الجمعة، 23 أغسطس 2019

أم رومان بنت عامر رضي الله عنها

أم رومان بنت عامر رضي الله عنها

زوجةُ الصِّدّيق ... وأمُّ الصِّدّيقة

ترجمتها

تسابق عدد كبير من الفضلاء في رواية ترجمة حياة هذه الصحابية الجليلة. فقد جاء في "سير أعلام النبلاء" و "أسد الغابة": هي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية . وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب": يقال: أم رومان بفتح الراء وضمها.

وذكر ابن إسحاق أن اسمها زينب، وجاء في "الإصابة" أن اسمها دعد، ولكن الذي اشتهرت به كنيتها أم رومان.

نشأت في منطقة السّراة من جزيرة العرب، وتزوجت رجلا هو عبد الله بن الحارث بن سخبرة الأزدي، فولدت له الطُّفيل بن عبد الله وكان زوجها عبد الله بن الحارث يرغب في الإقامة بمكة أم القرى فانتقل إليها وأقام مع أسرته فيها، وعلى ما جرت عليه عادة الحلف في الجاهلية، رأى عبد الله بن أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة خير حلف، فحالفه، وبقي هناك حتى توفي، وخلّف وراءه زوجة وطفلها دون معيل لهما، يعانيان ءالام الغربة والوحدة، ولكن أم رومان لم تبق وحيدة لفترة طويلة... فقد تزوجها الصِّدّيق رضي الله عنه، وعاشت في كنفه حيث وجدت فيه كل الخصال الحميدة والمعاني الكريمة، وولدتْ له عبد الرحمن وعائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلّم.

ولم تُخطئ أم رومان بقبولها الزواج من أبي بكر رضي الله عنه، فقد كان صاحب نجدة ومروءة وسخاء وكرم، وكان كما وصفه ابن الدِّغنّة لقريش لما همّ أبو بكر أن يهجر بلده: "أتُخرجون رجلا يُكسب المعدوم، ويصلُ الرحم، ويحمل الكَلَّ، ويُقري الضيف، ويعين على نوائب الدهر؟".

وتظهر صفات الصِّدّيق هذه بزواجه من أم رومان إذ رحم حالها، وأحسن عشرتها، وأكرم ابنها الطفيل ورباه كأنه ولده.

ومن المفيد هنا أن نذكر أن أبا بكر تزوج في الجاهلية قتيلة بنت عبد العزى القرشية العامرية فولدت له عبد الله وأسماء. وبعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلّم تزوج أسماء بنت عميس رضي الله عنها فولدت له محمدًا .

قالت الصِّديقة بنت الصِّدّيق حبيبة حبيب الله المبرأة الطاهرة: "لم أعقل أبويّ إلا وهما يدينان الدين".

وتلقت أم رومان تعاليم الشريعة، وكانت مسرورة بزيارة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلّم لزوجها الصديق، وأخذت تبذل ما في وسعها لإكرامه. وذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يوصي أم رومان بعائشة ويقول: " يا أم رومان استوصي بعائشة خيرًا واحفظيني فيها".

وكانت أم رومان تتألم لما يلحق بالمسلمين من العذاب على أيدي المشركين، وكانت تسمع النبي صلى الله عليه وسلّم يحثهم على الصبر، فكان يسعدها أن ترى زوجها الصديق ينقذ المؤمنين المستضعفين من العذاب، فيعتقهم من خالص ماله، فتشد أزره وتعاونه في عمله الطيب المبارك ولو بالكلمة الطيبة.

الهجرة المباركة

قال ابن سعد في طبقاته: كانت أم رومان امرأة صالحة، ولها فضل السبق في مضمار الهجرة. وبعد أن أكرم الله المؤمنين في غزوة بدر، تزوج النبي صلى الله عليه وسلّم عائشة في شوال من السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة. وكانت أم رومان قد هيأت عائشة لتكون في بيت النبوة، فأحسنت تربيتها وزوّدتها بالقرءان والأدب.

وفاتها

ذكر ابن سعد في "طبقاته" وفاة الصحابية الجليلة أم رومان وأثنى عليها فقال: "وكانت أم رومان امرأة صالحة، وتوفيت في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم في ذي الحجة سنة ست من الهجرة".

وكان لوفاتها رضوان الله عليها أثر كبير في نفس الرسول الكريم صلى الله عليه وسلّم وكذلك في نفس ابنتها وزوجها. ولكن الله أكرمها بكرامة عظيمة، فقد نزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى قبرها واستغفر لها.

ويروى أن النبي العظيم صلى الله عليه وسلّم لم ينزل في قبر أحد إلا خمسة قبور، ثلاث نسوة ورجلين، منها قبر السيدة خديجة في مكة المكرمة، وأربعة في المدينة، منها قبر أم رومان في البقيع حيث دعا لها هناك وقال: "اللهم إنه لم يخفَ عليك ما لَقيت أم رومان فيك وفي رسولك". ومن رصيد أم رومان من البشائر أنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلّم حديثًا واحدًا انفرد بإخراجه الإمام البخاري رحمه الله.

~ سلسلة عظماء اسلموا ~ الحلقة السادسة عشرة { الدكتور الفرنسي علي سلمان بنوا }

أنا دكتور في الطب وأنتمي إلى أسرة فرنسية كاثوليكية. وقد كان لاختياري لهذه المهنة أثره في انطباعي بطباع الثقافة العلمية البحتة، وهي لا تؤهلني كثيرًا للناحية الروحية.

لا يعني هذا أنني لم أكن أعتقد في وجود إله، إلا أنني أقصد أن الطقوس الدينية المسيحية عمومًا والكاثوليكية بصفة خاصة، لم تكن لتبعث في نفسي الإحساس بوجوده، وعلى ذلك فقد كان شعوري الفطري بوحدانية الله يحول بيني وبين الإيمان بعقيدة التثليث، وبالتالي بعقيدة تأليه عيسى المسيح.

كنت قبل أن أعرف الإسلام مؤمنًا بالقسم الأول من الشهادتين (لا إله إلا الله)، وبهذه الآيات من القرآن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4].

لهذا فإنني أعتبر أن الإيمان بعالم الغيب وما وراء المادة هو الذي جعلني أدين بالإسلام. على أن هناك أسبابًا أخرى حفزتني لذلك أيضًا، منها -مثلاً- أنني لا أستسيغ دعوى الكاثوليك أن من سلطانهم مغفرة ذنوب البشر نيابة عن الله، ومنها أنني لا أصدق مطلقًا ذلك الطقس الكاثوليكي عن العشاء الرباني والخبز المقدس، الذي يمثل جسد المسيح عيسى، ذلك الطقس الطوطمي الذي يماثل ما كانت تؤمن به العصور الأولى البدائية، حيث كانوا يتخذون لهم شعارًا مقدسًا، يحرم عليهم الاقتراب منه، ثم يلتهمون جسد هذا المقدس بعد موته حتى تسري فيهم روحه!!!

ومما كان يباعد بيني وبين المسيحية، أنها لا تحوي في تعاليمها شيئًا يتعلق بنظافة وطهارة البدن لا سيما قبل الصلاة، فكان يخيّل لي أن في ذلك انتهاكًا لحرمة الرب؛ لأنه كما خلق لنا الروح فقد خلق لنا الجسد أيضًا، وكان حقًّا علينا ألا نهمل أجسادنا.

ونلاحظ كذلك أن المسيحية التزمت الصمت فيما يتعلق بغرائز الإنسان الفسيولوجية، بينما نرى أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي ينفرد بمراعاة الطبيعة البشرية.

أما مركز الثقل والعامل الرئيسي في اعتناقي للإسلام، فهو القرآن. بدأت قبل أن أسلم في دراسته بالعقلية الغربية المفكرة النافذة، وإني مدينٌ بالشيء الكثير للكتاب العظيم الذي ألفه مستر مالك بن نبي واسمه "الظاهرة القرآنية"، فاقتنعت بأن القرآن كتاب وحي منزَّل من عند الله. إن من بين آيات هذا القرآن الذي أوحى الله به منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا ما يحمل نفس النظريات التي كشفت عنها أحدث الأبحاث العلمية. كان هذا كافيًا لإقناعي وإيماني بالقسم الثاني من الشهادتين "محمد رسول الله".

وهكذا تقدمت يوم 20 فبراير سنة 1953م إلى المسجد في باريس، وأعلنت إيماني بالإسلام، وسجلني مفتي مسجد باريس في سجلات المسلمين، وحملت الاسم الجديد "علي سلمان".

إنني أشعر بالغبطة الكاملة في ظل عقيدتي الجديدة، وأعلنها مرة أخرى "أشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله".

سلسلة الأئمة الأعلام عبر مر الدهور والأيام _ الأمام الشوكانى

الأمام الشوكانى

هو
الإمام أبو علي بدر الدين محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن
محمد بن صلاح بن إبراهيم بن محمد العفيف بن محمد بن رزق، الشوكاني ثم
الصنعاني، وقد أوصل الشوكاني نسبه إلى آدم ـ ـ عند ترجمته لوالده في البدر
الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، ومن
أهل صنعاء، ولد يوم الإثنين الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة 1173 هجرية في
بلدة "هجرة شوكان"، من بلاد خولان باليمن.


قال الإمام الشوكاني ـ عند الكلام على ترجمة والده:
"
ونسبة صاحب الترجمة إلى شوكان ليست حقيقية ؛ لأن وطنه ووطن سلفه وقرابته
هو مكان عدني ـ أي جنوبي ـ " شوكان" بينه وبينها جبل كبير مستطيل يقال له :
"هجرة شوكان" فمن هذه الحيثية كان انتساب أهله إلى "شوكان".


نشأته وطلبه للعلم

نشأ
بصنعاء اليمن، وتربّى في بيت العلم والفضل فنشأ نشأة دينيّة طاهرة، تلقّى
فيها معارفه الأولى على والده وأهل العلم والفضل في بلدته، فحفظ القرآن
الكريم وجوّده، ثم حفظ كتاب "الأزهار" للإمام "المهدي" في فقه الزيديّه،
ومختصر الفرائض للعُصيفيري والملحه للحريري، والكافيه والشّافيه لابن
الحاجب، وغير ذلك من المتون التي اعتاد حفظها طلاب العلم في القرون
المتأخرة, وكان كثير الإشتغال بمطالعة كتب التاريخ، والأدب، وهو لايزال
مشتغلاً بحفظ القرآن الكريم. مما ساعد الإمام الشوكاني على طلب العلم
والنبوغ المبكر: وجوده وتربيته في بيت العلم والفضل، فإن والده كان من
العلماء المبرزين في ذلك العصر، كما أن أكثر أهل هذه القرية كانوا كذلك من
أهل العلم والفضل.


قال
الشيخ " الشوكاني " عن والده وأهل قريته: وهذه الهجرة معمورة بأهل الفضل
والصلاح والدين من قديم الزمان، لايخلو وجود عالم منهم في كل زمن، ولكنه
يكون تارّة في بعض البطون، وتارّة في بطن أخرى، ولهم عند سلف الأئمّة عظيمة
،وفيهم رؤساء كبار، ناصروا الأئمّة، ولاسيما في حروب الأتراك، فإن لهم في
ذلك اليد البيضاء، وكان فيهم إذ ذاك علماء وفضلاء، يعرفون في سائر البلاد
الخولانيه بالقضاة, كما قرأ " التهذيب " للعلامة التفتازاني، و"التلخيص" في
علوم البلاغة للقزويني، والغاية لابن الإمام، و"مختصر المنتهى" لابن
الحاجب في أصول الفقه، و"منظومة الجرزي " في القراءات و"منظومة " الجزار في
العروض، و"آداب البحث والمناظرة" للإمام العضد، وما إلى ذلك من سائر
العلوم النقلية والعقلية, وظل هكذا ينتقل بين العلماء، يتلقَّى عليهم،
ويستفيد منهم، حتى صار إماماً يشار إليه بالبنان، وراسا يرحل إليه، فقصده
طلاب العلم والمعرفة للأخذ عنه، من اليمن والهند، وغيرهما حتى طار صيته في
جميع البلاد، وانتفع بعلمه كثير من الناس


قد تأثر الإمام الشوكاني بشخصيَّات كثيرة من العمالقة الذين كانوا قبله
منهم من بلده اليمن، وأشهرهم:


العلامة محمد بن إبراهيم الوزير
العلامة محمد بن إسماعيل الأمير (ت 1182 هجرية)
العلامة الحسن بن مهدي المقبلي (ت 1108 هجرية)
والحسين أحمد الجلال (ت 804 هجرية).
ومنهم من غير بلده ولم يكونوا في عصره، وعلى رأسهم:


الإمام علي بن حزم الأندلسي (ت 456 هجرية)
شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هجرية



صفاته الخلقية والخُلقية

لم
تذكر كتب التاريخ والتراجم عن صفاته الخلقية سوى أنه كان متوسط الطول، كبير
الرأس، عريض الجبهة، بادي الصحة، موفور العافية. أما صفاته الخُلقية
فكثيرة ومشهورة، حتى ألف في مناقبه وفضائله الكثيرون من تلاميذه، منهم:


السيد العلامة إبراهيم بن عبداللّه الحوثي.
العلامة محمد بن محمد الديلمي.
القاضي العلامة محمد بن حسن الشجني الذماري, ألف في ذلك كتاباً حافلاً سماه: "التقصار في جيد زمن علامة الأقليم والأمصار".
والواضح
في حياة " الشوكاني " أنه بدأ حياته منقبضاً عن الناس، لايتصل بأحد منهم،
إلا في طلب العلم ونشره، ولا سيما هؤلاء الذين يحكمون أو يتصلون بالحاكمين،
وكان يرسل فتاويه، ويصدر أحكامه دون أن يتقاضى عليها أجراً, وكانت حياته
بسيطة متقشفة، يعيش على الكفاف الذي وفره له والده فلما تولى القضاء، وأجزل
له الأجر، تنعم في مأكله ومشربه وملبسه ومركبه، وأضفى على تلاميذه وشيوخه
مما وسع اللّه عليه به, ويذكر بعض المؤرخين أن " الشوكاني " اختص بالكثير
من الإقطاعات والصدقات، وهم يؤكدون أنه لم يترك من ذلك شيئاً، بعد عمل في
القضاء دام أكثر من أربعين عاماً، بل كان ينفق ذلك كله في طرق الخير والبر.
ومن المؤكد ـ كذلك ـ أن الدنيا لم تكن أكبر همه، وأن عرضها الزائل لم يكن
يشغله عن الهدف الأسمى الذي وضعه لنفسه، وهو نشر دين اللّه تعالى وإحقاق
الحق. ولذلك كان يقدر أهل العلم والفضل، الذين لايتكالبون على جمع حطام
الدنيا، والتقرب إلى الحكام.
يذكر
بالتقدير والإجلال ذلك العالم الفاضل: إسماعيل بن علي بن حسن الذي كان يحضر
مجلس الإمام ويقول: لم أسمع منه على طول مدة اجتماعي به هناك مؤذنة
بالخضوع لمطلب من مطالب الدنيا، لا تصريحاً ولا تلويحاً. كان "الشوكاني"
باراً بشيوخه وتلاميذه، فتح أمامهم أبواب العمل في الدوله، ودافع عنهم،
وتشفع لهم عند الأئمة في كل أمر وقعوا فيه. وبالرغم من حدة ذكائه، وجودة
ذهنه، وتشدده لآرائه واجتهاداته، لم يكن يحط من قدر علمه ليدخل في مهاترات
المتعالمين، وكانت قسوته على الأفكار والآراء، لأعلى الأشخاص، لأنه كان
يدرك أنه سبق هذا الجيل بأجيال، فترك ثروته العلمية والفكرية لتتفاعل مع
الزمن، يكشف عن وجهها ما تبديه قرائح العلماء". بالجمله: فمحل القول في هذا
الأمام ذو سعة، فإن وجدت لساناً قائلاً فقل:


زد في العلا مهما تشا رفعة ---وليصنع الحاسد ما يصنع
فالدهر نحوي كما ينبغي ---- يدري الذي يخفض أو يرفع


عقيدته
يرى "
الشوكاني " أن طرق المتكلمين لاتوصل إلى يقين، ولا يمكن أن تصيب الحق فيما
هدفت إليه، لأن معضمها ـ كما يقول ـ قام على أصول ظنية، لا مستند لها إلا
مجرد الدعوى على العقل، والفريه على الفطرة.فكل فريق منهم قد جعل له أصولاً
تخالف ما عليه الآخر، وقد أقام هذه الأصول على ما رآه عنده هو صحيحاً، من
حكم عقله الخاص المبني على نظره القاصر، فبطل عنده ما صح عند غيره، وقاسوا
بهذه الأصول المتعارضه كلام اللّه ورسوله في الإلهيات وما يتصل بها من
العقائد، فأصبح كل منهم يعتقد نقيض ما يعتقده الآخر.
ثم
جعلوا هذه الأصول معياراً لصفات الرب تبارك وتعالى، فأثبتوا للّه الشيء
ونقيضه، ولم ينظروا إلى ما وصف اللّه به نفسه، وما وصفه به رسوله، بل إن
وجدوا ذلك موافقاً لما تعقلوه، جعلوه مؤيداً له ومقوياً، وقالوا: قد ورد
دليل السمع مطابقاً لدليل العقل، وإن وجدوه مخالفاً لما تعقلوه، جعلوه
وارداً على خلاف الأصل ومتشابهاً وغير معقول المعنى، ولا ظاهر الدلاله، ثم
قابلهم المخالف لهم بنقيض قولهم، فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما
تعقله خصمه، وجعل ذلك أصلاً يرد إليه أدلة الكتاب والسنه، وجعل المتشابه
عند أولئك محكماً عنده، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقاً له عنده.
من
مظاهر هذا التناقض: ما وقع فيه المعتزلة من مبدأ نفي الصفات، بناء على
مبدئهم في التنزيه، وما غلا فيه الأشعرية من الوقوع في التجسيم، بناء على
ما ذهبوا إليه من التأويل، والمبالغة في الإثبات.


يقول الشوكاني عن هذه المسائل:
"
وإن كنت تشك في هذا، فراجع كتب الكلام، وانظر المسائل التي قد صارت عند
أهله من المراكز، كمسألة التحسين والتقبيح، وخلق الأفعل، وتكليف مالا يطاق،
ومسألة خلق القرآن، فإنك تجد ما حكيته لك بعينه". لذلك: كان المسلك القويم
في الإلهيات، والإيمان بما جاء فيها، هو مسلك السلف الصالح، من الصحابة
والتابعين، من حمل صفات الباري على ظاهرها، وفهم الآيات والأحاديث على ما
يوحيه المعنى اللغوي العام، وعدم الخوض في تأويلها، والإيمان بها على ذلك،
دون تكلف ولا تعسف، ولا تشبيه ولا تعطيل، وإثبات ما أثبته اللّه ـ تعالى ـ
لنفسه من صفاته، على وجه لا يعلمه إلا هو، فإنه القائل جل شأنه "لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ". فأثبت لنفسه صفة السمع
والبصر، مع نفي المماثلة للحوادث في الوقت نفسه.
الإمام الشوكاني قد اعتنق هذا المبدأ، وجعل عمدته في الدعوة إلى مذهب السلف هاتين الآيتين الكريمتين:


أولهما قوله تعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ".
وثانيهما قوله تعالى: " يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً".
ففيهما
الإثبات والنفي، إثبات صفات الباري ـ جلَّ شأنه ـ ونفي مماثلة هذه الصفات
للحوادث، ثم تقييد هذا الإثبات بظاهر ما صرحت به الآيات وأجملته، والزجر عن
الخوض في كيفية هذه الصفات. سجل الشوكاني آراءه ومذهبه في ثنايا كتبه
المختلفه ولاسيما كتابيه:


"التحف في مذاهب السلف".
"كشف الشبهات عن المشتبهات".
هذا،
وقد اعتنق الشوكاني هذا المذهب بعد طول بحثه ومطالعة في كتب "علم الكلام"
حتى صرح بأنه لم يعتنق مذهب السلف تقليداً وإنما عن اجتهاد واقتناع ولذلك
يقول:
"ولتعلم
أني لم أقل هذا تقليداً لبعض من أرشدك إلى ترك الاشتغال بهذا الفن، كما
وقع لجماعة من محققي العلماء، بل قلت هذا بعد تضييع برهة من العمر في
الاشتغال به، وإحفاء السؤال لمن يعرفه، والأخذ عن المشهورين به، والإكباب
على مطالعة كثير من مختصراته ومطولاته، حتى قلت عند الوقوف على حقيقته
أبياتاً منها:
وغاية ما حصلته من مباحثي *** ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة*** فما علم من يلق غير التحير
على أنني قد خضت منه غماره *** وما قنعت نفسي بدون التبحر


مذهبه الفقهي
تفقه
الشوكاني في أول حياته على مذهب الإمام زيد بن علي بن الحسين وبرع فيه،
وفاق أهل زمانه، حتى خلع ربقة التقليد، وتحلى بمنصب الإجتهاد، فألف كتابه :
" السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار " فلم يقيد نفسه بمذهب الزيدية،
بل صحح ما أداه إليه اجتهاده بالأدلة، وزيف مالم يقم عليه الدليل، فثار
عليه أهل مذهبه، من الزيدية، المتعصبون لمذهبهم في الأصول والفروع، فكان
يقارعهم بالدليل من الكتاب والسنة، وكلما زادوا ثورة عليه زاد تمسكه
بمسلكه، حتى ألف رسالة سماها: " القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد "
ذهب فيه إلى ذم التقليد وتحريمه، فزاد هذا في تعصبهم عليه، حتى رموه بأنه
يريد هدم مذهب آل البيت، فقامت ـ بسبب هذا ـ فتنة في " صنعاء " بين خصومه
وأنصاره، فرد عليهم بأنه يقف موقفاً واحداً من جميع المذاهب، ولا يخص مذهب
الزيدية بتحريم التقليد فيه.
هكذا
اختار " الشوكاني " لنفسه مذهباً لا يتقيد فيه برأي معين من آراء العلماء
السابقين، بل على حسب ما يؤديه إليه اجتهاده، وهذا ما يلحظه القارئ لكتابه "
نيل الأوطار " حيث ينقل آراء ومذاهب علماء الأمصار، وآراء الصحابة
والتابعين، وحجة كل واحد منهم، ثم يختم ذلك ببيان رأيه الخاص، مختاراً ما
هو راجح فيما يقول.
يرى أن
الاجتهاد قد يسره الله تعالى للمتأخرىن، وأنه أصبح ميسوراً أكثر مما كان
في الصدر الأول فيقول: "... فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم، أن الاجتهاد
قد يسره الله للمتأخرين، تيسيراً لم يكن للسابقين؛ لأن التفاسير للكتاب
العزيز قد دونت، وصارت من الكثرة إلى حد لا يمكن حصره، وكذلك السنة
المطهرة، وتكلم الأئمة في التفسير، والتجريح والتصحيح، والترجيح، بما هو
زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد، وقد كان السلف الصالح، ومن قبل هؤلاء
المنكرين يرحل للحديث الواحد، ومن قطر إلى قطر، فالاجتهاد على المتأخرين
أيسر وأسهل من الاجنهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح،
وعقل سوي ".



الشوكاني وأهل الظاهر

الإمام
الجليل الشوكاني ـ إن لم يكن ظاهرياً فهو من المتعاطفين مع أهل الظاهر
فكان كثير النقل لمذهب أهل الظاهر، بل كان كثير التنديد بمعارضي أهل
الظاهر.


قال عن أثير الدين بن حيان صاحب تفسير البحر المحيط:
"
وكان ظاهرياً وبعد ذلك انتمى إلى الشافعي وكان أبو البقاء يقول: إنه لم
يزل ظاهرياً. قال الإمام ابن حجر كان أبو حيان يقول: محال أن يرجع عن مذهب
الظاهر من علق بذهنه انتهى. ولقد صدق في مقاله فمذهب الظاهر هو أول الفكر
وآخر العمل عند من منح الإنصاف ولم يرد على فطرته ما يغيرها عن أصلها وليس
هو مذهب داود الظاهري وأتباعه بل هو مذهب أكابر العلماء المتقيدين بنصوص
الشرع من عصر الصحابة إلى الآن وداود واحد منهم وإنما اشتهر عنه الجمود في
مسائل وقف فيها على الظاهر حيث لا ينبغي الوقوف وأهمل من أنواع القياس ما
لا ينبغي لمنصف إهماله. وبالجملة فمذهب الظاهر هو العمل بظاهر الكتاب
والسنة بجميع الدلالات وطرح التعويل على محض الرأي الذي لا يرجع إليهما
بوجه من وجوه الدلالة.
أنت
إذا امعنت النظر في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة وجدتها من
مذهب الظاهر بعينه بل إذا رزقت الإنصاف وعرفت العلوم والاجتهاد كما ينبغي
ونظرت في علوم الكتاب والسنة حق النظر كنت ظاهرياً أي عاملاً بظاهر الشرع
منسوباً إليه لا إلى داود الظاهري فإن نسبتك ونسبته إلى الظاهر متفقة وهذه
النسبة هي مساوية للنسبة إلى الإيمان والإسلام وإلى خاتم الرسل عليه أفضل
الصلوات والتسليم. وإلى مذهب الظاهر بالمعنى الذي أوضحناه أشار ابن حزم
بقوله.


وما أنا إلا ظاهري وإنني ---على ما بدا حتى يقوم الدليل.
وقال
عن السواك: " قال النووي: وقد أنكر أصحابنا المتأخرون على الشيخ أبي حامد
وغيره نقل الوجوب عن داود وقالوا: مذهبه أنه سنة كالجماعة، ولو صح إيجابه
عن داود لم يضر مخالفته في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه المحققون
الأكثر. قال وأما إسحاق فلم يصح هذا المحكي عنه انتهى. وعدم الاعتداد بخلاف
داود مع علمه وورعه، وأخذ جماعة من الأئمة الكبار بمذهبه من التعصبات التي
لا مستند لها إلا مجرد الهوى والعصبية، وقد كثر هذا الجنس في أهل المذاهب،
وما أدري ما هو البرهان الذي قام لهؤلاء المحققين حتى أخرجوه من دائرة
علماء المسلمين، فإن كان لما وقع منه من المقالات المستبعدة فهي بالنسبة
إلى مقالات غيره المؤسسة على محض الرأي المضادة لصريح الرواية في حيز القلة
المتبالغة، فإن التعويل على الرأي وعدم الاعتناء بعلم الأدلة قد أفضى بقوم
إلى التمذهب بمذاهب لا يوافق الشريعة منها إلا القليل النادر، وأما داود
فما في مذهبه من البدع التي أوقعه فيها تمسكه بالظاهر وجموده عليه هي في
غاية الندرة، ولكن: لهوى النفوس سريرة لا تعلم.


قال
أبوعبدالرحمن : وقد ناقش الإمام الشوكاني في كتابه النافع "إرشاد الفحول"
(ص 340-348) أدلة مثبتي القياس، ثم ختم بحثه بقوله: "وإذا عرفت ما حرّرناه
وتقرر لديك جميع ما قرّرناه فاعلم أن القياس المأخوذ به هو ما وقع النص على
علته وما قطع فيه بنفي الفارق وما كان من باب فحوى الخطاب أو لحن الخطاب
على اصطلاح من يسمي ذلك قياساً وقد قدمنا أنه من مفهوم الموافقة.
ثم
اعلم أن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياساً وإن كان منصوصاً
على علته أو مقطوعاً فيه بنفي الفارق بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولاً
عليه بدليل الأصل مشمولاً به مندرجاً تحته وبهذا يهون عليك الخطب ويصغر
عندك ما استعظموه ويقرب لديك ما بعدوه، لأن الخلاف في هذا النوع الخاص صار
لفظياً وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به والعمل عليه واختلاف طريقة
العمل لا يستلزم الاختلاف المعنوي لا عقلاً ولا شرعاً ولا عرفاً. وقد قدمنا
لك أن ما جاءوا به من الأدلة العقلية لا تقوم الحجة بشيء منها ولا تستحق
تطويل ذيول البحث بذكرها. وبيان ذلك أن أنهض ما قالوه في ذلك أن النصوص لا
تفي بالأحكام فإنها متناهية والحوادث غير متناهية. ويجاب عن هذا بما قدمنا
من أخباره عز وجل لهذه الأمة بأنه قد أكمل لها دينها وبما أخبرها رسوله صلى
الله عليه وآله وسلم من أنه قد تركها على الواضحة التي ليلها كنهارها.
ثم لا
يخفى على ذي لب صحيح وفهم صالح أن في عمومات الكتاب والسنة ومطلقاتهما
وخصوص نصوصهما ما يفي بكل حادثة تحدث ويقوم ببيان كل نازلة تنزل عرف ذلك من
عرفه وجهله من جهله.


وقال
الإمام الشوكاني ـ ـ جواباً على قول الجويني : المحققون لا يقيمون لخلاف
الظاهرية وزناً، لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد ولا تفي النصوص بعشر
معشارها.
ويجاب
عنه بأن من عرف نصوص الشريعة حق معرفتها وتدبر آيات الكتاب العزيز وتوسع
في الإطلاع على السنة المطهرة علم أن نصوص الشريعة جمع حمّ ولا عيب لهم إلا
ترك العمل بالآراء الفاسدة التي لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا قياس مقبول
* وتلك شكاة ظاهر عنك عارها * نعم قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك
الجمود عليها، ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذاهب غيرهم من العمل بما لا
دليل عليه البتة قليلة جداً. وقال في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه
" البدر الطالع " (1/ 64): " وأقول : أنا لا أعلم بعد ابن حزم مثله، وما
أظنه سمح الزمان ما بين عصر الرجلين بمن شابههما أو يقاربهما ". وقال في
كتابه العظيم " نيل الأوطار " (5/ 84): " واعلم أنه ليس في الباب من
المرفوع ما تقوم به الحجة فمن لم يقبل المرسل ولا رأى حجية أقوال الصحابة
فهو في سعة عن التزام هذه الأحكام وله في ذلك سلف صالح كداود الظاهري ".




مكانته العلمية

إن
واحداً كالإمام الشوكاني، صاحب التصانيف المختلفة، والآثار النافعة ليتحدث
عن نفسه بهذه الآثار، وقديماً قيل: تلك آثارنا تدل علينا *** فاسألوا بعدنا
عن الآثار.


هكذا وصفه أحد تلاميذه العلامة: حسين بن محسن السبعي الأنصاري اليماني.
فهو
بحق إمام الأئمة، ومفتي الأئمة، بحر العلوم، وشمس الفهوم، سند المجتهدين
الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، نادرة الدهر، شيخ الإسلام،
علامة الزمان، ترجمان الحديث والقرآن، علم الزهاد، أوحد العباد، قامع
المبتدعين، رأس الموحدين، تاج المتبعين، صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى
مثلها، قاضي قضاة أهل السنة والجماعة، شيخ الرواية والسماع، علي الإسناد،
السابق في ميدان الاجتهاد، على الأكابر الأمجاد، المطلع على حقائق الشريعة
ومواردها، العارف بغوامضها ومقاصدها.


وقال عنه العلامة حسن بن أحمد البهكلي في كتابه " الخسرواني في أخبار أعيان المخلاف السليماني ":
"
السنة الخمسون بعد المائتين والألف، وفيها في شهر جمادى الآخرة كانت وفاة
شيخنا " محمد بن علي الشوكاني" وهو قاضي الجماعة، شيخ الإسلام، المحقق
العلامة الإمام، سلطان العلماء، إمام الدنيا، خاتمة الحفاظ بلا مراء، الحجة
النقاد، علي الإسناد، السابق في ميدان الاجتهاد ". ثم قال: " وعلى الجملة:
فما رأى مثل نفسه، ولا رأى من رآه مثله علماً وورعاً، وقياماً بالحق، بقوة
جنان، وسلاطة لسان ".


وقال عنه العلامة: صديق حسن خان:
"...
أحرز جميع المعارف، واتفق على تحقيقه المخالف والمؤالف وصار المشار إليه
في علوم الاجتهاد بالبنان، والمجلي في معرفة غوامض الشريعة عند الرهان. له
المؤلفات الجليلة الممتعة المفيدة النافعة في أغلب العلوم، منها : " نيل
الأوطار " شرح منتقى الأخبار لا بن تيمية، لم تكتحل عين الزمان بمثله في
التحقيق، ولم يسمح الدهر بنحوه في التدقيق، أعطى المسائل حقها في كل بحث
على طريق الإنصاف، وعدم التقيد بالتقليد ومذهب الأخلاف والأسلاف، وتناقله
عنه مشايخه الكرام فمن دونهم من الأعلام، وطار في الآفاق في زمن حياته،
وقرئ عليه مراراً، وانتفع به العلماء".


وقال عنه العلامة عبد الحي الكتاني:
"
هو الإمام خاتمة محدثي المشرق وأثريه، العلامة النظار الجهبذ القاضي محمد
بن علي الشوكاني ثم الصنعاني... وقد كان الشوكاني المذكور شامة في وجه
القرن المنصرم، وغرة في جبين الدهر، انتهج من مناهج العلم ما عميَ على كثير
ممن قبله، وأوتي فيه من طلاقة القلم والزعامة مالم ينطق به قلم غيره، فهو
من مفاخر اليمن بل العرب، وناهيك في ترجمته يقول الوجيه عبد الرحمن الأهدل
من " النفس اليماني " لما ترجم شيخهما عبد القادر الكركباني : " وممن تخرج
بسيدي الإمام عبد القادر بن أحمد. ونشر علومه الزاهرة، وانتسب إليه وعوّل
في الاقتداء في سلوك منهاج الحق عليه. إمام عصرنا في سائر العلوم. وخطيب
دهرنا في إيضاح دقائق المنطوق والمفهوم، الحافظ المسند الحجة، الهادي في
إيضاح السنن النبوي إلى المحجة، عز الإسلام محمد بن علي الشوكاني:


إن هزَّ أقلامَهُ يوماً ليعملها *** أنساك كلَّ كميٍّ هزَّ عاملَهُ
وإن أقرَّ على رَقٍّ أناملَــهُ *** أقرَّ بالرِقّ كُتّاب الأنام لهُ
فإن
هذا المذكور من أخص الآخذين عن شيخنا الإمام عبد القادر. وقد منح الله هذا
الإمام ثلاثة أمور لا أعلم أنها في هذا الزمن الأخير جمعت لغيره :


الأول: سعة التبحر في العلوم على اختلاف أجناسها وأنواعها
الثاني: كثرة التلاميذ المحققين أولي الأفهام الخارقة الحقيق أن ينشد عند جمعهم الغفير :
إني إذا حضرتني ألفُ محبرةٍ *** نقولُ أخبرني هذا وحدثني
صاحتْ بعقوتها الأقلامُ قائلةً *** " هذي المكارمُ لا قعبانِ من لبنِ "
الثالث:
سعة التآليف المحررة، ثم عدد معظمها كالتفسير ونيل الأوطار وإرشاد الفحول
والسيل الجرار، ثم نقل أن مؤلفاته الآن بلغت مائة وأربعة عشر تأليفاً مما
قد شاع ووقع في الأمصار الشاسعة الانتفاع بها فضلاً عن القريبة، ثم أنشد:
كلّنا عالمٌ بأنك فينا *** نعمةٌ ساعدتْ بها الأقدارُ
فوَقَتْ نفسَكَ النفوسُ من الشرّ *** وزيدتْ في عمرك الأعمار "
ثم أشار إلى من أفرد ترجمته بالتأليف... ".
وقال
عنه إبراهيم بن عبد الله الحوثي: " زعيم ارباب التأويل سمع وصنف وأطرب
الأسماع بالفتوى وشنف، وحجث وأفاد، وطارت أوراق فتاويه في البلاد، واشتهر
بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رياسة العلم في الحديث والتفسير والأصول
والفروع والتاريخ ومعرفة الرجال وحال الأسانيد في تحصيل العوالي وتمييز
العالي من النازل وغير ذلك".
وقال
فيه لطف بن أحمد جحاف: " احفظ من ادركناه لمتون الحديث وأعرفهم بجرحها
ورجالها وصحيحها وسقيمها وكان شيوخه وأقرانه يعترفون له بذلك ".
وقال
عنه كحاله: " مفسر محدث، فقيه أصولي مؤرخ أديب نحوي منطقي متكلم حكيم صارت
تصانيفه في البلاد في حياته وانتفع الناس بها بعد وفاته، وتفسيره "فتح
القدير" و" نيل الأوطار " في الحديث من خير ما أخرج للناس كما يلاحظ أن
الشوكاني يدخل في المناقشات الفقهية ويذكر أقوال العلماء وأدلتهم في تفسير
كل آية تتعلق بالأحكام".
وقال
عنه الأستاذ الفاضل محمد سعيد البَدْري: " واعلم ـ هدانا الله وإياك ـ أن
لهذا الرجل خصائص قلَّ أن تجدها في غيره من العلماء وهي : سعة العلم
والتحرر من التقليد بالاجتهاد والتمسك الفعلي بالكتاب والسنة وتقديمهما على
ما سواهما كائناً من كان (وهذه سمة المجتهدين دون المقلدين) والانصاف من
الخصوم.
والحق
أن هذه الخصائص لمسناها في كثير من كتبه وبالأخص هذا الكتاب ـ يقصد إرشاد
الفحول ـ ولذا فأنا أعده من أئمة المجتهدين حتى وإن خالفته في بعض المسائل،
تعالى ".
وقال
عنه الدكتور محمد حسن بن أحمد الغماري: " كان محمد بن علي الشوكاني على
مبلغ عظيم من العلم شهد له بذلك علماء عصره ومن أتى بعده بسعة علمه وغزارة
مادته في مختلف الفنون، وامتدحه الناس شعراً ونثراً وكاتبه الملوك والعلماء
من مختلف الأقاليم وألف في شتى العلوم في التفسير والحديث وعلومهما والفقه
والنحو والمنطق والتاريخ والأصول والأدب وله الشعر الرائق والنثر البليغ،
صارت مؤلفاته منتجع العلماء وسار بها الركبان في حياته، وانتفع بها الناس
بعد وفاته.
ألف "
نيل الأوطار " فأبدع وأودع فيه الفرائد، وصنف تفسيره العظيم فكان جامعاً
لما تفرق في غيره وترجم لأعيان من بعد القرن السابع فأتى بالعجب العجاب
وأنه ليعجب الناظر كيف تهيىء له أن يلم بتراجم أعيان ستة قرون كأنه عاش
معهم مع أن الكثير منهم لم يكونوا من أبناء اليمن الذي عاش الشوكاني فيه
ترجم لكل واحد منهم بانصاف ونزاهة.
ألف في
الفقه " الدراري المضيئة " فأبدع فيه وأحسن وألف " السيل الجرار " الذي لم
تخط بنات الأفكار بمثله أقام الدليل وزيف الرأي المحض وألف " الفوائد
المجموعة في الأحاديث الموضوعة " واستدرك على ابن الجوزي والسيوطي وابن
عراق كثيراً مما فاتهم ونبه على أوهامهم في الحكم على بعض الأحاديث بالوضع.
أما
أصول الدين فهو فارس ميدانها وحامل مشعلها فقد حارب الشرك والبدع وأبلى في
سبيل العقيدة الإسلامية بلاء حسناً اقتداء بالأنبياء والمرسلين والدعاة
المخلصين فلقي من الناس العنت والأود وناصبوه العداء ورموه عن قوس واحدة...
".
قال عنه خير الدين الزِرِكْلي: " فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، من أهل صنعاء... وكان يرى تحريم التقليد ".



[توليه القضاء]

في عام 1209 من هجرة المصطفى توفي
كبير قضاة اليمن، القاضي يحيى بن صالح الشجري السحولي، وكان مرجعَ العامة
والخاصة، وعليه المعوَّل في الرأي والأحكام، ومستشار الإمام والوزارة.
قال الشوكاني:
" وكنتُ إذ ذاك مشتغلاً بالتدريس
في علوم الاجتهاد والإفتاء والتصنيف منجمعاً عن الناس لا سيما أهل الأمر
وأرباب الدولة، فإني لا أتَّصِل بأحدٍ منهم كائنًا من كان، ولم يكن لي رغبة
في غير العلوم... فلم أشعر إلا بِطلابٍ لي من الخليفة بعد موت القاضي
المذكور بنحو أسبوع، فعزمتُ إلى مقامه العالي، فذكر لي أنه قد رجح قيامي
مقام القاضي المذكور، فاعتذرتُ له بما كنت فيه من الاشتغال بالعلم، فقال :
القيام بالأمرين ممكنٌ، وليس المراد إلا القيام بفَصْل ما يصل من الخصومات
إلى ديوانه العالي في يَوْمَي اجتماع الحكام فيه. فقلت : سيقع مني
الاستخارة لله والاستشارة لأهل الفضل، وما اختاره الله ففيه الخير. فلمَّا
فارقته ما زلتُ مُتردِّدٍا نحو أسبوع، ولكنَّه وفد إليَّ غالبُ مَنْ ينتسب
إلى العلم في مدينة صنعاء، وأجمعوا على أن الإجابة واجبة، وأنهم يخشوْن أن
يدخل في هذا المنصب ـ الذي إليه مرجِعُ الأحكام الشرعية في جميع الأقطار
اليمنية ـ مَنْ لا يُوثَقُ بدينه وعلمه. فقبلتُ مستعيناً بالله ومتّكلاً
عليه. وأسأل الله بحَوْلِه وطوْله أن يرشدني إلى مراضيه، ويحول بيني وبين
معاصيه، وييسِّر لي الخير حيث كان، ويدفع عني الشر،
ويُقيمني في مقام العَدْل، ويختار لي ما فيه الخير في الدين والدنيا ".
قلتُ: وربَّما أن الشوكاني رأى في منصب القضاء فرصةً لنَشْر السُّنَّة وإماتة البدعة، والدعوة إلى طريق السلف الصالح.
كما أن منصب القضاء سيصدُّ عنه كثيراً من التيارات المعادية له، ويسمح لأتباعه بنَشْر آرائه السديدة، وطريقته المستقيمة.
" والأئمة الثلاثة الذين تولى الشوكاني القضاء الأكبر لهم، ولم يُعزل حتى واتته المنية هم:
1ـ المنصور علي بن المهدي عباس، ولد سنة 1151 هـ، وتوفي سنة 1224 هـ. ومدة خلافته 25 سنة.
2ـ ابنه المتوكل علي بن أحمد بن المنصور علي، ولد سنة 1170 هـ، وتوفي سنة 1231 هـ. ومدة خلافته نحو 7 سنوات.
3ـ المهدي عبد الله، ولد سنة 1208 هـ، وتوفي 1251 هـ، ومدة خلافته 20 سنة ".
قلتُ : كان تولِّي الشوكاني القضاء
كسباً كبيراً للحقِّ، فقد أقام سوق العدالة بيِّنًا، وأنصف المظلوم من
الظالم، وأبعد الرشوةَ، وخفَّف من غُلَوَاء التَّعصب، ودعا الناس إلى
اتِّباع القرآن والسنة.
إلا أن هذا المنصب قد منعه من التحقيق العلمي، يظهر ذلك إذا ما تتبَّع المرءُ مؤلفاته قبل تولِّيه القضاء وبعده، يجد الفَرْق واضحًا




شيوخه

كان
الشوكاني طلعة يبحث عن العلم والمعرفة في المظان المختلفة، ويتنقل بين
المشايخ بحثاً عن المعرفة، الأمر الذي يجعل البحث عن كل شيوخه عسيراً، وسوف
نكتفي هنا بذكر بعض مشايخه المشهورين، فمنهم: 1ـ والده : علي بن محمد بن
عبد الله بن الحسن الشوكاني المتوفى سنة 1211. فقد تولى ولده بالعناية
والرعاية منذ الطفولة، فحفظه القرآن وجوده له، كما حفظه عدداً من المتون
ومبادئ العلوم المختلفة، قبل أن يبدأ طلب العلم على غير والده من علماء
عصره، وكان لهذه العناية المبكرة أثرها البارز في بناء شخصية الشوكاني. 2ـ
أحمد بن محمد بن أحمد بن مطهر القابلي (1158 ـ 1227 ه). قال الشوكاني في
ترجمته: " وقد لازمتُه في الفروع نحو ثلاث عشر سنة، وانتفعتُ به، وتخرَّجت
عليه، وقرأت عليه في: " الأزهار " و" شرحه " و" حواشيه " ثلاث دفعات :
الدفعتين الأوليين اقتصرنا على ما تدعو إليه الحاجة، والدفعة الثالثة
استكملنا الدَّقيق والجَّليل من ذلك مع بحثٍ وتحقيق، ثم قرأت عليه "
الفرائض " للعصيفري، و" شرجها " للنَّاظري، وما عليه من الحواشي، وقرأتُ
عليه " بيان ابن مظفر " و" حواشيه "، وكانت هذه القراءة بحثٍ وإتقانٍ
وتحرير وتقرير". 3ـ أحمد بن عامر الحدائي (1127ـ 1197ه = 1715 ـ 1783م),
قرأ عليه: "الأزهار" و"شرحه" مرتين، و" الفرئض " مرتين. 4ـ أحمد بن محمد
الحرازي المولود سنة 1158ه والمتوفي سنة 1227ه، تلقى عليه الشوكاني الفقه
والفرائض، وظل ملازماً له ثلاث عشر سنة. 5ـ إسماعيل بن الحسن المهدي بن
أحمد ابن الإمام القاسم بن محمد (1120ـ 1206ه). قرأ عليه : " ملحة الإعراب "
للحريري، وشرحها المعروف ب " شرح بحرق "، وفي علم الصرف، والمعاني،
والبيان، والأموال. 6ـ الحسن بن إسماعيل المغربي (1140ـ 1208ه)، قرأ عليه :
بعض " الرسالة الشمسيَّة " للقطب، و" حاشيته " للشريف، وفي " المطول " و"
حواشيه "، وأكمل لديه دراسة " شرح الغاية "، و" حاشيته " لسيلان، و" العضد
"، و"شرحه على المختصر"، و"حاشية السعد"، وما تدعو إليه الحاجة من سائر
الحواشي، وسمع عليه " شرح بلوغ المرام " لجده، وفاته بعض أوله، وبعض " صحيح
مسلم "، و" شرحه " للنووي، وبعض " تنقيح الأنظار " في علوم الحديث، وسمع
عليه جميع " سنن أبي داود"، و" تخريجها" للمنذري، وبعض شرح " المعالم "
للخطابي، وبعض " شرح ابن رسلان ". 7ـ صديق علي المزجاجي الحنفي المولود سنة
1150ه والمتوفي سنة 1209ه، شيخ الشوكاني بالاجازة في الحديث وغيره. 8ـ عبد
الرحمن بن حسن الأكوع (1135ـ 1207ه = 1724 ـ 17772م)، قرأ عليه أوائل
"الشفاء" للأمير الحسين، كتاب في الحديث. 9ـ عبد الرحمن بن قاسم المداني
(1121ـ 1211ه = 1709 ـ 1796م)، قرأ عليه " شرح الأزهار " في أوائل طلبه
للعلم، وباحثه بمباحث علميَّة فقهييَّة دقيقة. 10ـ عبد القادر بن أحمد شرف
الدين الكوكباني المولود سنة 1135ه والمتوفي سنة 1207ه، قرأ عليه الشوكاني
العديد من العلوم مثل: علم التفسير، والحديث، والمصطلح، وغير ذلك من الفنون
المختلفة، وكان حجة في سائر العلوم، ومجتهداً مطلقاً، كما يقول الشوكاني
عنه. 11ـ عبد الله بن إسماعيل النهمي المولود سنة 1150ه والمتوفي سنة
1228ه، قرأ عليه الشوكاني النحو، والصرف، والمنطق، والحديث، والأصول، وغير
ذلك. 12ـ عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي ابن الإمام المتوكل على
الله إسماعيل بن القاسم (1165 ـ 1210ه)، أخذ عنه في أوائل طلبه للعلم "
شرح الجامي " من أوله إلى آخره. 13ـ علي بن أبراهيم بن علي بن عامر الشهيد،
المولود سنة 1140ه والمتوفي سنة 1207ه، سمع عليه " صحيح البخاري " من
أوَّله إلى آخره. قال عنه الشوكاني : كان إماماً في جميع العلوم محققاً لكل
فن ذا سكينة ووقار قل أن يوجد له نظير. 14ـ علي بن هادي عرهب (1164 ـ
1236ه). 15ـ القاسم بن يحيى الخولاني (1162ـ 1209ه = 1714 ـ 1794م)، قرأ
عليه : " الكافية "، و" شرحها " للسيد المفتي، و"شرح الخبيصي على الكافية"،
و"حواشيه"، و"شرح الرضى على الكافية"، وبقي منه بقية يسيرة، و"الشافية "،
و" شرحها " للطف الله الغياث، و"السعد" و" شرحه"، و"شرح الجامي " من أوله
إلى آخره. 16ـ هادي بن حسن القارني ولد سنة 1164ه وتوفي سنة 1247ه، أخذ عنه
القراءات والعربية ثم أخذ عنه في " شرح المنتقى " وغيره. 17ـ يحيى بن محمد
الحوثي (1160ـ 1247ه = 1747ـ 1831م), أخذ عنه الفرائض، والحساب، والضرب،
والمساحة. 18ـ يوسف بن محمد بن علاء المزجاجي (1140ـ 1213ه)، سمع منه،
وأجازه لفظاً بجميع ما يجوز له روايته، وكتب إليه إجازة بعد وصوله إلى
وطنه، ومن جملة ما يرويه عنه : أسانيد الشيخ الحافظ إبراهيم الكردي، وهو
يرويها عن أبيه عن جده بطريقة السَّماع.


تلاميذه
إن
واحداً كالإمام " الشوكاني " جمع من العلوم ما جمع، وأحاط بالمعقول منها
والمنقول، وبرز في شتى المعارف، وأضاف إليها الكثير، بالنظر الثاقب، والفكر
المستنير، وألف العديد من الكتب، لا بد وأن يكون قد تخرج على يديه
الكثيرون واستفاد منه العامة والخاصة.
ومن أشهر تلاميذه:

ابنه أحمد بن محمد بن علي الشوكاني ولد سنة 1229ه، وانتفع بعلم والده
وبمؤلفاته، حتى حاز من العلوم السهم الوافر، وانتفع به عدة من الأكابر،
تولى القضاء بمدينة " صنعاء " وله مؤلفات وكان من أكابر علماء اليمن بعد
والده توفي ـ تعالى ـ سنة 1281ه.
2ـ محمد بن أحمد السودي، ولد سنة 1178ه، لازم الإمام " الشوكاني " من بداية طلبه للعلم، حتى مدحه الشوكاني بقوله:
أعز المعالي أنت للدهر زينة *** وأنت على رغم الحواسد ماجده.
توفي سنة 1236ه.

محمد بن أحمد مشحم الصعدي الصنعاني، ولد سنة 1186ه وتولى القضاء في " صنعاء
" وغيرها، وأثنى عليه " الشوكاني " كثيراً، وتوفي سنة 1223ه.

أحمد بن علي بن محسن، ابن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم. ولد
سنة 1150ه واشتغل بطلب العلم، بعد أن قارب الخمسين، ولازم الإمام "
الشوكاني " نحو عشر سنين توفي سنة 1223ه.
5ـ محمد بن محمد بن هاشم بن يحيى الشامي، ثم الصنعاني، ولد سنة 1178ه وتوفي سنة 1251ه.
6ـ عبد الرحمن بن أحمد البهكلي الضمدي الصبيائي، ولد سنة 1180ه
وتلقى على الشوكاني وغيره، ولكنه كان من أوفى تلاميذ " الشوكاني " ومن الملازمين له، توفي سنة 1227ه.
7ـ أحمد بن عبد الله الضمدي.
أخذ عن
الإمام " الشوكاني " وغيره، ولكن صلته بالشوكاني كانت أكثر، حتى صار
المرجع إليه في التدريس والإفتاء في " ضمد " وما حولها، وله أسئلة عديدة
إلى شيخه " الشوكاني " أجاب له عنها في رسالة سماها " العقد المنضد في جيد
مسائل علامة ضمد "، توفي سنة 1222ه.
8ـ علي بن أحمد بن هاجر الصنعاني، ولد في حدود سنة 1180ه وتبحر في العلوم النقلية
والعقلية،

سلسلة فضائل خال المؤمنين معاوية وتفنيد الشبة حوله العدد 4

إِنَ الحَمدَ لله نَحْمَدَه وُنَسْتعِينَ بهْ ونَسْتغفرَه ، ونَعوُذُ بالله مِنْ شِروُر أنْفْسِنا ومِن سَيئاتِ أعْمَالِنا ،

مَنْ يُهدِه الله فلا مُضِل لَه ، ومَنْ يُضلِل فَلا هَادى له ، وأشهَدُ أنَ لا إله إلا الله وَحْده لا شريك له ،

 وأشهد أن مُحَمَداً عَبدُه وَرَسُوُله .. اللهم صَلِّ وسَلِم وبَارِك عَلى عَبدِك ورَسُولك مُحَمَد وعَلى آله وصَحْبِه أجْمَعينْ ،

ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحْسَان إلى يَوُمِ الدِينْ وسَلِم تسْليمَاً كَثيراً ..

أمْا بَعد ...




شبهة أن معاوية أمر سعد " وحديث أن من سب علي فقد سب الله
هذا الحديث لا يفيد أن معاوية أمر سعداً بسبِّ عليّ ، و لكنه كما هو ظاهر فإن معاوية أراد أن يستفسر عن المانع من سب عليّ ، فأجابه سعداً عن السبب و لم نعلم أن معاوية عندما سمع رد سعد غضب منه و لا عاقبه ، و سكوت معاوية هو تصويب لرأي سعد ، و لو كان معاوية ظالماً يجبر الناس على سب عليّ كما ، لما سكت على سعد و لأجبره على سبّه ، و لكن لم يحدث من ذلك شيءٌ فعلم أنه لم يؤمر بسبّه ولا رضي بذلك ، و يقول النووي ( قول معاوية هذا ، ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه ، و إنما سأله عن السبب المانع له من السب ، كأنه يقول هل امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك . فإن كان تورعـاً و إجـلالاً له عن السب ، فأنت مصيب محسن ، و إن كان غير ذلك ، فله جـواب آخـر ، و لعل سعداً قد كان في طائفة يسبّون ، فلم يسب معهم ، و عجز عن الإنكار و أنكر عليهم فسأله هذا السؤال . قالوا : و يحتمل تأويلاً آخر أن معناه ما منعك أن تخطئه في رأيه و اجتهاده ، و تظهر للناس حسن رأينا و اجتهادنا و أنه أخطأ )
و الذى يدل على أن معاوية لم يتخذ سب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ديناً يتقرب به إلى الله ما وضحه الشيخ خالد العسقلانى و سنذكره على هيئة نقاط حتى تتضح الأمور أكثر للجميع
أ - عدم غضب معاوية من رد سعد فلو كان رد سعد أغضب معاوية لرد عليه معاوية رداً انفعالياً
ب - كذلك لم يعاقب معاوية سعد على عدم سبه لعلى رضي الله عن الجميع و لشك فيه انه من أنصار على رضي الله عنه و هذا يدل على عدم تدين معاوية بسب علي و عدم إلزامه للناس بسب على رضي الله عنه
ج - سكوت معاوية على رد سعد لدليل على تقواه و انصياعه للحق و قبول للحق الذي تفوه به سعد
2- جاء فى كتب الرافضة ما يدل على توقير معاوية رضي الله عنه لآل البيت و حبه لهم رضي الله عنهم
أ- فقد روى الصدوق فى الأمالى فعن بهجة بنت الحارث بن عبداللّه التغلبي , عن خالها عبداللّه بن منصور وكان رضيعا لبعض ولد زيد بن علي (عليه السلام ), قال : سالت جعفر بن محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام ), فقلت : حدثني عن مقتل ابن رسـول اللّه (صـلى اللّه عليه وآله ) فقال : حدثني أبى , عن أبيه , قال : لما حضرت معاوية الوفاة دعا ابـنه يزيد (....) فأجلسه بين يديه , فقال له : يا بني , أنى قد ذللت لك الرقاب الصعاب , ووطدت لك البلاد , وجعلت الملك وما فيه لك طعمة , و أني أخشى عليك من ثلاثة نفر يخالفون عليك بجهدهم , وهـم : عبداللّه بن عمر بن الخطاب , و عبداللّه بن الزبير, والحسين بن علي , فأما عبداللّه بن عمر فهو معك فالزمه ولا تدعه , و أما عبداللّه بن الزبير فقطعه إن ظفرت به إرباً إرباً , فانه يجثو لك كما يـجثو الأسد لفريسته , و يواربك مواربة الثعلب للكلب , وأما الحسين فقد عرفت حظه من رسول اللّه , وهو من لحم رسول اللّه ودمه , وقد علمت لا محالة أن أهل العراق سيخرجونه إليهم ثم يـخـذلونه ويضيعونه , فان ظفرت به فاعرف حقه ومنزلته من رسول اللّه , و لا تؤاخذه بفعله , ومع ذلك فان لنا به خلطة و رحماً, وإياك أن تناله بسوء , أو يرى منك مكروها " الأمالى للصدوق المجلس رقم 30
و الشاهد قول معاوية " وأما الحسين فقد عرفت حظه من رسول اللّه , وهو من لحم رسول اللّه ودمه , وقد علمت لا محالة أن أهل العراق سيخرجونه إليهم ثم يـخـذلونه ويضيعونه , فان ظفرت به فاعرف حقه ومنزلته من رسول اللّه , و لا تؤاخذه بفعله , ومع ذلك فان لنا به خلطة و رحماً, وإياك أن تناله بسوء , أو يرى منك مكروها " و هذا دليل على حبه لآل البيت رضي الله عنهم و وصيته بهم لابنه يزيد مع ملاحظة أن هذه الوصية كانت أخر ما تكلم به معاوية رضي الله عنه و هو على فراش الموت
ب- و روى الصدوق أيضاً فى أماليه " فعن الأصبغ بن نباتة قال دخل ضرار بن ضمرة النهشلي على معاوية بن أبي سفيان قال له صف لي علياً (عليه السلام) قال أو تعفيني فقال لا بل صفه لي فقال له ضرار رحم الله علياً كان و الله فينا كأحدنا يدنينا إذا أتيناه و يجيبنا إذا سألناه و يقربنا إذا زرناه لا يغلق له دوننا باب و لا يحجبنا عنه حاجب و نحن و الله مع تقريبه لنا و قربه منا لا نكلمه لهيبته و لا نبتديه لعظمته فإذا تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم فقال معاوية زدني من صفته فقال ضرار رحم الله علياً كان و الله طويل السهاد قليل الرقاد يتلو كتاب الله آناء الليل و أطراف النهار و يجود لله بمهجته و يبوء إليه بعبرته لا تغلق له الستور و لا يدخر عنا البدور و لا يستلين الإتكاء و لا يستخشن الجفاء و لو رأيته إذ مثل في محرابه و قد أرخى الليل سدوله و غارت نجومه و هو قابض على لحيته يتململ تململ السليم و يبكي بكاء الحزين و هو يقول يا دنيا إلي تعرضت أم إلي تشوقت هيهات هيهات لا حاجة لي فيك أبنتك ثلاثا لا رجعة لي عليك ثم واه واه لبعد السفر و قلة الزاد و خشونة الطريق قال فبكى معاوية و قال حسبك يا ضرار كذلك كان و الله علي رحم الله أبا الحسن " الأمالى للصدوق المجلس 91 الخبر رقم (2)
و الشاهد من الخبر
دعوة معاوية لأبو الحسن رضي الله عنهما بالرحمة كما فى أخر الخبر , فكيف يصح تدينه بسب على و يترحم عليه فى نفس الوقت ؟
و كذلك تصديق و عدم إنكار معاوية للأوصاف التى وصف بها ضرار النهشلى أبو الحسن رضي الله عنه , بل لم يتعرض معاوية لضرار بأى أذى أو ينهره و يزجره على ثناءه على أبو الحسن رضى الله عنه , بل معاوية هو من ألزم ضرار بالكلام عن أبو الحسن كما فى قوله فى بداية الحوار إذ قال له " صف لي علياً (عليه السلام) قال أو تعفيني فقال لا بل صفه لي " و بل طلب منه الزيادة عندما قال له " زدني من صفته " و فى نهاية الحوار " بكى معاوية " فهل يدل ذلك على حبه و توقيره لأمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه أم على بغضه له ؟ و الإنسان بطبعه يحب سماع قصص و أخبار من يحب

زيادة على ماذكر أنقل لك كلام شيخنا الدمشقية في نقضها :
أن معاوية يقول له اي سعد مالذي منعك من سب علي رضي الله عنه وأنت سيد قوم يلعنون علي ؟؟ هل هو تورعاً أو خوفاً أو..! . وإذا كفرته بهذا السبب فنحن نلزمك بإلحاق العباس بمعاوية لأنه ثبتت مسابته لعلي رضي الله عنهم أجمعين ... ومع ذلك سامحهم علي رضي الله عنه عندما قال « من سبني فهو في حل من سبي» (بحار الأنوار34/19). ولو قررنا كلامك لقلنا أن الحسن بن علي رضي الله عنه قد خان علي ورسول الله والله عز وجل عندما بايع من سب علي والرسول صلى الله عليه وسلم والله تعالى .. فهل هناك خيانة أعظم من هذه؟ وفي النهاية حديث " من سبني فقد سب الله " منكر ..

الحديث منكر. رواه أحمد 6/323 والحاكم وصححه ولكن فيه اسحاق السبيعي كان اختلط، ولا يدري أحدث قبل الاختلاط أم لا. والراجح الثاني بأن إسرائيل وهو ابن يونس ابن ابي اسحاق – حفيد السبيعي – إنما سمع منه متأخرا.
وأبو اسحاق مدلس وحديثه مقبول ما دام لم يعنعن فاذا عنعن لم تقبل روايته.
وفيه محمد بن سعد العوفي: ضعفه الخطيب والذهبي وقال الدار قطني لا بأس به. وفيه أبو عبدالله الجدلي: ثقة إلا أنه شيعي جلد وهذا الحديث في نصرة بدعته.
والرواية الأصح من هذا الحديث هي: من أحب عليا فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله. ومن أبغض عليا فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله. (الحاكم 3/130) وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وهو من أوهامهما(* الذهبي سكت ولم يوهم) . فإن راوي الحديث: أبا زيد (سعيد بن أوس) لم يخرج له الشيخان شيئا، وفيه ضعف كما قرره الحافظ في التقريب (2272). (وانظر سلسلة الصحيحة1299). أهـ

الشيخ عبد الرحمان الثعالبي

أ ـ نسبـــه:
هو أبو زيد عبد الرحمان، بن محمد،بن مخلوف، بن طلحة، ابن عامر ابن نوفل ، بن عامر، بن موصور بن محمد، بن سباع، بن مكي ابن ثعلبة بن موسى، بن سعيد بن مفضل، بن عبد البر، ابن فيسي، ابن هلال، ابن عامر، بن حسان، بن محمد بن جعفر، بن أبى طالب ، فهو جعفري النسب.

2- الميلاد ( الزمان والمكان):
ولد الشيخ عبد الرحمن الثعالبي  سنة 786هـ / 1385م بناحية (وادي يسر) الواقع بالجنوب الشرقي من القطر الجزائري، وعلى بعد 86 كلم من الجزائر العاصمة، وهذا الوادي موطن آبائه وأجداده الثعالبة، أبناء ثعلب بن علي من عرب المعقل الجعافرة.
 الحياة السياسية لعصر الثعالبي :
سقطت الدولة المؤمنية في القرن السابع للهجرة فبدأ الانحطاط وكثر الملوك واشتد الصراع على السلطة، وسادت الفوضى، كما شهد المغرب الإسلامي في هذا القرن انقساما سياسيا جديد إلى ثلاث دول مستقلة، سببها انهيار دولة الموحدين، وبهذا يكون القرن الثامن للهجرة عصر صادت فيه الفتن والحروب بين القبائل والولاة، خاصة بين الحفصيين، الزيانيين والمرنيين الذين كانوا يتنافسون حول السلطة، وفي هذه الظروف ولد عبد الرحمن الثعالبي.
نتيجة لهذا الصراع ضعفت مملكة الموحدين وظهرت على انقاضها دويلات جزأت المغرب فاستقل الحفصيون في تونس "واستقل بنو عبد الواد تحت قيادة" يغمراسن مؤسس هذه الدولة بتلمسان وضواحيها واستولى بنو مرين على فاس
وبهذا اقتسم بنو مرين وبنو عبد الواد بلاد المغرب فاختص بنو مرين بالمغرب الأقصى، في حين استقل بنو عبد الواد بالمغرب الأوسط، وهكذا تم انفصال المغربين عن دولة الموحدين التي استقلت عنهم بقيادة زكريا الحفصي.
وفي هذه الأثناء كان للثعالبة دورا كبيرا في الحرب التي خضوها ضد المرنين والحفصيين وبني عبد الواد لهذا بدأت الجزائر العاصمة تتقهقر خاصة بعد قتل زعيمهم "سالم التومي" وتتبع إخوانه وقبيلته فأصبحت الجزائر لا تستطيع فرض نفسها كمدينة مستقلة تحت سلطة الثعالبة، المتمركزة في متيجة.

3 – النشأة والتكوين :
نشأ الشيخ عبد الرحمن في بيئة علم ودين وصلاح، استهل تعلمه على يدي علماء منطقته. ثم ارتحل إلى حاضرة العلم والثقافة والفكر والأدب بناحيته يومئذ مدينة( بجاية)، فنزل بها سنة 802هـ/1399م، فلازم مجالس علمائها وأخذ عنهم الكثير من علمهم في مختلف فنون المعرفة، كان من أشهرهم: أبو الحسن علي بن عثمان المانجلاتي، وأبو الربيع سلمان بن الحسن، وأبو العباس أحمد النقاوسي، وأبو القاسم المشدالي، وأبو زيد الوغليسي، وغيرهم.
ثم رغب الشيخ عبد الرحمن في المزيد من التحصيل وطلب العلم، فانتقل تحقيقا لذلك إلى تونس سنة 809هـ/1406م فلقي بها كوكبة من كبار علمائها، فأفاد من مجالسهم، من بينهم: الأبي،  والبرزلي تلميذ ابن عرفة.
ثم ارتحل إلى مصر سنة 819هـ /1414م، فلقي بها البلالي، وأبا عبد الله البساطي، وولي الدين العراقي وغيرهم، فأخذ عنهم الجم من معارفهم.
ثم  ارتحل إلى تركيا، ومنها قصد الحجاز فأدى فريضة الحج، واختلف إلى مجالس العلم هناك، ثم قفل راجعا إلى مصر، ومنها إلى تونس، فوافى بها ابن مرزوق الحفيد التلمساني، فلازمه وأخذ عنه الكثير من وافر علمه، وقد أجازه أكثر من مرة.
 وفي سنة 819 هـ 1414م عاد إدراجه إلى بلده المحبـوب الجزائـر بعدما غاب عنه حوالي عشرين سنـة قـضاها كلها في اكتناز المعـــارف واغتـراف العلوم ، أين كانت وحيث بانت ، وهكذا استقر بمدينة الجزائر، حيث راح يشتغل بعبادة ربه ، وبث العلوم الشريفة بين أبناء ملته خصوصا في الجامع العتيق ( الكبير) الذى ألف فيه كتابه "العلوم الفاخرة في النظر فى أمور الآخرة " و "الجامع الكبير" وغيرهــم من المصنفات، فتخرج على يديه كثير من العلماء، من بينهم:
1- محمد بن يوسف السنوسي 2- الشيخ أحمد زروق 3- محمد المغيلي التلمساني
4- أحمد بن عبد الله الزواوي 5- محمد بن مرزوق الكفيف، وغيرهم.
 تولى القضاء زمنا قصيرا، ثم تركه لينقطع إلى الزهد والعبادة، كما قام بالخطابة على منبر الجامع الأعظم بالجزائر العاصمة، ويروى أن من بقايا آثاره المتبرك بها إلى يوم الناس بهذا المسجد (مقبض عصى خطيب صلاة الجمعة).

4- آثاره العلمية:

عكف الشيخ عبد الرحمن على التدريس والتأليف، وكانت معظم مصنفاته في خدمة علوم الشريعة، وقد ترك في هذا الحقل ما يزيد على تسعين مؤلفا في التفسير والحديث والفقه واللغة والتاريخ والتراجم وغيرها، نذكر من بينها:
1- تفسيره الجواهر الحسان في تفسير القرآن في أربعة أجزاء، طبع أول مرة بالجزائر 1909، ثم طبع طبعة ثانية في السنوات الأخيرة بتحقيق الدكتور عمار طالبي.
2- روضة الأنوار ونزهة الأخيار في الفقه.
3- جامع الهمم في أخبار الأمم.
4- الأربعين حديثا في الوعظ.
5- الدر الفائق
6- الأنوار المضيئة بين الحقيقة والشريعة،

وله ايضا: جامع الأمهات للمسائل المهمات مخطوط بالمكتبة الوطنية بالجزائر وهو في الفقه

وله رياض الصالحين وتحفة المتقين في التصوف مخطوط بالمكتبة الوطنية الجزائر تحت رقم 833.

 وله مخطوطات في التوحيد واللغة والفقه في تنبكتو بالنيجر الشاوي التاريخي.

أقوال أهل العلم فيه :
 الشيخ أبي زرعة العراقي بقوله : "الشيخ الصالح الأفضل الكامل المحرر المحصل الرحال أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي ..".

وحلاه الشيخ العلامة الإمام سيدي عيسى بن سلامة البسكرى في كتابه "لوامع الأسرار في منافع القرآن والأخبار" "بالشيخ الصالح الزاهد العالم العارف أبو زيد عبد الرحمن الثعالبي"

وقال هو عن نفسه :"ولم يكن بتونس يومئذ من يفوتني في علم الحديث إذا تكلمت انصتوا وقبلوا ما أرويه تواضعا منهم وإنصافا واعترافا بالحق"

وفاته

وقد توفاه الله- رحمة الله عليه - يوم الجمعة 23 رمضان المعظم 875هـ منتصف شهر مارس 1471م .
ودفن رحمه الله في زاويته بالجزائر العاصمة حيث ضريحه بها إلى اليوم .
وقد رثاه كثير من العلماء من معاصريه، كان من بينهم تلميذه الشيخ أحمد بن عبد الله الزواوي ، ومن ذلك قوله:
لقد جزعت نفسي بفقد أحبتي    وحق لها من مثل ذلك تجزع
ألمّ بنا ما لا نطيق دفاعـــه   وليس لأمر قدر الله مرجع

لا تسبوا أصحابي

روى البخاري (3397) ومسلم (4611) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ:«لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ».
إنَّ خير النَّاس وأفضلهم بعد الأنبياء ـ عليهم السَّلام ـ هم صحابة رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم - الأخيار الَّذين اصطفاهم الله لصحبة نبيِّه، ونقل دينه، وحفظ شريعته، فكانوا أعمق النَّاس علمًا، وأبرَّهم قلوبًا، وأقلَّهم تكلُّفًا، وأزكاهم نفوسًا، وأصدقهم لهجةً، بذلوا النَّفس والنَّفيس في نصرة النَّبيِّ الكريم -صلَّى الله عليه وسلَّم، وإقامة الدِّين، ورفع راية التَّوحيد، وتعبيد النَّاس لربِّ العالمين، فضلُهم عظيم، وخيرهم كبير، وهم كما قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-:«خَيرُ النَّاسِ قَرْني»(1)


قال النَّوويُّ: «اتَّفقَ العُلماءُ على أنَّ خَيرَ القُرونِ قَرنُه ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، والمرادُ أصحَابه»(2)

كما حَظوا عند ربِّهم الجليلِ بالتَّزكيةِ والإكرامِ والتَّبجيل، فذكرَهُم بأجملِ الخلالِ وأحسنِ الصِّفاتِ في محكَمِ التَّنزيلِ، وأثْنى علَيْهم بالجمِيل، ووَعَدهم بالنَّعِيم المقيم، والجنَّاتِ والثَّوابِ الجزيل، قال تعالى:«وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)» [التوبة: 100].
وجاءت أيضًا نصوص السُّنَّة تدلُّ الأمَّة على معرفة قدر هؤلاء الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ وحفظ أعراضهم وتوقيرهم، وحبِّهم والانتصارِ لهم، وتجنُّب بغضهِم وسبِّهم وتنقيصِهم؛ بل علَّق النبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ الإيمانَ على ذلك، ففي البخاري (16) ومسلم (108) قال ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ:«آيَةُ الإِيمانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ».
وفي هذا الحديثِ الذي صدَّرنا به المقالةَ نهى النَّبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ عن سَبِّ صحابتِه الكِرام، والنَّهيُ يقتضِي التَّحريمَ، فلا يجوزُ لمسلمٍ أن يتكلَّمَ في أحدٍ من الصَّحابة بطعنٍ أو غَمزٍ أو لَمزٍ أو تنقيصٍ أو تعريضٍ بتجريحٍ أو قدحٍ في عدالتِه ودينِه مطلقًا بأيِّ سببٍ من الأسباب، وبأيِّ صورةٍ من الصُّورِ، وما حصل منهم من الاقتتال هم فيه مجتهدون، المصيبُ منهم مأجورٌ، والمخطئُ منهم معذور وذنبُه مغفورٌ، والطَّاعنُ فيهم مأزورٌ غيرُ مأجور.
قال النَّووي: «وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَّ الصَّحَابَة ـ رضي الله عنهم ـ حَرَام مِنْ فَوَاحِش المُحَرَّمَات، سَوَاء مَنْ لَابَسَ الفِتَن مِنْهُمْ وَغَيْره؛ لِأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي تِلْكَ الحُرُوب، مُتَأَوِّلُونَ»(3)
قال الحافظ في «الفتح» (13/ 34): «وَاتَّفَقَ أَهْل السُّنَّة عَلَى وُجُوب مَنْع الطَّعْن عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَة بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ عُرِفَ المُحِقّ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا في تِلْكَ الْحُرُوب إِلَّا عَنِ اجْتِهَاد وَقَدْ عَفَا اللهُ تَعَالَى عَنْ المُخْطِئ فِي الاجْتِهَاد؛ بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ يُؤْجَر أَجْرًا وَاحِدًا وَأَنَّ المُصِيب يُؤْجَر أَجْرَيْنِ».
والسَّبُّ: هو الكلامُ الذي يقصد به الانتقاص والاستخفاف، وهو ما يفهم منه السَّبُّ في عقول النَّاس على اختلاف اعتقاداتهم كاللَّعن والتَّقبيح ونحوه(4)
فلا يحلُّ لأحدٍ أن يسبَّ أحدًا من الصَّحابة جميعهم الصَّغار منهم والكبار، من شهد منهم الوقائع ومن لم يشهد، المتقدِّم منهم والمتأخِّر، كلُّهم سواءٌ في عدمِ جوازِ التَّعرض لجَنابهم بالسَّبِّ أو التَّنقُّص.
ويمكن إجمال حكم سبِّ الصَّحابة في ثلاثة أقسام: الأول: أن يسبَّهم بما يقتضي كفرَ أكثرِهم وردَّتهم، أو أنَّ عامَّتَهم فسقُوا، فهذا لا ريب في كفره؛ لأنَّ مقالته تكذيب صريح لنصِّ القرآن الَّذي فيه الثَّناء عليهم والتَّرضِّي عنهم، وأنَّ لازمه تكفير وتفسيق نقلَة الشَّريعة.
الثاني: أنْ يسبَّ بعضهم أو أحدًا منهم سبًّا يطعن في دينه وعدالته باللَّعن والتَّقبيح، ففي تكفيره قولان لأهل العلم؛ والقائلون بعدم كفره أجمعوا على أنَّه فاسق، لارتكابه كبيرة من كبائر الذُّنوب، يستحقُّ عليه التَّعزير والتَّأديب.
قال الهيتمي: «أجمع القائلون بعدم تكفير من سبَّ الصَّحابة على أنَّهم فسَّاق»(5)
الثَّالث: أنْ يسبَّهم بما لا يقدح في دينهم كالجبن والبخل وقلَّة العلم والذَّكاء وضعف الرأي، وعدم الزُّهد في الدُّنيا ونحو ذلك، فهذا لم يكفِّره العلماء بمجرَّد ذلك؛ لكنَّه يستحقُّ التَّعزير والتَّأديب.
كما أنَّهم اتَّفقوا على كفر من رمى عائشة ـ رضي الله عنها ـ بما برَّأها الله منه(6)
فالَّذي يُطلق العَنانَ لِلِسانِه يَفْري في أعْراضهم ـ رضي الله عنهم ـ سبًّا وتجديعًا وتجريحًا وتنقيصًا إنَّما يطعن في القرآن الكريم؛ لأنَّه ما جاء ذكر الصَّحابة في الكتاب العزيز إلَّا مدحًا وثناءً وتزكيةً، قال تعالى:﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾[آل عمران: 110]، واتَّفق العلماء على أنَّ المقصود الأوَّل من هذه الآية هم الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ.
وقال تعالى:﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾[النمل: 59]، قال ابن تيمية: «قال طائفة من السَّلف: هم أصحاب محمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ؛ ولا ريبَ أنَّهم أفضلُ المصْطَفَين من هذِهِ الأمَّةِ»(7)
وقال تعالى:﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)﴾[التوبة: 100]، فرضي الله تعالى عن السَّابقين من غير شرط، ولم يرض عن التَّابعين لهم إلَّا أن يتَّبعوهم بإحسان، وهذه الآية من أصرح الأدلَّة على تحريم سبِّ هؤلاء الأصحاب الكرام، فلم يذكرهم الله تعالى بمثل هذا الثَّناء الجميل وهذا الوعد الجزيل إلَّا لعلمه أنَّه لن يصدر منهم ما يناقض ذلك أو ما يجلب سخط الرَّبِّ عزَّ وجلَّ عليهم، فدلَّ ذلك على أنَّهم عاشوا وماتوا وهم مرضيٌّ عنهم.
وقال الله تعالى فيهم:﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)﴾[التوبة: 117].
وقال تعالى:﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)﴾[التوبة: 29].
قال الإمامُ مالك ـ رحمه الله ـ: «من أصبحَ في قلبِه غَيْظٌ عَلى أحَدٍ مِن أصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصَابَتْه الآية»(8)
قال القرطبيُّ ـ رحمه الله ـ مُعلِّقا عليه: «قلتُ: لقد أحسنَ مالكٌ في مقالته وأصابَ في تأويله؛ فمن نَقص واحدًا منهم أو طَعن عليه في روايتِه فقد ردَّ على الله رَبِّ العالمين، وأبطل شرائع المسلمين»(9)
ومع هذه الآياتِ كلِّها وغيرها كثير ـ مما لم أورده خشية الإطالة ـ يقفُ هؤلاء الشِّيعةُ الرَّوافضُ في وجهها رادِّينَ لمُحتواها، مخالفينَ لمقتضاها، يزعمون ـ وبئس ما زعموا ـ أنَّ هذا المدحَ والثَّناءَ عليهم كان قبلَ رِدَّتهم؛ فيُقال لهم: وهل يُثني اللهُ تعالى كلَّ هذا الثَّناء ويزكِّي كلَّ هذه التَّزكية من سَبق في علمِه أنَّه سيرتَدُّ قبل موتِه؟
ولكن كما قال الله تعالى:﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)﴾[الحج: 46] لأجل هذا كان سابُّ الصَّحابةِ - رضي الله عنهم - على شفا هَلَكَة، وخَطرٍ عَظيمٍ، ومتنكبٍ لصراط الله المستقيم؛ لأنَّ صنيعَه يُنبئُ عن سُوء الطَّويةِ وخُبث السَّريرة، ففي كتاب «السُّنَّة» للخلَّال (695) أنَّ الإمام أحمد سُئل عن رجل انتقص معاوية وعَمْرو ابن العاص؛ أيقال له: رافضيٌّ؟ فقال: «إنَّه لم يجترئ عليهما إلَّا وله خَبيئَةُ سُوءٍ، مَا انتقَصَ أحَدٌ أحدًا من أصحاب رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ إلَّا لَهُ داخِلَةُ سُوءٍ».
وقال أبو نعيم الأصفهاني في كتابه «الإمامة والرَّد على الرَّافضة» (ص376): «فمن سبَّهم وأبغضَهم وحملَ ما كانَ من تأويلِهم وحُروبِهم على غيرِ الجميلِ الحسَنِ، فهو العَادِلُ عَن أمرِ الله تعالى وتأديبِه ووَصِيَّتِه فيهم، ولا يبسُط لسانَه فيهم إلاَّ مِن سُوء طويَّتِه في النَّبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وصَحابتِه والإسلامِ والمسلِمين».
وقال الإمام أحمد: «إذا رأيتَ أحدًا يذكُر أصحابَ رسُولِ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بسُوءٍ فاتَّهمْهُ على الإسلاَمِ»(10)
فالطَّعن في الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ إنَّما هو طعنٌ في الله ورسوله وشريعته؛ فيكون طعنًا في الله؛ لأنَّه طعنٌ في حكمتِه واختيارِه؛ حيثُ اختار لأفضلِ خلقِه ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أسوأَ خلقه ـ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا ـ؛ وطعنًا في النَّبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ؛ لأنَّهم أصحابُه، والمرءُ على دينِ خليلِه، والإنسان يُعرف صلاحُه أو فسادُه بقرينِه؛ وطعنًا في الشَّريعة؛ لأنَّهم الواسطةُ بيننا وبين رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في نقلِ الشَّريعة، وإذا كانوا بهذِه المثابةِ، فلا يُوثقُ بهذه الشَّريعة؛ لأنَّ الطَّعنَ في النَّاقلِ طعنٌ في المنقُولِ.
لأجل هذا كلِّه استوجبَ سابُّ الصَّحابة اللَّعنَ على نفسِه، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ:«مَنْ سَبَّ أصْحَابي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالملاَئِكَةِ والنَّاسِ أجْمَعِين»(11)
والصحابيُّ: كما عرّفه العلماء المحقِّقون «هو كلُّ من لَقِيَ النَّبيَّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ مؤمنًا بهِ، وماتَ على الإسلاَمِ»(12)فالصُّحبةُ مَرتبةٌ شريفةٌ ومَنزلةٌ مُنيفَةٌ تتحَقَّقُ بمجرَّدِ رُؤيَةِ النَّبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ مرَّةً واحدةً، فهذا اللِّقاءُ الواحدُ كافٍ في أن يُدخِل صاحبَه في عِداد الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ، قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «كُلُّ مَنْ رَأَى رَسُولَ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ مُؤْمِنًا بِه فَلَهُ مِنْ الصُّحْبَةِ بِقَدْرِ ذَلِك»، ففي «الصَّحيحين» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَن النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ، فَيُقَالُ لهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ؛ فَيُفْتَحُ لهُمْ؛ ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ، فَيُقَالُ لهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ رَسُولَ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ؛ فَيُفْتَحُ لهُمْ؛ ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ، فَيُقَالُ لهُمْ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ؛ فَيُفْتَحُ لهُمْ».
فربط حصول الفتح للمسلمين بسبب أنَّ جيشَهم يحوي في صفوفِه من رأى النَّبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ مؤمنًا به، وهذا من أقوى ما يستدلُّ به على شرف الرُّؤية وفضلها، وأنَّ بمجرَّد هذه الرُّؤية تَثْبُتُ الصُّحبة، ففي الأوَّل قال: «فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ؟» ثمَّ يقال لمن بعدهم: «فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ رَسُولَ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ؟» فأثبت لهم الصُّحبة بمجرَّد الرُّؤية.
قال النَّوويُّ: «الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ رَأَى النَّبِيَّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وَلَوْ سَاعَةً فَهُوَ مِنْ أَصْحَابه»(13)
وعلى هذا جرى عملُ المحقِّقين من أئمَّةِ الحديثِ وأساطينِ الجرحِ والتَّعديل يحرصونَ أشدَّ الحرصِ على من ثبتَت رؤيتُه للنَّبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، أن يحلُّوا ترجمتَه بقولهم: «لهُ رُؤيةٌ» فيكون بذلك صحابيًّا، ومعنى ذلك أنَّهم كُفُوا مُؤنةَ البحث عن عدالته؛ لثبوت عدالتهم ـ رضي الله عنهم ـ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع وصحيح النَّظر؛ قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (1/ 17): «واتَّفق أهلُ السُّنَّةِ على أنَّ الجَميعَ عُدُولٌ، ولمْ يخَالِفْ في ذلكَ إلَّا شُذوذٌ منَ المُبْتَدِعَة».
إلَّا أنَّه ينبغي التَّنبيه إلى أنَّ تعديلهم ـ رضي الله عنهم ـ مطلقًا لا يعني عصمتهم، بل يجوز عليهم الذُّنوب في الجملة، وقد يصدر منهم الخطأ في الاجتهاد؛ لكن ذلك لا يقدح في عدالتهم ولا يُنْقِصُهَا، لِمُضِيِّ ثناء الله سبحانه عليهم مطلقًا، ولأنَّ بحرَ حَسناتهم غمر جميع ذلك؛ قال ابن تيمية: «ولهم من السَّوابقِ والفضائلِ ما يُوجب مغفرةَ ما يَصدُرُ منهم ـ إن صَدر ـ حتَّى إنَّه يُغفرُ لهُم من السَّيِّئاتِ ما لا يُغفر لمن بَعدَهم؛ لأنَّ لهم من الحسناتِ التي تمحُو السَّيِّئات ما ليسَ لمنْ بعدَهم»(14)
ومما يستفاد من هذا الحديث أنَّ الصُّحبة تتفاوت وتتفاضل(15)؛ لأنَّه ثبت عند مسلم زيادة فيها سبب ورود الحديث، وهو أنَّه كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بنِ الوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ شَيءٌ فَسَبَّهُ خَالِدٌ؛ فقال ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ لخالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ: «لَا تَسُبُّوا أصْحَابي»، وقوله هذا ليس القصدُ منه نفي الصُّحبة عنه، وإنَّما أراد أن يُبيِّن أنَّ عبد الرَّحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ وأمثالَه أخصُّ بصحبتِه ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، وأنَّهم امتَازُوا بأشياءَ لا يُمكنُ أن يُشاركَهُم غيرُهُم فيها كفَضْلِ السَّبْق والهجرة والإنفاق وغير ذلك.
فعبد الرَّحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ ممَّن أسلم وهاجر قديمًا وأحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة، أمَّا خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة فهؤلاء أسلموا في مدَّة الهدنة بعد الحديبية وقبل فتح مكَّة، فكانوا من المهاجرين التَّابعين لا من المهاجرين الأوَّلين.
ومن هُنا نعلم أنَّ الصَّحابةَ ـ رضي الله عنهم ـ يتفاضَلُون في صُحبتهم، فصحبة أبي بكر الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ ليست كصحبة غيرِه؛ إذ هو في ذَروة سنام الصُّحبة وأعلى مراتبها، بل تميَّز وانفرد ـ رضي الله عنه ـ عن سائر الصَّحابة، حتَّى خصَّه النبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بقوله:«فهَلْ أنتُم تَارِكُو لي صَاحِبي»(16)، ووصفه الله تعالى بذلك في قوله:﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾الآية [التوبة: 40]؛ كما أنَّ صحبة الَّذين أسلموا قبل الفتح وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ليسوا في الرُّتبة كالَّذين تأخَّر إسلامهم ولم يسلموا إلَّا بعد الفتح وكلًّا وعد الله الحسنى، كما قال تعالى:﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)﴾[الحديد: 10].
ومن فوائد هذا الحديث أنَّ منزلةَ الصُّحبة لا يَعْدِلها شيءٌ، لذا كان صاحبُها سابقًا لمن بعدَه ولو كان أكثرَ منهُ عمَلاً؛ قال النَّوويُّ: «وَفَضِيلَة الصُّحْبَة، وَلَوْ لَحْظَة لَا يُوَازِيهَا عَمَل، وَلَا تُنَال دَرَجَتُهَا بِشَيْءٍ، وَالفَضَائِل لَا تُؤْخَذ بِقِيَاسٍ، ذَلِكَ فَضْل اللهِ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء»(17)
وقال ابن تيمية: «قال غير واحد من الأئمَّة: إنَّ كلَّ من صحِبَ النَّبيَّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أفضلُ ممَّن لم يَصحبه مطلقًا، وعيَّنوا ذلكَ في مِثلِ مُعاويةَ وعُمرَ بن عَبد العزيز مع أنَّهم مُعترِفون بأنَّ سِيرةَ عُمر بن عبد العزيز أعدلُ من سِيرة مُعاوية، قالوا: لكن ما حصَل لهم بالصُّحبَة من الدَّرجة أمرٌ لا يُساويهِ ما يحصُل لغيرهم بعِلمه»(18)
ولذلك ردَّ السَّلفُ ـ رحمهم الله ـ على من أرادَ أن يَعقِدَ المفاضلَةَ بينَ الصَّحابيِّ وغيرِهِ ـ ممَّن تأخَّر عنهُ ـ بكلمَة قويَّةٍ حاسِمةٍ صدع بها سيِّدُ عُلماء زمانِه عبد الله بن المبارك ـ رحمه الله ـ الَّذي كان يقولُ: «ترابٌ في أنفِ معاويةَ أفضلُ من عُمرَ بنِ عبدِ العزيز»(19)
فالعبدُ لو لَقيَ الله بكلِّ عمل من أعمال البرّ والخير الَّتي في وسع البشر أن يأتوا بها، فإنَّه لن يستطيعَ أن يبلغَ رتبةَ الصَّحابي ولا يُدانيه أبدًا؛ لأجل هذا عقَد النبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ هذِه المقارَنة التي فيها تفاوتٌ عظيم وتباين كبير، إذ لا يختلف اثنان في أنَّ من أنفق مثل جبل أحد ذهبًا عُدَّ عملُه جليلًا وإنفاقُه عظيمًا، إلَّا أنَّه مع هذا كلِّه لن يبلُغَ في الثَّواب ما أنفقَهُ صحابيٌّ كان مع رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ مقدار مُدٍّ أو نصفَ مدٍّ من الحنطة أو الشَّعير، قال ابن حزم: «هذا في الصَّحابة فيما بينهم؛ فكيفَ بمنْ بعدَهُم معَهُم ـ رضي الله عنهم ـ أجمعين»(20)، وسبب تفضيل نفقتهم على من بعدهم كما قال النَّووي ـ رحمه الله ـ: «أَنَّهَا كَانَتْ فِي وَقْت الضَّرُورَة وَضِيق الْحَال، بخِلَافِ غَيْرهمْ، وَلِأَنَّ إِنْفَاقهمْ كَانَ فِي نُصْرَته ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وَحِمَايَته، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ بَعْده، وَكَذَا جِهَادهمْ وَسَائِر طَاعَتهمْ»(21).
وكان ابن عمر يقول: «لا تَسُبُّوا أصحابَ محمَّدٍ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ؛ فَلَمُقامُ أحدِهم ساعةً خيرٌ من عَمَل أحدِكُم عُمرَهُ»(22)
ومن الفوائد التي يمكن استفادتها من هذا الحديث النَّبويِّ: أنَّه يجب الانتصار للصَّحابة الأبرار، والذَّبِّ عن أعراضهم، وعدم السُّكوت على من تعرَّض لهم؛ فالنبيُّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ لم يتوانَ أبدًا في الدِّفاع عنهم وأطلقها مدوِّيةً صريحةً ناهيًا عن التَّعرض لهم بأدنى سوء فقال:«لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي» وفي لفظ عند مسلم:«لَا تَسُبُّوا أحَدًا مِنْ أَصْحَابِي».
وعليه ـ أخي القارئ ـ ينبغي علينا أن نعمُر أفئدتنا بحبِّ صحابة رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، وأن تلهج ألسنتنا بالثَّناء عليهم ومدحهم والتَّرضِّي عنهم، وأن نعرف مآثرهم ومناقبَهم وفضائلهم(23)، ونَنْشُرَ ذلك بين النَّاس حتَّى لا تجدَ شُبهاتُ الطَّاعنين فيهم والخائضين في أعراضهم والمُشَكِّكين في عدَالتهم سَبيلًا إلى العقولِ؛ فإنَّنا نرى اليوم كثيرًا من العوام والمثقَّفين وحتَّى بعض المنتسبين للدَّعوة إلى الله قد التبس عليهم أمر الشِّيعة الرَّوافض واغترُّوا بهم وأقبلوا على مدحهم والثَّناء عليهم والانتصار لهم، ولم يبالوا بهذا الخلاف الجوهري الَّذي بيننا وبينهم، ولو تريَّثوا قليلًا، وفكَّروا مليًّا، وتركوا العواطف جانبًا، وألقوا نظرةً في أصول دين الشِّيعة، لوجدوا أنَّ كتبهم المعتمدة مثل: «الكافي» و «بحار الأنوار» و«رجال الكشي» قد شحنت ومُلِئت بالسَّبِّ والطَّعن واللَّعن والتَّكفير والتَّكذيب للصَّحابة الكرام ولم يستثنوا منهم إلَّا نزرًا يسيرًا جدًّا؛ وبقدر صُحبة الرَّجل وقُربه من النَّبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يكون عداؤهم له أشدَّ، ولعنهم له أكثر، فأبغض النَّاس إليهم أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ؛ فأيُّ إسلامٍ هذا الذي يريدون نُصرتَه، وهُم يَلعنُونَ خِيرةَ أهلِه ويسبُّون صفوتَه!! وصدق محمَّدُ بن سِيرين ـ رحمه الله ـ لما قال: «مَا أَظُنُّ رَجُلًا يَنْتَقِصُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يُحِبُّ النَّبِيَّ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ»(24).
فكن على حذر من الوقوع في الاغترار بهم، وارفع شعارَ الحبِّ والولاءِ والانتصارِ لهؤلاء الصَّحابة الأخيارِ؛ فإنَّه من خَير الزَّاد ليوم المعَادِ، وحبِّبْهم إلى جميع النَّاس ومن تحت يدك مِنَ الأهلِ والأولادِ، قال الإمام مالك: «كان السَّلف يعلِّمون أولادهم حبَّ أبي بكر وعمر، كما يعلَّمون السُّورةَ من القرآن»(25).
، وتمسَّك بغَرْزِ أهل السُّنَّةِ والجماعة الَّذين سَلِمت قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله ـ رضي الله عنهم ـ، كما وصفهم الله تعالى في قوله:﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)﴾[الحشر: 10]، وإيَّاك أن تقف إلى جانب من خالفوا أمر الله، الذين قالت فيهم عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «أُمِروُا أنْ يَسْتَغفِرُوا لأصحابِ رَسُولِ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فَسَبُّوهُم»
وفي الأخير، إليك ـ أخي القارئ ـ كلمتين لعالمين جليلين أحدهما مغربيٌّ مالكيٌّ، والثَّاني مشرقيٌّ حنفيٌّ، لبيان ما تقرَّر عند أهل السُّنَّة والجماعة في هذا الأصل العظيم؛ قال ابن أبي زيد القيرواني في «الرِّسالة» (ص32): «وأن لا يُذكرَ أحدٌ من صَحابةِ الرَّسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ إلَّا بأحسنِ ذِكرٍ، والإمساكُ عمَّا شجَر بينهُم، وأنَّهم أحقُّ النَّاس أن يُلتَمسَ لهم أحسنُ المخَارجِ، ويُظَنَّ بهم أحسنَ المذاهبِ».
وقال الطَّحاوي في «عقيدته»: «ونُحبُّ أصحابَ رسُولِ الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ، ولا نُفَرِّط في حُبِّ أحدٍ منهُم، ولا نتبرَّأ منْ أحدٍ منهُم؛ ونُبغِضُ من يُبغِضُهم، وبغيرِ الخَيرِ يَذكُرُهم؛ ولا نذكُرهُم إلَّا بخيرٍ؛ وحُبُّهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبُغضُهُم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ».(26).


-الشيخ توفيق عمروني-



*******************************

(1) رواه البخاري (2458، 5949)، ومسلم (4601).
(2) «شرح صحيح مسلم» (16/ 94).
(3) «شرح صحيح مسلم» (16/ 93).
(4) «الصارم المسلول» (3/ 1041).
(5) «الصواعق المحرقة» (ص383).
(6) انظر: «الصَّارم المسلول» (3/ 1110 ـ 1113).
(7) «منهاج السُّنَّة» (1/ 156).
(8) «حلية الأولياء» (6/ 327).
(9) «الجامع لأحكام القرآن» (12/ 297).
(10) «شرح أصول الاعتقاد» للَّالكائي (2359).
(11) أخرجه الطبراني في «الكبير» (12/ 142)، وحسَّنه الألباني بمجموع طرقه في «الصَّحيحة» (2340).
(12) «الإصابة في تمييز الصَّحابة» (1/ 6).
(13) «شرح صحيح مسلم» (16/ 85).
(14) «العقيدة الواسطية» (ص44).
(15) انظر: «منهاج السنة» (8/ 302، 431).
(16) رواه البخاري (3388).
(17) «شرح صحيح مسلم» (16/ 93).
(18) «مجموع الفتاوى» (4/ 527).
(19) «تاريخ دمشق» (59/ 207).
(20) «الفصل في الملل» (4/ 92).
(21) «شرح صحيح مسلم» (16/ 93).
(22) رواه ابن ماجه (158)، وحسَّنه الألباني.
(23) ومن أجمع الكتب في ذلك كتاب «فضائل الصَّحابة» للإمام أحمد.
(24) رواه الترمذي (3685)، وصحَّح إسناده الألباني.
(25) «شرح أصول الاعتقاد» للَّالكائي (1889).
(26) رواه مسلم (5344).

نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام ج(2)

قصة جريج الراهب الذي كان من أتباع سيدنا عيسى عليه السلام

كان في أمّة عيسى الصالحون الصادقون الذين استقاموا بطاعة الله وحده ومنهم جريج رضي الله عنه، فقدكان جريجُ من المسلمين الذين هم على شريعة نبي الله عيسى المسيح عليه السلام وكانتقيًا صالحًا يعيش بعيـدًا عن الناس، وكان قد بنى صومعة يعبد الله تعالى فيها، وجاءفي قصتـه عليه السلام أن امرأة زانية فاسقة قالت: أنا أفتن جريجًا هذا، فتزينت وتعرضت له فلمّا رءاها لم يهتمّ بها فقطعت الأمل في فتنته، ثم صادفت رجلًا راعيًا فتعرضت له فزنى بها فحمَلت منه ثم لما وضعت حملَها قالت: هذا الولد من جريج، وذهبوا إلى جريج وهدموا له صومعته التي كان يعبد الله تعالى فيها، وربطوه بحبل وجرُّوهوطافوا به بين الناس إهانة له، فقال لهم: أمهلوني حتى أصلي ركعتين فأمهلوه فصلى ركعتين ثم قال للمولود الذي ولدته هذه المرأة: يا غلام من أبوك؟ قال المولود: الراعي، أنطق الله تعالى الغلام ليبرئ عبدَه الوليَ الصالحَ جريجًا، فعادوا يتمسحون به ويقبلونه ليرضى حيث رأوْا له هذه الكرامة العظيمة وهي أنه أنطق هذا الطفلَ المولودَ بإذن الله لتبرئته مما اتُهم به، فقالوا له: نبني لك صومعتَك من ذهب، فقال لهم جريج: لا، أعيدوها كما كانت، أي من طين، روى هذه القصة البخاري ومسلم فيصحيحيهما.

معجزاته عليه الصلاة والسلام وذكر ماذكره الله من الامتنان

من معجزات عيسى عليه السلام غير ما مر إحياء الموتى قال الله تعالى:}إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ{سورة ءال عمران.

وقال تعالى:}وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيه فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ{سورة ءال عمران.

أيد الله تبارك وتعالى عيسى ابنَ مريم بروح القدُس وهو جبريلُ عليه السلام، وأيده أيضًا بالبينات وهي المعجزات الدالة على صدقه فيما يبلغه عن الله تبارك وتعالى، فكان عليه السلام يمسح على المريض فيشفى بإذن الله تعالى، ومن هذه المعجزات أيضًا أنه كان يصور من الطين على صورة الطير ثم ينفُخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله تعالى ومشيئته، ومن معجزاته أيضًا إحياءُ الموتى بإذن الله تعالى فكان عليه السلام يقول للميت: قم بإذن الله فيقوم بإذن الله، ويُروى أنه أول ما أحيا من الموتى أنه مرَّ ذات يوم على امرأةٍ قاعدةٍ عند قبرٍ وهي تبكي فقال لها: ما لك أيتها المرأة؟ فقالت له: ماتت ابنةٌ لي لم يكن لي ولدٌ غيرُها، وإني عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوقَ ما ذاقت من الموت أو يحييها الله لي فأنظر إليها، فقال لها نبي الله عيسى عليه السلام: أرأيتِ إن نظرتِ إليها أراجعة أنت؟ قالت: نعم، فصلى عليه السلام ركعتين لله تعالى ثم جاء فجلس عند القبر، فنادى: يا فلانة، قومي بإذن الله الرحمن فاخرجي، فتحرك القبر، ثم نادى المرة الثانية فانصدع القبرُ بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسَها من التراب، ثـم قال لها عيسى عليه السلام: ما أبطأ بك عني فقالت له: لما جاءتني الصيحةُ الأولى بعث الله لي ملكًا فركّب خَلقي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فرجع إلي روحي، ثم جاءتني الصيحة الثالثة فخفت أنها صيحة القيامة فشاب رأسي وحاجباي وأشفارُ عيني من مخافة القيامة، ثم أقبلَت على أمها فقالت لها: يا أماه ما حملَك على أن أذوقَ كربَ الموت مرتين؟ يا أماهُ اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا، ثم كلمت نبي الله عيسى عليه السلام وقالت له: سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهوِّن عليّ كربَ الموت فدعا عليه السلام ربَه فقبضها إليه واستوت عليها الأرضُ فسبحان القادر على كل شيء، ولما بلغ اليهود خبر هذه الحادثة ازدادوا على عيسى عليه السلام غضبًا.

ويروى أن ملِكًا من ملوك بني إسرائيل مات وحُمِل على سريره ونعشِه، فجاء عيسى عليه السلام فدعا الله عز وجل فأحياه الله عز وجل، ورأى الناس يومئذٍ أمرًا هائلًا ومنظرًا عجيبًا.

ويُروى أنه ممن أحياه عيسى عليه السلام بإذن الله تعالى عازر وكان صديقًا لعيسى فلما مرض عازرُ أرسلت أختُه إلى عيسى عليه السلام أنَّ عازرَ يموت فسار إليه عيسى وبينهما ثلاثة أيام فوصل إليه فوجده قد مات، فأتى قبره فدعا الله تعالى فأحياه الله تعالى وعاش وبقي دهرًا حتى وُلِدَ له.

ويروى أنه عليه السلام كان يومًا مع أصحابه "الحواريين" يذكر نوحًا والغرق والسفينة فقال له الحواريون: لو بعثت لنا من شهد ذلك؟ فأتى عيسى عليه السلام مُرتفعًا وقال: هذا قبر سامِ بنِ نوح، ثم دعا الله تعالى فأحياه الله تعالى فقال: قد قامت القيامة؟ فقال له عيسى المسيح عليه السلام: لا ولكن دعوت الله فأحياك، ثم سألوه فأخبرهم عن السفينة وأمرِها ثم عاد ميتًا.

فائدة: قال العلماءكانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسبُ أهل ذلك الزمان فكان الغالبُ على زمان موسى عليه السلام السحرَ وتعظيمَ السحرة، فبعث الله تعالى عبدَه موسى عليه السلام بمعجزة بهرتِ الأبصارَ وحيّرتْ كلَ سحّار، فلما استيقن السحرة أنها معجزة من عند العظيمِ الجبار انقادوا ودخلوا في دين الإسلام.

ونبي الله عيسى عليه السلام بعث في زمان يكثر فيه التباهي والتسابق في الحِذْقِ والمهارةِ من الأطباء وأصحابِ علم الطبيعة، فجاءهم بمعجزات لا سبيل لأحد منهم إليها لأنه مؤيد من الله تبارك وتعالى وكانت هذه المعجزات دليلًا على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى، فأنّى للطبائعيِ أن يُبرِأَالأكمهَ الذي وُلِدَ أعمى، وكذلك الأبرصَ والمجذومَ ومن به مرضٌ مزمنٌ من دون استعمال أعشاب وعقاقير، وأنى للطبيب أن يحييَ الميتَ من قبره كما فعل عيسى عليه السلام، فيُعلم بدِلالة العقل أن عيسى عليه السلام نبيُ الله ورسولُه.

وكذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بُعِثَ في زمان الفُصحاء والبُلغاءِ في قومه العرب حتى بلغوا في شدة المباهاة بالفصاحة والبلاغة في أشعارهم إلى أن كان المتفوق فيهم يعمل قصيدة فيعلقها في الكعبة ليجـد الشهرة بين العرب لأنهم كانوا يجتمعون في مكة باسم الحج مع أنهم كفار يعبدون الأوثان، تقليدًا لأجدادهم منذ أيام إسماعيل عليه السلام،فجاءهـم سيدنا محمد بكتاب أنزله الله عليه عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة من مثله في الفصاحة والبلاغة، فتحداهم وكان في تحديه ما أخبر الله به في القرءان بقوله:}قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا{سورةالإسراء.

قال الله تعالى:}لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ{سورة الحديد، أي بالمعجزات، وهكذا كل نبي قرَنَ الله بدعوته من المعجزات ما هو شاهـدٌ له بصدقه تفريقًا بين النبي وبين المتنبي. وليس القرءانُ هو المعجزةُ الوحيدةُ لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بل له من المعجزات الكثيرُ الكثير، منها شهادةُ شجرة دعاها فمشت إليه من منبِتها من غير أن تنقلع وقامت بين يديه فاستشهدها فشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وذلك عند عرضه الإسلام على رجل من العرب فطلب منه شاهدًا على نبوته فقال له: هذه الشجرة، وهذا أغرب وأعجب من إحياء الميت بعدما كان حيًا قبل ذلك ثم عاد إلى ما كان عليه بعد موته، لأن هذه الشجرة لم يسبق لها حياةٌ تؤهلُها للنطق والمعرفةِ بشأنه.

بيان أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بشر بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم

يقول الله تبارك وتعالى:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}سورة الصف.

نبي الله عيسى المسيح عليه السلام بشر برسول ءاخر الزمان وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما بشر به الأنبياء السابقون من قبله فذكروا صفاته كما ذكرت في التوراة والإنجيل وذلك ليعرفه بنو اسرائيل ويتابعوه، ولما كان نبي الله عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام هو ءاخر أنبياء بني اسرائيل قام عليه السلام في بني إسرائيل خطيبا فأخبرهم أن النبوة قد انقطعت عنهم وأنها بعده في النبي العربي الأمي خاتم الأنبياء وأفضلهم على الإطلاق وهو أحمد وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهم السلام.

يقول الله تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}سورة الأعراف.

روى البيهقي في الدلائل وغيره عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:"دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ابن مريم ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" وذلك أن إبراهيم لما بنى الكعبة قال{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ}سورة البقرة.

فائدة: تقدم انه من جملة وصايا عيسى عليه السلام لأتباعه أنه قال لهم: إنه يأتي من بعدي نبي اسمه أحمد فآمنوا به واتبعوه إذا ظهر، زكان ممن سمع وصية عيسى عليه السلام واحد من الجن المؤمنين، فهذا الجني المؤمن بلغ خبر هذه الوصية لأربعة من أهل اليمن كانوا قد خرجوا من بلادهم ونزلوا بأرض في الجزيرة العربية، وذلك قبل أن يظهر اسم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا ظهورًا تامًا، وكانوا قد أدركهم المبيت بالبرية في ءاخر الليل فسمع أحدهم وهو الجعد بن قيس صوت هاتف _ أي صوت جني من غير أن يرى شخصه- وهو يقول:

ألا أيُّها الرَّكبُ المُعَرِّسُ بَلِّغُوا    إذَا مَا وَصَلْتُمْ لِلْحَطِيْمِ وَزَمْزَما

محمَّدًا المبعُوثَ مِنَّا تَحِيَّةً        تُشَيِّعُهُ مِنْ حَيْثُ سَارَ وَيَمَّما

وقُولُوا لَهُ إنَّا لِدِينِكَ شِيْعَةٌ     بِذلكَ أوصَانَا المسيحُ ابنُ مَرْيَما

المُعَرِّسُ (أي النازِلُ في الليل)، شِيْعَةٌ( أي أنصار)

فلما دخل الجعد بن قيس إلى مكة صار يبحث ويسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى دل عليه، فلما اجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم عرفه وءامن به وأسلم.

سيرته عليه السلام وزهده وورعه وشئ من أوصافه ولماذا سمي بالمسيح

قال الله تعالى:{مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ}سورة المائدة.

كان نبي الله عيسى عليه السلام جميل الشكل والصوت أي ليس طويلًا ولا قصيرًا، ءادم اللون أي ذا سمرة خفيفة، سبط الشعر أي شعره متسلسل ناعم، وكان من سيرته عليه السلام أنه كان زاهدًا لا يبالي بنعيم الدنيا وملذاتها الفانية بل كان قلبه متعلقا بالعمل للآخرة وبطاعة الله تعالى.

وكان عيسى عليه السلام يلبس الشعر ويأكل من ورق الشجر من نحو الملوخية والهندباء من غير طبخ، وكان لا يدخر عنده شيئًا ولكن ينفقه على الفقراء والمساكين والمحتاجين، لا يأوي إلى منزل ولا أهل ولا مال، فهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يتخذ منزلًا يأوي إليه وإنما يبيت وينام أينما يدركه المساء.

وكان عليه السلام ورعًا كثير البكاء من خشية الله متوكلًا على مولاه كثير ثقة القلب بخالقه ورازقه، فكان عليه السلام يتحرى الطعام الحلال، وقد قال بعضهم: إنه كان يأكل من غزل أمه مريم عليها السلام، وقد روي عنه أنه خرج يومًا على أصحابه وعليه جبة صوف وسروال صغير يستر عورته وكان حافيًا باكيًا شعثًا مصفر اللون من الجوع، يلبس الشفتين من العطش فقال لأصحابه: السلام عليكم يابني اسرائيل أنا الذي انزلت الدنيا منزلتها بإذن الله ولا عجب ولافخر، ثم قال لهم: أتدرون أين بيتي؟ قالوا: أين بيتك؟ فقال: بيتي المساجد وطي الماء، وإدامي الجوع، وسراجي القمر بالليل، وصلاتي في الشتاء مشارق الشمس، وريحاني بقول الأرض، ولباسي الصوف، وشعاري خوف رب العزة، وجلسائي الزمنى والمساكين، أُصبح وليس لي شئ، وأُمسي وليس لي شئ، وأنا طيب النفس غير مكترث فمن أغنى عني مني وأربح؟



وقد كان عليه السلام شديد التوكل على الله روى أبو داود في كتاب القدر بالإسناد عن طاوس قال: لقي عيسى ابن مريم إبليس فقال: أما علمت أنه لن يصيبك إلا ماكتب لك، قال إبليس: فأوف بذروة هذا الجبل فتردى منه إلى أسفل فانظر هل تعيش أم لا؟ فقال عيسى عليه السلام: أما علمت أن الله تعالى قال لا يجبرني عبدي فإني أفعل ماشئت.

وسمي نبي الله عيسى عليه السلام بالمسيح لكثرة سياحته في الأرض ليعلم الناس دين الله وشرعه ويدعوهم الى عبادة الله وحده، وقيل: إنه سمي بالمسيح لأنه كان يمسح على المريض الأبرص والأعمى وغيرهما فيشفى بإذن الله تعالى ومشيئته.

زياد علي

زياد علي محمد