الجمعة، 23 أغسطس 2019

نبي الله يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام (ج2

دخول يوسف عليه الصلاة والسلام السجن ودعوته فيه إلى دين الله وعبادة الله وحده

قال الله تعالى:{ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}سورة يوسف، يذكر الله تعالى عن العزيز وامرأته وغيرهما أنهم بدا لهم وظهر لهم من الرأي سجن يوسف مع علمهم ببراءته إلى وقت، ليكون ذلك تخفيفًا لكلام الناس في تلك القضية، وليظن الناس بحبس يوسف عليه السلام أنه هو الذي راودها عن نفسها ودعاها إلى ذلك، ولذلك سجنوا يوسف الصديق ظُلمًا وعُدوانًا من غير جريمة اقترفها وارتكبها.

دخل السجن مع يوسف عليه السلام فَتَيان أحدُهما رئيس سقاة الملك، والثاني رئيس الخبازين عنده، وكان الملك قد اتهمهما في دسّ السم له لاغتياله والتخلص منه، فسجنهما ورأى كل من ساقي الملك وخبازه في ليلة واحدة رؤيا شغلت فكرهما، أما الساقي فقد رأى كأن ثلاثة قضبان من الكرم والعنب قد أورقت وأينعت فيها عناقيد العنب فأخذها واعتصرها في كأس الملك وسقاه منها، ورأى الخباز على رأسه ثلاث سلال من خبز وضواري الطيور تأكل من السلة العليا، فقصّ كل من الساقي والخباز رؤييهما على يوسف عليه السلام وطلبا منه أن يفسر لكل واحد منهما رؤياه ويعبرها لهما بعدما أعلمهما يوسف عليه السلام وأعلم أهل السجن بأنه يعبّر الأحلام ويفسرها، وبعدما رأيا من يوسف الصديق في السجن من حُسن السيرة وعظيم الاخلاق وكثرة عبادته لربه ما أعجبهما أشد الإعجاب، يقول الله تبارك وتعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}سورة يوسف.

فلما استمع يوسف عليه السلام إلى الرجلين وسمع ما رأيا في منامهما من رؤيا قال لهما:{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا}سورة يوسف، أي مهما رأيتما من حلم ومنام فإني أعبره وأفسره لكما قبل وقوعه فيكون كما أقول، ثم قال لهما:{ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}سورة يوسف.

أخذ نبي الله يوسف الصديق وهو في السجن يدعو إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الاصنام، فدعا الرجلين اللذين طلبا منه أن يفسر لهما رؤييهما إلى دين الإسلام وعبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام وأخذ يُصغر لهما أمر الأصنام ويحقرها لأنها لا تضرُّ ولا تنفع، وبيّن لهما أنّ ما هما عليه وءاباؤهم من عبادة أحجار هي عبادةٌ باطلة لأن الله تبارك وتعالى هو وحده الذي يستحق العبادة لأنه هو المتصرف في خلقه وهو الفعال لما يريد الخالق لكل شيء الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء.

لقد أراد يوسف عليه السلام بحكمته أن يتحدث معهما في الأهم والأولى، وكانت دعوته لهما إلى عبادة الله وحده وإلى دين الإسلام في هذه الحال في غاية الكمال لأن نفوسهما كانت مُعظمة ليوسف عليه السلام سهلة الانقياد على تلقي ما يقول بالقبول، فناسب من نبي الله يوسف عليه السلام أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما مما سألا عنه وطلبا منه، يقول الله تبارك وتعالى إخبارًا عن يوسف عليه السلام وما قاله لصاحبيه في السجن:{إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ}سورة يوسف، الآية أي اتبعت دين الإسلام دين ءابائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب،{مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ}أي إن الله عصمنا من الكفر والشرك فلم نشرك بالله ولم نعبد إلا الله وحده.

وقال لهما:{ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا}سورة يوسف، أي إنَّ اتباعنا الإيمان بتوفيق الله{وَعَلَى النَّاسِ}يعني المؤمنين بأنه دلهم على دينه وهداهم للإيمان والإسلام.

ثم قال لهما:{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}سورة يوسف، فبيّن لهما أن الله سبحانه وتعالى هو الإله الواحد القهار الذي يستحق الألوهية بخلاف الأصنام صغيرها وكبيرها، ثم قال لهما:{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}سورة يوسف.

بعد أن تحدث يوسف عليه السلام مع صاحبيه في السجن عن الأهم والأولى وهو دعوتهما إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام، أخبرهما بعد ذلك بتأويل رؤياهما فقال للأول وهو الساقي: أما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام يبعث إليك الملك بعد انقضائها فيردك إلى عملك ساقيًا.

ثم قال للخباز: السلال الثلاث ثلاثة أيام ثم يبعث إليك الملك عند انقضائهما فيقتلك ويصلبك ويأكل الطير من رأسك، قال الله تعالى إخبارًا عن يوسف عليه السلام:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ}سورة يوسف.

يقال: إن الرجلين لما سمعا تأويل رؤييهما وتعبيرهما من يوسف عليه السلام قالا: ما رأينا شيئًا، فقال لهما: قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان.

وبعد أن عبّر وفسّر نبي الله يوسف عليه السلام رؤييهما طلب من الذي ظنه ناجيًا من هذين الرجلين وهو الساقي:{اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}سورة يوسف، يعني اذكر أمري وما أنا فيه عند سيدك وهو الملك وأخبره أني محبوس ظُلمًا قال الله تعالى:{فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}سورة يوسف، أي فأنسى الناجي منهما الشيطانُ أن يذكر ما وصاه به يوسف عليه السلام، فلبث يوسف عليه السلام في السجن سبع سنوات، وكل هذا بمشيئة الله وإرادته.

تنبيه: تفسير كلمة ربك بالعزيز في الأول وبالملك في الثاني بمعنى السيد لأن يوسف كان صورة عبدًا مملوكًا للعزيز وهذا الثاني كان عبدًا مملوكًا للملك حقيقة، وذلك جائز لغة أن يقول العبد المملوك لسيده ربي بمعنى الذي يصرفني في أموره لا بمعنى خالقي، وذلك لأن هذه الكلمة في لغة العرب لها معانٍ متعددة فهذا اللفظ يطلق بمعنى الخالق وهو الله تعالى، وبمعنى السيد المتصرف في شأن من يملكه، وبمعنى المصلح، وبمعنى المربي وغير ذلك، ولا يجوز شرعًا إطلاقه على غير الله مُعَرَّفًا بالألف واللام فلا يجوز أن يقال لغير الله الرب بل يجوز أن يقال فلان رب فلان أي سيده، ويجوز أن يقال فلان رب هذا البيت رب هذا البستان رب هذا الفرس ونحو ذلك بمعنى مستحق الانتفاع به، لكن لا يجوز أن يقال لشخص له متجر ومعمل رب العمال لأنه لا يملكهم إنما يستحق الانتفاع بهم في مقابل ما يدفعه من الأجرة لهم.

وذكر المفسرون في تفسير قول الله تعالى:{إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}، أنه عنى الله وهذا أحسن من التفسير الآخر لأن يوسف لم يكن عبدًا مملوكًا ولا تطرأ عليه العبودية الحقيقية لخلق من خلق الله لكنه كان صورة مشترى على أنه عبد مملوك ليس حرًا.



رؤيا الملك وخروج يوسف عليه السلام من السجن وظهور براءته

يقول الله تبارك وتعالى:{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}سورة يوسف.

قدر الله تبارك وتعالى بتقديره الأزلي أسبابًا لخروج نبيه يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام والإكرام، وذلك أن ملك مصر رأى في منامه سبع بقرات سمان خرجن من البحر وخرجت في ءاثارهن سبع بقرات هزال ضعاف، فأقبلت على البقرات السمان فأكلتهن، فاستيقظ الملك من نومه مذعورًا، ثم نام ثانية فرأى سبع سنبلات خضر وقد أقبل عليهن سبع يابسات فأكلتهن حتى أتين عليهن، فدعا أشراف قومه فقصها عليهم وطلب منهم أن يفتوه في رؤياه هذه، ولما لم يكن فيهم من يُحسن تعبيرها قالوا له:{قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ}أي أخلاط أحلام من الليل وما نحن بتأويل الأحلام التي هذا وصفها بعالمين أي أنهم لا خبرة لهم بذلك، ولمّا سمع الناجي من السجن وهو ساقي الملك برؤيا الملك ورأى عجز الناس عن تعبيرها تذكر أمر يوسف عليه السلام وما وصاه به، قال الله تعالى:{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}سورة يوسف، أي تذكر بعد مدة من الزمان وهي بضع سنين التي قضاها يوسف عليه السلام في السجن:{أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}سورة يوسف،الآية أي إلى يوسف، فأرسلوه إلى يوسف عليه السلام فلمّا جاءه وقصّ عليه رؤيا الملك أجابه يوسف عليه السلام إلى طلبه فعبّر منام الملك بوقوع سبع سنين في الخصب والرخاء ثم سبع سنين جدب وذلك تأويل قوله تعالى:{ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ}سورة يوسف، يعني يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية{وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}يعني ما كانوا يعصرونه من الأعناب والزيتون والسمسم وغيرها.

فعبّر يوسف عليه السلام لهم رؤيا الملك ودلّهم على الخير وأرشدهم إلى ما يعتمدونه في حالتي خصبهم وجدبهم، وما يفعلونه من إدخار الحبوب في السنين السبع الأولى التي يكون فيها الخصب في سنبله إلا ما يُرصد بسبب الأكل، لأن ادخار الحب في سنابله أبقى له وأبعد من الفساد، ثم يأتي بعدها سبع سنين مجدبة يحصل فيها الجدب والقحط فتأتي على المخزون من السنين السبع التي تقدمتها أي نصحهم عليه السلام أن يدخروا الحبوب في سنابله إلا ما يرصد للأكل حتى إذا حلّ الجدب والقحط وجدوا في مخازنهم ما يسد الرمق ويمسك عنهم الضيق، حتى يأتي الله بالخصب والغيث، ففسر عليه السلام البقرات السمان بالسنين التي يكون فيها خصب، والبقرات العجاف بالسنين التي يكون فيها قحط وجدب، وكذلك السنبلات الخضر والسنبلات اليابسات، يقول الله تبارك وتعالى حكاية عن يوسف عليه السلام:{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}سورة يوسف.

وقيل: إن ساقي الملك لمّا أرسل إلى يوسف عليه السلام في السجن وقصّ عليه رؤيا الملك قال يوسف للساقي: قل للملك هذه سبع سنين مخصبات ومن بعدهن سبع سنين شداد إلا أن يحتال لهن، فانطلق الساقي إلى الملك فأخبره، فقال له الملك: ارجع اليه فقل له: كيف نصنع؟ فقال:{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ}سورة يوسف.

ولمّا رجع الساقي إلى الملك وأخبره بتأويل رؤياه التي سمعها من يوسف عليه السلام وقع في نفسه صحة ما قال عليه السلام، وأدرك ما عند يوسف من علم وعقل تام ورأي سديد فقال: ائتوني بالذي عبر رؤياي، وأمر بإحضاره إليه ليكون من جملة خاصته ومن المقربين اليه، فلما جاء رسول الملك إلى يوسف عليه السلام أبى يوسف أن يخرج من السجن حتى يتبين لكل واحد أنه حُبس ظلمًا وعدوانًا وأنه برىء الساحة مما نسبوه إليه في شأن امرأة العزيز قال تعالى:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}سورة يوسف.

أي ارجع إلى سيدك وهو الملك فاسأله أن يتعرف ما شأن تلك النسوة اللاتي قطعن أيديهن فإنّ الله عليم بكيدهن ليعلم صحة براءتي، وإنما أشفق يوسف أن يراه الملك بعين الشاك في أمره أو متهم بفاحشة وأحب أن يراه بعد استقرار براءته عنده، فرجع رسول الملك إلى الملك وأخبره بما قاله يوسف، فدعا الملك النسوة اللاتي قطعن أيديهن ومعهن امرأة العزيز وقال لهن:{مَا خَطْبُكُنَّ}أي ما كان شأنكم وقصتكم إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ فأجبنه وقلن للملك:{حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ}وأنكرن أن يكنّ علمن عليه سوءًا، وأعلم النسوة الملك براءة يوسف من السوء الذي نسب إليه كذبًا وبهتانًا.

ولما رأت امرأة العزيز أنّ يوسف عليه السلام الذي زجت به في السجن ظلمًا وعدوانًا قد أكرمه الله تعالى لعصمته وطهارته حتى صار من اهتمام الملك به أنّه يستدعيه ليستخلصه لنفسه اعترفت بما اقترفته وقالت:{الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ}أي ظهر الحق وصار واضحًا جليًا واعترفت بأنها هي التي راودته عن نفسه وطلبت منه فعل الفاحشة.

يقول تعالى إخبارًا عما جرى بين الملك والنسوة:{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ*ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}سورة يوسف.

يوسف عليه السلام بحضرة الملك

ولمّا ظهر وتبيّن للملك براءة يوسف عليه السلام ونزاهة ساحته عمّا كانوا نسبوه إليه رأى يوسفُ الصديق عليه السلام أن ليس هناك مانع من الخروج من السجن، فخرج وجاء يوسف عليه السلام الملك وكلمه فقال له الملك: إنّك من اليوم لدينا ذو مكانة وأمانة، يقول الله تعالى في ذلك:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ}سورة يوسف.

وطلب يوسف عليه السلام من الملك أن يوليه النظر فيما يتعلق بخزائن الأرض، قيل: هي خزائن الطعام لما يعلم من عدله ولما يتوقع من حصول الخلل في خزائن الطعام بعد مُضي السنين التي يكون فيها الخصب لينظر فيها ويحتاط فيها للأمر، وأخبر ملك البلاد أنه قوي على حفظ ما لديه وأمين على خزائن الأرض وما يخرج منها من الغلات والخيرات عليم بوجوه تصريفها وضبطها، يقول تعالى:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}سورة يوسف. ولما سمع الملك ما يريد يوسف عليه السلام وما يطلب، استجاب طلبه واستعمله وولاه على خزائن الأرض في مصر، وقيل: ردّ إليه عمل وزيره السابق العزيز "قطفير" بعدما مات وهلك.

يقول الله تبارك وتعالى:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيب بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ}سورة يوسف.

هذا وإن يوسف عليه السلام بعدما مكّنه الله في الأرض وفوضه الملك أمر مصر وخزائن الأرض كان يدعو أهل مصر إلى دين الاسلام وعبادة الله وحده وأن لا يشرك به شىء بالحكمة والرفق، فآمن به من ءامن من أهل مصر وأحبوه لما وجدوا في دعوته من خير وسعادة ولما وجدوا فيه من تلطف معهم في المعاملة وحسن الخلق.

قدوم إخوة يوسف عليه السلام إلى مصر لجلب الطعام

مرت السنين السبع المخصبة وأعدّ يوسف عليه السلام عدته فيها، واتخذ الخزائن وخزن الغلات في غلفها، ثم جاءت السبع سنين المجدبة واشتدّ الجَدبُ والقحط في أنحاء الأرض، فأما أهل مصر فصار يوسف عليه السلام يبيعهم من الطعام ما يكفيهم، وأحسّ أهل فلسطين في بلاد الشام بالجوع والبلاء الذي عمّ في كثير من البلاد وعلموا أن الطعام بمصر، وذاع أمر نبيّ الله يوسف عليه السلام الموكل على خزائن الطعام في الآفاق، وانتشر عدله ورحمته ورأفته، فقال يعقوب عليه السلام لأولاده: يا بنيّ انه قد بلغني أن بمصر ملكًا صالحًا فانطلقوا إليه وأقرئوه مني السلام وانتسبوا إليه لعله يعرفكم، فانطلق أولاده ومعهم الجمال والحمير لحمل الطعام ومعهم الثمن إلى مصر لشراء قوت أهلهم، وقدموا مصر ودخلوا على يوسف عليه السلام فرءاهم فعرفهم وهم لم يعرفوه، لأنهم شاهدوا من لباسه وزيّه ما لم يكن عرفوه في أخيهم من قبل، وأما إخوته فهم على حالهم في ملبسهم ولغتهم ومنظرهم وحالهم، فجهز يوسف عليه السلام إخوته بجهازهم وإعطاهم من الطعام ما جرت به عادته من إعطاء كل إنسان حمل بعير بعد أن أكرمهم وأحسن ضيافتهم وأظهر لهم السماحة والكرم، قال لهم: ائتوني بأخ لكم من أبيكم وكان قد سألهم عن حالهم وكم هم؟ وذلك أنه رأى إخوته جميعًا إلا شقيقه بنيامين وهو أصغر منه، فأخذ عليه السلام في استدراجهم حتى علم منهم حياته وأنه عند أبيه لم يسمح بمفارقته لشدة تعلق قلبه بمحبته فقالوا له: كنّا اثني عشر رجلًا فذهب منّا واحد وبقي شقيقه عند أبينا، فقال لهم عليه السلام: إذا قدمتم العام المقبل فأتوني به معكم وقد أحسنتُ نزلكم وضيافتكم ورغبهم ليأتوه به ثم رهبهم وأخبرهم أنهم إن لم يأتوه به فلن يعطيهم الطعام، فأخبروه بأنهم سيطلبونه من أبيه ويجهدون في طلبه.

وخشي عليه السلام ألا يكون عند إخوته البضاعة التي يُبادلون بها الطعام لما يرجعون به مرة ثانية، فأمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم التي جاءوا بها ليبادلوا بها الطعام وغيره في أمتعتهم من حيث لا يشعرون لعلهم يرجعون إليه مرة ثانية، وقد جعل يوسف عليه السلام ذلك ليكون وسيلة ليعود إخوته اليه قال الله تبارك وتعالى:{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ * وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}سورة يوسف.

إخوة يوسف عليه السلام عند أبيهم يعقوب

عاد إخوة يوسف عليه السلام إلى أبيهم يعقوب عليه السلام وجمالهم محملة بالطعام وقالوا له: يا أبانا إن عزيز مصر قد أكرمنا إكرامًا زائدًا وإنّه ارتهن "شمعون" وقال: ائتوني بأخيكم الصغير من أبيكم، فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربوا بلادي، فأرسل معنا أخانا بنيامين يكتل لنفسه كيل بعير ءاخر زيادة على كيلنا وإنا لحافظون له من أن يناله مكروه معنا في سفره، قال الله تبارك وتعالى:{فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}سورة يوسف.

ولمّا قال إخوة يوسف لأبيهم مقالتهم هذه ليحثوه على إرسال أخيهم الصغير معهم قال لهم يعقوب:{هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}سورة يوسف، والمعنى هل ءامنكم على أخيكم من أبيكم الذي تسألونني أن أرسله معكم إلا كما أمنتكم على أخيه يوسف من قبل، يريد بذلك أنه لم ينفعه الأمن منهم إذ خانوه وأفقدوه إياه، ثم بيّن لهم أن الله تبارك وتعالى خير حافظًا منهم وهو أرحم الراحمين بخلقه.

ثم إنّ إخوة يوسف عليه السلام فتحوا متاعهم لاستخراج الطعام الذي أتوا به من مصر فوجدوا بضاعتهم [فضتهم] التي كانوا دفعوها ليوسف عليه السلام في مقابل ما أخذوه من الطعام بحالها لم تمس، فكان ذلك ممّا قوّى عزائمهم في الكلام مع أبيهم فقالوا له: يا أبانا ما نبغي! معناه أي شيء تريد بعد هذا وهذه بضاعتنا رُدّت الينا! فإذا سمحت بأخينا ليذهب معنا فإننا نجلب لأهلنا طعامًا ونحفظ أخانا ونزداد بسببه على أحمالنا من الطعام حمل بعير من الطعام يكال لنا وهذا شئ يسير عند الملك الذي طلب منا أخانا.
قال الله تبارك وتعالى:{وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}سورة يوسف، وكان نبي الله يعقوب عليه السلام شديد التعلق بولده بنيامين لأنه يشمّ فيه رائحة أخيه يوسف عليه السلام ويتسلى به عنه، والظاهر أن القحط والجدب في بلاد يعقوب كان شديدًا وقاسيًا ممّا جعل يعقوب يسمح بسفر ابنه بنيامين مع إخوته إلى مصر ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة والطعام لما كان ليبعث ولده العزيز على قلبه معهم، قال الله تعالى:{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}سورة يوسف، والمعنى: لن أرسل أخاكم إلى عزيز مصر حتى تعطوني ميثاقًا وعهدًا من الله أي تحلفوا بالله بأنكم تأتونني بأخيكم وترجعوا به إلا أن تُغلبوا جميعكم عن الإتيان به.

ولمّا أعطى أولاد يعقوب عليه السلام أباهم عهدهم وميثاقهم على الوفاء بما اشترطه عليهم قال: الله على ما نقول وكيل أي شهيد، ولمّا أراد أولاد يعقوب عليه السلام الخروج من عند أبيهم والسفر إلى مصر ليمتاروا ويجلبوا الطعام أوصاهم بعد أن أذن لأخيهم بنيامين في الرحيل معهم قال لهم:" يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ "حيث كان لمصر كما قيل: أربعة أبواب، حيث خاف عليهم أن يصيبهم أحد بالعين والحسد وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وأشكال حسنة جميلة، ثم بيّن لهم أنه لا يستطيع أن يدفع عنهم شيئًا مما قدره الله عليهم وشاءه لهم، لأنه لا رادّ لما قضى ولا مانع لما حكم، فمشيئته تعالى نافذة في كل شيء، يفعل ما يريد ويحكم في خلقه بما يشاء.

يقول الله تبارك وتعالى:{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}سورة يوسف.

رجوع إخوة يوسف عليه السلام إلى مصر ومعهم أخوهم بنيامين ودخولهم على يوسف عليه السلام

رجع إخوة يوسف عليه السلام إلى مصر ودخلوا من أبوابها المتفرقة كما أمرهم أبوهم يعقوب عليه السلام ثم دخلوا على يوسف الصديق عليه السلام فأنزلهم منزلًا رحبًا وأكرمهم وأحسن ضيافتهم وقدّم لهم الطعام والشراب وأجلس كل اثنين من إخوته على مائدة واحدة، فبقي بنيامين وحيدًا وقال بحزن ورأفة: لو كان أخي حيًّا لأجلسني معه، فسمع يوسف عليه السلام كلام أخيه من أبيه وأمه فضمه إليه وقال لإخوته الحاضرين: اني أرى هذا وحيدًا فأجلسه معه على مائدته، فلمّا جاء الليل جاءهم بالفُرُش فنام كل اثنين من إخوته على فراش فبقي بنيامين وحيدًا، فقال يوسف الصديق: هذا ينام معي.

فلمّا خلا وانفرد به قال له: هل لك أخ من أمك؟ فقال له بنيامين: كان لي أخ من أمي فمات، فقال له: إني أنا أخوك يوسف فلا تبتئس أي لا تحزن ولا تبأس بما كانوا يعملون فيما مضى من حسدنا وما حرصوا على صرف وجه أبينا عنا ولا تعلمهم بما أعلمتك، قال الله تبارك وتعالى:{وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}سورة يوسف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

زياد علي

زياد علي محمد