صفيّة...منارة الفداء
لم يكن موقفٌ سيطر فيه الخوف على جموع المسلمين كالذي كان في غزوة الخندق، يوم نقض بنو قريظة عهدهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم-.
نعم إنه الموقف الذي وصفه القرآن الكريم في قوله: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفَلَ منكم، وإذ زاغتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوب الحناجر، وتظنّون بالله الظنونا. هناك ابتُليَ المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً).
تقول السيدة أم سلمة - رضي الله عنها -: "شهدتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشاهدَ فيها قتالٌ وخوفٌ: المريسيع وخيبر، وكنا بالحديبية وفي الفتح وحُنين، ولم يكن من ذلك أتعب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أخوف عندنا من الخندق، وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحَرَجَة [منطقة كثيرة الأشجار]، وأن قريظة لا تأمنها على الذراري، فالمدينة تُحرَس حتى الصباح...".
بل إن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- يصف ذلك الموقف فيقول: "والله لقد رأيتُنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخندق، وصلّى رسول الله هُوِيّاً من الليل، ثم التفَتَ إلينا فقال: (( مَنْ رجُلٌ يقوم فينظُر ما فعل القوم ثم يرجع؟ - يشرط له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرجعة أسأل الله - تعالى -أن يكون رفيقي في الجنة. فما قام رجل من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد)).
نعم، في ذلك الجو الذي امتلأ بالرعب والزلزلة، كان في حصن النساء عينٌ تسهر، تحمل قلباً جَسوراً قد امتلأ إيماناً، ولم يكن المسلمون قد أعدُّوا للحصن حرّاساً يدفع عدوان يهود بني قريظة؛ لأن هؤلاء كانوا، بمقتضى العهد الذي بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مسالمين، بل كان من واجبهم القتال دفاعاً عن المدينة المنوّرة من أي عدوان خارجي.
لكن المفاجأة الفاجعة أن بني قريظة نقضوا العهد فجأة، وصاروا عدوّاً خطيراً من داخل الخندق، أي إنهم أبطلوا مفعول الخندق، وطعنوا الجيش الإسلامي من الظهر!.
كانت صفية بنت عبد المطلب، عمةُ النبي -صلى الله عليه وسلم-، في حصن النساء، وكانت تخشى غدر يهود أن يدرك الذراري والنساء، فهي ساهرة ترقُب الساحة عن يمين وشمال. ولقد لاح لها في الأفق شبح يقترب من الحصن، حدّقت فيه النظر تستجلي حقيقته، إنه فارس يهودي مدرّع، يتسلل في الظلام الحالك، على حين غفلة من المسلمين، لينال منهم ثغرة يفتك فيها بالذراري والنساء، حيث أبطال المسلمين بعيدون!. وكان وراء هذا الفاتك مجموعة من الفرسان، يتقدّمهم ليفتح لهم الطريق، ويطمئنهم إلى خلوّ الساحة من جنود الإسلام، ويعطيهم إشارة الانقضاض في اللحظة المناسبة!!.
أدركت صفية حساسية الموقف، وإذا كانت مشاركة المرأة في الجهاد تنحصر عادة بالدعم "اللوجستي": تسقي العطشى، وتداوي الجرحى، وتقدّم الطعام، فإن أوقاتاً حرجة تقتضي من المرأة العظيمة أن تقف مواقف البطولة النادرة، ومَن لهذه المواقف غير صفية وأمثالها؟!. لم تفقد أعصابها، ولم تفكر بالتواري خلف الجُدُر ريثما تنقضي الدقائق الحرجة، فمن يدري، لعل هذه الدقائق تحمل الخطر المحدق!!.
قالت صفية تصف الموقف: "فمرَّ بنا رجل من يهود، فجعل يُطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- [مِنْ عهد]، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنّا، ورسول الله والمسلمون في غور عدوّهم [بعيدين عنا]".
ماذا تُراها تتصرف، وهي المرأة التي قاربت الخمسين من عمرها، وولدها الزبير، حواريُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قلب المعركة، والخوف يملأ قلوب الرجال، والمنافقون يقولون: محمد يعِدُنا بكنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يخرج لقضاء حاجته!.
لم يحتمل قرار صفيّة إلا ثواني معدودة! لابد لها أن تقاوم ذلك الفاجر المعتدي وأن تَبْغَتَه بما لا يتوقّعه. لقد انتزعت عموداً من أعمدة البيت وحملته وانطلقت به. إنها تخاطر بحياتها نعم، ولكن ما قيمة الحياة أمام عزّة الدين، وحماية العرض، وردّ كيد المعتدين؟!.
تلفتت يمنةً ويسرةً، وعاجلت فارس اليهود بضربة شدخت رأسه، قبل أن يتمكن رفقاؤه الفرسان من التدخّل، وخرّ الفارس صريعاً يخور خوار الثور، ووقفت بجانبه تَطْمَئِنّ إلى أن روحه قد رحلت إلى سقر، بإذن الله، بينما لاذ رفقاؤه بالفرار وقد ذُهلوا لما رأوا!!
ولم تكتفِ اللبؤة الجسورة بهذا، بل أقبلت إلى الجثة تنزع عنها السيف والدرع، ليكون غنيمة للمسلمين.
لقد ملأ الرعب قلوب بني قريظة لما حدث، ولعلهم ظنّوا أن هذه الحصون ملأى بالفرسان الأبطال، وما هي إلا بطولة صفية عمّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما شيء يردع الغادرين مثل بطولة الأبطال!.
لم يكن موقفٌ سيطر فيه الخوف على جموع المسلمين كالذي كان في غزوة الخندق، يوم نقض بنو قريظة عهدهم مع النبي -صلى الله عليه وسلم-.
نعم إنه الموقف الذي وصفه القرآن الكريم في قوله: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفَلَ منكم، وإذ زاغتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوب الحناجر، وتظنّون بالله الظنونا. هناك ابتُليَ المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً).
تقول السيدة أم سلمة - رضي الله عنها -: "شهدتُ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشاهدَ فيها قتالٌ وخوفٌ: المريسيع وخيبر، وكنا بالحديبية وفي الفتح وحُنين، ولم يكن من ذلك أتعب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أخوف عندنا من الخندق، وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحَرَجَة [منطقة كثيرة الأشجار]، وأن قريظة لا تأمنها على الذراري، فالمدينة تُحرَس حتى الصباح...".
بل إن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- يصف ذلك الموقف فيقول: "والله لقد رأيتُنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخندق، وصلّى رسول الله هُوِيّاً من الليل، ثم التفَتَ إلينا فقال: (( مَنْ رجُلٌ يقوم فينظُر ما فعل القوم ثم يرجع؟ - يشرط له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرجعة أسأل الله - تعالى -أن يكون رفيقي في الجنة. فما قام رجل من شدة الخوف، وشدة الجوع، وشدة البرد)).
نعم، في ذلك الجو الذي امتلأ بالرعب والزلزلة، كان في حصن النساء عينٌ تسهر، تحمل قلباً جَسوراً قد امتلأ إيماناً، ولم يكن المسلمون قد أعدُّوا للحصن حرّاساً يدفع عدوان يهود بني قريظة؛ لأن هؤلاء كانوا، بمقتضى العهد الذي بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مسالمين، بل كان من واجبهم القتال دفاعاً عن المدينة المنوّرة من أي عدوان خارجي.
لكن المفاجأة الفاجعة أن بني قريظة نقضوا العهد فجأة، وصاروا عدوّاً خطيراً من داخل الخندق، أي إنهم أبطلوا مفعول الخندق، وطعنوا الجيش الإسلامي من الظهر!.
كانت صفية بنت عبد المطلب، عمةُ النبي -صلى الله عليه وسلم-، في حصن النساء، وكانت تخشى غدر يهود أن يدرك الذراري والنساء، فهي ساهرة ترقُب الساحة عن يمين وشمال. ولقد لاح لها في الأفق شبح يقترب من الحصن، حدّقت فيه النظر تستجلي حقيقته، إنه فارس يهودي مدرّع، يتسلل في الظلام الحالك، على حين غفلة من المسلمين، لينال منهم ثغرة يفتك فيها بالذراري والنساء، حيث أبطال المسلمين بعيدون!. وكان وراء هذا الفاتك مجموعة من الفرسان، يتقدّمهم ليفتح لهم الطريق، ويطمئنهم إلى خلوّ الساحة من جنود الإسلام، ويعطيهم إشارة الانقضاض في اللحظة المناسبة!!.
أدركت صفية حساسية الموقف، وإذا كانت مشاركة المرأة في الجهاد تنحصر عادة بالدعم "اللوجستي": تسقي العطشى، وتداوي الجرحى، وتقدّم الطعام، فإن أوقاتاً حرجة تقتضي من المرأة العظيمة أن تقف مواقف البطولة النادرة، ومَن لهذه المواقف غير صفية وأمثالها؟!. لم تفقد أعصابها، ولم تفكر بالتواري خلف الجُدُر ريثما تنقضي الدقائق الحرجة، فمن يدري، لعل هذه الدقائق تحمل الخطر المحدق!!.
قالت صفية تصف الموقف: "فمرَّ بنا رجل من يهود، فجعل يُطيف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- [مِنْ عهد]، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنّا، ورسول الله والمسلمون في غور عدوّهم [بعيدين عنا]".
ماذا تُراها تتصرف، وهي المرأة التي قاربت الخمسين من عمرها، وولدها الزبير، حواريُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قلب المعركة، والخوف يملأ قلوب الرجال، والمنافقون يقولون: محمد يعِدُنا بكنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يخرج لقضاء حاجته!.
لم يحتمل قرار صفيّة إلا ثواني معدودة! لابد لها أن تقاوم ذلك الفاجر المعتدي وأن تَبْغَتَه بما لا يتوقّعه. لقد انتزعت عموداً من أعمدة البيت وحملته وانطلقت به. إنها تخاطر بحياتها نعم، ولكن ما قيمة الحياة أمام عزّة الدين، وحماية العرض، وردّ كيد المعتدين؟!.
تلفتت يمنةً ويسرةً، وعاجلت فارس اليهود بضربة شدخت رأسه، قبل أن يتمكن رفقاؤه الفرسان من التدخّل، وخرّ الفارس صريعاً يخور خوار الثور، ووقفت بجانبه تَطْمَئِنّ إلى أن روحه قد رحلت إلى سقر، بإذن الله، بينما لاذ رفقاؤه بالفرار وقد ذُهلوا لما رأوا!!
ولم تكتفِ اللبؤة الجسورة بهذا، بل أقبلت إلى الجثة تنزع عنها السيف والدرع، ليكون غنيمة للمسلمين.
لقد ملأ الرعب قلوب بني قريظة لما حدث، ولعلهم ظنّوا أن هذه الحصون ملأى بالفرسان الأبطال، وما هي إلا بطولة صفية عمّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما شيء يردع الغادرين مثل بطولة الأبطال!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق