الأمام الشوكانى
هو
الإمام أبو علي بدر الدين محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن
محمد بن صلاح بن إبراهيم بن محمد العفيف بن محمد بن رزق، الشوكاني ثم
الصنعاني، وقد أوصل الشوكاني نسبه إلى آدم ـ ـ عند ترجمته لوالده في البدر
الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، ومن
أهل صنعاء، ولد يوم الإثنين الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة 1173 هجرية في
بلدة "هجرة شوكان"، من بلاد خولان باليمن.
قال الإمام الشوكاني ـ عند الكلام على ترجمة والده:
"
ونسبة صاحب الترجمة إلى شوكان ليست حقيقية ؛ لأن وطنه ووطن سلفه وقرابته
هو مكان عدني ـ أي جنوبي ـ " شوكان" بينه وبينها جبل كبير مستطيل يقال له :
"هجرة شوكان" فمن هذه الحيثية كان انتساب أهله إلى "شوكان".
نشأته وطلبه للعلم
نشأ
بصنعاء اليمن، وتربّى في بيت العلم والفضل فنشأ نشأة دينيّة طاهرة، تلقّى
فيها معارفه الأولى على والده وأهل العلم والفضل في بلدته، فحفظ القرآن
الكريم وجوّده، ثم حفظ كتاب "الأزهار" للإمام "المهدي" في فقه الزيديّه،
ومختصر الفرائض للعُصيفيري والملحه للحريري، والكافيه والشّافيه لابن
الحاجب، وغير ذلك من المتون التي اعتاد حفظها طلاب العلم في القرون
المتأخرة, وكان كثير الإشتغال بمطالعة كتب التاريخ، والأدب، وهو لايزال
مشتغلاً بحفظ القرآن الكريم. مما ساعد الإمام الشوكاني على طلب العلم
والنبوغ المبكر: وجوده وتربيته في بيت العلم والفضل، فإن والده كان من
العلماء المبرزين في ذلك العصر، كما أن أكثر أهل هذه القرية كانوا كذلك من
أهل العلم والفضل.
قال
الشيخ " الشوكاني " عن والده وأهل قريته: وهذه الهجرة معمورة بأهل الفضل
والصلاح والدين من قديم الزمان، لايخلو وجود عالم منهم في كل زمن، ولكنه
يكون تارّة في بعض البطون، وتارّة في بطن أخرى، ولهم عند سلف الأئمّة عظيمة
،وفيهم رؤساء كبار، ناصروا الأئمّة، ولاسيما في حروب الأتراك، فإن لهم في
ذلك اليد البيضاء، وكان فيهم إذ ذاك علماء وفضلاء، يعرفون في سائر البلاد
الخولانيه بالقضاة, كما قرأ " التهذيب " للعلامة التفتازاني، و"التلخيص" في
علوم البلاغة للقزويني، والغاية لابن الإمام، و"مختصر المنتهى" لابن
الحاجب في أصول الفقه، و"منظومة الجرزي " في القراءات و"منظومة " الجزار في
العروض، و"آداب البحث والمناظرة" للإمام العضد، وما إلى ذلك من سائر
العلوم النقلية والعقلية, وظل هكذا ينتقل بين العلماء، يتلقَّى عليهم،
ويستفيد منهم، حتى صار إماماً يشار إليه بالبنان، وراسا يرحل إليه، فقصده
طلاب العلم والمعرفة للأخذ عنه، من اليمن والهند، وغيرهما حتى طار صيته في
جميع البلاد، وانتفع بعلمه كثير من الناس
قد تأثر الإمام الشوكاني بشخصيَّات كثيرة من العمالقة الذين كانوا قبله
منهم من بلده اليمن، وأشهرهم:
العلامة محمد بن إبراهيم الوزير
العلامة محمد بن إسماعيل الأمير (ت 1182 هجرية)
العلامة الحسن بن مهدي المقبلي (ت 1108 هجرية)
والحسين أحمد الجلال (ت 804 هجرية).
ومنهم من غير بلده ولم يكونوا في عصره، وعلى رأسهم:
الإمام علي بن حزم الأندلسي (ت 456 هجرية)
شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هجرية
صفاته الخلقية والخُلقية
لم
تذكر كتب التاريخ والتراجم عن صفاته الخلقية سوى أنه كان متوسط الطول، كبير
الرأس، عريض الجبهة، بادي الصحة، موفور العافية. أما صفاته الخُلقية
فكثيرة ومشهورة، حتى ألف في مناقبه وفضائله الكثيرون من تلاميذه، منهم:
السيد العلامة إبراهيم بن عبداللّه الحوثي.
العلامة محمد بن محمد الديلمي.
القاضي العلامة محمد بن حسن الشجني الذماري, ألف في ذلك كتاباً حافلاً سماه: "التقصار في جيد زمن علامة الأقليم والأمصار".
والواضح
في حياة " الشوكاني " أنه بدأ حياته منقبضاً عن الناس، لايتصل بأحد منهم،
إلا في طلب العلم ونشره، ولا سيما هؤلاء الذين يحكمون أو يتصلون بالحاكمين،
وكان يرسل فتاويه، ويصدر أحكامه دون أن يتقاضى عليها أجراً, وكانت حياته
بسيطة متقشفة، يعيش على الكفاف الذي وفره له والده فلما تولى القضاء، وأجزل
له الأجر، تنعم في مأكله ومشربه وملبسه ومركبه، وأضفى على تلاميذه وشيوخه
مما وسع اللّه عليه به, ويذكر بعض المؤرخين أن " الشوكاني " اختص بالكثير
من الإقطاعات والصدقات، وهم يؤكدون أنه لم يترك من ذلك شيئاً، بعد عمل في
القضاء دام أكثر من أربعين عاماً، بل كان ينفق ذلك كله في طرق الخير والبر.
ومن المؤكد ـ كذلك ـ أن الدنيا لم تكن أكبر همه، وأن عرضها الزائل لم يكن
يشغله عن الهدف الأسمى الذي وضعه لنفسه، وهو نشر دين اللّه تعالى وإحقاق
الحق. ولذلك كان يقدر أهل العلم والفضل، الذين لايتكالبون على جمع حطام
الدنيا، والتقرب إلى الحكام.
يذكر
بالتقدير والإجلال ذلك العالم الفاضل: إسماعيل بن علي بن حسن الذي كان يحضر
مجلس الإمام ويقول: لم أسمع منه على طول مدة اجتماعي به هناك مؤذنة
بالخضوع لمطلب من مطالب الدنيا، لا تصريحاً ولا تلويحاً. كان "الشوكاني"
باراً بشيوخه وتلاميذه، فتح أمامهم أبواب العمل في الدوله، ودافع عنهم،
وتشفع لهم عند الأئمة في كل أمر وقعوا فيه. وبالرغم من حدة ذكائه، وجودة
ذهنه، وتشدده لآرائه واجتهاداته، لم يكن يحط من قدر علمه ليدخل في مهاترات
المتعالمين، وكانت قسوته على الأفكار والآراء، لأعلى الأشخاص، لأنه كان
يدرك أنه سبق هذا الجيل بأجيال، فترك ثروته العلمية والفكرية لتتفاعل مع
الزمن، يكشف عن وجهها ما تبديه قرائح العلماء". بالجمله: فمحل القول في هذا
الأمام ذو سعة، فإن وجدت لساناً قائلاً فقل:
زد في العلا مهما تشا رفعة ---وليصنع الحاسد ما يصنع
فالدهر نحوي كما ينبغي ---- يدري الذي يخفض أو يرفع
عقيدته
يرى "
الشوكاني " أن طرق المتكلمين لاتوصل إلى يقين، ولا يمكن أن تصيب الحق فيما
هدفت إليه، لأن معضمها ـ كما يقول ـ قام على أصول ظنية، لا مستند لها إلا
مجرد الدعوى على العقل، والفريه على الفطرة.فكل فريق منهم قد جعل له أصولاً
تخالف ما عليه الآخر، وقد أقام هذه الأصول على ما رآه عنده هو صحيحاً، من
حكم عقله الخاص المبني على نظره القاصر، فبطل عنده ما صح عند غيره، وقاسوا
بهذه الأصول المتعارضه كلام اللّه ورسوله في الإلهيات وما يتصل بها من
العقائد، فأصبح كل منهم يعتقد نقيض ما يعتقده الآخر.
ثم
جعلوا هذه الأصول معياراً لصفات الرب تبارك وتعالى، فأثبتوا للّه الشيء
ونقيضه، ولم ينظروا إلى ما وصف اللّه به نفسه، وما وصفه به رسوله، بل إن
وجدوا ذلك موافقاً لما تعقلوه، جعلوه مؤيداً له ومقوياً، وقالوا: قد ورد
دليل السمع مطابقاً لدليل العقل، وإن وجدوه مخالفاً لما تعقلوه، جعلوه
وارداً على خلاف الأصل ومتشابهاً وغير معقول المعنى، ولا ظاهر الدلاله، ثم
قابلهم المخالف لهم بنقيض قولهم، فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما
تعقله خصمه، وجعل ذلك أصلاً يرد إليه أدلة الكتاب والسنه، وجعل المتشابه
عند أولئك محكماً عنده، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقاً له عنده.
من
مظاهر هذا التناقض: ما وقع فيه المعتزلة من مبدأ نفي الصفات، بناء على
مبدئهم في التنزيه، وما غلا فيه الأشعرية من الوقوع في التجسيم، بناء على
ما ذهبوا إليه من التأويل، والمبالغة في الإثبات.
يقول الشوكاني عن هذه المسائل:
"
وإن كنت تشك في هذا، فراجع كتب الكلام، وانظر المسائل التي قد صارت عند
أهله من المراكز، كمسألة التحسين والتقبيح، وخلق الأفعل، وتكليف مالا يطاق،
ومسألة خلق القرآن، فإنك تجد ما حكيته لك بعينه". لذلك: كان المسلك القويم
في الإلهيات، والإيمان بما جاء فيها، هو مسلك السلف الصالح، من الصحابة
والتابعين، من حمل صفات الباري على ظاهرها، وفهم الآيات والأحاديث على ما
يوحيه المعنى اللغوي العام، وعدم الخوض في تأويلها، والإيمان بها على ذلك،
دون تكلف ولا تعسف، ولا تشبيه ولا تعطيل، وإثبات ما أثبته اللّه ـ تعالى ـ
لنفسه من صفاته، على وجه لا يعلمه إلا هو، فإنه القائل جل شأنه "لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ". فأثبت لنفسه صفة السمع
والبصر، مع نفي المماثلة للحوادث في الوقت نفسه.
الإمام الشوكاني قد اعتنق هذا المبدأ، وجعل عمدته في الدعوة إلى مذهب السلف هاتين الآيتين الكريمتين:
أولهما قوله تعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ".
وثانيهما قوله تعالى: " يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً".
ففيهما
الإثبات والنفي، إثبات صفات الباري ـ جلَّ شأنه ـ ونفي مماثلة هذه الصفات
للحوادث، ثم تقييد هذا الإثبات بظاهر ما صرحت به الآيات وأجملته، والزجر عن
الخوض في كيفية هذه الصفات. سجل الشوكاني آراءه ومذهبه في ثنايا كتبه
المختلفه ولاسيما كتابيه:
"التحف في مذاهب السلف".
"كشف الشبهات عن المشتبهات".
هذا،
وقد اعتنق الشوكاني هذا المذهب بعد طول بحثه ومطالعة في كتب "علم الكلام"
حتى صرح بأنه لم يعتنق مذهب السلف تقليداً وإنما عن اجتهاد واقتناع ولذلك
يقول:
"ولتعلم
أني لم أقل هذا تقليداً لبعض من أرشدك إلى ترك الاشتغال بهذا الفن، كما
وقع لجماعة من محققي العلماء، بل قلت هذا بعد تضييع برهة من العمر في
الاشتغال به، وإحفاء السؤال لمن يعرفه، والأخذ عن المشهورين به، والإكباب
على مطالعة كثير من مختصراته ومطولاته، حتى قلت عند الوقوف على حقيقته
أبياتاً منها:
وغاية ما حصلته من مباحثي *** ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة*** فما علم من يلق غير التحير
على أنني قد خضت منه غماره *** وما قنعت نفسي بدون التبحر
مذهبه الفقهي
تفقه
الشوكاني في أول حياته على مذهب الإمام زيد بن علي بن الحسين وبرع فيه،
وفاق أهل زمانه، حتى خلع ربقة التقليد، وتحلى بمنصب الإجتهاد، فألف كتابه :
" السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار " فلم يقيد نفسه بمذهب الزيدية،
بل صحح ما أداه إليه اجتهاده بالأدلة، وزيف مالم يقم عليه الدليل، فثار
عليه أهل مذهبه، من الزيدية، المتعصبون لمذهبهم في الأصول والفروع، فكان
يقارعهم بالدليل من الكتاب والسنة، وكلما زادوا ثورة عليه زاد تمسكه
بمسلكه، حتى ألف رسالة سماها: " القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد "
ذهب فيه إلى ذم التقليد وتحريمه، فزاد هذا في تعصبهم عليه، حتى رموه بأنه
يريد هدم مذهب آل البيت، فقامت ـ بسبب هذا ـ فتنة في " صنعاء " بين خصومه
وأنصاره، فرد عليهم بأنه يقف موقفاً واحداً من جميع المذاهب، ولا يخص مذهب
الزيدية بتحريم التقليد فيه.
هكذا
اختار " الشوكاني " لنفسه مذهباً لا يتقيد فيه برأي معين من آراء العلماء
السابقين، بل على حسب ما يؤديه إليه اجتهاده، وهذا ما يلحظه القارئ لكتابه "
نيل الأوطار " حيث ينقل آراء ومذاهب علماء الأمصار، وآراء الصحابة
والتابعين، وحجة كل واحد منهم، ثم يختم ذلك ببيان رأيه الخاص، مختاراً ما
هو راجح فيما يقول.
يرى أن
الاجتهاد قد يسره الله تعالى للمتأخرىن، وأنه أصبح ميسوراً أكثر مما كان
في الصدر الأول فيقول: "... فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم، أن الاجتهاد
قد يسره الله للمتأخرين، تيسيراً لم يكن للسابقين؛ لأن التفاسير للكتاب
العزيز قد دونت، وصارت من الكثرة إلى حد لا يمكن حصره، وكذلك السنة
المطهرة، وتكلم الأئمة في التفسير، والتجريح والتصحيح، والترجيح، بما هو
زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد، وقد كان السلف الصالح، ومن قبل هؤلاء
المنكرين يرحل للحديث الواحد، ومن قطر إلى قطر، فالاجتهاد على المتأخرين
أيسر وأسهل من الاجنهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح،
وعقل سوي ".
الشوكاني وأهل الظاهر
الإمام
الجليل الشوكاني ـ إن لم يكن ظاهرياً فهو من المتعاطفين مع أهل الظاهر
فكان كثير النقل لمذهب أهل الظاهر، بل كان كثير التنديد بمعارضي أهل
الظاهر.
قال عن أثير الدين بن حيان صاحب تفسير البحر المحيط:
"
وكان ظاهرياً وبعد ذلك انتمى إلى الشافعي وكان أبو البقاء يقول: إنه لم
يزل ظاهرياً. قال الإمام ابن حجر كان أبو حيان يقول: محال أن يرجع عن مذهب
الظاهر من علق بذهنه انتهى. ولقد صدق في مقاله فمذهب الظاهر هو أول الفكر
وآخر العمل عند من منح الإنصاف ولم يرد على فطرته ما يغيرها عن أصلها وليس
هو مذهب داود الظاهري وأتباعه بل هو مذهب أكابر العلماء المتقيدين بنصوص
الشرع من عصر الصحابة إلى الآن وداود واحد منهم وإنما اشتهر عنه الجمود في
مسائل وقف فيها على الظاهر حيث لا ينبغي الوقوف وأهمل من أنواع القياس ما
لا ينبغي لمنصف إهماله. وبالجملة فمذهب الظاهر هو العمل بظاهر الكتاب
والسنة بجميع الدلالات وطرح التعويل على محض الرأي الذي لا يرجع إليهما
بوجه من وجوه الدلالة.
أنت
إذا امعنت النظر في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة وجدتها من
مذهب الظاهر بعينه بل إذا رزقت الإنصاف وعرفت العلوم والاجتهاد كما ينبغي
ونظرت في علوم الكتاب والسنة حق النظر كنت ظاهرياً أي عاملاً بظاهر الشرع
منسوباً إليه لا إلى داود الظاهري فإن نسبتك ونسبته إلى الظاهر متفقة وهذه
النسبة هي مساوية للنسبة إلى الإيمان والإسلام وإلى خاتم الرسل عليه أفضل
الصلوات والتسليم. وإلى مذهب الظاهر بالمعنى الذي أوضحناه أشار ابن حزم
بقوله.
وما أنا إلا ظاهري وإنني ---على ما بدا حتى يقوم الدليل.
وقال
عن السواك: " قال النووي: وقد أنكر أصحابنا المتأخرون على الشيخ أبي حامد
وغيره نقل الوجوب عن داود وقالوا: مذهبه أنه سنة كالجماعة، ولو صح إيجابه
عن داود لم يضر مخالفته في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه المحققون
الأكثر. قال وأما إسحاق فلم يصح هذا المحكي عنه انتهى. وعدم الاعتداد بخلاف
داود مع علمه وورعه، وأخذ جماعة من الأئمة الكبار بمذهبه من التعصبات التي
لا مستند لها إلا مجرد الهوى والعصبية، وقد كثر هذا الجنس في أهل المذاهب،
وما أدري ما هو البرهان الذي قام لهؤلاء المحققين حتى أخرجوه من دائرة
علماء المسلمين، فإن كان لما وقع منه من المقالات المستبعدة فهي بالنسبة
إلى مقالات غيره المؤسسة على محض الرأي المضادة لصريح الرواية في حيز القلة
المتبالغة، فإن التعويل على الرأي وعدم الاعتناء بعلم الأدلة قد أفضى بقوم
إلى التمذهب بمذاهب لا يوافق الشريعة منها إلا القليل النادر، وأما داود
فما في مذهبه من البدع التي أوقعه فيها تمسكه بالظاهر وجموده عليه هي في
غاية الندرة، ولكن: لهوى النفوس سريرة لا تعلم.
قال
أبوعبدالرحمن : وقد ناقش الإمام الشوكاني في كتابه النافع "إرشاد الفحول"
(ص 340-348) أدلة مثبتي القياس، ثم ختم بحثه بقوله: "وإذا عرفت ما حرّرناه
وتقرر لديك جميع ما قرّرناه فاعلم أن القياس المأخوذ به هو ما وقع النص على
علته وما قطع فيه بنفي الفارق وما كان من باب فحوى الخطاب أو لحن الخطاب
على اصطلاح من يسمي ذلك قياساً وقد قدمنا أنه من مفهوم الموافقة.
ثم
اعلم أن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياساً وإن كان منصوصاً
على علته أو مقطوعاً فيه بنفي الفارق بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولاً
عليه بدليل الأصل مشمولاً به مندرجاً تحته وبهذا يهون عليك الخطب ويصغر
عندك ما استعظموه ويقرب لديك ما بعدوه، لأن الخلاف في هذا النوع الخاص صار
لفظياً وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به والعمل عليه واختلاف طريقة
العمل لا يستلزم الاختلاف المعنوي لا عقلاً ولا شرعاً ولا عرفاً. وقد قدمنا
لك أن ما جاءوا به من الأدلة العقلية لا تقوم الحجة بشيء منها ولا تستحق
تطويل ذيول البحث بذكرها. وبيان ذلك أن أنهض ما قالوه في ذلك أن النصوص لا
تفي بالأحكام فإنها متناهية والحوادث غير متناهية. ويجاب عن هذا بما قدمنا
من أخباره عز وجل لهذه الأمة بأنه قد أكمل لها دينها وبما أخبرها رسوله صلى
الله عليه وآله وسلم من أنه قد تركها على الواضحة التي ليلها كنهارها.
ثم لا
يخفى على ذي لب صحيح وفهم صالح أن في عمومات الكتاب والسنة ومطلقاتهما
وخصوص نصوصهما ما يفي بكل حادثة تحدث ويقوم ببيان كل نازلة تنزل عرف ذلك من
عرفه وجهله من جهله.
وقال
الإمام الشوكاني ـ ـ جواباً على قول الجويني : المحققون لا يقيمون لخلاف
الظاهرية وزناً، لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد ولا تفي النصوص بعشر
معشارها.
ويجاب
عنه بأن من عرف نصوص الشريعة حق معرفتها وتدبر آيات الكتاب العزيز وتوسع
في الإطلاع على السنة المطهرة علم أن نصوص الشريعة جمع حمّ ولا عيب لهم إلا
ترك العمل بالآراء الفاسدة التي لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا قياس مقبول
* وتلك شكاة ظاهر عنك عارها * نعم قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك
الجمود عليها، ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذاهب غيرهم من العمل بما لا
دليل عليه البتة قليلة جداً. وقال في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه
" البدر الطالع " (1/ 64): " وأقول : أنا لا أعلم بعد ابن حزم مثله، وما
أظنه سمح الزمان ما بين عصر الرجلين بمن شابههما أو يقاربهما ". وقال في
كتابه العظيم " نيل الأوطار " (5/ 84): " واعلم أنه ليس في الباب من
المرفوع ما تقوم به الحجة فمن لم يقبل المرسل ولا رأى حجية أقوال الصحابة
فهو في سعة عن التزام هذه الأحكام وله في ذلك سلف صالح كداود الظاهري ".
مكانته العلمية
إن
واحداً كالإمام الشوكاني، صاحب التصانيف المختلفة، والآثار النافعة ليتحدث
عن نفسه بهذه الآثار، وقديماً قيل: تلك آثارنا تدل علينا *** فاسألوا بعدنا
عن الآثار.
هكذا وصفه أحد تلاميذه العلامة: حسين بن محسن السبعي الأنصاري اليماني.
فهو
بحق إمام الأئمة، ومفتي الأئمة، بحر العلوم، وشمس الفهوم، سند المجتهدين
الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، نادرة الدهر، شيخ الإسلام،
علامة الزمان، ترجمان الحديث والقرآن، علم الزهاد، أوحد العباد، قامع
المبتدعين، رأس الموحدين، تاج المتبعين، صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى
مثلها، قاضي قضاة أهل السنة والجماعة، شيخ الرواية والسماع، علي الإسناد،
السابق في ميدان الاجتهاد، على الأكابر الأمجاد، المطلع على حقائق الشريعة
ومواردها، العارف بغوامضها ومقاصدها.
وقال عنه العلامة حسن بن أحمد البهكلي في كتابه " الخسرواني في أخبار أعيان المخلاف السليماني ":
"
السنة الخمسون بعد المائتين والألف، وفيها في شهر جمادى الآخرة كانت وفاة
شيخنا " محمد بن علي الشوكاني" وهو قاضي الجماعة، شيخ الإسلام، المحقق
العلامة الإمام، سلطان العلماء، إمام الدنيا، خاتمة الحفاظ بلا مراء، الحجة
النقاد، علي الإسناد، السابق في ميدان الاجتهاد ". ثم قال: " وعلى الجملة:
فما رأى مثل نفسه، ولا رأى من رآه مثله علماً وورعاً، وقياماً بالحق، بقوة
جنان، وسلاطة لسان ".
وقال عنه العلامة: صديق حسن خان:
"...
أحرز جميع المعارف، واتفق على تحقيقه المخالف والمؤالف وصار المشار إليه
في علوم الاجتهاد بالبنان، والمجلي في معرفة غوامض الشريعة عند الرهان. له
المؤلفات الجليلة الممتعة المفيدة النافعة في أغلب العلوم، منها : " نيل
الأوطار " شرح منتقى الأخبار لا بن تيمية، لم تكتحل عين الزمان بمثله في
التحقيق، ولم يسمح الدهر بنحوه في التدقيق، أعطى المسائل حقها في كل بحث
على طريق الإنصاف، وعدم التقيد بالتقليد ومذهب الأخلاف والأسلاف، وتناقله
عنه مشايخه الكرام فمن دونهم من الأعلام، وطار في الآفاق في زمن حياته،
وقرئ عليه مراراً، وانتفع به العلماء".
وقال عنه العلامة عبد الحي الكتاني:
"
هو الإمام خاتمة محدثي المشرق وأثريه، العلامة النظار الجهبذ القاضي محمد
بن علي الشوكاني ثم الصنعاني... وقد كان الشوكاني المذكور شامة في وجه
القرن المنصرم، وغرة في جبين الدهر، انتهج من مناهج العلم ما عميَ على كثير
ممن قبله، وأوتي فيه من طلاقة القلم والزعامة مالم ينطق به قلم غيره، فهو
من مفاخر اليمن بل العرب، وناهيك في ترجمته يقول الوجيه عبد الرحمن الأهدل
من " النفس اليماني " لما ترجم شيخهما عبد القادر الكركباني : " وممن تخرج
بسيدي الإمام عبد القادر بن أحمد. ونشر علومه الزاهرة، وانتسب إليه وعوّل
في الاقتداء في سلوك منهاج الحق عليه. إمام عصرنا في سائر العلوم. وخطيب
دهرنا في إيضاح دقائق المنطوق والمفهوم، الحافظ المسند الحجة، الهادي في
إيضاح السنن النبوي إلى المحجة، عز الإسلام محمد بن علي الشوكاني:
إن هزَّ أقلامَهُ يوماً ليعملها *** أنساك كلَّ كميٍّ هزَّ عاملَهُ
وإن أقرَّ على رَقٍّ أناملَــهُ *** أقرَّ بالرِقّ كُتّاب الأنام لهُ
فإن
هذا المذكور من أخص الآخذين عن شيخنا الإمام عبد القادر. وقد منح الله هذا
الإمام ثلاثة أمور لا أعلم أنها في هذا الزمن الأخير جمعت لغيره :
الأول: سعة التبحر في العلوم على اختلاف أجناسها وأنواعها
الثاني: كثرة التلاميذ المحققين أولي الأفهام الخارقة الحقيق أن ينشد عند جمعهم الغفير :
إني إذا حضرتني ألفُ محبرةٍ *** نقولُ أخبرني هذا وحدثني
صاحتْ بعقوتها الأقلامُ قائلةً *** " هذي المكارمُ لا قعبانِ من لبنِ "
الثالث:
سعة التآليف المحررة، ثم عدد معظمها كالتفسير ونيل الأوطار وإرشاد الفحول
والسيل الجرار، ثم نقل أن مؤلفاته الآن بلغت مائة وأربعة عشر تأليفاً مما
قد شاع ووقع في الأمصار الشاسعة الانتفاع بها فضلاً عن القريبة، ثم أنشد:
كلّنا عالمٌ بأنك فينا *** نعمةٌ ساعدتْ بها الأقدارُ
فوَقَتْ نفسَكَ النفوسُ من الشرّ *** وزيدتْ في عمرك الأعمار "
ثم أشار إلى من أفرد ترجمته بالتأليف... ".
وقال
عنه إبراهيم بن عبد الله الحوثي: " زعيم ارباب التأويل سمع وصنف وأطرب
الأسماع بالفتوى وشنف، وحجث وأفاد، وطارت أوراق فتاويه في البلاد، واشتهر
بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رياسة العلم في الحديث والتفسير والأصول
والفروع والتاريخ ومعرفة الرجال وحال الأسانيد في تحصيل العوالي وتمييز
العالي من النازل وغير ذلك".
وقال
فيه لطف بن أحمد جحاف: " احفظ من ادركناه لمتون الحديث وأعرفهم بجرحها
ورجالها وصحيحها وسقيمها وكان شيوخه وأقرانه يعترفون له بذلك ".
وقال
عنه كحاله: " مفسر محدث، فقيه أصولي مؤرخ أديب نحوي منطقي متكلم حكيم صارت
تصانيفه في البلاد في حياته وانتفع الناس بها بعد وفاته، وتفسيره "فتح
القدير" و" نيل الأوطار " في الحديث من خير ما أخرج للناس كما يلاحظ أن
الشوكاني يدخل في المناقشات الفقهية ويذكر أقوال العلماء وأدلتهم في تفسير
كل آية تتعلق بالأحكام".
وقال
عنه الأستاذ الفاضل محمد سعيد البَدْري: " واعلم ـ هدانا الله وإياك ـ أن
لهذا الرجل خصائص قلَّ أن تجدها في غيره من العلماء وهي : سعة العلم
والتحرر من التقليد بالاجتهاد والتمسك الفعلي بالكتاب والسنة وتقديمهما على
ما سواهما كائناً من كان (وهذه سمة المجتهدين دون المقلدين) والانصاف من
الخصوم.
والحق
أن هذه الخصائص لمسناها في كثير من كتبه وبالأخص هذا الكتاب ـ يقصد إرشاد
الفحول ـ ولذا فأنا أعده من أئمة المجتهدين حتى وإن خالفته في بعض المسائل،
تعالى ".
وقال
عنه الدكتور محمد حسن بن أحمد الغماري: " كان محمد بن علي الشوكاني على
مبلغ عظيم من العلم شهد له بذلك علماء عصره ومن أتى بعده بسعة علمه وغزارة
مادته في مختلف الفنون، وامتدحه الناس شعراً ونثراً وكاتبه الملوك والعلماء
من مختلف الأقاليم وألف في شتى العلوم في التفسير والحديث وعلومهما والفقه
والنحو والمنطق والتاريخ والأصول والأدب وله الشعر الرائق والنثر البليغ،
صارت مؤلفاته منتجع العلماء وسار بها الركبان في حياته، وانتفع بها الناس
بعد وفاته.
ألف "
نيل الأوطار " فأبدع وأودع فيه الفرائد، وصنف تفسيره العظيم فكان جامعاً
لما تفرق في غيره وترجم لأعيان من بعد القرن السابع فأتى بالعجب العجاب
وأنه ليعجب الناظر كيف تهيىء له أن يلم بتراجم أعيان ستة قرون كأنه عاش
معهم مع أن الكثير منهم لم يكونوا من أبناء اليمن الذي عاش الشوكاني فيه
ترجم لكل واحد منهم بانصاف ونزاهة.
ألف في
الفقه " الدراري المضيئة " فأبدع فيه وأحسن وألف " السيل الجرار " الذي لم
تخط بنات الأفكار بمثله أقام الدليل وزيف الرأي المحض وألف " الفوائد
المجموعة في الأحاديث الموضوعة " واستدرك على ابن الجوزي والسيوطي وابن
عراق كثيراً مما فاتهم ونبه على أوهامهم في الحكم على بعض الأحاديث بالوضع.
أما
أصول الدين فهو فارس ميدانها وحامل مشعلها فقد حارب الشرك والبدع وأبلى في
سبيل العقيدة الإسلامية بلاء حسناً اقتداء بالأنبياء والمرسلين والدعاة
المخلصين فلقي من الناس العنت والأود وناصبوه العداء ورموه عن قوس واحدة...
".
قال عنه خير الدين الزِرِكْلي: " فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، من أهل صنعاء... وكان يرى تحريم التقليد ".
[توليه القضاء]
في عام 1209 من هجرة المصطفى توفي
كبير قضاة اليمن، القاضي يحيى بن صالح الشجري السحولي، وكان مرجعَ العامة
والخاصة، وعليه المعوَّل في الرأي والأحكام، ومستشار الإمام والوزارة.
قال الشوكاني:
" وكنتُ إذ ذاك مشتغلاً بالتدريس
في علوم الاجتهاد والإفتاء والتصنيف منجمعاً عن الناس لا سيما أهل الأمر
وأرباب الدولة، فإني لا أتَّصِل بأحدٍ منهم كائنًا من كان، ولم يكن لي رغبة
في غير العلوم... فلم أشعر إلا بِطلابٍ لي من الخليفة بعد موت القاضي
المذكور بنحو أسبوع، فعزمتُ إلى مقامه العالي، فذكر لي أنه قد رجح قيامي
مقام القاضي المذكور، فاعتذرتُ له بما كنت فيه من الاشتغال بالعلم، فقال :
القيام بالأمرين ممكنٌ، وليس المراد إلا القيام بفَصْل ما يصل من الخصومات
إلى ديوانه العالي في يَوْمَي اجتماع الحكام فيه. فقلت : سيقع مني
الاستخارة لله والاستشارة لأهل الفضل، وما اختاره الله ففيه الخير. فلمَّا
فارقته ما زلتُ مُتردِّدٍا نحو أسبوع، ولكنَّه وفد إليَّ غالبُ مَنْ ينتسب
إلى العلم في مدينة صنعاء، وأجمعوا على أن الإجابة واجبة، وأنهم يخشوْن أن
يدخل في هذا المنصب ـ الذي إليه مرجِعُ الأحكام الشرعية في جميع الأقطار
اليمنية ـ مَنْ لا يُوثَقُ بدينه وعلمه. فقبلتُ مستعيناً بالله ومتّكلاً
عليه. وأسأل الله بحَوْلِه وطوْله أن يرشدني إلى مراضيه، ويحول بيني وبين
معاصيه، وييسِّر لي الخير حيث كان، ويدفع عني الشر،
ويُقيمني في مقام العَدْل، ويختار لي ما فيه الخير في الدين والدنيا ".
قلتُ: وربَّما أن الشوكاني رأى في منصب القضاء فرصةً لنَشْر السُّنَّة وإماتة البدعة، والدعوة إلى طريق السلف الصالح.
كما أن منصب القضاء سيصدُّ عنه كثيراً من التيارات المعادية له، ويسمح لأتباعه بنَشْر آرائه السديدة، وطريقته المستقيمة.
" والأئمة الثلاثة الذين تولى الشوكاني القضاء الأكبر لهم، ولم يُعزل حتى واتته المنية هم:
1ـ المنصور علي بن المهدي عباس، ولد سنة 1151 هـ، وتوفي سنة 1224 هـ. ومدة خلافته 25 سنة.
2ـ ابنه المتوكل علي بن أحمد بن المنصور علي، ولد سنة 1170 هـ، وتوفي سنة 1231 هـ. ومدة خلافته نحو 7 سنوات.
3ـ المهدي عبد الله، ولد سنة 1208 هـ، وتوفي 1251 هـ، ومدة خلافته 20 سنة ".
قلتُ : كان تولِّي الشوكاني القضاء
كسباً كبيراً للحقِّ، فقد أقام سوق العدالة بيِّنًا، وأنصف المظلوم من
الظالم، وأبعد الرشوةَ، وخفَّف من غُلَوَاء التَّعصب، ودعا الناس إلى
اتِّباع القرآن والسنة.
إلا أن هذا المنصب قد منعه من التحقيق العلمي، يظهر ذلك إذا ما تتبَّع المرءُ مؤلفاته قبل تولِّيه القضاء وبعده، يجد الفَرْق واضحًا
شيوخه
كان
الشوكاني طلعة يبحث عن العلم والمعرفة في المظان المختلفة، ويتنقل بين
المشايخ بحثاً عن المعرفة، الأمر الذي يجعل البحث عن كل شيوخه عسيراً، وسوف
نكتفي هنا بذكر بعض مشايخه المشهورين، فمنهم: 1ـ والده : علي بن محمد بن
عبد الله بن الحسن الشوكاني المتوفى سنة 1211. فقد تولى ولده بالعناية
والرعاية منذ الطفولة، فحفظه القرآن وجوده له، كما حفظه عدداً من المتون
ومبادئ العلوم المختلفة، قبل أن يبدأ طلب العلم على غير والده من علماء
عصره، وكان لهذه العناية المبكرة أثرها البارز في بناء شخصية الشوكاني. 2ـ
أحمد بن محمد بن أحمد بن مطهر القابلي (1158 ـ 1227 ه). قال الشوكاني في
ترجمته: " وقد لازمتُه في الفروع نحو ثلاث عشر سنة، وانتفعتُ به، وتخرَّجت
عليه، وقرأت عليه في: " الأزهار " و" شرحه " و" حواشيه " ثلاث دفعات :
الدفعتين الأوليين اقتصرنا على ما تدعو إليه الحاجة، والدفعة الثالثة
استكملنا الدَّقيق والجَّليل من ذلك مع بحثٍ وتحقيق، ثم قرأت عليه "
الفرائض " للعصيفري، و" شرجها " للنَّاظري، وما عليه من الحواشي، وقرأتُ
عليه " بيان ابن مظفر " و" حواشيه "، وكانت هذه القراءة بحثٍ وإتقانٍ
وتحرير وتقرير". 3ـ أحمد بن عامر الحدائي (1127ـ 1197ه = 1715 ـ 1783م),
قرأ عليه: "الأزهار" و"شرحه" مرتين، و" الفرئض " مرتين. 4ـ أحمد بن محمد
الحرازي المولود سنة 1158ه والمتوفي سنة 1227ه، تلقى عليه الشوكاني الفقه
والفرائض، وظل ملازماً له ثلاث عشر سنة. 5ـ إسماعيل بن الحسن المهدي بن
أحمد ابن الإمام القاسم بن محمد (1120ـ 1206ه). قرأ عليه : " ملحة الإعراب "
للحريري، وشرحها المعروف ب " شرح بحرق "، وفي علم الصرف، والمعاني،
والبيان، والأموال. 6ـ الحسن بن إسماعيل المغربي (1140ـ 1208ه)، قرأ عليه :
بعض " الرسالة الشمسيَّة " للقطب، و" حاشيته " للشريف، وفي " المطول " و"
حواشيه "، وأكمل لديه دراسة " شرح الغاية "، و" حاشيته " لسيلان، و" العضد
"، و"شرحه على المختصر"، و"حاشية السعد"، وما تدعو إليه الحاجة من سائر
الحواشي، وسمع عليه " شرح بلوغ المرام " لجده، وفاته بعض أوله، وبعض " صحيح
مسلم "، و" شرحه " للنووي، وبعض " تنقيح الأنظار " في علوم الحديث، وسمع
عليه جميع " سنن أبي داود"، و" تخريجها" للمنذري، وبعض شرح " المعالم "
للخطابي، وبعض " شرح ابن رسلان ". 7ـ صديق علي المزجاجي الحنفي المولود سنة
1150ه والمتوفي سنة 1209ه، شيخ الشوكاني بالاجازة في الحديث وغيره. 8ـ عبد
الرحمن بن حسن الأكوع (1135ـ 1207ه = 1724 ـ 17772م)، قرأ عليه أوائل
"الشفاء" للأمير الحسين، كتاب في الحديث. 9ـ عبد الرحمن بن قاسم المداني
(1121ـ 1211ه = 1709 ـ 1796م)، قرأ عليه " شرح الأزهار " في أوائل طلبه
للعلم، وباحثه بمباحث علميَّة فقهييَّة دقيقة. 10ـ عبد القادر بن أحمد شرف
الدين الكوكباني المولود سنة 1135ه والمتوفي سنة 1207ه، قرأ عليه الشوكاني
العديد من العلوم مثل: علم التفسير، والحديث، والمصطلح، وغير ذلك من الفنون
المختلفة، وكان حجة في سائر العلوم، ومجتهداً مطلقاً، كما يقول الشوكاني
عنه. 11ـ عبد الله بن إسماعيل النهمي المولود سنة 1150ه والمتوفي سنة
1228ه، قرأ عليه الشوكاني النحو، والصرف، والمنطق، والحديث، والأصول، وغير
ذلك. 12ـ عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي ابن الإمام المتوكل على
الله إسماعيل بن القاسم (1165 ـ 1210ه)، أخذ عنه في أوائل طلبه للعلم "
شرح الجامي " من أوله إلى آخره. 13ـ علي بن أبراهيم بن علي بن عامر الشهيد،
المولود سنة 1140ه والمتوفي سنة 1207ه، سمع عليه " صحيح البخاري " من
أوَّله إلى آخره. قال عنه الشوكاني : كان إماماً في جميع العلوم محققاً لكل
فن ذا سكينة ووقار قل أن يوجد له نظير. 14ـ علي بن هادي عرهب (1164 ـ
1236ه). 15ـ القاسم بن يحيى الخولاني (1162ـ 1209ه = 1714 ـ 1794م)، قرأ
عليه : " الكافية "، و" شرحها " للسيد المفتي، و"شرح الخبيصي على الكافية"،
و"حواشيه"، و"شرح الرضى على الكافية"، وبقي منه بقية يسيرة، و"الشافية "،
و" شرحها " للطف الله الغياث، و"السعد" و" شرحه"، و"شرح الجامي " من أوله
إلى آخره. 16ـ هادي بن حسن القارني ولد سنة 1164ه وتوفي سنة 1247ه، أخذ عنه
القراءات والعربية ثم أخذ عنه في " شرح المنتقى " وغيره. 17ـ يحيى بن محمد
الحوثي (1160ـ 1247ه = 1747ـ 1831م), أخذ عنه الفرائض، والحساب، والضرب،
والمساحة. 18ـ يوسف بن محمد بن علاء المزجاجي (1140ـ 1213ه)، سمع منه،
وأجازه لفظاً بجميع ما يجوز له روايته، وكتب إليه إجازة بعد وصوله إلى
وطنه، ومن جملة ما يرويه عنه : أسانيد الشيخ الحافظ إبراهيم الكردي، وهو
يرويها عن أبيه عن جده بطريقة السَّماع.
تلاميذه
إن
واحداً كالإمام " الشوكاني " جمع من العلوم ما جمع، وأحاط بالمعقول منها
والمنقول، وبرز في شتى المعارف، وأضاف إليها الكثير، بالنظر الثاقب، والفكر
المستنير، وألف العديد من الكتب، لا بد وأن يكون قد تخرج على يديه
الكثيرون واستفاد منه العامة والخاصة.
ومن أشهر تلاميذه:
1ـ
ابنه أحمد بن محمد بن علي الشوكاني ولد سنة 1229ه، وانتفع بعلم والده
وبمؤلفاته، حتى حاز من العلوم السهم الوافر، وانتفع به عدة من الأكابر،
تولى القضاء بمدينة " صنعاء " وله مؤلفات وكان من أكابر علماء اليمن بعد
والده توفي ـ تعالى ـ سنة 1281ه.
2ـ محمد بن أحمد السودي، ولد سنة 1178ه، لازم الإمام " الشوكاني " من بداية طلبه للعلم، حتى مدحه الشوكاني بقوله:
أعز المعالي أنت للدهر زينة *** وأنت على رغم الحواسد ماجده.
توفي سنة 1236ه.
3ـ
محمد بن أحمد مشحم الصعدي الصنعاني، ولد سنة 1186ه وتولى القضاء في " صنعاء
" وغيرها، وأثنى عليه " الشوكاني " كثيراً، وتوفي سنة 1223ه.
4ـ
أحمد بن علي بن محسن، ابن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم. ولد
سنة 1150ه واشتغل بطلب العلم، بعد أن قارب الخمسين، ولازم الإمام "
الشوكاني " نحو عشر سنين توفي سنة 1223ه.
5ـ محمد بن محمد بن هاشم بن يحيى الشامي، ثم الصنعاني، ولد سنة 1178ه وتوفي سنة 1251ه.
6ـ عبد الرحمن بن أحمد البهكلي الضمدي الصبيائي، ولد سنة 1180ه
وتلقى على الشوكاني وغيره، ولكنه كان من أوفى تلاميذ " الشوكاني " ومن الملازمين له، توفي سنة 1227ه.
7ـ أحمد بن عبد الله الضمدي.
أخذ عن
الإمام " الشوكاني " وغيره، ولكن صلته بالشوكاني كانت أكثر، حتى صار
المرجع إليه في التدريس والإفتاء في " ضمد " وما حولها، وله أسئلة عديدة
إلى شيخه " الشوكاني " أجاب له عنها في رسالة سماها " العقد المنضد في جيد
مسائل علامة ضمد "، توفي سنة 1222ه.
8ـ علي بن أحمد بن هاجر الصنعاني، ولد في حدود سنة 1180ه وتبحر في العلوم النقلية
والعقلية،
هو
الإمام أبو علي بدر الدين محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن
محمد بن صلاح بن إبراهيم بن محمد العفيف بن محمد بن رزق، الشوكاني ثم
الصنعاني، وقد أوصل الشوكاني نسبه إلى آدم ـ ـ عند ترجمته لوالده في البدر
الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، ومن
أهل صنعاء، ولد يوم الإثنين الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة 1173 هجرية في
بلدة "هجرة شوكان"، من بلاد خولان باليمن.
قال الإمام الشوكاني ـ عند الكلام على ترجمة والده:
"
ونسبة صاحب الترجمة إلى شوكان ليست حقيقية ؛ لأن وطنه ووطن سلفه وقرابته
هو مكان عدني ـ أي جنوبي ـ " شوكان" بينه وبينها جبل كبير مستطيل يقال له :
"هجرة شوكان" فمن هذه الحيثية كان انتساب أهله إلى "شوكان".
نشأته وطلبه للعلم
نشأ
بصنعاء اليمن، وتربّى في بيت العلم والفضل فنشأ نشأة دينيّة طاهرة، تلقّى
فيها معارفه الأولى على والده وأهل العلم والفضل في بلدته، فحفظ القرآن
الكريم وجوّده، ثم حفظ كتاب "الأزهار" للإمام "المهدي" في فقه الزيديّه،
ومختصر الفرائض للعُصيفيري والملحه للحريري، والكافيه والشّافيه لابن
الحاجب، وغير ذلك من المتون التي اعتاد حفظها طلاب العلم في القرون
المتأخرة, وكان كثير الإشتغال بمطالعة كتب التاريخ، والأدب، وهو لايزال
مشتغلاً بحفظ القرآن الكريم. مما ساعد الإمام الشوكاني على طلب العلم
والنبوغ المبكر: وجوده وتربيته في بيت العلم والفضل، فإن والده كان من
العلماء المبرزين في ذلك العصر، كما أن أكثر أهل هذه القرية كانوا كذلك من
أهل العلم والفضل.
قال
الشيخ " الشوكاني " عن والده وأهل قريته: وهذه الهجرة معمورة بأهل الفضل
والصلاح والدين من قديم الزمان، لايخلو وجود عالم منهم في كل زمن، ولكنه
يكون تارّة في بعض البطون، وتارّة في بطن أخرى، ولهم عند سلف الأئمّة عظيمة
،وفيهم رؤساء كبار، ناصروا الأئمّة، ولاسيما في حروب الأتراك، فإن لهم في
ذلك اليد البيضاء، وكان فيهم إذ ذاك علماء وفضلاء، يعرفون في سائر البلاد
الخولانيه بالقضاة, كما قرأ " التهذيب " للعلامة التفتازاني، و"التلخيص" في
علوم البلاغة للقزويني، والغاية لابن الإمام، و"مختصر المنتهى" لابن
الحاجب في أصول الفقه، و"منظومة الجرزي " في القراءات و"منظومة " الجزار في
العروض، و"آداب البحث والمناظرة" للإمام العضد، وما إلى ذلك من سائر
العلوم النقلية والعقلية, وظل هكذا ينتقل بين العلماء، يتلقَّى عليهم،
ويستفيد منهم، حتى صار إماماً يشار إليه بالبنان، وراسا يرحل إليه، فقصده
طلاب العلم والمعرفة للأخذ عنه، من اليمن والهند، وغيرهما حتى طار صيته في
جميع البلاد، وانتفع بعلمه كثير من الناس
قد تأثر الإمام الشوكاني بشخصيَّات كثيرة من العمالقة الذين كانوا قبله
منهم من بلده اليمن، وأشهرهم:
العلامة محمد بن إبراهيم الوزير
العلامة محمد بن إسماعيل الأمير (ت 1182 هجرية)
العلامة الحسن بن مهدي المقبلي (ت 1108 هجرية)
والحسين أحمد الجلال (ت 804 هجرية).
ومنهم من غير بلده ولم يكونوا في عصره، وعلى رأسهم:
الإمام علي بن حزم الأندلسي (ت 456 هجرية)
شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هجرية
صفاته الخلقية والخُلقية
لم
تذكر كتب التاريخ والتراجم عن صفاته الخلقية سوى أنه كان متوسط الطول، كبير
الرأس، عريض الجبهة، بادي الصحة، موفور العافية. أما صفاته الخُلقية
فكثيرة ومشهورة، حتى ألف في مناقبه وفضائله الكثيرون من تلاميذه، منهم:
السيد العلامة إبراهيم بن عبداللّه الحوثي.
العلامة محمد بن محمد الديلمي.
القاضي العلامة محمد بن حسن الشجني الذماري, ألف في ذلك كتاباً حافلاً سماه: "التقصار في جيد زمن علامة الأقليم والأمصار".
والواضح
في حياة " الشوكاني " أنه بدأ حياته منقبضاً عن الناس، لايتصل بأحد منهم،
إلا في طلب العلم ونشره، ولا سيما هؤلاء الذين يحكمون أو يتصلون بالحاكمين،
وكان يرسل فتاويه، ويصدر أحكامه دون أن يتقاضى عليها أجراً, وكانت حياته
بسيطة متقشفة، يعيش على الكفاف الذي وفره له والده فلما تولى القضاء، وأجزل
له الأجر، تنعم في مأكله ومشربه وملبسه ومركبه، وأضفى على تلاميذه وشيوخه
مما وسع اللّه عليه به, ويذكر بعض المؤرخين أن " الشوكاني " اختص بالكثير
من الإقطاعات والصدقات، وهم يؤكدون أنه لم يترك من ذلك شيئاً، بعد عمل في
القضاء دام أكثر من أربعين عاماً، بل كان ينفق ذلك كله في طرق الخير والبر.
ومن المؤكد ـ كذلك ـ أن الدنيا لم تكن أكبر همه، وأن عرضها الزائل لم يكن
يشغله عن الهدف الأسمى الذي وضعه لنفسه، وهو نشر دين اللّه تعالى وإحقاق
الحق. ولذلك كان يقدر أهل العلم والفضل، الذين لايتكالبون على جمع حطام
الدنيا، والتقرب إلى الحكام.
يذكر
بالتقدير والإجلال ذلك العالم الفاضل: إسماعيل بن علي بن حسن الذي كان يحضر
مجلس الإمام ويقول: لم أسمع منه على طول مدة اجتماعي به هناك مؤذنة
بالخضوع لمطلب من مطالب الدنيا، لا تصريحاً ولا تلويحاً. كان "الشوكاني"
باراً بشيوخه وتلاميذه، فتح أمامهم أبواب العمل في الدوله، ودافع عنهم،
وتشفع لهم عند الأئمة في كل أمر وقعوا فيه. وبالرغم من حدة ذكائه، وجودة
ذهنه، وتشدده لآرائه واجتهاداته، لم يكن يحط من قدر علمه ليدخل في مهاترات
المتعالمين، وكانت قسوته على الأفكار والآراء، لأعلى الأشخاص، لأنه كان
يدرك أنه سبق هذا الجيل بأجيال، فترك ثروته العلمية والفكرية لتتفاعل مع
الزمن، يكشف عن وجهها ما تبديه قرائح العلماء". بالجمله: فمحل القول في هذا
الأمام ذو سعة، فإن وجدت لساناً قائلاً فقل:
زد في العلا مهما تشا رفعة ---وليصنع الحاسد ما يصنع
فالدهر نحوي كما ينبغي ---- يدري الذي يخفض أو يرفع
عقيدته
يرى "
الشوكاني " أن طرق المتكلمين لاتوصل إلى يقين، ولا يمكن أن تصيب الحق فيما
هدفت إليه، لأن معضمها ـ كما يقول ـ قام على أصول ظنية، لا مستند لها إلا
مجرد الدعوى على العقل، والفريه على الفطرة.فكل فريق منهم قد جعل له أصولاً
تخالف ما عليه الآخر، وقد أقام هذه الأصول على ما رآه عنده هو صحيحاً، من
حكم عقله الخاص المبني على نظره القاصر، فبطل عنده ما صح عند غيره، وقاسوا
بهذه الأصول المتعارضه كلام اللّه ورسوله في الإلهيات وما يتصل بها من
العقائد، فأصبح كل منهم يعتقد نقيض ما يعتقده الآخر.
ثم
جعلوا هذه الأصول معياراً لصفات الرب تبارك وتعالى، فأثبتوا للّه الشيء
ونقيضه، ولم ينظروا إلى ما وصف اللّه به نفسه، وما وصفه به رسوله، بل إن
وجدوا ذلك موافقاً لما تعقلوه، جعلوه مؤيداً له ومقوياً، وقالوا: قد ورد
دليل السمع مطابقاً لدليل العقل، وإن وجدوه مخالفاً لما تعقلوه، جعلوه
وارداً على خلاف الأصل ومتشابهاً وغير معقول المعنى، ولا ظاهر الدلاله، ثم
قابلهم المخالف لهم بنقيض قولهم، فافترى على عقله بأنه قد تعقل خلاف ما
تعقله خصمه، وجعل ذلك أصلاً يرد إليه أدلة الكتاب والسنه، وجعل المتشابه
عند أولئك محكماً عنده، والمخالف لدليل العقل عندهم موافقاً له عنده.
من
مظاهر هذا التناقض: ما وقع فيه المعتزلة من مبدأ نفي الصفات، بناء على
مبدئهم في التنزيه، وما غلا فيه الأشعرية من الوقوع في التجسيم، بناء على
ما ذهبوا إليه من التأويل، والمبالغة في الإثبات.
يقول الشوكاني عن هذه المسائل:
"
وإن كنت تشك في هذا، فراجع كتب الكلام، وانظر المسائل التي قد صارت عند
أهله من المراكز، كمسألة التحسين والتقبيح، وخلق الأفعل، وتكليف مالا يطاق،
ومسألة خلق القرآن، فإنك تجد ما حكيته لك بعينه". لذلك: كان المسلك القويم
في الإلهيات، والإيمان بما جاء فيها، هو مسلك السلف الصالح، من الصحابة
والتابعين، من حمل صفات الباري على ظاهرها، وفهم الآيات والأحاديث على ما
يوحيه المعنى اللغوي العام، وعدم الخوض في تأويلها، والإيمان بها على ذلك،
دون تكلف ولا تعسف، ولا تشبيه ولا تعطيل، وإثبات ما أثبته اللّه ـ تعالى ـ
لنفسه من صفاته، على وجه لا يعلمه إلا هو، فإنه القائل جل شأنه "لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ". فأثبت لنفسه صفة السمع
والبصر، مع نفي المماثلة للحوادث في الوقت نفسه.
الإمام الشوكاني قد اعتنق هذا المبدأ، وجعل عمدته في الدعوة إلى مذهب السلف هاتين الآيتين الكريمتين:
أولهما قوله تعالى: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ".
وثانيهما قوله تعالى: " يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً".
ففيهما
الإثبات والنفي، إثبات صفات الباري ـ جلَّ شأنه ـ ونفي مماثلة هذه الصفات
للحوادث، ثم تقييد هذا الإثبات بظاهر ما صرحت به الآيات وأجملته، والزجر عن
الخوض في كيفية هذه الصفات. سجل الشوكاني آراءه ومذهبه في ثنايا كتبه
المختلفه ولاسيما كتابيه:
"التحف في مذاهب السلف".
"كشف الشبهات عن المشتبهات".
هذا،
وقد اعتنق الشوكاني هذا المذهب بعد طول بحثه ومطالعة في كتب "علم الكلام"
حتى صرح بأنه لم يعتنق مذهب السلف تقليداً وإنما عن اجتهاد واقتناع ولذلك
يقول:
"ولتعلم
أني لم أقل هذا تقليداً لبعض من أرشدك إلى ترك الاشتغال بهذا الفن، كما
وقع لجماعة من محققي العلماء، بل قلت هذا بعد تضييع برهة من العمر في
الاشتغال به، وإحفاء السؤال لمن يعرفه، والأخذ عن المشهورين به، والإكباب
على مطالعة كثير من مختصراته ومطولاته، حتى قلت عند الوقوف على حقيقته
أبياتاً منها:
وغاية ما حصلته من مباحثي *** ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة*** فما علم من يلق غير التحير
على أنني قد خضت منه غماره *** وما قنعت نفسي بدون التبحر
مذهبه الفقهي
تفقه
الشوكاني في أول حياته على مذهب الإمام زيد بن علي بن الحسين وبرع فيه،
وفاق أهل زمانه، حتى خلع ربقة التقليد، وتحلى بمنصب الإجتهاد، فألف كتابه :
" السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار " فلم يقيد نفسه بمذهب الزيدية،
بل صحح ما أداه إليه اجتهاده بالأدلة، وزيف مالم يقم عليه الدليل، فثار
عليه أهل مذهبه، من الزيدية، المتعصبون لمذهبهم في الأصول والفروع، فكان
يقارعهم بالدليل من الكتاب والسنة، وكلما زادوا ثورة عليه زاد تمسكه
بمسلكه، حتى ألف رسالة سماها: " القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد "
ذهب فيه إلى ذم التقليد وتحريمه، فزاد هذا في تعصبهم عليه، حتى رموه بأنه
يريد هدم مذهب آل البيت، فقامت ـ بسبب هذا ـ فتنة في " صنعاء " بين خصومه
وأنصاره، فرد عليهم بأنه يقف موقفاً واحداً من جميع المذاهب، ولا يخص مذهب
الزيدية بتحريم التقليد فيه.
هكذا
اختار " الشوكاني " لنفسه مذهباً لا يتقيد فيه برأي معين من آراء العلماء
السابقين، بل على حسب ما يؤديه إليه اجتهاده، وهذا ما يلحظه القارئ لكتابه "
نيل الأوطار " حيث ينقل آراء ومذاهب علماء الأمصار، وآراء الصحابة
والتابعين، وحجة كل واحد منهم، ثم يختم ذلك ببيان رأيه الخاص، مختاراً ما
هو راجح فيما يقول.
يرى أن
الاجتهاد قد يسره الله تعالى للمتأخرىن، وأنه أصبح ميسوراً أكثر مما كان
في الصدر الأول فيقول: "... فإنه لا يخفى على من له أدنى فهم، أن الاجتهاد
قد يسره الله للمتأخرين، تيسيراً لم يكن للسابقين؛ لأن التفاسير للكتاب
العزيز قد دونت، وصارت من الكثرة إلى حد لا يمكن حصره، وكذلك السنة
المطهرة، وتكلم الأئمة في التفسير، والتجريح والتصحيح، والترجيح، بما هو
زيادة على ما يحتاج إليه المجتهد، وقد كان السلف الصالح، ومن قبل هؤلاء
المنكرين يرحل للحديث الواحد، ومن قطر إلى قطر، فالاجتهاد على المتأخرين
أيسر وأسهل من الاجنهاد على المتقدمين، ولا يخالف في هذا من له فهم صحيح،
وعقل سوي ".
الشوكاني وأهل الظاهر
الإمام
الجليل الشوكاني ـ إن لم يكن ظاهرياً فهو من المتعاطفين مع أهل الظاهر
فكان كثير النقل لمذهب أهل الظاهر، بل كان كثير التنديد بمعارضي أهل
الظاهر.
قال عن أثير الدين بن حيان صاحب تفسير البحر المحيط:
"
وكان ظاهرياً وبعد ذلك انتمى إلى الشافعي وكان أبو البقاء يقول: إنه لم
يزل ظاهرياً. قال الإمام ابن حجر كان أبو حيان يقول: محال أن يرجع عن مذهب
الظاهر من علق بذهنه انتهى. ولقد صدق في مقاله فمذهب الظاهر هو أول الفكر
وآخر العمل عند من منح الإنصاف ولم يرد على فطرته ما يغيرها عن أصلها وليس
هو مذهب داود الظاهري وأتباعه بل هو مذهب أكابر العلماء المتقيدين بنصوص
الشرع من عصر الصحابة إلى الآن وداود واحد منهم وإنما اشتهر عنه الجمود في
مسائل وقف فيها على الظاهر حيث لا ينبغي الوقوف وأهمل من أنواع القياس ما
لا ينبغي لمنصف إهماله. وبالجملة فمذهب الظاهر هو العمل بظاهر الكتاب
والسنة بجميع الدلالات وطرح التعويل على محض الرأي الذي لا يرجع إليهما
بوجه من وجوه الدلالة.
أنت
إذا امعنت النظر في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة وجدتها من
مذهب الظاهر بعينه بل إذا رزقت الإنصاف وعرفت العلوم والاجتهاد كما ينبغي
ونظرت في علوم الكتاب والسنة حق النظر كنت ظاهرياً أي عاملاً بظاهر الشرع
منسوباً إليه لا إلى داود الظاهري فإن نسبتك ونسبته إلى الظاهر متفقة وهذه
النسبة هي مساوية للنسبة إلى الإيمان والإسلام وإلى خاتم الرسل عليه أفضل
الصلوات والتسليم. وإلى مذهب الظاهر بالمعنى الذي أوضحناه أشار ابن حزم
بقوله.
وما أنا إلا ظاهري وإنني ---على ما بدا حتى يقوم الدليل.
وقال
عن السواك: " قال النووي: وقد أنكر أصحابنا المتأخرون على الشيخ أبي حامد
وغيره نقل الوجوب عن داود وقالوا: مذهبه أنه سنة كالجماعة، ولو صح إيجابه
عن داود لم يضر مخالفته في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه المحققون
الأكثر. قال وأما إسحاق فلم يصح هذا المحكي عنه انتهى. وعدم الاعتداد بخلاف
داود مع علمه وورعه، وأخذ جماعة من الأئمة الكبار بمذهبه من التعصبات التي
لا مستند لها إلا مجرد الهوى والعصبية، وقد كثر هذا الجنس في أهل المذاهب،
وما أدري ما هو البرهان الذي قام لهؤلاء المحققين حتى أخرجوه من دائرة
علماء المسلمين، فإن كان لما وقع منه من المقالات المستبعدة فهي بالنسبة
إلى مقالات غيره المؤسسة على محض الرأي المضادة لصريح الرواية في حيز القلة
المتبالغة، فإن التعويل على الرأي وعدم الاعتناء بعلم الأدلة قد أفضى بقوم
إلى التمذهب بمذاهب لا يوافق الشريعة منها إلا القليل النادر، وأما داود
فما في مذهبه من البدع التي أوقعه فيها تمسكه بالظاهر وجموده عليه هي في
غاية الندرة، ولكن: لهوى النفوس سريرة لا تعلم.
قال
أبوعبدالرحمن : وقد ناقش الإمام الشوكاني في كتابه النافع "إرشاد الفحول"
(ص 340-348) أدلة مثبتي القياس، ثم ختم بحثه بقوله: "وإذا عرفت ما حرّرناه
وتقرر لديك جميع ما قرّرناه فاعلم أن القياس المأخوذ به هو ما وقع النص على
علته وما قطع فيه بنفي الفارق وما كان من باب فحوى الخطاب أو لحن الخطاب
على اصطلاح من يسمي ذلك قياساً وقد قدمنا أنه من مفهوم الموافقة.
ثم
اعلم أن نفاة القياس لم يقولوا بإهدار كل ما يسمى قياساً وإن كان منصوصاً
على علته أو مقطوعاً فيه بنفي الفارق بل جعلوا هذا النوع من القياس مدلولاً
عليه بدليل الأصل مشمولاً به مندرجاً تحته وبهذا يهون عليك الخطب ويصغر
عندك ما استعظموه ويقرب لديك ما بعدوه، لأن الخلاف في هذا النوع الخاص صار
لفظياً وهو من حيث المعنى متفق على الأخذ به والعمل عليه واختلاف طريقة
العمل لا يستلزم الاختلاف المعنوي لا عقلاً ولا شرعاً ولا عرفاً. وقد قدمنا
لك أن ما جاءوا به من الأدلة العقلية لا تقوم الحجة بشيء منها ولا تستحق
تطويل ذيول البحث بذكرها. وبيان ذلك أن أنهض ما قالوه في ذلك أن النصوص لا
تفي بالأحكام فإنها متناهية والحوادث غير متناهية. ويجاب عن هذا بما قدمنا
من أخباره عز وجل لهذه الأمة بأنه قد أكمل لها دينها وبما أخبرها رسوله صلى
الله عليه وآله وسلم من أنه قد تركها على الواضحة التي ليلها كنهارها.
ثم لا
يخفى على ذي لب صحيح وفهم صالح أن في عمومات الكتاب والسنة ومطلقاتهما
وخصوص نصوصهما ما يفي بكل حادثة تحدث ويقوم ببيان كل نازلة تنزل عرف ذلك من
عرفه وجهله من جهله.
وقال
الإمام الشوكاني ـ ـ جواباً على قول الجويني : المحققون لا يقيمون لخلاف
الظاهرية وزناً، لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد ولا تفي النصوص بعشر
معشارها.
ويجاب
عنه بأن من عرف نصوص الشريعة حق معرفتها وتدبر آيات الكتاب العزيز وتوسع
في الإطلاع على السنة المطهرة علم أن نصوص الشريعة جمع حمّ ولا عيب لهم إلا
ترك العمل بالآراء الفاسدة التي لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا قياس مقبول
* وتلك شكاة ظاهر عنك عارها * نعم قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك
الجمود عليها، ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذاهب غيرهم من العمل بما لا
دليل عليه البتة قليلة جداً. وقال في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه
" البدر الطالع " (1/ 64): " وأقول : أنا لا أعلم بعد ابن حزم مثله، وما
أظنه سمح الزمان ما بين عصر الرجلين بمن شابههما أو يقاربهما ". وقال في
كتابه العظيم " نيل الأوطار " (5/ 84): " واعلم أنه ليس في الباب من
المرفوع ما تقوم به الحجة فمن لم يقبل المرسل ولا رأى حجية أقوال الصحابة
فهو في سعة عن التزام هذه الأحكام وله في ذلك سلف صالح كداود الظاهري ".
مكانته العلمية
إن
واحداً كالإمام الشوكاني، صاحب التصانيف المختلفة، والآثار النافعة ليتحدث
عن نفسه بهذه الآثار، وقديماً قيل: تلك آثارنا تدل علينا *** فاسألوا بعدنا
عن الآثار.
هكذا وصفه أحد تلاميذه العلامة: حسين بن محسن السبعي الأنصاري اليماني.
فهو
بحق إمام الأئمة، ومفتي الأئمة، بحر العلوم، وشمس الفهوم، سند المجتهدين
الحفاظ، فارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، نادرة الدهر، شيخ الإسلام،
علامة الزمان، ترجمان الحديث والقرآن، علم الزهاد، أوحد العباد، قامع
المبتدعين، رأس الموحدين، تاج المتبعين، صاحب التصانيف التي لم يسبق إلى
مثلها، قاضي قضاة أهل السنة والجماعة، شيخ الرواية والسماع، علي الإسناد،
السابق في ميدان الاجتهاد، على الأكابر الأمجاد، المطلع على حقائق الشريعة
ومواردها، العارف بغوامضها ومقاصدها.
وقال عنه العلامة حسن بن أحمد البهكلي في كتابه " الخسرواني في أخبار أعيان المخلاف السليماني ":
"
السنة الخمسون بعد المائتين والألف، وفيها في شهر جمادى الآخرة كانت وفاة
شيخنا " محمد بن علي الشوكاني" وهو قاضي الجماعة، شيخ الإسلام، المحقق
العلامة الإمام، سلطان العلماء، إمام الدنيا، خاتمة الحفاظ بلا مراء، الحجة
النقاد، علي الإسناد، السابق في ميدان الاجتهاد ". ثم قال: " وعلى الجملة:
فما رأى مثل نفسه، ولا رأى من رآه مثله علماً وورعاً، وقياماً بالحق، بقوة
جنان، وسلاطة لسان ".
وقال عنه العلامة: صديق حسن خان:
"...
أحرز جميع المعارف، واتفق على تحقيقه المخالف والمؤالف وصار المشار إليه
في علوم الاجتهاد بالبنان، والمجلي في معرفة غوامض الشريعة عند الرهان. له
المؤلفات الجليلة الممتعة المفيدة النافعة في أغلب العلوم، منها : " نيل
الأوطار " شرح منتقى الأخبار لا بن تيمية، لم تكتحل عين الزمان بمثله في
التحقيق، ولم يسمح الدهر بنحوه في التدقيق، أعطى المسائل حقها في كل بحث
على طريق الإنصاف، وعدم التقيد بالتقليد ومذهب الأخلاف والأسلاف، وتناقله
عنه مشايخه الكرام فمن دونهم من الأعلام، وطار في الآفاق في زمن حياته،
وقرئ عليه مراراً، وانتفع به العلماء".
وقال عنه العلامة عبد الحي الكتاني:
"
هو الإمام خاتمة محدثي المشرق وأثريه، العلامة النظار الجهبذ القاضي محمد
بن علي الشوكاني ثم الصنعاني... وقد كان الشوكاني المذكور شامة في وجه
القرن المنصرم، وغرة في جبين الدهر، انتهج من مناهج العلم ما عميَ على كثير
ممن قبله، وأوتي فيه من طلاقة القلم والزعامة مالم ينطق به قلم غيره، فهو
من مفاخر اليمن بل العرب، وناهيك في ترجمته يقول الوجيه عبد الرحمن الأهدل
من " النفس اليماني " لما ترجم شيخهما عبد القادر الكركباني : " وممن تخرج
بسيدي الإمام عبد القادر بن أحمد. ونشر علومه الزاهرة، وانتسب إليه وعوّل
في الاقتداء في سلوك منهاج الحق عليه. إمام عصرنا في سائر العلوم. وخطيب
دهرنا في إيضاح دقائق المنطوق والمفهوم، الحافظ المسند الحجة، الهادي في
إيضاح السنن النبوي إلى المحجة، عز الإسلام محمد بن علي الشوكاني:
إن هزَّ أقلامَهُ يوماً ليعملها *** أنساك كلَّ كميٍّ هزَّ عاملَهُ
وإن أقرَّ على رَقٍّ أناملَــهُ *** أقرَّ بالرِقّ كُتّاب الأنام لهُ
فإن
هذا المذكور من أخص الآخذين عن شيخنا الإمام عبد القادر. وقد منح الله هذا
الإمام ثلاثة أمور لا أعلم أنها في هذا الزمن الأخير جمعت لغيره :
الأول: سعة التبحر في العلوم على اختلاف أجناسها وأنواعها
الثاني: كثرة التلاميذ المحققين أولي الأفهام الخارقة الحقيق أن ينشد عند جمعهم الغفير :
إني إذا حضرتني ألفُ محبرةٍ *** نقولُ أخبرني هذا وحدثني
صاحتْ بعقوتها الأقلامُ قائلةً *** " هذي المكارمُ لا قعبانِ من لبنِ "
الثالث:
سعة التآليف المحررة، ثم عدد معظمها كالتفسير ونيل الأوطار وإرشاد الفحول
والسيل الجرار، ثم نقل أن مؤلفاته الآن بلغت مائة وأربعة عشر تأليفاً مما
قد شاع ووقع في الأمصار الشاسعة الانتفاع بها فضلاً عن القريبة، ثم أنشد:
كلّنا عالمٌ بأنك فينا *** نعمةٌ ساعدتْ بها الأقدارُ
فوَقَتْ نفسَكَ النفوسُ من الشرّ *** وزيدتْ في عمرك الأعمار "
ثم أشار إلى من أفرد ترجمته بالتأليف... ".
وقال
عنه إبراهيم بن عبد الله الحوثي: " زعيم ارباب التأويل سمع وصنف وأطرب
الأسماع بالفتوى وشنف، وحجث وأفاد، وطارت أوراق فتاويه في البلاد، واشتهر
بالضبط والتحرير، وانتهت إليه رياسة العلم في الحديث والتفسير والأصول
والفروع والتاريخ ومعرفة الرجال وحال الأسانيد في تحصيل العوالي وتمييز
العالي من النازل وغير ذلك".
وقال
فيه لطف بن أحمد جحاف: " احفظ من ادركناه لمتون الحديث وأعرفهم بجرحها
ورجالها وصحيحها وسقيمها وكان شيوخه وأقرانه يعترفون له بذلك ".
وقال
عنه كحاله: " مفسر محدث، فقيه أصولي مؤرخ أديب نحوي منطقي متكلم حكيم صارت
تصانيفه في البلاد في حياته وانتفع الناس بها بعد وفاته، وتفسيره "فتح
القدير" و" نيل الأوطار " في الحديث من خير ما أخرج للناس كما يلاحظ أن
الشوكاني يدخل في المناقشات الفقهية ويذكر أقوال العلماء وأدلتهم في تفسير
كل آية تتعلق بالأحكام".
وقال
عنه الأستاذ الفاضل محمد سعيد البَدْري: " واعلم ـ هدانا الله وإياك ـ أن
لهذا الرجل خصائص قلَّ أن تجدها في غيره من العلماء وهي : سعة العلم
والتحرر من التقليد بالاجتهاد والتمسك الفعلي بالكتاب والسنة وتقديمهما على
ما سواهما كائناً من كان (وهذه سمة المجتهدين دون المقلدين) والانصاف من
الخصوم.
والحق
أن هذه الخصائص لمسناها في كثير من كتبه وبالأخص هذا الكتاب ـ يقصد إرشاد
الفحول ـ ولذا فأنا أعده من أئمة المجتهدين حتى وإن خالفته في بعض المسائل،
تعالى ".
وقال
عنه الدكتور محمد حسن بن أحمد الغماري: " كان محمد بن علي الشوكاني على
مبلغ عظيم من العلم شهد له بذلك علماء عصره ومن أتى بعده بسعة علمه وغزارة
مادته في مختلف الفنون، وامتدحه الناس شعراً ونثراً وكاتبه الملوك والعلماء
من مختلف الأقاليم وألف في شتى العلوم في التفسير والحديث وعلومهما والفقه
والنحو والمنطق والتاريخ والأصول والأدب وله الشعر الرائق والنثر البليغ،
صارت مؤلفاته منتجع العلماء وسار بها الركبان في حياته، وانتفع بها الناس
بعد وفاته.
ألف "
نيل الأوطار " فأبدع وأودع فيه الفرائد، وصنف تفسيره العظيم فكان جامعاً
لما تفرق في غيره وترجم لأعيان من بعد القرن السابع فأتى بالعجب العجاب
وأنه ليعجب الناظر كيف تهيىء له أن يلم بتراجم أعيان ستة قرون كأنه عاش
معهم مع أن الكثير منهم لم يكونوا من أبناء اليمن الذي عاش الشوكاني فيه
ترجم لكل واحد منهم بانصاف ونزاهة.
ألف في
الفقه " الدراري المضيئة " فأبدع فيه وأحسن وألف " السيل الجرار " الذي لم
تخط بنات الأفكار بمثله أقام الدليل وزيف الرأي المحض وألف " الفوائد
المجموعة في الأحاديث الموضوعة " واستدرك على ابن الجوزي والسيوطي وابن
عراق كثيراً مما فاتهم ونبه على أوهامهم في الحكم على بعض الأحاديث بالوضع.
أما
أصول الدين فهو فارس ميدانها وحامل مشعلها فقد حارب الشرك والبدع وأبلى في
سبيل العقيدة الإسلامية بلاء حسناً اقتداء بالأنبياء والمرسلين والدعاة
المخلصين فلقي من الناس العنت والأود وناصبوه العداء ورموه عن قوس واحدة...
".
قال عنه خير الدين الزِرِكْلي: " فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن، من أهل صنعاء... وكان يرى تحريم التقليد ".
[توليه القضاء]
في عام 1209 من هجرة المصطفى توفي
كبير قضاة اليمن، القاضي يحيى بن صالح الشجري السحولي، وكان مرجعَ العامة
والخاصة، وعليه المعوَّل في الرأي والأحكام، ومستشار الإمام والوزارة.
قال الشوكاني:
" وكنتُ إذ ذاك مشتغلاً بالتدريس
في علوم الاجتهاد والإفتاء والتصنيف منجمعاً عن الناس لا سيما أهل الأمر
وأرباب الدولة، فإني لا أتَّصِل بأحدٍ منهم كائنًا من كان، ولم يكن لي رغبة
في غير العلوم... فلم أشعر إلا بِطلابٍ لي من الخليفة بعد موت القاضي
المذكور بنحو أسبوع، فعزمتُ إلى مقامه العالي، فذكر لي أنه قد رجح قيامي
مقام القاضي المذكور، فاعتذرتُ له بما كنت فيه من الاشتغال بالعلم، فقال :
القيام بالأمرين ممكنٌ، وليس المراد إلا القيام بفَصْل ما يصل من الخصومات
إلى ديوانه العالي في يَوْمَي اجتماع الحكام فيه. فقلت : سيقع مني
الاستخارة لله والاستشارة لأهل الفضل، وما اختاره الله ففيه الخير. فلمَّا
فارقته ما زلتُ مُتردِّدٍا نحو أسبوع، ولكنَّه وفد إليَّ غالبُ مَنْ ينتسب
إلى العلم في مدينة صنعاء، وأجمعوا على أن الإجابة واجبة، وأنهم يخشوْن أن
يدخل في هذا المنصب ـ الذي إليه مرجِعُ الأحكام الشرعية في جميع الأقطار
اليمنية ـ مَنْ لا يُوثَقُ بدينه وعلمه. فقبلتُ مستعيناً بالله ومتّكلاً
عليه. وأسأل الله بحَوْلِه وطوْله أن يرشدني إلى مراضيه، ويحول بيني وبين
معاصيه، وييسِّر لي الخير حيث كان، ويدفع عني الشر،
ويُقيمني في مقام العَدْل، ويختار لي ما فيه الخير في الدين والدنيا ".
قلتُ: وربَّما أن الشوكاني رأى في منصب القضاء فرصةً لنَشْر السُّنَّة وإماتة البدعة، والدعوة إلى طريق السلف الصالح.
كما أن منصب القضاء سيصدُّ عنه كثيراً من التيارات المعادية له، ويسمح لأتباعه بنَشْر آرائه السديدة، وطريقته المستقيمة.
" والأئمة الثلاثة الذين تولى الشوكاني القضاء الأكبر لهم، ولم يُعزل حتى واتته المنية هم:
1ـ المنصور علي بن المهدي عباس، ولد سنة 1151 هـ، وتوفي سنة 1224 هـ. ومدة خلافته 25 سنة.
2ـ ابنه المتوكل علي بن أحمد بن المنصور علي، ولد سنة 1170 هـ، وتوفي سنة 1231 هـ. ومدة خلافته نحو 7 سنوات.
3ـ المهدي عبد الله، ولد سنة 1208 هـ، وتوفي 1251 هـ، ومدة خلافته 20 سنة ".
قلتُ : كان تولِّي الشوكاني القضاء
كسباً كبيراً للحقِّ، فقد أقام سوق العدالة بيِّنًا، وأنصف المظلوم من
الظالم، وأبعد الرشوةَ، وخفَّف من غُلَوَاء التَّعصب، ودعا الناس إلى
اتِّباع القرآن والسنة.
إلا أن هذا المنصب قد منعه من التحقيق العلمي، يظهر ذلك إذا ما تتبَّع المرءُ مؤلفاته قبل تولِّيه القضاء وبعده، يجد الفَرْق واضحًا
شيوخه
كان
الشوكاني طلعة يبحث عن العلم والمعرفة في المظان المختلفة، ويتنقل بين
المشايخ بحثاً عن المعرفة، الأمر الذي يجعل البحث عن كل شيوخه عسيراً، وسوف
نكتفي هنا بذكر بعض مشايخه المشهورين، فمنهم: 1ـ والده : علي بن محمد بن
عبد الله بن الحسن الشوكاني المتوفى سنة 1211. فقد تولى ولده بالعناية
والرعاية منذ الطفولة، فحفظه القرآن وجوده له، كما حفظه عدداً من المتون
ومبادئ العلوم المختلفة، قبل أن يبدأ طلب العلم على غير والده من علماء
عصره، وكان لهذه العناية المبكرة أثرها البارز في بناء شخصية الشوكاني. 2ـ
أحمد بن محمد بن أحمد بن مطهر القابلي (1158 ـ 1227 ه). قال الشوكاني في
ترجمته: " وقد لازمتُه في الفروع نحو ثلاث عشر سنة، وانتفعتُ به، وتخرَّجت
عليه، وقرأت عليه في: " الأزهار " و" شرحه " و" حواشيه " ثلاث دفعات :
الدفعتين الأوليين اقتصرنا على ما تدعو إليه الحاجة، والدفعة الثالثة
استكملنا الدَّقيق والجَّليل من ذلك مع بحثٍ وتحقيق، ثم قرأت عليه "
الفرائض " للعصيفري، و" شرجها " للنَّاظري، وما عليه من الحواشي، وقرأتُ
عليه " بيان ابن مظفر " و" حواشيه "، وكانت هذه القراءة بحثٍ وإتقانٍ
وتحرير وتقرير". 3ـ أحمد بن عامر الحدائي (1127ـ 1197ه = 1715 ـ 1783م),
قرأ عليه: "الأزهار" و"شرحه" مرتين، و" الفرئض " مرتين. 4ـ أحمد بن محمد
الحرازي المولود سنة 1158ه والمتوفي سنة 1227ه، تلقى عليه الشوكاني الفقه
والفرائض، وظل ملازماً له ثلاث عشر سنة. 5ـ إسماعيل بن الحسن المهدي بن
أحمد ابن الإمام القاسم بن محمد (1120ـ 1206ه). قرأ عليه : " ملحة الإعراب "
للحريري، وشرحها المعروف ب " شرح بحرق "، وفي علم الصرف، والمعاني،
والبيان، والأموال. 6ـ الحسن بن إسماعيل المغربي (1140ـ 1208ه)، قرأ عليه :
بعض " الرسالة الشمسيَّة " للقطب، و" حاشيته " للشريف، وفي " المطول " و"
حواشيه "، وأكمل لديه دراسة " شرح الغاية "، و" حاشيته " لسيلان، و" العضد
"، و"شرحه على المختصر"، و"حاشية السعد"، وما تدعو إليه الحاجة من سائر
الحواشي، وسمع عليه " شرح بلوغ المرام " لجده، وفاته بعض أوله، وبعض " صحيح
مسلم "، و" شرحه " للنووي، وبعض " تنقيح الأنظار " في علوم الحديث، وسمع
عليه جميع " سنن أبي داود"، و" تخريجها" للمنذري، وبعض شرح " المعالم "
للخطابي، وبعض " شرح ابن رسلان ". 7ـ صديق علي المزجاجي الحنفي المولود سنة
1150ه والمتوفي سنة 1209ه، شيخ الشوكاني بالاجازة في الحديث وغيره. 8ـ عبد
الرحمن بن حسن الأكوع (1135ـ 1207ه = 1724 ـ 17772م)، قرأ عليه أوائل
"الشفاء" للأمير الحسين، كتاب في الحديث. 9ـ عبد الرحمن بن قاسم المداني
(1121ـ 1211ه = 1709 ـ 1796م)، قرأ عليه " شرح الأزهار " في أوائل طلبه
للعلم، وباحثه بمباحث علميَّة فقهييَّة دقيقة. 10ـ عبد القادر بن أحمد شرف
الدين الكوكباني المولود سنة 1135ه والمتوفي سنة 1207ه، قرأ عليه الشوكاني
العديد من العلوم مثل: علم التفسير، والحديث، والمصطلح، وغير ذلك من الفنون
المختلفة، وكان حجة في سائر العلوم، ومجتهداً مطلقاً، كما يقول الشوكاني
عنه. 11ـ عبد الله بن إسماعيل النهمي المولود سنة 1150ه والمتوفي سنة
1228ه، قرأ عليه الشوكاني النحو، والصرف، والمنطق، والحديث، والأصول، وغير
ذلك. 12ـ عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي ابن الإمام المتوكل على
الله إسماعيل بن القاسم (1165 ـ 1210ه)، أخذ عنه في أوائل طلبه للعلم "
شرح الجامي " من أوله إلى آخره. 13ـ علي بن أبراهيم بن علي بن عامر الشهيد،
المولود سنة 1140ه والمتوفي سنة 1207ه، سمع عليه " صحيح البخاري " من
أوَّله إلى آخره. قال عنه الشوكاني : كان إماماً في جميع العلوم محققاً لكل
فن ذا سكينة ووقار قل أن يوجد له نظير. 14ـ علي بن هادي عرهب (1164 ـ
1236ه). 15ـ القاسم بن يحيى الخولاني (1162ـ 1209ه = 1714 ـ 1794م)، قرأ
عليه : " الكافية "، و" شرحها " للسيد المفتي، و"شرح الخبيصي على الكافية"،
و"حواشيه"، و"شرح الرضى على الكافية"، وبقي منه بقية يسيرة، و"الشافية "،
و" شرحها " للطف الله الغياث، و"السعد" و" شرحه"، و"شرح الجامي " من أوله
إلى آخره. 16ـ هادي بن حسن القارني ولد سنة 1164ه وتوفي سنة 1247ه، أخذ عنه
القراءات والعربية ثم أخذ عنه في " شرح المنتقى " وغيره. 17ـ يحيى بن محمد
الحوثي (1160ـ 1247ه = 1747ـ 1831م), أخذ عنه الفرائض، والحساب، والضرب،
والمساحة. 18ـ يوسف بن محمد بن علاء المزجاجي (1140ـ 1213ه)، سمع منه،
وأجازه لفظاً بجميع ما يجوز له روايته، وكتب إليه إجازة بعد وصوله إلى
وطنه، ومن جملة ما يرويه عنه : أسانيد الشيخ الحافظ إبراهيم الكردي، وهو
يرويها عن أبيه عن جده بطريقة السَّماع.
تلاميذه
إن
واحداً كالإمام " الشوكاني " جمع من العلوم ما جمع، وأحاط بالمعقول منها
والمنقول، وبرز في شتى المعارف، وأضاف إليها الكثير، بالنظر الثاقب، والفكر
المستنير، وألف العديد من الكتب، لا بد وأن يكون قد تخرج على يديه
الكثيرون واستفاد منه العامة والخاصة.
ومن أشهر تلاميذه:
1ـ
ابنه أحمد بن محمد بن علي الشوكاني ولد سنة 1229ه، وانتفع بعلم والده
وبمؤلفاته، حتى حاز من العلوم السهم الوافر، وانتفع به عدة من الأكابر،
تولى القضاء بمدينة " صنعاء " وله مؤلفات وكان من أكابر علماء اليمن بعد
والده توفي ـ تعالى ـ سنة 1281ه.
2ـ محمد بن أحمد السودي، ولد سنة 1178ه، لازم الإمام " الشوكاني " من بداية طلبه للعلم، حتى مدحه الشوكاني بقوله:
أعز المعالي أنت للدهر زينة *** وأنت على رغم الحواسد ماجده.
توفي سنة 1236ه.
3ـ
محمد بن أحمد مشحم الصعدي الصنعاني، ولد سنة 1186ه وتولى القضاء في " صنعاء
" وغيرها، وأثنى عليه " الشوكاني " كثيراً، وتوفي سنة 1223ه.
4ـ
أحمد بن علي بن محسن، ابن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم. ولد
سنة 1150ه واشتغل بطلب العلم، بعد أن قارب الخمسين، ولازم الإمام "
الشوكاني " نحو عشر سنين توفي سنة 1223ه.
5ـ محمد بن محمد بن هاشم بن يحيى الشامي، ثم الصنعاني، ولد سنة 1178ه وتوفي سنة 1251ه.
6ـ عبد الرحمن بن أحمد البهكلي الضمدي الصبيائي، ولد سنة 1180ه
وتلقى على الشوكاني وغيره، ولكنه كان من أوفى تلاميذ " الشوكاني " ومن الملازمين له، توفي سنة 1227ه.
7ـ أحمد بن عبد الله الضمدي.
أخذ عن
الإمام " الشوكاني " وغيره، ولكن صلته بالشوكاني كانت أكثر، حتى صار
المرجع إليه في التدريس والإفتاء في " ضمد " وما حولها، وله أسئلة عديدة
إلى شيخه " الشوكاني " أجاب له عنها في رسالة سماها " العقد المنضد في جيد
مسائل علامة ضمد "، توفي سنة 1222ه.
8ـ علي بن أحمد بن هاجر الصنعاني، ولد في حدود سنة 1180ه وتبحر في العلوم النقلية
والعقلية،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق