساء من الرجال عنوة، وهي في غاية الجمال والمال والمنصب والشباب، وغلقت الأبواب عليها وعليه، وتهيأت له وتصنعت ولبست أحسن ثيابها وأفخرها ودعته صراحة إلى نفسها من غير حياء وطلبت منه ما لا يليق بحاله ومقامه، والمقصود أنها دعته إليها وحرصت على ذلك أشد الحِرص، ولكن هيهات هيهات.. وهو النبي العفيف الطاهر المعصوم عن مثل تلك الرذائل والسفاهات والفواحش وهو نبيٌّ من سلالة الأنبياء الذين يستحيل عليهم الرذائل والفواحش. لذلك أبى يوسف عليه السلام ما دعته إليه امرأة العزيز، وامتنع أشد الامتناع وأصر على عصيان أمرها وقال: معاذ الله، أي أعوذ بالله أن أفعل هذا، ثم قال لها:{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}سورة يوسف، يريدُ أن زوجها صاحب المنزل سيدي – أي بحسب الظاهر للناس- أحسن إليّ وأكرم مقامي عنده وائتمنني فلا أخونه في أهله، وأنّ الذي تدعينني إليه لظلمٌ فاحش ولا يفلح الظالمون، يقول الله تعالى:{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}سورة يوسف.

وأمام إباء يوسف عليه السلام عن مطاوعة امرأة العزيز، وأمام عفته وإصراره على عدم الوقوع معها في الحرام، ازدادت هي إصرارًا على الهَمّ بالرذيلة فأمسكت به تريدُ أن تجبره على مواقعتها وارتكاب الفاحشة معها من غير حشمة وحياء، فصار عليه السلام يحاول التخلص منها، فأفلت من يدها فأمسكت ثوبه من خلف فتمزق قميصه، وظلت تلاحقه وهما يستبقان ويتراكضان إلى الباب هو يريد الوصول إليه ليفتحه ليتخلص منها يدفعه إلى ذلك الخوف من الله مولاه، وهي تريد أن تحول بينه وبين الباب تدفعها إلى ذلك الشهوة الجامحة والاستجابة لوساوس الشيطان، وفي تلك اللحظات وصل زوجها العزيز فوجدها في هذه الحالة، فبادرته بالكلام وحرضته عليه وحاولت أن تنسب إلى يوسف عليه السلام محاولة إغوائها والاعتداء عليها مدعية أنها امتنعت وهربت منه فنسبت إلى يوسف الخيانة وبرّأت نفسها، لذلك ردّ نبي الله يوسف عليه السلام التهمة عن نفسه وقال: هي راودتني عن نفسي، يقول الله تبارك وتعالى:{ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي}سورة يوسف.

وأما قوله تعالى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}سورة يوسف، فمعناه أن امرأة العزيز همت بأن تدفعه إلى الأرض لتتمكن من قضاء شهوتها بعد وقوعه على الأرض وهو هم بأن يدفعها عنه ليتمكن من الخروج من الباب لكن لم يفعل هو لأن الله ألهمه أنه لو دفعها لكان ذلك حجة عليه عند أهلها بأن يقولوا إنما دفعها ليفعل بها الفاحشة، وهذا معنى قول الله تعالى:{ لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} أي لولا أن رأى برهانًا من الله لدفعها، فلم يدفعها بل أدار لها ظهره ذاهبًا إلى الباب فلحقته فشقت قميصه من خلف فكان الدليل والحجة عليها ولو ضربها ودفعها لكان ضربه ودفعه إياها حجة لها عليه، لأنها تقول: راودني فمنعته فضربني.

والذي يجب أن يُعتقد أن الله تبارك وتعالى عصم نبيه يوسف عليه السلام ونزهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها، كما صان وعصم سائر أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام لأن الأنبياء كما أجمع علماء الإسلام أنه تجب للأنبياء الصيانة، فيستحيل عليهم الرذائل والسفاهة والجبن، ولهذا قال الله تبارك وتعالى في حق يوسف عليه السلام نافيًا عنه السوء والفحشاء ومُطهرًا إياه من قصد الفاحشة والهم بالزنى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}سورة يوسف.

لذلك لا يصح ما يروى عن بعض المفسرين أنه حلّ السراويل وقعد منه مقعد الرجل من امرأته، فإن هذا باطل لا يليق بنبي من أنبياء الله تعالى، وكذلك ما في تفسير الجلالين وغيره أن يوسف قصد الزنى بها فإنه لو كان حصل هذا من يوسف لكان فيه دليل على العزم والأنبياء صلوات الله عليهم معصومون من العزم على الزنى والفاحشة ومقدماتها، قال تعالى في بيان براءة يوسف عليه السلام:{قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}سورة يوسف.

تبرئة يوسف عليه السلام مما اتهمته به امرأة العزيز

بعد أن اتهمت امرأة العزيز يوسف عليه السلام بأنه حاول الاعتداء عليها بالفاحشة وبرأت نفسها ردّ يوسف عليه السلام هذه التهمة عنه وقال: هي راودتني عن نفسي، وفي هذا الموقف أنطق الله القادر على كل شيء شاهدًا من أهلها وهو طفل صغير في المهد لتندفع التهمة عن يوسف عليه السلام وتكون الحجة على المرأة التي اتهمته زورًا ولتظهر براءة يوسف عليه السلام واضحة أمام عزيز مصر ووزيرها، فقال هذا الشاهد من أهلها:{إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ}سورة يوسف، أي لأنه يكون قد راودها فدفعته حتى شقّت مُقَدَّم قميصه فتكون التهمة بذلك على يوسف، ثم قال:{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ}سورة يوسف، أي لأنه يكون قد تركها وذهب فتبعته وتعلقت به من خلف فانشقّ قميصه بسبب ذلك وتكون التهمة بذلك على امرأة العزيز، فلما وجد العزيز أنّ قميص يوسف قد انشق من خلف خاطب زوجته وقال لها:{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}سورة يوسف، أي هذا الذي جرى من مكركنّ، أنت راودته عن نفسه ثم لتدفعي التهمة عن نفسك اتهمته بالباطل والبهتان.

ثم قال زوجها ليوسف عليه السلام بعد أن ظهرت براءته:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا}سورة يوسف، أي لا تذكره لأحد لأن كتمان مثل هذه الأمور في ذلك الحين أحسن، ثم أمر زوجته بالاستغفار لذنبها الذي صدر منها والتوبة إلى ربها وقال لها:{وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}سورة يوسف، يعني من المذنبين الآثمين.

وبذلك ظهرت براءة يوسف عليه السلام ظهور الشمس في وضح النهار، وظهر للعزيز عفة يوسف عليه السلام، وأنه نزيه العِرض سليم الناحية، وأنه منزه عن التهمة التي اتهمته بها امرأته زورًا وبُهتانًا.

شيوع الخبر في المدينة وتحدث النساء به

شاع خبر امرأة العزيز ويوسف عليه السلام في أرجاء المدينة وأخذت ألسنة النساء من نساء الأمراء وبنات الكُبراء في الطعن على امرأة العزيز وعَيبها، والتشنيع عليها على فعلتها، كيف تعشق سيدة ذات جاه ومنصب فتاها وتراوده عن نفسه فتطلب منه مواقعتها، وبلغ ذلك امرأة العزيز فأرسلت إلى هؤلاء اللائمات من ذوات الثراء والجاه ودبرت لهنّ مكيدة حتى يعذرنها في حبّها وغرامها ليوسف عليه الصلاة والسلام فجمعتهنّ في منزلها وأعدّت لهنّ ضيافة تليقُ بحالهنّ، فقد هيأت لهن مكانًا أنيقًا فيه من النمارق والوسائد ما يتّكئنَ عليه، وقدمت إليهنّ طعامًا يحتاج إلى القطع وسكينًا، وقيل: ناولت كل واحدة منهُنّ أُترُجَّة – نوع من الفاكهة- وسكينًا وقالت لهن: لا تقطعن ولا تأكلن حتى أُعلمكنّ، ثم قالت ليوسف عليه السلام: اخرج عليهنّ، فلما خرج عليه السلام إلى مكان جلوس هؤلاء النسوة ورأينه بَهَرَهنّ جماله وألهاهن حُسنه الفائق وتَشاغلن عمّا في أيديهنّ فصرن يحززنَ أيديهن ويقطعنها وهن يحسبنَ أنهن يقطعن الطعام والفاكهة، وهنَّ لا يشعرن بألم الجُرح، وأعلنَّ إكبارهن وإعظامهن لذلك الجمال الرائع الذي كان عليه سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام، حيث ما ظننَّ أن يكون مثلُ هذا الجمال في بني ءادم. ثم قُلنَ: حاشَ لله ما هذا بشرًا إن هذا إلا مَلَك كريم، عند ذلك باحت امرأة العزيز بحبها وشغفها بيوسف عليه السلام الذي بهرها جماله وملكَ عليها قلبها، وقالت للنسوة معتذرة في عشقها يوسف وحبها إياه: فذلكنَّ الذي لُمتني فيه، ثم مدحت يوسف عليه السلام بالعفة التامة والصيانة، واعترفت وأقرت لهنّ بأنها هي التي راودته عن نفسه وطلبت منه ما تريد ولكنه استعصم وامتنع، وأخبرتهنّ أنه إن لم يُطاوعها إلى ما تريدُ من قضاء شهوتها ليُحبسن في السجن ويكون فيه ذليلاً صاغرًا.

قال الله تبارك وتعالى:{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ *فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ}سورة يوسف.

وقامت النساء يحرضن يوسف عليه السلام على السمع والطاعة لسيدته ولكنه عليه السلام أبى أشد الإباء ودعا ربه مستغيثًا به فقال في دعائه:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ}سورة يوسف، يعني إن وكلتني إلى نفسي فليس لي من نفسي إلا العجز والضعف ولا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله فأنا ضعيف إلا ما قويتني وعصمتني وحفظتني وأحطتني بحولك وقوتك. فاستجاب الله تعالى دعوة نبيه يوسف عليه السلام وصرف عنه كيدهن ونجّاه من ارتكاب المعصية معهن قال الله تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}سورة يوسف.

نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام ج(1)

بي الله عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام

قال الله تبارك وتعالى:{مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}سورة المائدة.   

عدد المرات التي ذكر فيها في القرءان

ذكر عيسى في ثلاث عشرة سورة من القرءان، وفي ثلاث و ثلاثين ءاية منه.

نسبه ونسب أمه عليهما السلام

هو عبد الله ورسوله عيسى ابن مريم بنت عمران وهو ءاخر انبياء بني إسرائيل عيشًا في الأرض، قال عليه الصلاة والسلام: "الأنبياء إخوة لعلّات دينهم واحد وأمهاتهم شتّى وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ليس بيني وبينه نبيّ" رواه البخاري، كما أن ءاخر الأنبياء والرسل جميعًا هو محمّد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

فسيّدنا عيسى عليه الصلاة و السلام عبد من عباد الله خلقه الله تعالى وصوره في الرحم كما صور غيره من البشر، وقد خلقه تعالى من غير أب كما خلق ءادم من غير أب وأم، قال الله عز وجل:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}سورة ءال عمران.

وأُمّ نبي الله عيسى عليه السلام هي مريم بنت عمران من سلالة نبي الله داود عليه السلام، الصدّيقة الولية البتول العذراء الطاهرة التي تربّت في بيت الفضيلة وعاشت عيشة الطهر والنزاهة والتقوى، وقد أثنى الله تبارك وتعالى عليها في القرءان الكريم في مواطن عديدة، قال الله تعالى:{وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}سورة التحريم.

وقد كان والد مريم عليها السلام عمران رجلًا صالحًا عظيمًا وعالمًا جليلًا من علماء بني إسرائيل، وكانت زوجته عاقرًا لا تلد واسمها "حنة" وهي من العابدات، وكان زكريا نبي الله زوج أخت مريم في قول الجمهور وقيل زوج خالتها.

وقد نذرت حنة لله إن حملت لتجعلنَّ ولدها محررًا لله أي خالصًا لخدمة بيت المقدس، فاستجاب الله عز وجل دعاءها فحملت بمريم عليها السلام، فلما وضعت حملها كان الولد أنثى وكانت ترجو أن يكون الولد ذكرًا ليخدم في بيت الله عندئذ توجهت بالدعاء إلى الله تعالى، قال تعالى:{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}سورة ءال عمران.

وقد استجاب الله تعالى لها قال الله تعالى:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}سورة ءال عمران.

نشأة مريم عليها السلام وتبشير الملائكه لها

نشأت الصديقة الولية مريم عليها السلام نشأة طُهر وعفاف وتربت على التقوى تؤدي الواجبات وتكثر من نوافل الطاعات، وعاشت في جوار بيت المقدس، وقد وصفها الله تعالى في القرءان الكريم بالصدّيقة، وكانت الملائكة تأتي إلى مريم عليها السلام وتزورها، إلى أن جاءت إليها في وقت وبشرتها باصطفاء الله تعالى لها من بين سائر النساء وبتطهيرها من الأدناس والرذائل، وبشرتها كذلك بمولود كريم يكون له شأن عظيم في الدنيا والآخرة ويكلم الناس صغيرًا في المهد ويكون كهلًا ومن الصالحين، يقول الله تعالى في القرءان الكريم:{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}سورة ءال عمران.

ويقول الله تعالى إخبارًا عن تبشير الملائكة لمريم عليها السلام بعيسى صلى الله عليه وسلم:{إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} سورة ءال عمران.

فائدة: روي البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد بالإسناد الصحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد"، وروى أحمد وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حسبك من نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وءاسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد".

وبنص الحديث النبوي الشريف فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:"وخير النساء مريم بنت عمران ثم فاطمة بنت محمد ثم خديجة بنت خويلد ثم ءاسية بنت مزاحم".



ذكر ولادة نبي الله عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله وبيان حال أمه مريم العذراء حين ولادته

قال الله تبارك وتعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا * فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَة قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا * فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا *وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}سورة مريم.

تقدم أن مريم كانت تعبد الله بخدمة المسجد، وكانت تخرج منه في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لا بد منها، وفي ذات يوم خرجت من محرابها الذي كانت تعبد الله تعالى فيه وسارت جهة شرقي بيت المقدس وأمر الله تعالى الروح الأمين وهو جبريل عليه السلام أن يذهب إليها ليبشرها بعيسى عليه السلام وهناك تمثّل لها جبريل في صورة شاب جميل أبيض الوجه فلما رأته مريم عليها السلام لم تعرف أنه جبريل ففزعت منه واضطربت وخافت على نفسها منه وارتابت في أمره حيث ظهر لها فجأة في ذلك المكان، وصارت تبتعد منه ثم قالت ما أخبر الله به:{قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا}أي إن كنت تقيًّا مطيعًا فلا تتعرض لي بسوء، لكن جبريل عليه السلام سرعان ما أزال عنها اضطرابها وهدّأ من روعها وقال لها{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}أي أني لست ببشر ولكني ملَك أرسلني الله تعالى إليك لأهب لَكِ غُلامًا يكون طاهرًا نقيا قالت:{قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}أي ليس لي زوج ولست بزانية فقد تعجبت مريم عليها السلام عندما بشّرها جبريل بالغلام لأنها بكر غير متزوجة وليست زانية{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} فأجابها جبريل عن تعجبها بأنّ خلق ولد من غير أب سهل هيّن على الله تعالى، وليجعله علامة للناس ودليلاً على كمال قدرته سبحانه وتعالى وليجعله رحمة ونعمة لمن اتبعه وصدقه وءامن به.

وأمر الله تبارك وتعالى جبريل عليه السلام أن ينفخ في مريم البتول روح عيسى المشرّفة عنده فنفخ أمين الوحي جبريل روح عيسى في أعلى جيب قميص مريم عليها السلام فوصلت بنفخته الروح من فم مريم إلى رحمها عليها السلام بقدرة الله وحملت بتلك النفخة بالسيد المسيح عليه السلام قال تعالى:{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ}سورة الأنبياء.

ويقال إن عمر مريم عليها السلام حين حملت بعيسى المسيح عليه السلام كان ثلاث عشرة سنة، وقد اختلف العلماء في مدة الحمل فقيل: تسع ساعات وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: تسعة أشهر، والله أعلم.

اتهام مريم وولادتها السيد المسيح عليه الصلاة والسلام

لما حملت السيدة مريم عليها السلام بعيسى وظهرت عليها ءاثار الحمل كان أول من فطن لذلك زكريا عليه السلام وقيل ابن خالها يوسف بن يعقوب النجار وكان من عباد الله الصالحين، فجعل يتعجب من ذلك لما يعلم من تدينها ونزاهتها فقال لها مرة يعرض لها في حملها: يا مريمُ هل يكون زرعٌ من غير بذر؟ فقالت له: نعم فمن خلق الزرع الأول؟ ثم قال لها: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت:نعم إن الله خلق ءادم من غير ذكر ولا أنثى، عندئذ قال لها: فأخبريني خبرك، فأخبرته حقيقة أمرها وقالت له، إن الله تعالى بشرني بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهًا في الدنيا والآخيرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين.

وشاع الخبر في بني إسرائيل أن مريم حامل فأساء بها الظن كثير منهم واتهمها البعض بيوسف النجار الذي كان يتعبد معها في المسجد، واتهمها ءاخرون بنبي الله زكريا عليه السلام، وحزنت مريم عليها السلام حزنًا شديدًا واعتراها كرب عظيم وتوارت عن أعينهم واعتزلتهم وانتبذت بحملها مكانًا بعيدًا فرارًا من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها إذا أتتهم بمولودها الصغير مع أنها كانت عندهم من العابدات الناسكات المجاورات في المسجد في عبادة الله سبحانه.

لما أتمت مريم عليها السلام أيام حملها وهي في بيت لحم اشتد بها المخاض ثم ألجأها وجع الولادة إلى جذع نخلة يابسة وقيل كانت نخلة مثمرة، فاحتضنت ذلك الجذع وولدت عيسى عليه السلام، وناداها جبريل عليه السلام من مكان من تحتها من أسفل الجبل يطمئنها ويخبرها أن الله تبارك وتعالى جعل تحتها نهرًا صغيرًا، ويطلب منها أن تهز جذع النخلة ليتساقط عليها الرطب الجني الطري، وأن تأكل وتشرب مما رزقها الله تعالى، وأن تقر عينها بذلك وأن لا تكلم إنسًا، فإن رأت أحدًا من الناس تقول له بالإشارة أنها نذرت للرحمن صومًا أي صمتًا، وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام، فهزت مريم عليها السلام جذع النخلة فتساقط عليها الرطب الجني الناضج فأكلت عليها السلام منه وشربت من ذلك النهر الذي أجراه الله تبارك وتعالى بقدرته لها في مكان كان لا يوجد فيه نهر، وكل ذلك إكرامًا من الله سبحانه وتعالى لمريم على إيمانها وصلاحها وعنايةً بوليدها السيد المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام.

أتت السيدة مريم عليها السلام قومها تحمل مولودها عيسى عليه السلام على يدها في بيت لحم فلما رءاها قومها قالوا لها: لقد فعلت فعلة منكرة عظيمة، فإن أباك لم يكن رجل سوء ولم تكن أمك زانية، وظنوا بها السوء وصاروا يوبخوها ويؤنبوها وهي ساكتة لا تجيب لأنها أخبرتهم أنها نذرت للرحمن صومًا، ولما ضاق بها الحال أشارت إلى عيسى عليه السلام أن كلموه فعنده ما تبغون، عندها قالوا لها متعجبين: ما أخبر الله به بقوله{كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا}وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا والازدراء إذ لا تردين علينا بكلام، عند ذلك أنطق الله تبارك وتعالى بقدرته الرضيع "عيسى" عليه السلام وكان عمره أربعين يومًا{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}وهذا إعتراف منه عليه السلام بالعبودية لله تبارك وتعالى وهذه أول كلمة نطق بها عيسى وهو في المهد{آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}وهذا إخبار عما قضى الله تعالى له وحكم له به ومنحه إياه مما سيظهر ويكون، وفي ذلك تبرئة لأمه مما نسبوا إليها واتهموها به: فإن الله تعالى لا يعطي النبوة لمن هو كما زعموا ثم قال لهم عيسى عليه السلام ما أخبره الله تعالى به{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ}أي نفاعًا حيثما توجهت معلمًا للخير، وذلك أن عيسى عليه السلام كان يدعو حيث كان إلى عبادة الله تعالى وحده وأن لا يعبد شيء غيره.

قال تعالى إخبارًا وحكاية عن عيسى{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا* وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}وهذا أيضًا إخبار عما قضى الله له ومنحه إياه مما سيظهر ويكون، فكان نبي الله عيسى عليه السلام يصلي لله تعالى كما أمره، ويحسن إلى عبادة الله بالزكاة وبذل الأموال والعطايا للمحتاجين والفقراء، ولم يكن عليه السلام فظًا ولا غليظًا، قال تعالى إخبارا عن عيسى عليه السلام وماأنطقه به في المهد{وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}فلما كانت هذه المواطن الثلاثة أشق ما يكون على ابن ءادم جعل الله تعالى السلامة على نبيه عيسى عليه السلام في هذه المواطن الثلاثة يوم ولادته وعندما يموت وعند البعث يوم القيامة.

فائدة: بعد أن تكلم عيسى عليه السلام وهو في المهد واعترف بالعبودية لله تعالى ودفع التهمة الباطلة عن أمه مريم إلى ءاخر كلامه وهو في المهد، أمسك بعد ذلك عن الكلام حتى بلغ المبلغ المعتاد في نطق الصبيان فأنطقه الله تعالى بالحكمة وحسن البيان.

اختلاف الناس في أمر عيسى ابن مريم عليهما السلام وبيان أن عيسى هو عبد الله ورسوله

قال تعالى:{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}سورة مريم.

أي أن عيسى عليه السلام هو عبد من عباد الله مخلوق من إمرأة وهي أمه مريم، والله تعالى لا يعجزه شيء ولايؤوده ويتعبه شيء، بل هو يوجد ما أراد وجوده بسرعة أي من غير تأخر عن الوقت الذي أراد وجوده فيه من غير أن يلحقه تعب ولا مشقة، وقال الله تبارك وتعالى:{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}سورة مريم، أي فاختلف أهل ذلك الزمان ومن بعدهم في أمر عيسى عليه السلام فمن قائل من اليهود إنه ابن امرأة زانية واستمروا على كفرهم وعنادهم قال تعالى:{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}سورة النساء، وقابلهم ءاخرون في الكفر فقالوا: هو الله، وقال ءاخرون هو ابن الله، وقال ءاخرون: الله ثالث ثلاثة.

وقال المؤمنون: هو عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهؤلاء هم النّاجون المنصورون، وقد توعد الله تعالى الكافرين بالعذاب يوم القيامة قال الله تبارك تعالى:{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من شهد أن لا إلــه إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنّة على ما كان من العمل"رواه البخاري.ومعنى "وروح منه" أن المسيح روحٌ صادرة من الله تعالى خلقًا وتكوينًا وليس المعنى أن المسيح جزءٌ من الله تعالى. فالله سبحانه وتعالى ليس أصلا لغيره ولا هو فرعٌ عن غيره وليس روحًا ولا جسدًا{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}سورة الإخلاص، ودليلُ ما ذكرناه قوله تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}سورة الجاثية، أي أن جميع ما في السماوات وما في الأرض من الله تعالى خلقًا وتكوينًا وليس المعنى أنها أجزاءٌ منه تعالى.

وقد قال تعالى بعد ذكر قصة سيدنا عيسى عليه السلام وما كان من أمره في سورة ءال عمران:{ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ * إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ}سورة ءال عمران، وقال تعالى:{إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ}سورة ءال عمران.

دعوته عليه الصلاة والسلام والكتاب الذي أُنزل عليه وأتباعه المؤمنون

أرسل الله تبارك وتعالى عيسى إلى بني إسرائيل يدعوهم لدين الإسلام وعلّمه التوراة وأنزل عليه كتابًا سماويًا وهو الإنجيل الذي فيه دعوة إلى الإيمان بالله الواحد الأحد خالق كل شئ وإلى الإيمان بأن عيسى عبد الله ورسوله، وفيه بيان أحكام شريعته، وفيه البشارة بنبيّ ءاخر الزمان وهو سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وفيه أيضًا تحريم الربا وكل ضار للعقل أو البدن وأكل لحم الخنزير، وفيه الأمر بالصلاة والصيام وغير ذلك من أمور الدين، وكان أصل دعوته شيئين إفرادُ الله بالعبادة والإيمان به أنه نبيّه، ولم يسم نفسه ابنًا لله ولا سمى الله أبًا له وإنما المذاهب الثلاثة التي هي أصول اختلاف النصارى في عيسى عليه السلام هي من تأليف بولس، وكانت أوّل كلمة أنطقه الله تعالى بها وهو في المهد:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ}ءاية 30، حيث اعترف بالعبوديّة لله تعالى وحده ربّ كلّ شئ وخالق كلّ شئ.

ولقد حذّر عيسى المسيح عليه السلام قومَه بني إسرائيل من الكفر والإشراك وبيّن لهم أنه من يشرك بالله تعالى فقد حرّم الله تعالى عليه الجنّة ومأواه نار جهنّم خالدًا فيها أبدًا لَقَدْ {كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}سورة المائدة، أي ليسَ للكافرين أنصار يحمونهم من عذاب الله في الآخرة.

كان أتباعُ عيسى المسيح عليه السلام الذين صدّقوه واتبعوه وءامنوا به مسلمين مؤمنين، وكان من أتباعه وتلامذته وصفوته وخاصته "الحواريون" الذين كان أعوانًا له ينشرون دعوته وشرعه ويعلّمون الناس الخير وتعاليم الشرع الحنيف الذي أوحى به إلى عيسى عليه الصلاة والسلام،يقول الله تعالى:{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}سورة المائدة إنما طلبوا شهادة عيسى ابن مريم عليه السلام بإسلامهم تأكيدًا على إيمانهم، لآن الرسل والأنبياء يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم، وفي هذا دليل أيضًا على أن الإسلام والإيمان متلازمان.

يقول الله تبارك وتعالى في بيان حال عيسى وأمه عليهما السلام: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}من سورة المائدة، يقول الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}سورة الصف.وقال الله عز وجل في بيان الكتاب الذي أنزله على نبيه عيسى ابن مريم عليهما السلام{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}سورة المائدة.

وقال الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}سورة الصفّ .

أولئك أمّة عيسى عليه السلام الصادقون الذين كانوا على هدي نبيّهم عيسى عليه السلام وعلى طريقته وتعاليمه حتى بعد رفعه إلى السماء إلى مائتي سنة، ثم بعد ذلك صار عدد من المؤمنين منهم ينقصُ شيئًا فشيئًا وصار يكثر الذي يعبدون عيسى عليه السلام ويحرّفون ما جاء به من تعاليم سماوية.

فائدة: يروى أن التوراة أنزلت على موسى لست ليال خلون من شهر رمضان، وأنزل الزبور على داود لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان وذلك بعد التوراة بأربعمائة واثنتين وثمانين سنة، وأنزل الأنجيل على عيسى لثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بألف عام وخمسين عامًا، وأنزل الفرقان على محمّد صلّى الله عليه وسلّم لأربع وعشرين من شهر رمضان.

تنبيه: الرهبانيّة التي ابتدعها أتباع المسيح عليه الصلاة والسلام ومدحهم الله عليها{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ}سورة الحديد.

فالله تبارك وتعالى مدح في هذه الآية الذين كانوا من أمّة عيسى المسلمين المؤمنين المتّبعين لنبيّهم عيسى عليه السلام بالإيمان والتوحيد وكانوا صادقين لأنهم كانوا أهل رأفة ورحمة ولأنهم ابتدعوا بدعة حسنة وهي "الرهبانيّة"، وهذه الرهبانية هي الإنقطاع عن الشهوات حتى أنهم انقطعوا عن الزواج رغبة في تجرّدهم لعبادة خالقهم،فقوله تعالى:{مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ}أي نحن ما فرضناها عليهم إنما هم أرادوا التقرّب إلى الله تعالى، فالله تعالى مدح هؤلاء الصادقين من أتباع عيسى عليه السلام على ما ابتدعوا مما لم يُنصَّ لهم عليه في الإنجيل الذي أنزل على نبيّهم عيسى عليه السلام ولا قال لهم المسيح عليه السلام افعلوا هذه الرهبانيّة وإنما هم أرادوا المبالغة في طاعة الله تعالى والتجرّد لعبادته بتركِ الانشغال بالزواج ونفقة الزوجة والأهل ، لذلك كانوا يبنون الصوامعَ وهي البيوت الخفيفة من طين أو من غير ذلك على المواضع المنعزلة عن البلد ليتجرّدوا لعبادة خالقهم سبحانهُ وتعالى.

فائدة: بعد رفع عيسى عليه السلام إلى السماء بمائتي سنة حُرّف دينه القويم وحُرّفت معاني الإنجيل الذي أنزِل عليه، ثم عمد هؤلاء المحرّفون إلى تحريف ألفاظه فحذفوا منه أغلب الألفاظ، وصار أحدهم يكتب إنجيلًا ويقول: هذا هو الإنجيل الأصلي، حتى كثر عددها وبلغ إلى نحو سبعين كتابًا كلها باسم الإنجيل المنزل فجمعهم الملك "قسطنطين" الذي كان في الأصل وثنيًا ثم دخل في دين المحرّفين وطلب منهم أن يجمعوا أمرهم، فاتفقوا على أربعة كتب كلها فيها تحريفٌ للإنجيل الأصليّ الذي أنزل على نبيّ الله عيسى عليه السلام، ثم أحرقوا بقيّة الكتب وانقسموا نحو سبعين فرقة، قال الله تعالى{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}سورة المائدة.

ثمّ بعد ذلك صار المسلمون من أتباع عيسى يفرّون بدينهم إلى الجبال يعبدون الله تعالى وحده، ومع مرور الأيام قلّوا حتى لم يبق منهم أحد بعد ذلك لا في الجبال ولا في المدن وهذا قبل بعثة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم.

وقد مدح الله تعالى في القرءان الأوّلين من ترهّبوا مع التوحيد والإيمان على شريعة عيسى وذمّ الآخرين الذين قلّدوهم على غير ما كانوا عليه في الحقيقة فقال تعالى:{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}.

نبي الله يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام (ج3

أكرم يوسف عليه الصلاة والسلام إخوته وأحسن ضيافتهم، ثم أوفى لهم الكيل من الطعام وحمّل بنيامين بعيرًا باسمه كما حمّل لهم، ثم لمّا وفّاهم كيلهم وقضى حاجتهم جعل السقاية -وهو الإناء الذي يشرب فيه الملك ويكيل به الطعام وقيل: كان مرصعًا بالجواهر الثمينة- في رَحل أخيه ومتاعه وإخوته لا يشعرون، فلمّا ارتحلوا مسافة قصيرة أرسلَ الطلب في أثرهم فأدركوهم ثم نادى مناد فيهم قائلًا: أيتها العير - أي القافلة التي فيها الأحمال- إنكم لسارقون قفوا، قيل: ثم وصل إليهم رسول يوسف ووكيله وأخذ يوبخهم ويقول لهم: ألم نكرم ضيافتكم ونوفّكم كيلكم ونحسن منزلتكم ونفعل بكم مالم نفعل بغيركم وأدخلناكم علينا في بيوتنا وأنتم تسرقون؟

فائدة: فإن قيل: كيف نادى المنادي بأنهم سارقون وهم في الحقيقة لم يسرقوا؟ أجيب: أن المنادي نادى وهو لا يعلم أن يوسف عليه السلام أمر بوضع السقاية في رحل أخيه، أو يكون المعنى انكم لسارقون فيما يظهر لمن لا يعلم حقيقة أخباركم. قال الله تعالى:{فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}سورة يوسف.

ولمّا أقبل المنادي ومن معه على إخوة يوسف يتّهمهم بالسرقة قال إخوة يوسف عليه السلام: ماذا تفقدون؟ أي ما الذي ضلّ عنكم وضاع؟ فقالوا لهم: نفقد صواع الملك ولمن جاء به ودلّ عليه فله حمل بعير من الطعام وأخبرهم المنادي أنه الكفيل بالوفاء بالحمل لمن ردّه.

يقول تعالى:{قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ}سورة يوسف. فلما سمع إخوة يوسف عليه السلام ما قاله المنادي ومن معه من حاشية الملك قالوا لهم: ما جئنا لنفسد ولسنا سارقين كما قال الله تعالى:{قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}سورة يوسف، فحلفوا بالله وقالوا: أنتم تعلمون أننا ما جئنا للفساد والسرقة، ونفوا أن يكونوا سارقين، وهنا ردّ عليهم منادي الملك وأصحابه: فما جزاء من توجد في متاعه سقاية الملك إن كنتم كاذبين في قولكم وما كنا سارقين، فأجابهم إخوة يوسف: إنّ جزاء من توجد في متاعه ورحله سقاية الملك أن يُستعبد بذلك وقيل: إن هذه كانت سنة ءال يعقوب وهذه كانت من شريعتهم وهي شريعة يعقوب وهي أن السارق يُدفع ويسلم إلى المسروق منه {قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}سورة يوسف.

ولمّا قال إخوة يوسف عليه السلام مقالتهم وأن جزاء من توجد معه سقاية الملك أن يؤخذ ويستعبد فتّش رسول الملك الأوعية وبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيهم بنيامين مبتدئًا بالكبير ومنتهيًا بالصغير لإزالة التهمة وليكون أبلغ في الحيلة، فوجد سقاية الملك في وعاء أخيهم بنيامين فاستخرجها منه، فأخذ بنيامين وانصرف به إلى يوسف عليه الصلاة والسلام، يقول الله تعالى:{فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}سورة يوسف.

ومعنى قوله تعالى:{كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}أي لولا اعتراف إخوة يوسف بأن جزاء من وجد المسروق في رحله فهو جزاؤه لما كان يقدر يوسف عليه السلام على أخذ بنيامين منهم في سياسة وقانون ملك مصر حينئذ، وذلك لأنه كان من سياسة وقضاء الملك الحاكم وقانونه أنّ من سرق إنّما يُضرب ويغرّم، وبيان ذلك أيضًا أنه لو أجرى يوسف أخاه على حكم الملك وقانونه وسياسته لما أمكن ليوسف الصديق عليه السلام أن يحبس أخاه بنيامين عنده، فأجرى الله على ألسنة اخوته أن جزاء السارق الاسترقاق، فكان ذلك مما ألهمه الله ليتوصل إلى حجز بنيامين عنده لما سيترتب على ذلك الأمر من مصلحة عظيمة بعد ذلك من قدوم أبيه وأمه وأخوته وقومه ووفودهم اليه في بلاد مصر.

وأما معنى قوله تعالى:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}المعنى نرفع الدرجات بصنوف العطاء وأنواع الكرامات وأبواب العلوم وقهر الهوى والتوفيق كما رفعنا يوسف عليه السلام،{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}أي فوق كل ذي علم رفعه الله بالعلم من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله تبارك وتعالى الموصوف باحاطة علمه لكل شيء.

ولما شاهد إخوة يوسف عليه السلام رسول الملك ومناديه يستخرج سقاية الملك وصواعه من متاع بنيامين ملئوا غيظًا على بنيامين لما وقعوا فيه من الورطة والغم والهم{قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} سورة يوسف، يقصدون أخاهم يوسف عليه السلام، قيل: إنهم يقصدون بذلك السرقة التي نسبوها ليوسف وهي أنه رأى مرة صنمًا في بيت بعض أقاربه من جهة أمه، فأخذه وكسره وأتلفه فاعتبروا ذلك سرقة جهلًا بحقيقتها، وقيل: قصدوا بالسرقة أنه كان يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء والمساكين، وأخفى يوسف عليه السلام هذه التهمة في نفسه ولم يجاهرهم بها.

يقول الله تبارك وتعالى:{فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ}سورة يوسف، ولمّا أراد يوسف عليه السلام أن يحبس بنيامين عنده ووجد إخوته أنه لا سبيل لهم إلى تخليصه منه، سألوه أن يطلقه ويعطوه واحدًا منهم بديلًا عنه وقالوا ليوسف: يا أيها العزيز إنّ له أبًا شيخًا كبيرًا متعلق به مغرم بحبه فخذ أحدًا منا بدلًا من بنيامين وأخل سبيله إنّا نراك من المحسنين، قال تعالى:{قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}سورة يوسف. لكن يوسف الصديق رفض إخلاء سبيل بنيامين وقال لإخوته ما حكاه الله عنه{قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـا إِذًا لَّظَالِمُونَ}سورة يوسف.

ولما استيأس إخوة يوسف عليه السلام من أخذ أخيهم من يوسف بطريق المبادلة وأن يجيبهم إلى ما سألوه، خلا بعضهم ببعض واعتزلوا الناس ليس معهم غيرهم وصاروا يتناجون ويتناظرون ويتشاورون ثم قال كبيرهم وهو روبيل: لقد أخذ أبوكم عليكم ميثاقًا وعهدًا في حفظ أخيكم بنيامين وردّه اليه إلا أن تغلبوا كلكم عن الإتيان به، وها أنتم تفرطون فيه كما فرطتم في أخيه يوسف من قبله، فلن أزال مقيمًا ها هنا في بلاد مصر لا أفارقها حتى يأذن لي أبي في القدوم أو يقدرني الله على ردّ أخي إلى أبي، ثمّ أشار إليهم وطلب منهم الرجوع إلى أبيهم يعقوب وإخباره بما كان من سرقة أخيهم بنيامين لصواع الملك، وأنهم ما شهدوا عليه بالسرقة إلا بما علموا من مشاهدة إذ وجدوا الصواع في أمتعته، ثم طلب منهم أخوهم الكبير روبيل أن يقولوا لأبيهم: إن كنت متهمًا لنا ولا تصدقنا على ما نقول من أن ابنك سرق فاطلبوا منه أن يسأل أهل القرية التي كنّا فيها وهي مصر وأهل العير وهي القافلة التي أقبلنا فيها عن خبر ابنك بنيامين لأن بنيامين اشتهر بمصر وعلمته القافلة التي كنا فيها وإنّا لصادقوك فيما أخبرناك، يقول تبارك وتعالى:{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}سورة يوسف.

الهامش: [1] فعل يوسف ذلك لمصلحة دينية، حتى يحصل على استبقاء أخيه بنيامين عنده.

رجوع إخوة يوسف إلى أبيهم بعد حبس أخيهم بنيامين

رجع إخوة يوسف عليه السلام إلى بلدهم فلسطين وهم مهمومون في ضيق وغم حيث أخوهم الصغير بنيامين الذي ائتمنهم عليه أبوهم محبوس عند عزيز مصر، وأخوهم الكبير روبيل مُتَخَلّف هناك في بلاد مصر لأجل أخيه بنيامين. ودخلوا على أبيهم يعقوب عليه السلام فأخبروه خبر أخيهم الصغير بنيامين وأخيهم روبيل كما طلب منهم أخوهم الكبير، فلم يدخل عليه هذا القول ولم يصدقهم وقال لهم والحزن يملأ قلبه: بل زيّنت لكم أنفسكم أمرًا هممتم به وأردتموه، فصبري على ما نالني من فقد ولدي صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية، عسى الله أن يأتيني بأولادي جميعًا فيردهم إليّ إنّه هو العليم الذي لا يخفى عليه شيء في أفعاله، قال تعالى:{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}سورة يوسف.

وتولّى وأعرض نبي الله يعقوب عليه السلام حزينًا على أولاده وهيّج حزنه الجديد على بنيامين وأخيه روبيل حزنه القديم على فلذة كبده يوسف عليه السلام وحرك ما كان كامنًا، وقال: يا حزني على يوسف ويا أسفي الشديد عليه وأخذ يبكي بكاءً شديدًا على يوسف حتى ابيضت عيناه من شدة الحزن والبكاء وذهب بصره وصار كاظمًا لغيظه ممسكًا على حزنه لا يُظهره لأحد من أهله من شدة الأسف والشوق إلى يوسف عليه السلام الذي فارقه ما يقارب الأربعين سنة، وظل نبي الله صابرًا شاكرًا لربه غير معترض، فهذا من جملة البلاء الذي يصاب به الأنبياء لرفع درجاتهم وعلو مقامهم، يقول الله تبارك وتعالى:{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}سورة يوسف.

ولمّا رأى أولاده قالوا له حزنًا عليه: لا تزال تذكر يوسف ولا تفتر ولا تنقطع عن حبه حتى تكون حرضًا -أي تكون مريضًا في جسمك مشرفًا على الهلاك ويذيبك الحب والحزن عليه- أو تكون من الموتى الهالكين، يقول الله تبارك وتعالى:{قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ}سورة يوسف.

ولما رأى يعقوب عليه السلام الغلظة والجفاء من أولاده في مخاطبتهم له قال لهم: إنّما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، ثم طلب من أولاده، يذهبوا إلى المكان الذي جاءوا منه في مصر وخلفوا فيه أخويهم ويتحسسوا ويلتمسوا أخبار يوسف وأخيه بنيامين ولا يقنطوا من رحمة الله وفرجه، قال الله تبارك وتعالى:{ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}سورة يوسف.

تعرف إخوة يوسف بيوسف عليه السلام وعطفه عليهم واعترافهم بذنبهم

رجع إخوة يوسف عليه السلام إلى مصر كما أمرهم أبوهم يعقوب عليه السلام وقصدوا يوسف عليه السلام في مصر في مُلكه، فلما دخلوا عليه قالوا متعطفين مترحمين: يا أيّها العزيز لقد مسّنا وأهلنا الحاجة والفقر وضيق الحال من الجدب والقحط وجئنا لجلب الطعام ببضاعة ضعيفة قليلة رديئة نبادلها بالطعام وهي لا يُقبل مثلها إلا أن تتجاوز عنا وتقبلها منا، وطلبوا منه أن يوفي لهم الكيل ويتصدق عليهم بردّ أخيهم بنيامين عليهم، قال الله تعالى:{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}سورة يوسف.

ولمّا سمع يوسف عليه السلام هذا الكلام من إخوته ورأى ما وصلوا إليه من سوء الحال رق قلبه وحنّ عليهم ورحمهم وبكى وباح لهم بما كان يكتمهم من شأنه، كاشفًا عن سرّه حاسرًا عن جبينه الشريف قائلاً لهم:{قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}سورة يوسف، المعنى: ما أعظم ما ارتكبتم من قطيعة الرحم وتضييع الحق إذ فرّقتم بين يوسف وأخيه وسببتم بذلك الأذى والمكروه وأنتم جاهلون بعاقبة ما تفعلون بيوسف وما يؤول إليه أمره، يقول الله تبارك وتعالى:{قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ}وعندما واجه يوسف عليه السلام إخوته بهذه الحقيقة تعجبوا وذهبت سكرتهم وتيقظوا وعرفوا الحقيقة أنه هو يوسف{قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}سورة يوسف، فما أكبر وأعظم ما قاله نبيّ الله يوسف عليه السلام لإخوته تحدثًا بنعمة الله، وماأعظم نصحه لهم حيث بين لهم عاقبة من يتق الله ويصبر فيطيع الله مولاه، فيؤدي ما فرض الله، ويجتنب ما حرّم ونهى عنه، ويصبر على المصائب والشدائد ابتغاء الثواب من الله، وبيّن لهم أنّ الله لا يضيع أجر هؤلاء المتقين المحسنين، وأن الله تبارك وتعالى قد منّ عليه وعلى أخيه بما أسلفا من طاعة الله وتقواه وصبرهما على الأذى من جانبي إخوتهما.

وعندما سمع إخوة يوسف عليه السلام كلام أخيهم وعظيم موعظته اعترفوا له بالفضل وعظيم القَدر والمنزلة، وأنّ الله تعالى قد اختاره وفضّله عليهم بالعلم والحلم والفضل والمنزلة وما أعطاه وحباه من سائر الفضائل والمواهب، واعترفوا له بأنهم كانوا ءاثمين خاطئين بما ارتكبوا من تلك الأفاعيل الخسيسة.

يقول الله تبارك وتعالى:{قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}سورة يوسف، وعندما اعترف إخوة يوسف عليه السلام بإثمهم وخطئهم ووقفوا بين يدي أخيهم يوسف عليه السلام ملك مصر والحاكم النافذ الكلمة على بلاد مصر وخزائنها، وهم ينتظرون حكم أخيهم عليهم{قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}سورة يوسف، أي لست أعاتبكم ولا أعيركم بعد هذا اليوم أبدًا بما صنعتم.



سؤال يوسف عليه السلام عن أبيه وتوقع الفرج بلقائه

ولما عرّفهم يوسف عليه السلام بنفسه سألهم عن حال أبيه الذي طال الفراق بينهما واشتد به الشوق والحنين للقائه قالوا: قد هزل جسمه ولان عظمه وذهب بصره من شدة البكاء والحزن فأخذت يوسف عليه السلام الشفقة والرحمة على أبيه يعقوب، ثم أعطاهم قميصه وهو الذي يلي جسده الشريف، وأمرهم أن يذهبوا به فيضعوه على عيني أبيه فإنّه يرجع إليه بصره ويعود بصيرًا كما كان سابقًا وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوة، ثم أمرهم أن يأتوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر الخيرة.

يقول الله تبارك وتعالى حكاية عن يوسف عليه السلام:{اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}سورة يوسف.

وكان يوسف عليه السلام لمّا أعطاهم قميصه ليذهبوا به إلى أبيه، قال له أخوه يهوذا: أنا أذهب به إليه لأني ذهبت إليه بالقميص ملطخًا بالدم وأخبرته أن يوسف أكله الذئب، فأنا أخبره أنه حي فأفرحه كما أحزنته، وكان هو البشير، وقيل: خرج حافيًا يعدو ليبشر أباه يعقوب، قيل: ولمّا خرجت القافلة التي فيها إخوة يوسف عليه السلام وانفصلت عن أرض مصر متوجهة إلى أرض كنعان في فلسطين، وكان يعقوب عليه السلام يتوقع الفرج بلقاء ابنه يوسف الصديق بعد طول بعاده وطول حزنه عليه، وهبّت ريح الصّبا التي يستروح بها كل محزون ومكروب، فذهبت بريح يوسف الصديق بمشيئة الله وقدرته إلى يعقوب عليه السلام، وبين يوسف ويعقوب مسافات طويلة، قال يعقوب لأبنائه: إني لأجد وأشم ريح يوسف لولا خوفي من أن تسفهوني وتنسبوا إليّ ضعف العقل.

يقول الله تبارك وتعالى:{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ}سورة يوسف. فقالوا له: تالله إنك في حبّ يوسف وذكره لفي ضلالك القديم، في اعتقادك أن يوسف باق إلى اليوم يقول تعالى:{قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}سورة يوسف.

كانوا في الأول مسلمين ولكن لما أهانوا أباهم صاروا مرتدين ثم لما اجتمعوا بيوسف وعدهم أن يطلب لهم المغفرة بالإسلام.

وقال بعض العلماء: في خطئك القديم معناه كما كنت مخطئًا في إيثار يوسف علينا بعدُ أنت على ذلك الخطأ.
ونحن نقول أسلموا ولكن ما طلع منهم نبي إلا في ذريتهم الأسباط، وقول بعضهم إنهم بعد ذلك صاروا أنبياء غير صحيح، لكن أخوه الأصغر بنيامين الذي ما شاركهم يجوز أن يكون نبيًا لذلك يوسف أفرده من بينهم.

فائدة: الأسباط توالدوا في أيام يوسف إلى زمن فرعون فصاروا نحو ستمائة ألف من الرجال ثم خلصهم موسى من فرعون الذي كان هدم مساجدهم، وقد أوحى الله إلى موسى أن يجعلوا بيوتهم قبلة فصاروا يصلون في بيوتهم قال الله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}سورة يونس.

البشارة بقرب اجتماع يوسف بأبيه يعقوب عليهما السلام

لم يطل الانتظار حتى جاء البشير يعقوب عليه السلام فبشره بلقاء يوسف عليه السلام، ثم ألقى البشير قميص يوسف على وجهه فعاد مبصرًا بعينيه كما كان سابقًا بعدما كان ضريرًا، وقيل: إنه لما جاء البشير يعقوب قال له: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمت النعمة، ثم قال لأولاده: ألم أقل لكم إني أعلم من سلامة يوسف ما لا تعلمون وأن الله سيجمع شملي بيوسف.

يقول الله تبارك وتعالى:{فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}سورة يوسف. ولما اجتمع عند نبي الله يعقوب عليه السلام أولاده ورأوا قميص يوسف وخبره طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم الله عز وجل عما ارتكبوا وفعلوا من الإساءة في حق أخيهم يوسف وأبيهم لأن أباهم نبي مجاب الدعوة.فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا وأخبرهم أنه سوف يستغفر ربه لهم إنه هو الغفور الذي يغفر الذنوب الرحيم بعباده، يقول الله تبارك وتعالى:{قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}سورة يوسف.

فائدة: قيل: إن يعقوب عليه السلام أرجأ الاستغفار لأولاده عندما سألوه أن يستغفر الله لهم لانتظار الوقت الذي هو مظنة الإجابة، وقيل: أرجأهم إلى وقت السحر.

لقاء يوسف الصديق لأبيه يعقوب واخوته وتصديق وتفسير رؤياه

روي أنه بعث يوسف عليه السلام مع البشير إلى يعقوب جهازًا ومائتي راحلة وسأله أن يأتيه بأهله وأولاده، فلمّا ارتحل يعقوب عليه السلام هو وأولاده وجميع أهله من بلاد الشام في فلسطين ودنا من بلاد مصر للقاء يوسف الصديق ملك مصر، استأذن يوسف عليه السلام الملك الذي فوقه في تلقي يعقوب عليه السلام واستقباله، فأذن له وأمر الملأ من أصحابه بالركوب معه، فخرج عليه السلام في أربعة ءالاف من الجند وخرج معهم أهل مصر، وقيل إن الملك العام خرج معهم أيضًا، وعندما جاء يعقوب عليه السلام مع أهله وأولاده إلى مصر دخلوا على يوسف عليه السلام فأوى إليه أبويه واجتمع بهما خصوصًا وحدهما دون إخوته، ورحب بأهله وقال لهم: ادخلوا مصر واستوطنوها ءامنين مطمئنين، قيل: وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم ثلاثة وستين إنسانًا، ورفع يوسف عليه السلام أبويه على العرش أي أجلسهم معه على سرير المملكة، ثم خرّ له أبوه وأمه وإخوته الأحد عشر وسجدوا له سجود تحية لا سجود عبادة ليوسف عليه السلام وكان هذا جائزًا لهم في شريعتهم، ولم يزل ذلك معمولًا به في سائر شرائع الأنبياء حتى حرّم الله ذلك في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

يقول الله تبارك وتعالى:{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا}سورة يوسف، ثم قال نبي الله يوسف عليه السلام لأبيه يعقوب: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل، أي إن هذا السجود الذي سجدته أنت وأمي وإخوتي لي هو تصديق وتعبير الرؤيا التي كنت رأيتها من قبل، وقيل: إن المدة التي كانت بين رؤيا يوسف عليه السلام وبين تأويلها وتحقيقها أربعون سنة، ثم قال: وقد أحسن بي ربي إذ أخرجني من السجن، أي بعد الهم والضيق والحزن وجعلني ملكًا وحاكمًا نافذ الكلمة في الديار المصرية حيث شئت، وقد جاء بكم ربي بمشيئته وقدرته من البادية من بعد ما أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي بما فعلوا من تلك الأفاعيل الخسيسة، إن الله هو العليم بجميع الأمور فلا يخفى عليه شيء.

ثم إن يوسف عليه السلام لما رأى نعمة الله عليه قد تمت وشمله مع أبيه وأهله قد اجتمع، أثنى على ربه بما هو أهله واعترف له بعظيم إحسانه وفضله وسأله أن يتوفاه ويميته على الإسلام الذي فيه السعادة الأبدية في الآخرة، وسأل الله تبارك وتعالى:{وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}سورة يوسف.

وفاة يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام

نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام ج(3)

ذكر خبر المائدة التي نزلت من السماء

أنزل الله تبارك وتعالى سورة المائدة وَحْيًا على رسوله صلى الله عليه وسلم وسميت هذه السورة سورة المائدة لأنها تتضمن قصة المائدة التي أنزلها الله تعالى من السماء عندما سأله عيسى ابن مريم عليه السلام إنزالها من السماء كما طلب منه ذلك أصحابه وتلاميذه الحواريون، ومضمون خبر وقصة هذه المائدة أن عيسى عليه السلام أمر الحواريون بصيام ثلاثين يومًا فلما أتموها سألوا عيسى عليه السلام إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها وتطمئن بذلك قلوبهم أن الله تعالى قد تقبل صيامهم وتكون لهم عيدًا يفطرون عليها يوم فطرهم، وَتَكُونَ كَافِيَةً لأِوَّلِهِمْ وَءَاخِرِهِمْ وَلِغَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، وَلَكِنَّ سَيِّدَنَا عِيسَى وَعَظَهُمْ فِي ذَلِكَ وَخَافَ أَلاَّ يَقُومُوا بِشُكْرِها، فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك من الله تبارك وتعالى، فلما ألحوا عليه في ذلك قام إلى مصلاه وَلَبِسَ ثِيَابًا مِنْ شَعَرٍ وَأَطْرَقَ رَأْسَهُ وأسبل عينيه بالبكاء ثم أَخَذَ يَتَضَرَّعُ إلى اللَّهِ تَعَالَى في الدعاء والسؤال أَنْ يُجَابُوا إِلَى مَاطَلَبُوا، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دُعَاءَهُ، فأَنَزَلَ سبحانه الْمَائِدَة مِنَ السَّمَاءِ والناس ينظرون إليها وهي تنحدر بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ، وجعلت تَدْنُو قليلًا قليلًا، وَكُلَّمَا دنت مِنْهُمْ يسأَل عِيسَى الْمَسِيحُ رَبَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهَا رَحْمَةً لا نِقْمَةً وَأَنْ يَجْعَلَهَا سَلامًا وَبَرَكَةً، فَلَمْ تَزَلْ تَدْنُو حَتَّى اسْتَقَرَّتْ بَيْنَ يَدَيْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَهِيَ مُغَطَّاةٌ بِمِنْدِيلٍ، فَقَامَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يَكْشِفُ عَنْهَا وَهُوَ يَقُولُ: "بِسْمِ اللَّهِ خَيْرِ الرَّازِقِينَ" فإِذَا عَلَيْهَا مِنَ الطَّعَامِ سَبْعةٌ من الحيتان وَسَبْعَةُ أَرْغفَة وَقيل كان عليها خَلٌّ وَرُمَّانٌ وَثِمَارٌ وَلَهَا رَائِحَةٌ عظيمة جِدًّا.

ثُمَّ أَمَرَهم نبيهم عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ بِالأَكْلِ مِنْهَا، فَقَالُوا لَهُ: لانَأْكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَبْدَأُوا بِالأَكْلِ مِنْهَا أَمَرَ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمَرْضَى وَأَصْحَابَ الْعَاهَاتِ وَالْمُقْعَدِينَ وَالْعُمْيَان وَكَانُوا قَرِيبًا مِنَ الأَلْفِ وَثَلاثِمَائَةٍ أَنْ يَأْكُلُوا من هذه المائدة، فَأَكَلُوا مِنْهَا فبرأ كُلُّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ أَوْ ءَافَةٌ أَوْمَرَضٌ مُزْمِنٌ، واستغنى الْفُقَرَاءُ وَصَاروا أَغْنِيَاءَ، فَنَدِمَ النَّاسُ الَّذِينَ لَمْ يَأْكُلُوا مِنْهَا لِمَا رَأَوْا مِنْ إِصْلاحِ حَالِ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَكَلُوا، ثم صعدت المائدة وهم ينظرون إليها حتى توارت عن أعينهم، وقيل إن هذه المائدة كانت تنزل كل يوم مرة فيأكل الناس منها، فيأكل ءاخرهم كما يأكل أولهم حتى قيل: إنه كان يأكل منها كل يوم سبعة ءالاف شخص.

ثم أمر اللَّهُ تَعَالَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ أن يقصرها على الْفُقَرَاءِ والمحتاجين دُونَ الأَغْنِيَاءِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَتَكَلَّمَ مُنَافِقُوهُمْ فِي ذَلِكَ فرفعت ومسخ الذين تكلموا في ذلك من المنافقين خنازِير.

وقد روي عن الصحابي الجليل عمار بن ياسر أنه قال:"نزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير"، يقول الله تعالى:{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ}سورة المائدة.

ومعنى قوله تعالى حكاية عن أصحاب عيسى عليه السلام{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ}أي هل يستجيب ربك لك إن طلبت منه هذا الطلب بدليل هذه القراءة الواردة لهذه الآية وهي{هَلْ تسْتَطِيعُ رَبَّكَ}قال الفراء معناه: هل تقدر أن تسأل ربك، فلا يجوز أن يتوهم أن الحواريين شكّوا في قدرة الله تعالى على إنزال هذه المائدة من السماء، فالله تعالى قادر على كل شئ لا يعجزه شئ، وإنما كما يقول الإنسان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي وهو يعلم أنه مستطيع.

من أقوال عيسى عليه السلام وحكمه

روي أن عيسى ابن مريم عليهما السلام وقف هو وأصحابه على قبر فجعل أصحابه يذكرون القبر وضيقه فقال لهم عليه السلام: قد كنتم فيما هو أضيق منه في أرحام أمهاتكم، فإذا أحب الله أن يوسِّع وسَّع.

وورد أن عيسى عليه السلام قال في أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم: علماء حلماء بررة أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء.

وورد أن عيسى المسيح عليه السلام قال يومًا لتلاميذه الحواريين: كلوا خبز الشعير واشربوا الماء القراح واخرجوا من الدنيا سالمين ءامنين، بحق ما أقول لكم إنّ حلاوة الدنيا مرارة الآخرة وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة.

وورد أنه قيل له: من أشدُّ الناس فتنة؟ فقال: زلة العالم، فإن العالم إذا زلّ يزل بزلته عالم كثير.

ومن حكمه عليه السلام أنه قال: لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنازير فإن الخنزير لا تصنع باللؤلؤ شيئًا، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها.

وروي عنه عليه السلام في ذم علماء السوء الذين لا يعملون بما يعلمون: يا علماء السوء جعلتم الدنيا على رؤوسكم والآخرة تحت أقدامكم، قولكم شفاء وعلمكم داء، مثلكم مثل شجرة الدّفلى نبت مر قاتل تعجب من رءاها وتقتل من أكلها.

وروي عنه أنه قال: طوبى لمن بكى من ذكر خطيئته وحفظ لسانه ووسعه بيته.



ذكر مكيدة بعض الكفار ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء وبيان أنه لم يقتل ولم يصلب



قال الله تبارك وتعالى﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ*رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ*وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾استمر أكثر بني إسرائيل على كفرهم وضلالهم وعنادهم وءامن بعيسى عليه السلام القليل، وكان منهم طائفةصالحة كانوا له أنصارًا وأعوانًا قاموا بمتابعته ونصرته وإعانته على نشر دين الإسلام الحق الذي أرسله الله تبارك وتعالى ليدعو إليه، ولما أخذت دعوته تنتشر ويكثر أتباعه ومناصروه حسده بعض الكفار وتآمروا عليه وأخذوا يدبرون مكيدة لقتله والتخلص منه، فوشوا به إلى بعض ملوك الزمان وعزموا على قتله وصلبه فأنقذه الله تبارك وتعالى من مكيدتهم ومكرهم ورفعه إلى السماء من بين أظهرهم وألقى شبهه على أحد أصحابه فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدون أنه عيسى عليه السلام وهم في ذلك غالطون، قال الله تبارك وتعالى في الرد على الذين زعموا أنهم قتلوا نبي الله عيسى عليه السلام:﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾سورة النساء.

وورد في قصة رفع نبي الله عيسى عليه السلام إلى السماء أنه قبل أن يدخل الكفار على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام كان عليه السلام مع اثني عشر من أصحابه وتلاميذه في بيت فقال لهم: إن منكم من يكفر بي بعد أن ءامن، ثم قال لهم: أيكم يُلقى عليه شبهي ويُقتل مكاني فيكون رفيقي في الجنة؟

فقام شاب أحدثهم سنًا فقال: أنا، قال اجلس، ثم أعاد عيسى عليه السلام مقالته فعاد الشاب وقال: أنا.ثم أعاد عيسى عليه السلام مقالته فعاد الشاب الثالثة، فقال عليه السلام: أنتهو، وألقى الله سبحانه وتعالى شبه عيسى عليه السلام على هذا الشاب، فدخل بعض الكفار البيت وأخذوا الشاب فقتل وصلب بعد أن رفع عيسى عليه السلام من روزنة فيالبيت-وهي نافذة في أعلى الحائط-إلى السماء وأهل البيت ينظرون.

قال الله تبارك وتعالى﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ* إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾سورة ءال عمران.

ومعنى قول الله تعالى﴿مُتَوَفِّيكَ﴾أي قابضك إلى السماء وأنت حي يقظان، ويجوز أن يفسر بأن هذا من باب المقدم والمؤخر فكأن السياق إني رافعك ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك أي مميتك، فعلى هذا التفسير وهوتفسير ابن عباس يكون متوفيك معناه مميتك، أي بعد رفعك إلى السماء وإنزالك.

وقوله تعالى:﴿وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾أي جاعل من اتبعك على الإسلام والتوحيد وهم من بقي بعد رفعه إلى السماء على الإسلام ثم بعد انقراضهم أمة محمد لأن هؤلاء هم متبعوا عيسى على ما جاء به من توحيد الله وسائر أصول العقيدة والأحكام التي اتفقت عليها شرائع الأنبياء فإنهم فوق الكافرين من حيث المعنى والحكم فإن من معه الحق فهو فوق غيره، وفي هذه الآية دلالة على أن أمة محمد ءاخر الأمم المسلمة أتباع الأنبياء في الإسلام والتوحيد وأنهم يبقون إلى نهاية الدنيا.

بيان نزول عيسى عليه السلام من السماء قبل يوم القيامة وأنه من علامات الساعة

ليعلم أنه ورد في الشريعة أن من علامات قرب قيام الساعة نزول عيسى عليه السلام من السماء إلى الأرض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ قوله تعالى:﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ﴾سورة الزخرف، فقال:«نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ». فأحاديث نزوله عليه السلام من السماء مشهورة قريبة من التواتر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام لما ينزل من السماء ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، ثم يعيش في الأرض أربعين سنة يحكم خلالـها بشريعة القرءان شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويعم بعد نزول عيسى عليه السلام الأرض الإسلام والأمن والسلام ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب.

وقد ورد أنه عليه السلام يسلك فج الرَّوحاء حاجًا أو معتمرًا ويقصد قبر النبي فيسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم فيرد الرسول عليه السلام، ويقيم في الأرض حاكمًا أربعين سنة ثم يموت فيدفن في الحجرة النبوية قرب قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.

روى الحاكم في المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَيَهْبِطَنَّ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا وَلَيَسْلُكَنَّ فَجًّا حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا وَلَيَأْتِيَنَّ قَبْرِي حَتَّى يُسَلِّمَ عَلَيَّ وَلَأَرُدَنَّ عَلَيْهِ».

قال تعالى:﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾سورة النساء، وقال تعالى:﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾سورة الزخرف.

قصة وخبر أصحاب الكهف

قال الله تعالى:﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا *نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى*وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطًا * هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا *وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا*وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَدًا *وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا﴾سورة الكهف.

كان أصحاب الكهف فتية من أتباع عيسى ابن مريم ءامنوا بربهم كما وصفهم الله عز وجل في القرءان المجيد، والرقيم هو الكتاب الذي كان الفتية كتبوه في لوح بذكر خبرهم وقصصهم.

ثم جعلوه على باب الكهف الذي أووا إليه، أو كتبوه في لوح وجعلوه في صندوق خلّفوه عندهم، أما عدد الفتية فقيل سبعة وثامنهم كلبهم، وقيل: كان عددهم ثمانية وتاسعهم كلبهم، والله أعلم بعدتهم.

وكانوا من قوم يعبدون الأوثان من الروم فهداهم الله تعالى للإسلام وكانت شريعتهم شريعة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وكان ملكهم كافرًا يقال له "دقينوس" يعبد الأصنام في قرية يقال لها" أفنيوس" فبلغه عن الفتية مخالفتهم إياه في دينه فطلبهم فهربوا منه فرارًا بدينهم حتى صاروا إلى جبل لهم يقال له "نيحلوس"فدخلوا كهفًا فيه فقالوا: نبيت هاهنا الليلة ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم، فضرب على ءاذانهم، فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد رجل أن يدخل أرعب فلم يطق أحد منهم أن يدخل، قال قائل: أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم، قال: بلى، قال: فابن عليهم باب الكهف فدعهم فيه يموتوا عطشًا وجوعًا ففعل الملك. فغبروا بعدما بُني عليهم باب الكهف زمانًا بعد زمان، ثم إن راعيًا أدركه المطر عند الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف فأدخلت غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتحه، وردّ الله تعالى إليهم أرواحهم قي أجسادهم من الغد حتى أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورقٍ – دراهم فضة مضروبة – ليشتري لهم طعامًا فكلما أتى باب مدينتهم رأى شيئًا ينكره حتى دخل على رجل، فقال له: بعني بهذه الدراهم طعامًا، قال: ومن أين لك هذه الدراهم! قال: خرجت وأصحابًا لي أمس فآوانا الليل حتى أصبحوا فأرسلوني فقال: هذه الدراهم كانت على عهد الملك فلان، فأنى لك بها! فرفعه إلى الملك وكان ملكًا صالحًا فقال: من أين لك هذه الورِق؟ قال: خرجت أنا وأصحابًا لي أمس حتى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا، ثم أمروني أن أشتري لهم طعامًا، قال له: وأين أصحابك؟ قال: في الكهف، قال: فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف، فقال: دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم، فلما رأوه ودنا منهم ضُرب على أذنه واءذانهم، فجعلوا كلما دخل رجل أرعب، يقدروا على أن يدخلوا إليهم فبنَوا عندهم مسجدًا يصلون فيه.

بلال بن رباح رضي الله عنه

 
 بلال بن رباح مؤذن الإسلام.
ومزعج الأصنام إنما أنا حبشي، كنت بالأمس عبداً.
 بلال.
 بلال بن رباح الحبشي (أبو عبد الله)، الشديد السمرة النحيف الناحل المفرط الطول الكث الشعر، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه اليه، الا ويحني رأسه ويغض طرفه ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل: {انما أنا حبشي كنت بالأمس عبدا}.
ذهب يوما -رضي الله عنه- يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما: { أنا بلال وهذا أخي، عبدان من الحبشة، كنا ضالين فهدانا الله، وكنا عبدين فأعتقنا الله، ان تزوجونا فالحمد لله، وان تمنعونا فالله أكبر }.
 قصة إسلامه انه حبشي من أمة سوداء، عبدا لأناس من بني جمح بمكة، حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم، ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه، حين أخذ الناس في مكة يتناقلوها، وكان يصغي الى أحاديث سادته وأضيافهم، ويوم إسلامه كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر معتزلين في غار، إذ مرّ بهما بلال وهو في غنمِ عبد بن جُدعان، فأطلع الرسول -صلى الله عليه وسلم- رأسه من الغار وقال: { يا راعي هل من لبن ؟}.
فقال بلال: { ما لي إلا شاة منها قوتي، فإن شئتما آثرتكما بلبنها اليوم }.
فقال رسول الله: { إيتِ بها }.
 فجاء بلال بها، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقعبه، فاعتقلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحلب في القعب حتى ملأه، فشرب حتى روي، ثم حلب حتى ملأه فسقى أبا بكر، ثم احتلب حتى ملأه فسقى بلالاً حتى روي، ثم أرسلها وهي أحفل ما كانتْ.
 ثم قال: { يا غلام هل لك في الإسلام ؟ فإني رسول الله }.
فأسلم، وقال: { اكتم إسلامك }.
ففعل وانصرف بغنمه، وبات بها وقد أضعف لبنها، فقال له أهله: { لقد رعيت مرعىً طيباً فعليك به }.
فعاد إليه ثلاثة أيام يسقيهما، ويتعلّم الإسلام، حتى إذا كان اليوم الرابع، فمرّ أبو جهل بأهل عبد الله بن جدعان فقال: { إني أرى غنمك قد نمت وكثر لبنها ؟!}.
فقالوا: { قد كثر لبنها منذ ثلاثة أيام، وما نعرف ذلك منها ؟!}.
فقال: { عبدكم وربّ الكعبة يعرف مكان ابن أبي كبشة، فامنعوه أن يرعى المرعى }.
فمنعوه من ذلك المرعى.
 إفتضاح أمره دخل بلال يوماً الكعبة وقريش في ظهرها لا يعلم، فالتفتَ فلم يرَ أحداً، أتى الأصنام وجعل يبصُقُ عليها ويقول: { خابَ وخسرَ من عبدكُنّ }.
فطلبته قريش فهرب حتى دخل دار سيده عبد الله بن جُدعان فاختفى فيها، ونادَوْا عبد الله بن جدعان فخرج فقالوا: { أصبوتَ ؟!}.
قال: { ومثلي يُقال له هذا ؟! فعليَّ نحرُ مئة ناقةٍ للاَّتِ والعُزّى }.
قالوا: { فإنّ أسْوَدَك صنَع كذا وكذا }.
 فدعا به فالتمسوه فوجدوه، فأتوهُ به فلم يعرفه، فدعا راعي ماله وغنمه فقال: { من هذا ؟ ألم آمُرْك أن لا يبقى بها أحد من مولّديها إلا أخرجته ؟}.
فقال: { كان يرعى غنمك، ولم يكن أحد يعرفها غيره }.
فقال لأبي جهل وأمية بن خلف: { شأنكما به فهو لكما، اصنَعا به ما أحببتُما }.
وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أمية بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبدانهم لطمة جللتهم بالخزي والعار، ويقول أمية لنفسه: { ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب معها اسلام هذا العبد الآبق !!}.
 العذاب وبدأ العذاب فقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة، فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر متسعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال ويلقون به فوقه، ويصيح به جلادوه: { اذكر اللات والعزى }.
فيجيبهم: { أحد.
أحد }.
 واذا حان الأصيـل أقاموه، وجعلوا في عنقـه حبلا، ثم أمروا صبيانهـم أن يطوفوا به جبال مكـة وطرقها، وبلال -رضي اللـه عنه- لا يقول سوى: {أحد. أحد }.
قال عمّار بن ياسر: { كلٌّ قد قال ما أرادوا -ويعني المستضعفين المعذّبين قالوا ما أراد المشركون- غير بلال }.
ومرَّ به ورقة بن نوفل وهو يعذب ويقول: { أحد. أحد}.
فقال: { يا بلال أحد أحد، والله لئن متَّ على هذا لأتخذنّ قبرك حَنَاناً }.
أي بركة.
 الحرية ويذهب اليهم أبوبكر الصديق وهم يعذبونه، ويصيح بهم: { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟؟ }.
ثم يصيح في أمية: { خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا }.
وباعوه لأبي بكر الذي حرره من فوره، وأصبح بلال من الرجال الأحرار.
 الهجرة و بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين الى المدينة، آخى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين بلال وبين أبي عبيدة بن الجراح، وشرع الرسول للصلاة آذانها، واختار بلال -رضي الله عنه- ليكون أول مؤذن للاسلام.
 غزوة بدر وينشب القتال بين المسلمين وجيش قريش وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الاسلام، غزوة بدر، تلك الغزوة التي أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يكون شعارها { أحد.
أحد }.
 وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف { عبد الرحمن بن عوف } صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاحتمى به وطلب اليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته.
فلمحه بلال فصاح قائلا: { رأس الكفر، أمية بن خلف.
 لا نجوت أن نجا }.
ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي طالما أثقله الغرور والكبر فصاح به عبدالرحمن بن عوف: { أي بلال إنه أسيري }.
ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين فصاح بأعلى صوته في المسلمين: { يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت أن نجا }.
وأقبلت كوكبة من المسلمين وأحاطت بأمية وابنه، ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا، وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف نظرة طويلة ثم هرول عنه مسرعا وصوته يصيح: { أحد أحد }.
 يوم الفتح وعاش بلال مع الرسـول -صلى اللـه عليه وسلم- يشهد معه المشاهـد كلها، وكان يزداد قربا من قلب الرسـول الذي وصفه بأته { رجل من أهل الجنة }.
وجاء فتح مكة، ودخل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الكعبة ومعه بلال، فأمره أن يؤذن، ويؤذن بلال فيا لروعة الزمان والمكان والمناسبة.
 فضله قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {إني دخلتُ الجنة، فسمعت خشفةً بين يديّ، فقلتُ: { يا جبريل ! ما هذه الخشفة ؟}.
قال: { بلال يمشي أمامك }.
وقد سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلال بأرْجى عمل عمله في الإسلام فقال: { لا أتطهّرُ إلا إذا صليت بذلك الطهور ما كتِبَ لي أن أصلّيَ }.
كما قال -عليه أفضل الصلاة والسلام-: { اشتاقت الجنّةِ إلى ثلاثة: إلى علي، وعمّار وبلال }.
 وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: { إنه لم يكن نبي قبلي إلا قد أعطيَ سبعة رفقاء نُجباء وزراء، وإني أعطيتُ أربعة عشر: حمزة وجعفر وعليّ وحسن وحسين، وأبو بكر وعمر والمقداد وحذيفة وسلمان وعمار وبلال وابن مسعود وأبو ذرّ }.
 وقد دخل بلال على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يتغدّى فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: { الغداءَ يا بلال }.
فقال: { إني صائم يا رسول الله }.
فقال الرسول: { نأكلُ رِزْقَنَا، وفضل رزقِ بلال في الجنة، أشعرتَ يا بلال أنّ الصائم تُسبّح عظامُهُ، وتستغفر له الملائكة ما أكِلَ عنده }.
 وقد بلغ بلال بن رباح أن ناساً يفضلونه على أبي بكر فقال: { كيف تفضِّلوني عليه، وإنما أنا حسنة من حسناته !!}.
 الزواج جاء بني البُكير الى رسـول اللـه -صلى اللـه عليه وسلم- فقالوا: { زوِّج أختنا فلاناً }.
فقال لهم: { أين أنتم عن بلال ؟}.
ثم جاؤوا مرّة أخرى فقالوا: { يا رسول الله أنكِح أختنا فلاناً }.
فقال لهم: { أين أنتم عن بلال ؟}.
ثم جاؤوا الثالثة فقالوا: { أنكِح أختنا فلاناً }.
فقال: { أين أنتم عن بلال ؟ أين أنتم عن رجل من أهل الجنة ؟}.
فأنكحوهُ.
 وأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- امرأة بلال فسلّم وقال: { أثمَّ بلال ؟}.
 فقالت: { لا }.
قال: { فلعلّك غَضْبَى على بلال !}.
قالت: { إنه يجيئني كثيراً فيقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- }.
فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: { ما حدّثك عني بلالٌ فقد صَدَقكِ بلالٌ، بلالٌ لا يكذب، لا تُغْضِبي بلالاً فلا يُقبل منكِ عملٌ ما أغضبتِ بلالاً }.
 بلال من المرابطين وذهب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الى الرفيق الأعلى، ونهض بأمر المسلمين من بعده أبوبكر الصديق، وذهب بلال الى الخليفة يقول له: { يا خليفة رسول الله، اني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله }.
قال له أبو بكر: { فما تشاء يا بلال ؟} قال: { أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت } قال أبو بكر: { ومن يؤذن لنا ؟؟}.
قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع: { اني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله }.
قال أبو بكر: { بل ابق وأذن لنا يا بلال }.
قال بلال: { ان كنت قد أعتقتني لأكون لك فليكن ما تريد، وان كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له }.
قال أبو بكر: { بل أعتقتك لله يا بلال }.
ويختلف الرواة في أنه سافر الى الشام حيث بقي مرابطا ومجاهدا، ويروي بعضهم أنه قبل رجاء أبي بكر وبقي في المدينة فلما قبض وولى الخلافة عمر، استأذنه وخرج الى الشام.
 الرؤيا رأى بلال النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامه وهو يقول: { ما هذه الجفوة يا بلال ؟ ما آن لك أن تزورنا ؟}.
فانتبه حزيناً، فركب الى المدينة، فأتى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وجعل يبكي عنده ويتمرّغ عليه، فأقبل الحسن والحسين فجعل يقبلهما ويضمهما فقالا له: { نشتهي أن تؤذن في السحر !}.
فعلا سطح المسجد فلمّا قال:         { الله أكبر الله أكبر }.
ارتجّت المدينة فلمّا قال: { أشهد أن لا آله إلا الله }.
زادت رجّتها فلمّا قال: { أشهد أن محمداً رسول الله }.
خرج النساء من خدورهنّ، فما رؤي يومٌ أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم.
 الآذان الأخير وكان آخر آذان له يوم توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعندما زار الشام أمير المؤمنين عمر-رضي الله عنه- توسل المسلمون اليه أن يحمل بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة، ودعا أمير المؤمنين بلالا، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها، وصعد بلال وأذن.
 فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبلال يؤذن، بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا، وكان عمر أشدهم بكاء.
 وفاته ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد ورفاته تحت ثرى دمشق.
على الأغلب سنة عشرين للهجرة.
شبكة السرداب

الشاعر , الشهيد !!


الشاعر , الشهيد

الشاعر الشهيد

الشاعر الشهيد

الشاعر الشهيد !!

الشاعر الشهيد
عبد الله بن رواحة :

إنه الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري -رضي الله عنه- وكان يكنى أبا محمد. وقد حضر بيعتي العقبة الأولى والثانية، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق، وكان أحد شعراء النبي ( الثلاثة، وكان بين يدي النبي ( في عمرة القضاء يقول:
خَلُّوا بني الكُفَّار عَنْ سَبيلِهِ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيـله
فنادى عليه عمر وقال له: في حرم الله وبين يدي رسول الله ( تقول هذا الشعر؟ فقال له النبي (: (خَلِّ عنه يا عمر، فوالذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وَقْعِ النبل) [أبو يعلي].
وكان عبد الله عابدًا محبًا لمجالس العلم والذِّكر، فيروى أنه كان إذا لقى رجلا من أصحابه قال له: تعال نؤمن بربنا ساعة. وذات مرة سمعه أحد الصحابة يقول ذلك، فذهب إلى النبي
(، وقال: يا رسول الله، ألا ترى ابن رواحة، يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة؟! فقال له النبي (: (رحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة) [أحمد].
وذات مرة ذهب عبد الله إلى المسجد والنبي ( يخطب، وقبل أن يدخل سمع النبي ( يقول: (اجلسوا) فجلس مكانه خارج المسجد حتى فرغ النبي ( من خطبتيه، فبلغ ذلك النبي (، فقال له: (زادك الله حرصًا على طواعية الله ورسوله) [البيهقي].
وكان كثير الخوف والخشية من الله، وكان يبكي كثيرًا، ويقول: إن الله تعالى قال: {وإن منكم إلا واردها} [مريم: 17]،
فلا أدري أأنجو منها أم لا؟
وعُرفَ عبد الله بن رواحة بكثرة الصيام حتى في الأيام الشديدة الحر، يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه- خرجنا مع النبي ( في بعض أسفاره في يوم حار حتى وضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا النبي ( وابن رواحة.
ولما نزل قول الله تعالى:
{والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون}
[224-226] أخذ عبد الله في البكاء لأنه كان شاعرًا يقول الشعر، ويدافع به عن الإسلام والمسلمين، وقال لنفسه: قد علم الله أني منهم، وكان معه كعب بن مالك، وحسان بن ثابت، وهم شعراء الرسول ( الثلاثة، فنزل قول الله تعالى:
{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا وانتصروا من بعد ما ظلموا}
[_الشعراء: 227]. ففرح عبد الله بذلك، واستمر في نصرة المسلمين بشعره.
وذات يوم أنشد عبد الله من شعره بين يدي النبي
وقال:
إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الخَيْــــرَ أَعْرِفُـــهُ
وَاللهُ يَعْرِفُ أنْ ما خَانَنِي الخَبَــــــرُ
أَنْتَ النبي وَمَنْ يُحْــرَمْ شَفَاعَتُـــــهُ
يَوْمَ الحِسَابِ لَقَدْ أَزْرَى بِـهِ القَــــدَرُ
فَثَّبَتَ اللهُ مَا آتَـــاكَ مـِنْ حـُسْـــنٍ
تَثَبِيتَ مَــــوسَى وَنَصْرًا كَالذي نَصَروا
فدعا له الرسول : (وإياك فثبَّتَكَ الله) [ابن سعد].
وكما نصر عبد الله الإسلام في ميدان الكلمة، فقد نصره باقتدار في ميدان الحرب والجهاد بشجاعته وفروسيته.
وكان ابن رواحة أمينًا عادلاً، وقد أرسله النبي ( إلى يهود خيبر؛ ليأخذ الخراج والجزية مما في أراضيهم، فحاولوا إعطاءه رشوة؛ ليخفف عنهم الخراج، فقال لهم:
يا أعداء الله، تطعموني السحت؟
والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم (أي أتعامل معكم بالعدل).
وفي شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة، علم الرسول ( أن الروم قد حشدوا جيوشهم استعدادًا للهجوم على المسلمين، فأرسل النبي ( جيشًا إلى حدود الشام عدده ثلاثة آلاف مقاتل؛ ليؤمِّن الحدود الإسلامية من أطماع الروم، وجعل زيد بن حارثة أميرًا على الجيش، وقال لهم: (إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رَواحة) [البخاري].
فلما وصل جيش المسلمين إلي حدود الشام، علموا أن عدد جيش الروم مائتا ألف فارس، فقالوا: نكتب إلى النبي ( ليرسل إلينا مددًا من الرجال، أو يأمرنا أن نرجع أو أي أمر آخر، فقال لهم ابن رواحة: يا قوم، والله إن التي تكرهون هي التي خرجتم تطلبون، إنها الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور (نصر) وإما شهادة.
فكبر المسلمون وواصلوا مسيرتهم حتى نزلوا قرية بالشام تسمى مؤتة، وفيها دارت الحرب، وقاتل المسلمون أعداءهم قتالاً شديدًا، وأخذ زيد بن حارثة يقاتل ومعه راية المسلمين، فاستشهد زيد، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وراح يقاتل في شجاعة حتى استشهد، فأخذ عبد الله الراية، فأحس في نفسه بعض التردد، ولكنه سرعان ما تشجع، وراح يقاتل في شجاعة ويقول:

أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّـه طَائِعَةً أَوْ لَتُكْرهِنَّـــــــهفَطَالَمَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّـة مَالِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الجَنَّــــةْ
يَا نَفْسُ إلا تُقْتَلِى تَمُوتـي وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْ
طِيـــــت
إِنْ تَفْعَلِى فَعْلَهُمَا هُدِيـتِ وَإِنْ تَأَخَّرْتِ فَقَد شُقِيــــتِ

ونال عبد الله الشهادة، ولحق بصاحبيه زيد وجعفر

زياد علي

زياد علي محمد