الحلقةالأولى: ترجمته لنفسه وأهم مراسلاته
لا يستطيع الإنسان أن يعبر عن مكنون فؤاده عند فقد حبيبه وصاحبه، فكيف إن كان ذلك صاحب فضل ومكانة بل هو جزء منك وإن لم يجمعك به قرابة نسب، ولذلك قد يكون الشاعر فصيحا لسانه، قويا شعره، ثم لا يتأتى له نظم بيت واحد إن فقد أغلى الناس عنده، وأذكر في ذلك أني كنت عند الشيخ حمد الجاسر بعد وفاة سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمهما الله فدخل علينا الشيخ راشد بن خنين شفاه الله، فكان مما سأله عنه حمد الجاسر: هل كتبت رثاء في شيخك ابن باز، فسكت الشيخ راشد وتبسم، فلما خرج الشيخ راشد قال الشيخ حمد الجاسر: لا أظن أن الشيخ راشد يستطيع أن يكتب بيتا واحدا في ابن باز، لأنه كان أغلى الناس عنده، والشاعر لا يستطيع أن يكتب في أغلى الناس عنده.
ولقد كان سماحة والدنا الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل -رحمه الله- ملء أسماعنا وأبصارنا، حتى قضى الله له ما أراد، فمضى إلى رب رحيم، ظهر الثلاثاء الثامن من شوال عام 1432هـ، ولما كان الشيخ فينا كانت تضعف نفوس بعضنا عن الاستفادة منه ، فلما فقدناه عرف الناس قدره، وتمثل فينا قول أبي المواهب الشاذلي فيما نقله عنه الشعراني رحمهما الله في طبقاته 1-384 حيث قال: أهل (العلم) مزهود فيهم أيام حياتهم، متأسف عليهم بعد مماتهم، وهناك يعرف الناس قدرهم، حين لم يجدوا عند غيرهم ما كانوا يجدونه عندهم.
والحق أن سماحة والدنا الشيخ عبدالله كان قد نعى نفسه إلي قبل وفاته بسنتين، حين طلب مني طلب أمر أن أقرأ ما كتبه في ترجمته الذاتية التي حررها بيده، وأضاف إليها ما كان بينه وبين الملوك والأمراء والعلماء والمشايخ وطلبة العلم من مراسلات وكتابات ملئت علما غزيرا، وقد أحسن بي رحمه الله إذ طلب مني ذلك، ورغم طولها وكونها في خمسة أجزاء إلا أني ما تركت منها حرفا واحدا، فكتبت له في ذلك رسالة قلت فيها (ما كنت أظن حين أطلعتموني قبل خمس سنوات على جزء من مراسلاتكم أنها بهذا الكم من الفوائد العلمية والتاريخية والتراثية وغيرها، بل أرى أني وإن كنت أحسب أني منذ عرفتكم قبل خمس عشرة سنة حتى يومي هذا قد حزت بموفور علمكم شيئا لن أنساه طيلة عمري، إلا أنني بعد أن اطلعت على هذه المراسلات، وما فيها من علم وفوائد وطول نفس لسماحتكم، وما أنتم عليه طيلة حياتكم، وما أسدله الله عليكم من محبة في نفوس الناس، غبطت نفسي أن فزت باللقاء بسماحتكم، وتمنيت لو حظيت بتلك الأيام التي قضيتموها في معاركة الحياة، لأكون خادما لكم، أنهل من أخلاقكم وأستن بهديكم)
كتب كثير من الناس تراجم عن الشيخ في حياته، وبعد وفاته ، كتبها طلابه ومحبوه، لكنها ليست كتلك التي كتبها عن نفسه، لأنه حين يترجم لنفسه فإنه يروي لنا ما لا يستطيع غيره أن يرويه، والتراجم الذاتية مسلك سلكه علماء كثيرون، تقرأ السيرة وكأنك تعيش مع صاحبها يوما بيوم، وأهم أركان التراجم الذاتية الصدق، ومما يزيد في صدق ترجمة شيخنا لنفسه أنه لا يذكر حدثا أو واقعة إلا أردف بها ما يؤكدها من مستندات ووثائق.
التراجم الذاتية نوع من أنواع العلم، بل هي علم بذاتها، ولذلك عد بعض العلماء من واجب نشر علم الشيخ نشره سيرته، واستدلوا بما ذكره الإمام البخاري في صحيحه في باب رفع العلم وظهور الجهل: من قول ربيعة الرأي رحمه الله: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر مما ذكره العلماء من معنى كلام ربيعة أن مراده أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للآخذ عنه لئلا يضيع علمه (السيرة الذاتية لبكر أبو زيد - 26).
وقد كان والدنا الشيخ أطلعني عام 1425هـ على ملف يحوي أوراقا ومراسلات ووقائع بتواريخها، وسمح لي بأخذه معي إلى بيتي، واستأمنني أن لا يطلع عليه أحد، فقرأتها كاملة، وعدت إليه فقلت له: إن هذا علم لا يجوز كتمانه، وإنه ما من ورقة إلا ولها قيمة قد لا تخطر لسماحتكم ببال، وطلبت منه عدة أمور: أولها: أن لا يطلع عليه أحد مهما كان، لأنها غنيمة يرجوها كل أحد، وثانيها: أن بقاءها بهذه الصورة في ملفات عرضة لفنائها، وعرضت عليه نماذج مما تحفظ به الوثائق والمخطوطات، وثالثها: أنه قبل كل شيء لا بد من تصويرها عبر جهاز الحاسب الآلي، فليس بينها وبين التلف إلا ماء أو حريق.
فلم تطمئن نفسي حتى أخبرني بعد أسبوع أنه قد كلف ابنه الشيخ عبد العزيز بتصويرها، فعاودت القول عليه بأن هذه الوثائق مطلب كل مراكز البحث المهتمة بالتاريخ، ولو علموا بما عندك لألحفوا عليك بكثرة الطلب، وأنها إن لم تخرج في حياتك فما أظنها ستخرج بعد وفاتك إلا بمشقة، ورجوته رجاء الطالب لشيخه أن يعجل في إخراجها.
وقد أطلعني خادم مكتبة الشيخ في ذلك الوقت (الأخ أبو شاهد الهندي) على نماذج من حفظها، وأنها كثيرة ستستغرق منهم وقتا، وبعد سنتين من ذلك الإلحاح بشرني سماحة شيخنا الوالد بأنه قد وظف شخصا من الجزائر في مكتبته يعتني بها، وجعل أول عمل يقوم به هو إخراج هذه الوثائق، فلما تعرفت على أخي البار بلال بن محمود عدار الجزائري علمت أن من توفيق الله للشيخ وجود بلال في مكتبته.
وفي شهر ربيع الثاني عام 1431هـ سلمني الشيخ المجموعة الأولى من مجموع مراسلاته مع الملوك والأمراء والعلماء والوزراء والمشايخ طيلة فترة حياته، ورغب مني أن أبدي رأيي فيها، ورغم ضخامتها إلا أني وجدت لذة في قراءتها حرفا حرفا، ما أسقطت منها كلمة، كل ذلك استجابة لأمر الشيخ وتوجيهه، ثم كتبت له كتابا بتاريخ: 27-8-1431هـ بينت فيه عدة أمور: منها أني وجدت أخي الكريم تلميذ الشيخ بلال الجزائري قد بذل جهدا كبيرا في قراءة هذه المراسلات وترتيبها وتنسيقها ، بل وكتابة تراجم لغالب من كانت بينكم وبينهم مراسلات، وأعجب من ذلك أن كانت كلها على نسق واحد في المقدار والاختصار، وكنت أظن سابقا أن لا داعي لتلك التراجم ، لكني بعد قراءة المراسلات أيقنت أهميتها ، بل وضرورة أن يكمل تراجم من لم يترجم لهم، وذلك لارتباط معنوي كبير بين الرسائل ومعرفة سيرة موجزة لصاحبها.
ومما ذكرته للشيخ في تلك الرسالة رأيي في مواضع من بعض المراسلات، واقترحت عليه حذف رسائل كانت بينه وبين بعض الأعيان، لأن ذكرها لا يفيد شيئا لقارئها، ولأنها قد تفهم على غير مرادها، فوافقني رحمه الله في ذلك، وتناقشت مع الشيخ في عدد من رسائل بعض العلماء ومدى مناسبة خروجها مفردة، أو أن تخرج مع المجموع، لأن الشيخ احتفظ بها كل هذه السنوات ونسيها فلم يجدها إلا بعد هذا العمل، من بينها رسائل لم تطبع من قبل للشيخ ابن سعدي ومثلها لتلميذه ابن عثيمين رحمهما الله.
ومما أذكره هنا أن الشيخ كان حريصا على تلك الرسائل بعد اطلاعه عليها، واستشار عددا من أبنائه في إخراجها قبل أن يسمح لأخينا بلال بإدراجها ضمن المجموع، والحمد لله فقد فعل الشيخ ما فيه الصواب، وهو نشر العلم وعدم كتمانه.
ثم أعطاني الشيخ مجموعة أخرى من المراسلات فقرأتها كاملة في شهر رمضان عام 1431هـ وأنا مكلف بالعمل في ميقات وادي محرم بالطائف، ولم أجد فيها ما يحتاج إلى إعادة نظر سوى موضع يسير، وافقني الشيخ على حذفه، ومن اللطائف هنا أني قد أخذت نوبتي في العمل في وقت وراد الميقات فيه قليل، وهو من الفجر إلى قريب أذان الظهر، وهو وقت يفر منه الزملاء لأنه وقت نومهم، وما رغبته إلا مخافة أن يطلع على أوراق الشيخ أحد، وقد زارني أثناء العمل مندوب هيئة الرقابة والتحقيق ولحظ علي ما بين يدي من أوراق فاعتذرت بعدم وجود معتمرين، فلما عدت من مكة كتبت للشيخ كتابا بتاريخ: 23-10-1431هـ ذكرت فيه ما وجدته في تلك المجموعة.
ثم سلمني الأخ بلال - وبتوجيه من الشيخ - زبدة الكتاب ولبه، وهو السيرة الذاتية للشيخ رحمه الله، قبل سقوطه ودخوله المستشفى، فقرأتها وأنا على متن الطائرة ذهابا وإيابا إلى ماليزيا في مهمة رسمية، لم أتوقف عن القراءة فيها، حتى حنَّ علي أحد خدام الطائرة، أن لم أنم كغيري من المسافرين، كتبت فيها بعض الشعر، من باب المداعبة، فرجعت وكتبت كتابا ثالثا لسماحة والدنا الشيخ وهو في المستشفى بتاريخ 24-6-1432هـ، ذكرت فيه ما وجدته في ترجمته لنفسه من فوائد.
والحقيقة أن كتاب أن كتاب: (الشيخ العلامة عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل رحمه الله تعالى: سيرته الذاتية وأهم مراسلاته) الذي عشت معه سنوات، وقد نزل مطبوعا بحمد الله تعالى في خمسة أجزاء مدعوما من أوقاف الشيخ رحمه الله ونشر وتوزيع دار الصميعي، من أعظم ما أهداه سماحة والدنا الشيخ للعلم وأهله على مختلف فنونه.
وأستذكر بين يدي قرائه أربعة أمور:
الأول: أنه مع ما اشتملت عليه ترجمة الشيخ لنفسه والمراسلات التي رافقتها (أكثر من 556 رسالة) من علم غزير في فنون كثيرة، إلا أني أجزم أن كل من سيقرؤها سيتمنى أن الشيخ موجود، ليسأله عن أحداث كثيرة وقعت، يريد معرفة أخبارها، وعلماء لم نسمع بهم إلا من تضاعيف تلك الرسائل، وصبر وجلد في طلب العلم والبحث والسؤال، عاشه سماحة شيخنا الوالد، لكن أنى له ذلك.
وأكاد أجزم أيضا أن كثيرا من طلاب الشيخ ومحبيه وطالبي العلم سيعلمون أن الشيخ أحسن بهم إذ أخرج هذه المراسلات، وهذه الترجمة الوافية عن نفسه، فهي علم بحد ذاتها.
كما أجزم أيضا بأن عددا من المراكز البحثية والتاريخية ستعيد قراءة ما اشتملت عليه تلك المراسلات من معلومات، وأن بعض تلك المراسلات ستكون حديثا لفئات من أهل العلم مدة من الزمن.
الثاني: أن يُعلم أن سماحة والدنا الشيخ كان يحاول تأخير إخراجها قدر وسعه، إذ يظهر أنه لم يكن يرغب أن تطبع في حياته، وقد حقق الله مراده، فيا لله ما أكثر توفيق الله لذلكم الشيخ.
الثالث: أن الكتاب قد راجعه الشيخ قبل مرضه الأخير، وتمت جميع مراحل طبعه قبل وفاته، ثم منَّ الله على والدنا الشيخ بأبناء بررة بادروا إلى إخراج هذا الكتاب بأسرع ما يمكن، تتميما لعمل والدهم، فهنيئا لهم بهذا العمل، بارين به والدهم، محسنين به إلى طلبة العلم.
الرابع: أن الشيخ تكلم في ترجمته لنفسه عن كل شيء إلا عن نفسه، وأعني بذلك ما كان عليه من أخلاق وآداب، وعن طريقته في التعليم، وعن موقفه من الناس، وتعامله معهم، فكان بعيدا عن مدح نفسه أو الثناء عليها، وقد حاولت جاهدا كتابة شيء من ذلك أسوقه في حلقات قادمة، مع بعض ما جرى له مما شاهدته، وما كان لكتبه من قصص حتى خرجت، ولماذا لم يؤلف الشيخ في الفقه، وموقفه من فتاوى العلماء المعاصرين، فأسأل الله تعالى الإعانة، وللحديث صلة.
لا يستطيع الإنسان أن يعبر عن مكنون فؤاده عند فقد حبيبه وصاحبه، فكيف إن كان ذلك صاحب فضل ومكانة بل هو جزء منك وإن لم يجمعك به قرابة نسب، ولذلك قد يكون الشاعر فصيحا لسانه، قويا شعره، ثم لا يتأتى له نظم بيت واحد إن فقد أغلى الناس عنده، وأذكر في ذلك أني كنت عند الشيخ حمد الجاسر بعد وفاة سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمهما الله فدخل علينا الشيخ راشد بن خنين شفاه الله، فكان مما سأله عنه حمد الجاسر: هل كتبت رثاء في شيخك ابن باز، فسكت الشيخ راشد وتبسم، فلما خرج الشيخ راشد قال الشيخ حمد الجاسر: لا أظن أن الشيخ راشد يستطيع أن يكتب بيتا واحدا في ابن باز، لأنه كان أغلى الناس عنده، والشاعر لا يستطيع أن يكتب في أغلى الناس عنده.
ولقد كان سماحة والدنا الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل -رحمه الله- ملء أسماعنا وأبصارنا، حتى قضى الله له ما أراد، فمضى إلى رب رحيم، ظهر الثلاثاء الثامن من شوال عام 1432هـ، ولما كان الشيخ فينا كانت تضعف نفوس بعضنا عن الاستفادة منه ، فلما فقدناه عرف الناس قدره، وتمثل فينا قول أبي المواهب الشاذلي فيما نقله عنه الشعراني رحمهما الله في طبقاته 1-384 حيث قال: أهل (العلم) مزهود فيهم أيام حياتهم، متأسف عليهم بعد مماتهم، وهناك يعرف الناس قدرهم، حين لم يجدوا عند غيرهم ما كانوا يجدونه عندهم.
والحق أن سماحة والدنا الشيخ عبدالله كان قد نعى نفسه إلي قبل وفاته بسنتين، حين طلب مني طلب أمر أن أقرأ ما كتبه في ترجمته الذاتية التي حررها بيده، وأضاف إليها ما كان بينه وبين الملوك والأمراء والعلماء والمشايخ وطلبة العلم من مراسلات وكتابات ملئت علما غزيرا، وقد أحسن بي رحمه الله إذ طلب مني ذلك، ورغم طولها وكونها في خمسة أجزاء إلا أني ما تركت منها حرفا واحدا، فكتبت له في ذلك رسالة قلت فيها (ما كنت أظن حين أطلعتموني قبل خمس سنوات على جزء من مراسلاتكم أنها بهذا الكم من الفوائد العلمية والتاريخية والتراثية وغيرها، بل أرى أني وإن كنت أحسب أني منذ عرفتكم قبل خمس عشرة سنة حتى يومي هذا قد حزت بموفور علمكم شيئا لن أنساه طيلة عمري، إلا أنني بعد أن اطلعت على هذه المراسلات، وما فيها من علم وفوائد وطول نفس لسماحتكم، وما أنتم عليه طيلة حياتكم، وما أسدله الله عليكم من محبة في نفوس الناس، غبطت نفسي أن فزت باللقاء بسماحتكم، وتمنيت لو حظيت بتلك الأيام التي قضيتموها في معاركة الحياة، لأكون خادما لكم، أنهل من أخلاقكم وأستن بهديكم)
كتب كثير من الناس تراجم عن الشيخ في حياته، وبعد وفاته ، كتبها طلابه ومحبوه، لكنها ليست كتلك التي كتبها عن نفسه، لأنه حين يترجم لنفسه فإنه يروي لنا ما لا يستطيع غيره أن يرويه، والتراجم الذاتية مسلك سلكه علماء كثيرون، تقرأ السيرة وكأنك تعيش مع صاحبها يوما بيوم، وأهم أركان التراجم الذاتية الصدق، ومما يزيد في صدق ترجمة شيخنا لنفسه أنه لا يذكر حدثا أو واقعة إلا أردف بها ما يؤكدها من مستندات ووثائق.
التراجم الذاتية نوع من أنواع العلم، بل هي علم بذاتها، ولذلك عد بعض العلماء من واجب نشر علم الشيخ نشره سيرته، واستدلوا بما ذكره الإمام البخاري في صحيحه في باب رفع العلم وظهور الجهل: من قول ربيعة الرأي رحمه الله: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر مما ذكره العلماء من معنى كلام ربيعة أن مراده أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للآخذ عنه لئلا يضيع علمه (السيرة الذاتية لبكر أبو زيد - 26).
وقد كان والدنا الشيخ أطلعني عام 1425هـ على ملف يحوي أوراقا ومراسلات ووقائع بتواريخها، وسمح لي بأخذه معي إلى بيتي، واستأمنني أن لا يطلع عليه أحد، فقرأتها كاملة، وعدت إليه فقلت له: إن هذا علم لا يجوز كتمانه، وإنه ما من ورقة إلا ولها قيمة قد لا تخطر لسماحتكم ببال، وطلبت منه عدة أمور: أولها: أن لا يطلع عليه أحد مهما كان، لأنها غنيمة يرجوها كل أحد، وثانيها: أن بقاءها بهذه الصورة في ملفات عرضة لفنائها، وعرضت عليه نماذج مما تحفظ به الوثائق والمخطوطات، وثالثها: أنه قبل كل شيء لا بد من تصويرها عبر جهاز الحاسب الآلي، فليس بينها وبين التلف إلا ماء أو حريق.
فلم تطمئن نفسي حتى أخبرني بعد أسبوع أنه قد كلف ابنه الشيخ عبد العزيز بتصويرها، فعاودت القول عليه بأن هذه الوثائق مطلب كل مراكز البحث المهتمة بالتاريخ، ولو علموا بما عندك لألحفوا عليك بكثرة الطلب، وأنها إن لم تخرج في حياتك فما أظنها ستخرج بعد وفاتك إلا بمشقة، ورجوته رجاء الطالب لشيخه أن يعجل في إخراجها.
وقد أطلعني خادم مكتبة الشيخ في ذلك الوقت (الأخ أبو شاهد الهندي) على نماذج من حفظها، وأنها كثيرة ستستغرق منهم وقتا، وبعد سنتين من ذلك الإلحاح بشرني سماحة شيخنا الوالد بأنه قد وظف شخصا من الجزائر في مكتبته يعتني بها، وجعل أول عمل يقوم به هو إخراج هذه الوثائق، فلما تعرفت على أخي البار بلال بن محمود عدار الجزائري علمت أن من توفيق الله للشيخ وجود بلال في مكتبته.
وفي شهر ربيع الثاني عام 1431هـ سلمني الشيخ المجموعة الأولى من مجموع مراسلاته مع الملوك والأمراء والعلماء والوزراء والمشايخ طيلة فترة حياته، ورغب مني أن أبدي رأيي فيها، ورغم ضخامتها إلا أني وجدت لذة في قراءتها حرفا حرفا، ما أسقطت منها كلمة، كل ذلك استجابة لأمر الشيخ وتوجيهه، ثم كتبت له كتابا بتاريخ: 27-8-1431هـ بينت فيه عدة أمور: منها أني وجدت أخي الكريم تلميذ الشيخ بلال الجزائري قد بذل جهدا كبيرا في قراءة هذه المراسلات وترتيبها وتنسيقها ، بل وكتابة تراجم لغالب من كانت بينكم وبينهم مراسلات، وأعجب من ذلك أن كانت كلها على نسق واحد في المقدار والاختصار، وكنت أظن سابقا أن لا داعي لتلك التراجم ، لكني بعد قراءة المراسلات أيقنت أهميتها ، بل وضرورة أن يكمل تراجم من لم يترجم لهم، وذلك لارتباط معنوي كبير بين الرسائل ومعرفة سيرة موجزة لصاحبها.
ومما ذكرته للشيخ في تلك الرسالة رأيي في مواضع من بعض المراسلات، واقترحت عليه حذف رسائل كانت بينه وبين بعض الأعيان، لأن ذكرها لا يفيد شيئا لقارئها، ولأنها قد تفهم على غير مرادها، فوافقني رحمه الله في ذلك، وتناقشت مع الشيخ في عدد من رسائل بعض العلماء ومدى مناسبة خروجها مفردة، أو أن تخرج مع المجموع، لأن الشيخ احتفظ بها كل هذه السنوات ونسيها فلم يجدها إلا بعد هذا العمل، من بينها رسائل لم تطبع من قبل للشيخ ابن سعدي ومثلها لتلميذه ابن عثيمين رحمهما الله.
ومما أذكره هنا أن الشيخ كان حريصا على تلك الرسائل بعد اطلاعه عليها، واستشار عددا من أبنائه في إخراجها قبل أن يسمح لأخينا بلال بإدراجها ضمن المجموع، والحمد لله فقد فعل الشيخ ما فيه الصواب، وهو نشر العلم وعدم كتمانه.
ثم أعطاني الشيخ مجموعة أخرى من المراسلات فقرأتها كاملة في شهر رمضان عام 1431هـ وأنا مكلف بالعمل في ميقات وادي محرم بالطائف، ولم أجد فيها ما يحتاج إلى إعادة نظر سوى موضع يسير، وافقني الشيخ على حذفه، ومن اللطائف هنا أني قد أخذت نوبتي في العمل في وقت وراد الميقات فيه قليل، وهو من الفجر إلى قريب أذان الظهر، وهو وقت يفر منه الزملاء لأنه وقت نومهم، وما رغبته إلا مخافة أن يطلع على أوراق الشيخ أحد، وقد زارني أثناء العمل مندوب هيئة الرقابة والتحقيق ولحظ علي ما بين يدي من أوراق فاعتذرت بعدم وجود معتمرين، فلما عدت من مكة كتبت للشيخ كتابا بتاريخ: 23-10-1431هـ ذكرت فيه ما وجدته في تلك المجموعة.
ثم سلمني الأخ بلال - وبتوجيه من الشيخ - زبدة الكتاب ولبه، وهو السيرة الذاتية للشيخ رحمه الله، قبل سقوطه ودخوله المستشفى، فقرأتها وأنا على متن الطائرة ذهابا وإيابا إلى ماليزيا في مهمة رسمية، لم أتوقف عن القراءة فيها، حتى حنَّ علي أحد خدام الطائرة، أن لم أنم كغيري من المسافرين، كتبت فيها بعض الشعر، من باب المداعبة، فرجعت وكتبت كتابا ثالثا لسماحة والدنا الشيخ وهو في المستشفى بتاريخ 24-6-1432هـ، ذكرت فيه ما وجدته في ترجمته لنفسه من فوائد.
والحقيقة أن كتاب أن كتاب: (الشيخ العلامة عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل رحمه الله تعالى: سيرته الذاتية وأهم مراسلاته) الذي عشت معه سنوات، وقد نزل مطبوعا بحمد الله تعالى في خمسة أجزاء مدعوما من أوقاف الشيخ رحمه الله ونشر وتوزيع دار الصميعي، من أعظم ما أهداه سماحة والدنا الشيخ للعلم وأهله على مختلف فنونه.
وأستذكر بين يدي قرائه أربعة أمور:
الأول: أنه مع ما اشتملت عليه ترجمة الشيخ لنفسه والمراسلات التي رافقتها (أكثر من 556 رسالة) من علم غزير في فنون كثيرة، إلا أني أجزم أن كل من سيقرؤها سيتمنى أن الشيخ موجود، ليسأله عن أحداث كثيرة وقعت، يريد معرفة أخبارها، وعلماء لم نسمع بهم إلا من تضاعيف تلك الرسائل، وصبر وجلد في طلب العلم والبحث والسؤال، عاشه سماحة شيخنا الوالد، لكن أنى له ذلك.
وأكاد أجزم أيضا أن كثيرا من طلاب الشيخ ومحبيه وطالبي العلم سيعلمون أن الشيخ أحسن بهم إذ أخرج هذه المراسلات، وهذه الترجمة الوافية عن نفسه، فهي علم بحد ذاتها.
كما أجزم أيضا بأن عددا من المراكز البحثية والتاريخية ستعيد قراءة ما اشتملت عليه تلك المراسلات من معلومات، وأن بعض تلك المراسلات ستكون حديثا لفئات من أهل العلم مدة من الزمن.
الثاني: أن يُعلم أن سماحة والدنا الشيخ كان يحاول تأخير إخراجها قدر وسعه، إذ يظهر أنه لم يكن يرغب أن تطبع في حياته، وقد حقق الله مراده، فيا لله ما أكثر توفيق الله لذلكم الشيخ.
الثالث: أن الكتاب قد راجعه الشيخ قبل مرضه الأخير، وتمت جميع مراحل طبعه قبل وفاته، ثم منَّ الله على والدنا الشيخ بأبناء بررة بادروا إلى إخراج هذا الكتاب بأسرع ما يمكن، تتميما لعمل والدهم، فهنيئا لهم بهذا العمل، بارين به والدهم، محسنين به إلى طلبة العلم.
الرابع: أن الشيخ تكلم في ترجمته لنفسه عن كل شيء إلا عن نفسه، وأعني بذلك ما كان عليه من أخلاق وآداب، وعن طريقته في التعليم، وعن موقفه من الناس، وتعامله معهم، فكان بعيدا عن مدح نفسه أو الثناء عليها، وقد حاولت جاهدا كتابة شيء من ذلك أسوقه في حلقات قادمة، مع بعض ما جرى له مما شاهدته، وما كان لكتبه من قصص حتى خرجت، ولماذا لم يؤلف الشيخ في الفقه، وموقفه من فتاوى العلماء المعاصرين، فأسأل الله تعالى الإعانة، وللحديث صلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق