الجمعة، 23 أغسطس 2019

لوط (عليه السلام)

عاش نبي الله "لوط بن هاران بن تارح" - عليه السلام- مع عمه "إبراهيم" – عليه السلام- فترة من الزمن بأرض الرافدين (العراق حالياً) ، فأسلم على يديه، وتأثر بما كان يجرى بينه وبين قومه من صراع ، ورأى كيف وقف "إبراهيم" – عليه السلام- في وجه قومه يدعوهم إلى الله، ويأمرهم بترك عبادة أحجار لا تضر ولا تنفع ، ويطلب منهم الإيمان بدعوته والدخول في الإسلام ، فما كان من قومه إلا أن آذوه أشد الإيذاء ، حتى وصل بهم الأمر إلى أن يجمعوا له حطبًا ويحرقوه بالنار ، لولا أن نجاه الله منها ، وأعرضوا عنه وعن دعوته ، ثم تبرؤوا  منه ، وعند ذلك هاجر "إبراهيم" – عليه السلام- إلى "فلسطين" واصطحب معه ابن أخيه "لوطًا"، وهناك عاشا معًا مدة من الزمن ، بعدها ترك "لوط" عمه "إبراهيم" في أرض "فلسطين" وذهب إلى "سدوم" بالأردن ؛ لأن الله – عز وجل- أرسله نبيًّا إلى أهلها، يدعوهم إلى عبادة الله ، وينهاهم عما هم عليه من أخلاق فاسدة .
فذهب إليهم نبي الله "لوط" ، وأخذ ينهاهم عن الفواحش والمنكرات ، ودعاهم إلى الإسراع بالتوبة ، وتوعدهم إن لم يرجعوا عما هم عليه، فسوف يعذبهم الله عذابًا شديدًا، لكن أهل "سدوم" لم يستجيبوا لدعوته، بل تمادوا في فجورهم وطغيانهم ، حتى وصل بهم الأمر إلى أن حدثتهم نفوسهم الخبيثة أن يطردوا نبيهم، ومن آمن معه من قريتهم وقالوا :
" أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)"  (النمل:56)
ألح عليهم نبي الله "لوط" – عليه السلام- بدعوته ، وحذرهم من سوء عاقبتهم إذا استمروا على ذلك ، لكنهم استهزؤوا به ، وسألوه أن يأتيهم بالعذاب ، ويعجله لهم إن كان من الصادقين ، وعندما تأكد نبي الله "لوط" – عليه السلام – من أنهم لم يستجيبوا له ، دعا ربه أن ينصره عليهم، قال الله تعالى :

 "قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)"  (العنكبوت:30)
فاستجاب الله – عز وجل- لدعوة نبيه "لوط" – عليه السلام – وأرسل إلى قومه ملائكة كرامًا لإهلاكهم .

فمر هؤلاء الملائكة الكرام في طريقهم إلى قوم "لوط" على "إبراهيم" الخليل – عليه السلام- بأمر الله- تعالى- وكانوا قد تشكلوا بصورة رجال وجوههم جميلة، فبشروه بغلام عليم ، وهو "إسحاق" ، ومن وراء "إسحاق""يعقوب" ، وأخبروه أنهم ذاهبون للانتقام من قوم "لوط" أهل "سدوم" وما حولها، وأن الله أمرهم بإهلاك أهل هذه المدائن، وعندما سمع "إبراهيم" – عليه السلام – ما قالته الملائكة ، وما أرسلوا به من العذاب ، تخوف على ابن أخيه "لوط" – عليه السلام- أن يصيبه أذى، فقال لهم: إن فيها "لوطًا".

 فأخبروه بأنهم أعلم بمن فيها، وأن الله – عز وجل – سينجى "لوطًا" وأهله إلا امرأته التي لم تؤمن به ، وصارت تعين هؤلاء الفجار على هذا العمل الخبيث، قال الله تعالى :

" قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58)إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)"  (الحجر:58-60)
خرجت الملائكة من عند نبي الله "إبراهيم" – عليه السلام- وتوجهوا نحو قرية "سدوم"

وعندما علم "لوط" – عليه السلام- بشأنهم خرج إليهم متخفيًا بعيدًا عن أنظار قومه حتى لا يعلموا بقدومهم ، وعندما رآهم اغتم، لأنه خاف عليهم من أولئك الأشرار المجرمين ، وخشى أن يكون قد رآهم واحد من قومه حين دخلوا عليه ، فيذهب فيخبر قومه ، قال تعالى:

" وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ (78)" (هود:77-78)
وسرعان ما حصل ما كان يخشاه "لوط" – عليه السلام- إذ خرجت امرأته- وكانت كافرة إلى قومها وقالت لهم : إن في بيت "لوط" رجالاً ما رأيت مثل وجوههم قط، وما إن سمع قوم "لوط" الخبر، حتى أقبلوا مسرعين يهرعون إلى بيت نبي الله "لوط" يريدون ارتكاب الفاحشة مع ضيوفه، وأخذ نبي الله "لوط" – عليه السلام- يجادل قومه المفسدين بالحسنى، ويناقشهم باللطف واللين ، لعل فيهم من يرتدع عن غيه وضلاله ودعاهم -عليه السلام-  إلى سلوك

 الطريقة الشرعية المباحة ، وهى أن يتزوجوا بناته وأن يكتفوا بنسائهم ، لكن قومه الخبثاء  رفضوا نصيحته وصارحوه بغرضهم السيئ من غير استحياء ولا خجل وقالوا له: ما لنا في بناتك حاجة ، عند ذلك ازداد همه – عليه السلام – وتمنى أن لو كان له بهم قوة، أو كان له منعة أو عشيرة  فينصرونه عليهم، قال الله تعالى:


" قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)"   (هود::80)
فلما رأت الملائكة ما يلقى نبي الله "لوط" –عليه السلام – من كرب شديد أخبروه بحقيقتهم، وأنهم ليسوا بشرًا، وإنما هم ملائكة الله ورسله قدموا لإهلاك هذه القرية بأمر الله ، ثم ضرب جبريل عليه السلام وجوه القوم بجناحه  ، ففقد القوم أبصارهم  وأخبر الملائكة لوطا  أن
يصحب أهله أثناء الليل ويخرج بهم ،وسيسمعون أصواتًا مروعة تزلزل الجبال فلا يلتفت منهم أحد، كي لا يصيبه ما يصيب القوم، وأفهموه أن امرأته كافرة ، وستلتفت خلفها، فيصيبها ما أصابهم و أن موعدهم الصبح .خرج نبي الله "لوط" – عليه السلام- مع بناته
 وزوجته ، وساروا في الليل، واقترب الصبح ، وكان "لوط" قد ابتعد مع أهله، ثم جاء أمر الله- تعالى- فاقتلع "جبريل" – عليه السلام – بطرف جناحه مدنهم السبع، ورفعها إلى عنان السماء، حتى سمعت الملائكة أصوات الديكة ونباح الكلاب، ثم قلبها وهوى بها في الأرض، وأثناء السقوط كانت السماء تمطرهم بحجارة من الجحيم، حجارة قوية صلبة يتبع بعضها بعضًا،  وانتهى قوم "لوط" تمامًا، ولم يعد هناك أحد؛ فقد نكست المدن على رؤوسها وغارت في الأرض، حتى انفجر الماء من الأرض .

كان "لوط" – عليه السلام- يسمع أصواتًا مروعة، ويحذر قومه أن يلتفت أحد خلفه، ولكن زوجته نظرت نحو مصدر الصوت، فهلكت .

العلامة الكبير تقي الدين الهلالي

محمد تقي الدين الهلالي (ولد1311 هـ، بواديسجلماسة - توفي25 شوال1407هـ /22 يونيو1987م.)محدث ولغويوأديبوشاعر ورحالةسلفيظاهريمغربي، يعد أول من أدخل الدعوة السلفية إلى المغرب بعد تأثره بها في الجزيرة العربية،من أبرز أعماله ترجمةصحيح البخاري إلىالإنجليزية، كما ترجم المجمع للقرآن الكريم باللغة الإنجليزية جنباً إلىمحمد محسن خان، الواسع الانتشار في مكتبات العالم. كان المرجع اللغوي والمشرف على إذاعة برلين العربية في فترةالحكم النازي.



غادر تقي الدين وهو في السادسة والعشرين من عمره بلد المغرب متوجهًا إلى مصر، وكان ذلك سنة1922، وكانت غايته طلب علم الحديث، ققصدالجامع الأزهر، ولكنه لم يمكث فيه كثيرا، حيث لم يجد بغيته فيه، فانقطع عنه، والتحق بحلقة الشيخرشيد رضا وتلامذته، حيث تفتق ذهن تقي الدين، وهو يستمع ويشارك في المناقشات الحادة التي كانت تجري في مجالس الشيخ رشيد رضا، وكانت سببا في نضجه الفكري، وتحوله عنالتقليد إلى استعمال الفكر وطلب الأدلة العقلية، وعن التقديس المبالغ فيه للعلماء الأعلام والتسليم بكل ما سرد عنهم، إلى البحث الاستقلاليوالترجيح

رحلته للتدريس والتمدرس
بعدالحج توجه إلىالهند لينال بغيته منعلم الحديث فالتقى علماء كبار هناك فأفاد واستفاد؛ ومن أهم العلماء الذين التقى بهم هناك المحدث العلامة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الرحيمالمباركفوري صاحب "تحفة الأحوذي بشرح جامعالترمذي " وأخذ عنه من علم الحديث وأجازه وقد قرّظه بقصيدة يُهيب فيها بطلاب العلم إلى التمسك بالحديث والاستفادة من الشرح المذكور، وقد طبعت تلك القصيدة في الجزء الرابع من الطبعة الهندية؛ كما أقام عند الشيخ محمد بن حسين بن محسن الحديدي الأنصاري اليماني نزيل الهند آنذاك وقرأ عليه أطرافا من الكتب الستة وأجازه أيضا. شغل كرئيس أساتذة الأدب العربي في كلية ندوة العلماء في مدينةلكنهو بالهند.

ومن الهند توجه إلىالزبير فيالعراق، حيث التقى العالم الموريتاني المحقق الشيخمحمد أمين الشنقيطي الزبيري، مؤسس مدرسة النجاة الأهلية بالزبير، وهو غير العلامة المفسر صاحب "أضواء البيان" واستفاد من علمه، ومكث بالعراق نحو ثلاث سنين ثم سافر إلىالسعودية مرورابمصر حيث أعطاه السيدمحمد رشيد رضا توصية وتعريفاً إلى الملكعبد العزيز آل سعود قال فيها:

«إن محمدا تقي الدين الهلالي المغربي أفضل من جاءكم من علماء الآفاق، فأرجو أن تستفيدوا من علمه،»
فبقي في ضيافة الملك عبد العزيز بضعة أشهر إلى أن عين مراقبا للتدريس فيالمسجد النبوي وبقيبالمدينة سنتين ثم نقل إلىالمسجد الحرام والمعهد العلمي السعوديبمكة وأقام بها سنة واحدة.وعين فيها اماما في المسجد النبوي

سافر إلى العراق والتحقبجامعة بغداد.
فكان يَدْرسُ ويُدرّس بالجامعة، وتزوج عراقية، فتوجّه بعدها إلى الهند ، والتحق بالجامعة هنالك ، فكان دارساً ومُدرسا، من بين تلامذتهأبو الحسن الندوي، وتزوج هندية.



الدكتوراه في ألمانيا
كتبشكيب أرسلان، وهو صديق لتقي الدين الهلالي، توصية إلى أحد أصدقائه بوزارة الخارجية الألمانية قال فيها:

«"عندي شاب مغربي أديب ما دخل ألمانيا مثله، وهو يريد أن يدرِّس في إحدى الجامعـات، فعسى أن تجدوا له مكاناً لتدريس الأدب العربي براتب يستعين به على الدراسة
فسافر إلىألمانيا و عين محاضراً فيجامعة بون، ثم صار طالباً بالجامعة مع كونه محاضراً فيها. وفي سنة1940م قدم رسالة الدكتوراه فيجامعة برلين، حيث كان طالباً ومحاضراً ومشرفاً على الإذاعة العربية، فند في رسالته مزاعم المستشرقين أمثال:مارتن هارثمن،وكارل بروكلمان، وكان موضوع رسالة الدكتوراه "ترجمة مقدمة كتاب الجماهر من الجواهر مع تعليقات عليها"، وكان مجلس الامتحان والمناقشة من عشرة من العلماء، وقد وافقوا بالإجماع على منحه شهادةالدكتوراه فيالأدب العربي. وتزوج بألمانية.


اتصل بالزعيم الألمانيالفوهرر هتلر، فلما توسّم منه تعاطفه نحو العرب والمسلمين، أقنعه أن يُنشئإذاعة عربية موجهة إلىالعرببلغتهم، وصادف ذلك وجوديونس بحري، فوافق هتلر على فكرة الإذاعة وصار تقي الدين الهلالي من كان يُعدّ المواد الإذاعية التي ستذيعها الإذاعة ، في حين أن يونس بحري هو من سيتولّى إذاعتها، بصوته المميز والذي كان يبدأ الإذاعة بجملته الشهيرةحَيِّ العرب.



العودة للعراق
أثناءالحرب العالمية الثانية سافر الشيخ إلى المغرب، وبعد انتهاء الحرب سافر إلى العراق سنة1947م وقام بالتدريس فيكلية الملكة عاليةببغداد.

إلى أن قامالانقلاب العسكري في العراق فغادرها إلى المغرب سنة1959م.

المقاومة
انتظم مع المجاهدين ضد الاستعمار، وله دور كبير في هذا، ضد فرنسا وبريطانيا وإسبانيا؛ لتحرير بلاده.
مؤلفات الشيخ تقي الدين الهلالي كثيرة جدا ألفت في أزمنة مختلفة وبقاع شتى، ومنها

الزند الواري والبدر الساري في شرح صحيح البخاري [المجلد الأول فقط]
الإلهام والإنعام في تفسير الأنعام
مختصر هدي الخليل في العقائد وعبادة الجليل
الهدية الهادية للطائفة التجانية
القاضي العدل في حكم البناء على القبور
العلم المأثور والعلم المشهور واللواء المنشور في بدع القبور
آل البيت ما لهم وما عليهم
حاشية على كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
حاشية على كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب
الحسام الماحق لكل مشرك ومنافق
دواء الشاكين وقامع المشككين في الرد على الملحدين
البراهين الإنجيلية على أن عيسى داخل في العبودية وبريء من الألوهية
فكاك الأسير العاني المكبول بالكبل التيجاني

♦ ومضات تربوية في سورة يوسف ♦

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

والصلاة والسلام على اشرف المرسلين سيدنا محمد خاتم الأنبياءوالمرسلين وعلى صحبه اجميعين وبعد


منقول من مقالة
الباحث ياسر محمود

تمثل قضيَّة التربية في قصَّة سيدنا يوسف عليه السلام مرتكزاً أساسياً من المرتكزات الأخلاقية التي تقوم عليها أحداث القصة، وتدعو إليها مواقفها المختلفة. وذلك عبر اللفتة الموحية والإشارة الدالة التي حملتها كلمة(رَبّ) في البناء اللغوي البياني المعجز في السورة.

واسم (الربّ) يطلق في اللغة على المالك، و السيّد، والمدبر، والمربي، والقيّم، والمنعم. (انظر: لسان العرب/م1/ص399). من هنا فإن أول ما تحمله سورة الفاتحة بعد البسملة قوله تعالى: " الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " ذلك أن الحمد كله لله المنعم المتفضل الذي لولا إنعامه على خلقه لما كان لهم وجود ولا بقاء.

ولا يطلق اسم (الرب) غير مضاف إلا على الله سبحانه وتعالى (ولم يرد على هذا النحو في القرآن الكريم). أما إذا أضيف فقد يُقصد به الله سبحانه وتعالى، مثل (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) البقرة /286/، وقوله تعالى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 5]. وقد يُقصد به بعض خلقه كقولنا: (ربّ المنزل، ربّ العمل).

تحمل كلمة الرب إذاً المعاني التي تقوم عليها عملية التربية من الرعاية والاهتمام والتدبير وغير ذلك. من هنا، من هذه الكلمة (الرب) ينطلق البحث في قضية التربية في قصة يوسف (عليه السلام).

عرضت لنا القصة ثلاث مراحل في حياة سيدنا يوسف:

مرحلة الطفولة: من ذكر الرؤيا حتى وصوله إلى بيت عزيز مصر.
مرحلة الشباب: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ).

مرحلة الرجولة والنضج: (يقول المؤرخون إن بين رؤياه واجتماعه بأبيه و إخوته في مصر أربعون سنة).

فكيف نتلمّس دور المربي (الله سبحانه وتعالى) في حياة يوسف عليه السلام عبر أطوارها المتتالية، وظروفها المختلفة...؟

أول ما يطالعنا من قصة يوسف عليه السلام ذكر سيدنا يوسف رؤياه لأبيه، وهو في مرحلة مبكرة من العمر (12 سنة حسب أرجح الأقوال)، ويدرك أبوه يعقوب عليه السلام أن ما رآه ابنه في رؤياه إنما هو من دلائل النبوة، فيبشّره: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

ثمة أمور ثلاثة يأتي ذكرها في الآية حكاية عن سيدنا يعقوب (عليه السلام):

1-الاجتباء و التربية:
يجتبيك ربك: أي يختارك ويصطفيك لمهمة سيوكلها إليك. وهذه المهمة تحتاج إلى تهيئة وتدريب و استعداد، وأنت ما تزال طفلاً صغيراً. ولكن الذي يختارك ويجتبيك هو (ربّك) أي هو القائم على شؤونك، ورعايتك، وتدريبك.

وقد خصّه سيدنا يعقوب بكاف الخطاب في قوله (ربك) إشعاراً له بخصوصية العلاقة بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وإيناساً له وهو في هذه السن المبكرة.

2- التعليم:
بعد مرحلة الاجتباء والاختيار، تأتي مسألة التهيئة (وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ). وتأويل الرؤيا وتعبيرها معجزة أيدّه الله بها، لتكون عوناً له في المهمة الموكلة إليه.

3- النبوة:
(و َيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ)وهذه الواو تعني اجتماع هذه الأمور لسيدنا يوسف فالاختيار ثم تعليمه تأويل الرؤيا وحدهما لا يعنيان إتمام النعمة. ونفهم من قوله تعالى (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ ) أن إتمام النعمة هو النبوة وحمل الرسالة، وهذه هي المهمة التي يعدّك الله للقيام بها بعد اختيارك وتأييدك بعلم تأويل الرؤيا. وتختتم الآية بقوله تعالى حكاية عن سيدنا يعقوب (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

فكلمة (عليم) ترجع إلى قوله تعالى (وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)، وكلمة (حكيم) تعود إلى الاجتباء والاختيار، أي أن هذا الاختيار جاء لحكمة يعلمها الله فـ (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام:124].

إذاً في هذه السن المبكرة يختار الله تعالى سيدنا يوسف ليقوم بتبليغ رسالته، وهذه مهمة عظيمة تحتاج إلى تهيئة واستعداد، وقد تكفّل الله (ربّه) بتربيته وتهيئته ورعايته حتى يتم المهمة الموكلة إليه على الوجه الذي يرضي ربه. فكيف تجلت مظاهر التربية في مراحل حياة سيدنا يوسف عليه السلام.؟

مظاهر التربية في حياة يوسف عليه السلام
حادثة إلقائه في الجب
يعيش يوسف عليه السلام المحنة الأولى في حياته في مرحلة الطفولة حين يكيد له إخوته ويقرروا أن يلقوه في ظلمة بئر ليلتقطه بعض السيارة، ويحملوه بعيداً، فيخلو لهم وجه أبيهم. (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ)، إنه الآن في ذروة الأزمة، وفي أشدّ أوقات المحنة والكرب، وهو ما يزال طفلاً صغيراً. هنا يأتي دور المربي في بث الطمأنينة في نفسه (وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ).

إن سيدنا يوسف وهو في هذه السن المبكرة و في ظرف كهذا بحاجة إلى من يهدئ نفسه ويشعره بالأمان، غير أنه على حداثة سنه يفتقر إلى الدليل الموصل إلى هذه الغاية، فكان أن طمأنه (ربّه) بأن لا تخف ولا تحزن فإنك ناج مما أنت فيه ومخبرهم بما يدبرونه من المكر والأذى... ولنا أن نتصور مشاعر هذا الطفل وقد طمأنه ربّه وآنسه ووعده بالنجاة والسلامة.

حادثة بيعه عبداً
ينجي الله سيدنا يوسف من محنته الأولى ويُحمل إلى مصر ليباع ـ وهو الحرّ ـ عبداً بثمن قليل. ويشتريه العزيز ثم يطلب من امرأته أن تهتم بهذا الغلام وتكرم مثواه، ويأتي قوله تعالى(وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ) إن (ربه) الذي تولّى رعايته وتربيته سيجعل من محنته هذه ـ إذاً ـ سبباً من أسباب رفعة شأنه وعلوّ منزلته كيف لا والله هو (ربّه) !

أمره مع امرأة العزيز
يوسف عليه السلام ما يزال حتى هذا الوقت في مرحلة الاختيار والاجتباء بما تتطلبه هذه المرحلة من الرعاية والتربية، والحفظ والإعداد. ويأتي قوله تعالى (وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) وهذه المرحلة سيشهدها سيدنا يوسف في مصر بعد أن جعل الله من مصر مكاناً لاستقراره وعيشه في عزّ وأمان (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)

بعد أن حفظ الله تعالى سيدنا يوسف في طفولته ونجاه من محنتين عظيمتين، تأتي مرحلة الشباب (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) وفي هذه المرحلة سيتعلم سيدنا يوسف درساً اسمه (الاعتماد على الله).

وتراوده امرأة العزيز عن نفسه، وهو في مرحلة الشباب والقوة، ولمّا أن هيأت للأمر أسبابه ودعته إلى ارتكاب الفاحشة، استعاذ سيدنا يوسف بالله مما تدعوه إليه، وذكّرها بفضل العزيز عليه قائلاً (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) إشارة إلى ما أوصى به العزيز امرأته عندما اشترى يوسف عبداً (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه).

ولمّا لم يردع امرأة العزيز تذكيرها بزوجها وبفضله عليه ورعايته له، ولما لم يكن ذلك سبباً في منعها من إنفاذ ما فكّرت بارتكابه، اشتدت المحنة على سيدنا يوسف (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) وعلى اختلاف الآراء في ماهية البرهان الذي رآه سيدنا يوسف إلا أنّ (ربّه) الذي يتولى العناية به، ويتكفل برعايته، يقوم بحفظه في هذه المحنة ويصرف عنه السوء والفحشاء.

وتأتي كلمة (ربّه) في الآية لتذكرنا بأن الله تعالى القائم على أموره هو الذي أنجاه من منطلق (التربية) من هذه المحنة، ذلك أن المربي لا يرضى لمربوبه الوقوع في الخطيئة.

وعلى الرغم من أن سيدنا يوسف استعاذ بالله مما تدعوه إليه امرأة العزيز، إلا أنه خاطبها بحجة من واقع الحال الذي تفهمه وتدركه، لعل ذلك يكون أدعى إلى إقناعها بالعدول عما عزمت عليه.

لكن امرأة العزيز لم تزدد ـ أمام موقفه ـ إلا إصراراً. فعلى الرغم من اكتشاف زوجها أمر مراودتها يوسف عن نفسه، ها هي تخاطب النسوة اللواتي كن يلمنها على فعلتها (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ).

لقد تعلم سيدنا يوسف من المحن السابقة درس (الاعتماد على الله) فربّه هو الذي حفظه في مرحلة الطفولة وذلك دون طلب منه إذ كان ما يزال صغيراً، لا يدرك أمور الحياة أو يتفهم طبائع الأحداث.

وكذلك حين راودته امرأة العزيز عن نفسه، قام مربيه (ربه) بدوره في التربية وأراه البرهان ليحفظه ويصرف عنه السوء والفحشاء....

لذلك لما أدرك سيدنا يوسف أن إقناع امرأة العزيز بعدم ارتكاب الفاحشة أمر لم يعد ممكناً التجأ إلى ربه التجاءً واضحاً مباشراً طالباً العون منه سبحانه وتعالى (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ)

تلك كانت مرحلة الاجتباء والتربية التي أشار إليهما الله تعالى حكاية عن سيدنا يعقوب (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ)، فـ(يجتبيك = الاختيار) و (ربّك = التربية والرعاية).

تأويل الرؤيا والدعوة إلى الله تعالى
مرحلة التعليم كانت في مصر كما أخبرنا الله تعالى بقوله: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ).

ولأن تأويل الرؤيا كان المعجزة التي أيد الله بها سيدنا يوسف للدلالة على صدق نبوته، فقد اقترن وجودها في القصة بدعوة يوسف عليه السلام إلى عبادة الله وتوحيده.

في السجن يبدأ سيدنا يوسف بالدعوة إلى الله، مستفيداً من حاجة الفتيين إلى تأويل رؤياهما وقد طلبا منه ذلك، وقبل أن يؤوّل لهما رؤياهما، يؤكد لهما قدرته على معرفة بعض المغيبات (قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا) لكنه سرعان ما يضيف (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أي هذا بعض ما خصّني به الله الذي اختارني وحفظني ورعاني وربّاني وأعدّني لتبليغ رسالته.

إذاً إن أول ما يظهر من دلائل العلم الذي وهبه الله لسيدنا يوسف ما كان من أمر الرؤيا التي رآها كل من الرجلين اللذين دخلا معه السجن وهذا ما كان بشره به سيدنا يعقوب (وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)،وما ذكره الله لنا بقوله (وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ).

ونلاحظ هنا استخدام سيدنا يوسف كلمة (ربّي) في قوله (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)، وذلك تأكيداً منه على أنّ ما به من فضل، وما لديه من علم، ما كان ليكون لولا أن الله الذي ربّاه وحفظه قد وهبه هذا العلم. ثم يبدأ في السجن دعوته إلى الله، ولنقرأ فيما قاله أثناء ذلك العبارات التالية:

(إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ).

(مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِمِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِعَلَيْنَا).

(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُالْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)

(مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُبِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّلِلّهِ)

نلاحظ أن سيدنا يوسف يستخدم في دعوته لفظ الجلالة (الله)، دون كلمة (رب)، ذلك أن اسم (الله) جامع لأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، ففيه صفات العظمة والجلال وصفات الفعل والقدرة والقوة وصفات العدل و الإحسان والجود وصفات الإعزاز والإذلال والقهر.. وغير ذلك من صفاته تعالى.

وهذا توازن في الدعوة إلى الله التي يفترض فيها أن تجمع بين الترغيب و الترهيب. وكلمة (الربّ) تحمل معاني التربية والرعاية والقوامة وهذه كلها تندرج في أبواب الرحمة، أي الترغيب.

بعد أن دعا سيّدنا يوسف الفتيين إلى عبادة الله وتوحيده عاد إلى ما سألاه عنهمن تأويل الرؤيا. ولما انتهى من تأويل رؤياهما (قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) أي عند سيدك. لكن الساقي نسي ذكر يوسف لدى سيّده (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).

وسبب بقائه في السجن ـ حسب ما رأى المفسرون ـ أنه التمس النجاة من محنته هذه في أن يذكره ساقي الملك عند سيّده، عله ينظر في أمره ويخرجه من السجن، ولم يسأل الله تعالى النجاة من هذه المحنة (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).

ولعلنا نلاحظ هنا أن الله تعالى أراد أن يعلم سيدنا يوسف ألا يلتجئ في محنه إلا إلى ربه الذي حفظه ونجاه من محنه السابقة كلها، فأبقاه في السجن بضع سنين تعليماً وتأديباً، والتأديب جزء من التربية التي تلقاها يوسف عن ربه.

بعد أن لبث يوسف عليه السلام في سجنه ـ تعليماً وتأديباً ـ بضع سنين، يأتي سؤال الملك عمن يؤول رؤياه ليخرج الله سيدنا يوسف من السجن، وليظهر براءته في أمره مع امرأة العزيز والنسوة اللواتي قطعن أيديهن، وليجعله على خزائن الأرض.

وهكذا يهبه (ربه) بما علمه من تأويل الأحاديث مجداً وعزة، وقوة وسلطاناً، وهو الذي دخل مصر عبداً يباع بثمن زهيد.

لقاء يوسف (عليه السلام) بأبويه وإخوته:

تدور الأحداث ويلتقي سيدنا يوسف بأبويه وإخوته (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا) ويأتي اعتراف يوسف عليه السلام بفضل ربّه عليه، ورعايته له، وحفظه إياه، في مراحل حياته كلها ووقف أمام ما آلت إليه الأمور (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)

ثم يتوجه إلى صاحب الفضل، إلى ربه، بالشكر والحمد والدعاء بأن يتوفاه مسلماً ويلحقه بالصالحين، فتأتي الآية الأخيرة في قصة سيدنا يوسف (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).

إنه سيدنا يوسف الذي اجتباه الله سبحانه وتعالى، وعلمه، وأتم نعمته عليه، يقف أمام ربه خاشعاً، خاضعاً، متذللاً، يقر باستمرارية الحاجة إليه، وافتقاره إلى رحمته، وفي هذا عرفان بالجميل وإقرار بالفضل، لا يصدر إلا عمن أدَّبه الله تعالى فأحسن تأديبه.

أَحْمَدُ بنُ تَيْمِيَة

ذات يومٍ طلب منه أبوه وأسرته أن يخرج معهم في نزهة، لكنه اختفى فجأة فاضطروا إلى الخروج من دونه، وعندما عادوا في آخر النهار عاتبوه على تخلُّفه عن الذهاب معهم، فقال لهم وهو يشير إلى مجلد في يده: أنتم لم تستفيدوا شيئًا، ولم تضيفوا إلى أنفسكم جديدًا، أمَّا أنا فقد حفظت في غيبتكم هذا المجلد.

وكان ذكاؤه وما عرف به من قوة حافظته، وسرعة إدراكه، مثار إعجاب أهل "دمشق" وانبهارهم، بل إن صيته - برغم حداثة سنه- جاوز "دمشق" إلى ما حولها من البلدان، فقد حدث ذات يومٍ أن قدم إلى "دمشق" أحد علماء "حلب"، فخرج لاستقباله علماء "دمشق" وأعيانها، فقال لهم: سمعت في البلاد بصبي سريع الحفظ، وقد جئت قاصدًا، لعلي أراه.



فدلوه على الكُتَّاب الذي يتردد إليه لحفظ القرآن، فجلس الشيخ الحلبي قليلاً، حتى مر الصبي ومعه لوح كبير. فناداه الشيخ. فأقبل عليه. فتناول الشيخ اللوح منه، ثم قال له: اجلس يا ولدي، حتى أملي عليك شيئًا تكتبه، فأملى عليه عددًا من الأحاديث، وقال له: اقرأ هذا. فراح الصبي ينظر إلى اللوح، ثم دفعه إلى الشيخ، وقال: اسمعه علي . فأخذ يقرأ عليه تلك الأحاديث من ذاكرته كما ألقاها عليه. فقال له : يا ولدي ، امسح هذا. ففعل. فأملى عليه عدة أحاديث أخرى ، ثم قال: اقرأ هذا، فنظر فيه، كما فعل أول مرة ، ثم أسمعه إياها كما فعل من قبل. فقام الشيخ وهو يقول: إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم. فإن هذا لم يُرَ مثله.

هذا الصبي هو الفقيه المعذب"أحمد بن تيمية" الذي تلقى العلم على أعلام عصره، ودرس مذهب الإمام "أحمد بن حنبل"، فلم يكن أحد في مذهبه أنبه منه , كما درس أمهات كتب الحديث والسنة النبوية، مثل: صحيح "البخاري"، وصحيح "مسلم" وغيرهما .

وكان "ابن تيمية" يكثر من العبادة والطاعة، فلم يجعل شيئًَا يشغله عن عبادة الله- تعالى، فكان في ليله متفردًا عن الناس كلهم، خاليًا بربه عز وجل، ضارعًا مواظبًا على تلاوة القرآن العظيم، يكثر من الصلاة والذكر والدعاء والتهجد لله في الليل.

وقد ألَّفَ "ابن تيمية" عددًا كبيرًا من الكتب، تزيد على الثلاثمائة مجلد، فقد كان غزير العلم كثير التأليف والتصنيف، يكتب في اليوم الواحد نحو أربع كراريس، وقد كتب "الرسالة الحموية"، وهي تقع في نحو سبعين صفحة من القطع المتوسط في جلسة بين الظهر والعصر، وكل هذه الكتب صنفها في السجن في مدة سبع سنين، ما عدا كتاب "الإيمان" الذى كتبه وهو بمصر.

وكان "ابن تيمية" حريصًا على كلِّ أنواع البرِّ، فكان في كل أسبوع يعود المرضى، خصوصًا الذي بالبيمارستان ( المستشفي ).

وعُرِفَ بِميله الشديد للزهد في الدنيا، وحبه للبذل ، يؤثر بما لديه سواء كان قليلاً أو كثيرًا، لا يحتقر القليل فيمنعه ذلك من التصدق به، ولا الكثير فيصرفه الحرص عليه عن الجود به، كان يتصدق بما معه، حتى إذا لم يجد شيئا نزع بعض ثيابه فتصدق  بها على الفقير.

وعلى الرغم مما كان يعانيه من ضيق العيش، فإنه لم يكن يقبل لنفسه أي عطاءٍ من سلطان ولا أمير ، ولم يدَّخِر لنفسه دينارًا ولا درهمًا ولا متاعًا ولا طعامًا.

واشْتُهِر"َابن تيمية" بالشجاعة والجرأة والإقدام، فكان إذا خرج مع المسلمين في جهاد فإنه يكون في طليعة المقاتلين في مقدمة الصفوف، يشجعهم ويبث فيهم الحمية والحماس، وقد شارك في فتح "عكا"، وأظهر من الشجاعة ما يدل على قوة إيمانه، وحبه للجهاد.

وحينما أسر "قازان" ـ أحد ملوك التتارـ عددًا من المسلمين، ذهب إليه "ابن تيمية" وقابله، وأنكر عليه ذلك، وطالبه بإطلاق أسرى المسلمين ، ففعل.

وقد عاش "ابن تيمية" حياة شاقة عصيبة، فقد تكالبت عليه الشدائد والمحن وأنواع الابتلاءات، فما كان ينتهي من محنة إلا ويدخل في أخرى ، ولايخرج من سجن إلا ليوضع في آخر.

وفي آخر حياته دبر له البعض حيلة ؛ بسبب فتواه في مسألة منع السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين، فأشاعوا بين العامة أنه ينتقص من قدر الأنبياء، وأفتى قضاة "مصر" الأربعة بحبسه، فحبس بقلعة "دمشق".

وقد فتح الله عليه في هذه القلعة من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء، كان كثير من العلماء يتمنونها.

وكان في حبسه في القلعة يقول: "لو بذلت ( أُعطيت ) ملء هذه القلعة ذهبًا، ما عدل عندي شكر هذه النعمة".

وحينما يُذكر من تسببوا في إيذائه وسجنه يقول: "ما جزيتهم على ما تسببوا إلي فيه منالخير".

وظلَّ "ابن تيمية" محبوسًا في تلك القلعة نحو عامين، إلى أن توفي سنة (728هـ) بها، وعندما أحضرت الجنازة إلى الجامع، احتاط بها الجند يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وقد تزايد اجتماع الناس حتى ضاقت بهم الأزقة والأسواق.. رحم الله "ابن تيمية

أيوب – عليه السلام

ولد "أيوب" – عليه السلام – بإحدى قرى بلاد الشام، وكان أبوه "موص بن رزاح" من أحفاد "إبراهيم" الخليل – عليه السلام، وكان على دينه.

وقد نشأ "أيوب" على دين أبيه وجده "إبراهيم" الخليل – عليه السلام- وكان ثريًّا له مال كثير وتجارة كبيرة، ويمتلك الكثير من المواشي والأراضي ، لكنه – مع كل هذا الجاه والثراء – كان متواضعًا محبًّا للخير، يكثر من التصدق بماله، والإنفاق على الفقراء والمحتاجين؛ فأحبه الناس، وصارت له منزلة كبيرة في قلوبهم، ومكانة عظيمة بينهم .

رزق الله- تعالى- "أيوب" – عليه السلام -  الكثير من الأولاد، فزاده ذلك شكرًا لله، وتواضعًا للناس وحبًّا للخير .
عاش "أيوب" – عليه السلام – في سعادة وهناء، بين قومه وأولاده ، ينعم بما حباه الله من نعيم وثراء، ويؤدى حق الله في ماله للفقراء والمساكين , ولكن الأمور لم تستمر على هذا النحو من السعادة والهناء ، فسرعان ما تغيرت الحال بنبي الله "أيوب" وتبدلت حياته على نحو عجيب .

فقد ابتلاه الله- تعالى- في ماله وأهله وولده، فذهب ماله ، وفقد أولاده، حتى لم يبق من ذلك كله إلا زوجته، وأصابه المرض في كل أعضاء جسده، وطال مرضه حتى نفر الناس منه ، وضاق به أهله ، فلم يعد يزوره أحد من أقاربه ، وخاف الناس من مخالطته حتى لا يعديهم بمرضه ، ولم يعد أحد يحنو عليه سوى زوجته التي ترعى له حقه .

ولما اشتد به المرض أخرجه الناس من بلده ، وألقوه في مكان بعيد خارجه ، فكانت زوجته تتردد إليه , فتقوم على خدمته ، وتقضى حوائجه ، وتعينه على أموره , فقد كانت تلك الزوجة صورة مشرقة للوفاء والإخلاص للزوج.

وظلت زوجة نبي الله "أيوب" تخدمه وترعاه ، ولا تقصر في القيام بواجبها نحوه ، حتى ضعفت قوتها ، وهزل جسمها، وقل مالها ، فباعت كل شيء ، حتى لم تعد تملك شيئًا تنفقه على زوجها في مرضه , فكانت تخدم الناس بالأجر لتوفر لزوجها ما يحتاج إليه من طعام ، وظلت صابرة على ما حل بها ، مؤمنة بقضاء الله ، واثقة برحمته وعدله ، فلم تيأس يومًا ، ولم تسخط ، أو يتسرب الشك إلى قلبها في لحظة من اللحظات .

وكان "أيوب" – عليه السلام- مؤمنًا صابرًا على الرغم من مرضه ، وما ابتلاه الله به من فقر وحاجة ، ونفور الناس منه ، وابتعادهم عنه ، وكان كل ذلك لا يزيده إلا إيمانًا وصبرًا ، وحمدًا، ودعاءً وشكرًا .

وكانت زوجته حينما تراه على هذه الحال ترق له ، وتشفق عليه ، فلما طال عليه المرض قالت له : يا "أيوب" ، لو دعوت ربك لفرج عنك . فقال لها "أيوب" – عليه السلام -  بإيمان صادق عميق :

- لقد عشت سبعين سنة صحيحًا ، فهل كثير لله أن أصبر سبعين سنة ؟!

ومرت أعوام كثيرة و" أيوب" – عليه السلام – في مرضه ، صابر محتسب ، وكانت زوجته المؤمنة الوفية تأتيه كل يوم فتطعمه وتخدمه ، وترعى شئونه.

وزاد المرض على " أيوب " – عليه السلام – وخاف الناس أن يصيبهم ما أصابه، فلم يعد أحد منهم يقبل أن تعمل زوجة " أيوب " عنده أو تخدمه حتى لا تعديهم بمخالطته ، ولم تجد تلك الزوجة الصابرة ما تنفقه ، فباعت إحدى ضفائرها لبعض بنات الأشراف لتزين بها شعرها ، واشترت بثمنها طعامًا كثيرًا لزوجها ، فلما جاءته به تعجب " أيوب " وسألها :

- من أين لك هذا ؟! وخشيت زوجته أن تضايقه بما فعلت فقالت له :

خدمت به أناسًا .

ولكن " أيوب " – عليه السلام – كان يشعر أنها تخفى عليه أمرًا ، فلم يلح عليها بالسؤال .

ومرت أيام، ولم تجد زوجة " أيوب " ما تشترى به الطعام لزوجها ، فباعت الضفيرة الأخرى ، واشترت طعامًا ، فلما أتت إلى " أيوب " – عليه السلام – سألها عنه ، وحلف ألا يأكل شيئًا منه حتى تخبره من أين جاءت به ؟!

ولم تجد تلك الزوجة المؤمنة ما ترد به على زوجها ، فكشفت خمارها عن رأسها، فلما رأى ما فعلت بشعرها ، نظر إليها نظرة حزينة حانية ، وترقرقت في عينيه دمعة تفيض بالحزن والأسى .

وبينما كان "أيوب"- عليه السلام- حزينًا مهمومًا، مر به رجلان ، فلم يستطيعا أن يقتربا منه لمرضه ، فقال أحدهما للآخر :

- لو كان الله علم من " أيوب " خيرًا ما ابتلاه بهذا !

وسمعهما " أيوب " – عليه السلام-  فحزن حزنًا شديدًا ، وتوجه إلى الله بالدعاء أن يفرج عنه ما هو فيه من ضر وبلاء وقال :

"وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)"   (الأنبياء)

واستجاب الله دعاء نبيه وعبده المؤمن الصابر " أيوب " فكشف عنه الضر، وشفاه من مرضه, وحينما جاءته زوجته كعادتها لتقدم له الطعام ، وتقوم على خدمته ورعايته ، لم تعرفه، فسألته :


- يا عبد الله . هل رأيت رجلاً مريضًا كان نائمًا في هذا المكان ؟!

فنظر إليها " أيوب "- عليه السلام-  ولم يجبها ، فبكت وازداد بكاؤها .

ثم قال لها نبي الله "أيوب" ضاحكًا : أنا " أيوب " ! فقالت له باكية : أتسخر منى يا عبد الله ؟! فلما نظرت إليه جيدًا عرفته ، ففرحت بشفائه فرحًا شديدًا ، وعاش " أيوب "- عليه السلام-  بعد ذلك سبعين سنة، رزقه الله خلالها كثيرًا من الأولاد ، وأنعم عليه بالنعم الكثيرة ، وعوضه عما فقده من مال وبنين .

البخاري "أمير المؤمنين في الحديث "

قامت الأم من نومها ، تقول في فرح : يا لها من رؤية طيبة !! نبي الله "إبراهيم" – عليه السلام- يأتيني في منامي ويقول لي :

"يا هذه ، قد رد الله على ابنك بصره لكثرة دعائك " . اللهم اجعلها بشرى خير ، اللهم استجب دعائي ، ورد على ولدى الصغير بصره .

وسارت الأسم الصالحة إلى حجرة ولدها ، وهى تحرك قدميها بصعوبة بالغة ، وعندما وصلت إلى فراشه همت أن توقظه لكنها ترددت كثيرًا ، فقد كان قلبها المكلوم يرتجف بشدة ، فأخذت تمسح بيديها المرتعشتين على رأسه بحنان وعطف، وهى ما زالت تدعو الله أن يستجيب لها ويشفى ولدها ، فاستيقظ الصغير من نومه ، وأخذ ينظر في دهشة وهو يحرك جفونه باضطراب ، ويقول بصوت متقطع :

 أمي !!إنني أراك يا أمي !! أرى وجهك الجميل !! أرى حجرتي ولعبي !!

الحمد لله .. الحمد لله .. لقد رد الله إلىَّ بصري !!!

أحست الأم من فرحتها أنها في حلم جميل ، لكنها ما لبثت أن عادت إلى وعيها بعد أن رأت ولدها الحبيب يجرى ويلعب كما كان يفعل من قبل ، فقالت في إيمان وفرحة :

الحمد لله .. الحمد لله القادرعلى كل شيء .

وذات صباح كانت الأم ترتب منزلها فوقعت يدها على بعض الأوراق المدونة عليها أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فتذكرت زوجها الحبيب "إسماعيل" وقالت في حزن وألم ، وهى تمسح دمعة حارة قد انحدرت على وجنتيها : يرحمك الله يا أبا "محمد" لقد كنت رجلاً تقيًّا ورعًا ، وكم كنت تتمنى أن يكون ولدك "محمد" من رجال العلم ، وإنني أعاهدك أن أبذل كل ما في وسعى لكي أحقق لك أمنيتك الغالية إن شاء الله ،ثم نادت على ولدها في حب ، فأقبل الصغيرمسرعًا في أدب فقالت له : لقد آن لك يا بنى أن تطلب العلم وتنفع نفسك وتنفع الناس من حولك ، وسوف أرسلك غدًا إلى الكتاب لكي تحفظ القرآن ، وتتعلم الحديث النبوي الشريف ، وتدرس اللغة العربية لتصبح عالمًا جليلاً كما كان أبوك "إسماعيل" – يرحمه الله .

فقال الصغير "محمد" في ذكاء : أو كان أبى عالمًا كبيرًا يا أمي ؟

فقالت الأم : نعم يا بنى ؛ فقال "محمد" في أدب : أعدك يا أمي أن أسير على نهجه وأسلك طريقه بجد واجتهاد بإذن الله .

كانت مدينة "بخارى" (تقع الآن في دولة أوزبكستان الإسلامية ) من أعظم مدن بلاد "ما وراء النهر" حينئذ ، وكانت الكتاتيب التي تعلم اللغة العربية والقرآن الكريم والتاريخ والفقه منتشرة بصورة واسعة في أرجاء المدينة ، فانطلق الصغير "محمد بن إسماعيل البخاري" ينهل العلم من تلك الموارد العذبة ، فظهر عليه نبوغ مبكر أذهل كل من حوله ، فقد كان يملك ذهنًا وقَّادًا ، وقلبًا واعيًا ، وذاكرة مدهشة، وقدرة فائقة على الحفظ ، حتى إنه أتم حفظ القرآن الكريم ، وأتقن اللغة العربية ، وألم بكثير من الفقه وحفظ الحديث النبوي ، ولم يكن قد جاوز العاشرة من عمره ، وكانت الأم الصالحة دائمًا ما تشجع ولدها ، وتهيئ له البيئة الصالحة لطلب العلم ، وبعد أن أتم "البخاري" دراسته في الكتاب رأت أمه الواعية أن ترسله إلى حلقات العلم المعروفة في "بخارى" "سمرقند" و"بيكند" و"مرو" و"نيسابور" ، وذاعت شهرته بين العلماء حتى صار يناقش أساتذته، بل ويصحح لهم في بعض الأحيان !!

ولم يقف التفوق والنبوغ بالبخاري عند هذا الحد بل إن شيخه "محمد بن سلام البيكندى" عالم "بخارى" ومحدث بلاد "ما وراء النهر" كان يطلب منه أن يراجع له بعض كتبه فإذا وجد فيها خطأ صوبه ، فكان العلماء يتساءلون متعجبين : من يكون ذلك الغلام الذي يصحح كتب أستاذه ؟!

فكان الإمام "البيكندى" يقول في فخر واعتزاز بتلميذه النجيب : هذا الذي ليس له مثيل !!

وكثيرًا ما كان الإمام "البيكندى" يحدث زملاءه عن تلميذه "البخاري" الذي يحفظ سبعين ألف حديث ، وليس ذلك فحسب بل إنه لا يحدث بحديث عن الصحابة أو التابعين إلا وكان يعرف متى وأين ولدوا ؟ وأين عاشوا ؟ ومتى كانت وفاتهم؟!!

ومرت السنون ، وأصبح "محمد بن إسماعيل" في السادسة عشرة من عمره فأحس أنه في حاجة ماسة إلى أن يطلب العلم في ربوع الدنيا ؛ حتى يشبع نهمه ويروى ظمأه ، فتوجه إلى "مكة المكرمة" في صحبة أمه وأخيه الكبير "أحمد" سنة

 (210 ه) للحج وطلب العلم ، وبعد انقضاء موسم الحج عادت الأم وولدها "أحمد" إلى "بخارى" ، وبقى "البخاري" بمكة يتنقل بين مناراتها العلمية شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا ، فلم تمرعليه سنتان في تلك البلدة الطاهرة حتى بدأ في تأليف كتاب "قضايا الصحابة والتابعين " الذي يعد أول مؤلفاته الخالدة .

وكان دائمًا ما يحلو للبخاري أن يذهب إلى "المدينة المنورة" ، وكان من ثمار هذا المكان وبركته أن ألف "البخاري" كتاب "التاريخ الكبير" الذي يعد أول كتاب جامع لأسماء رواة الحديث النبوي الشريف وأحوالهم.



ومن "المدينة المنورة" تلك البقعة العطرة الطاهرة انطلق "البخاري" في نشاط لا يعرف الكسل يطوف بلدان العالم الإسلامي حبًّا في حديث النبي – صلى الله عليه وسلم- ، فسافر إلى "الحجاز" و"الشام" و"مصر" و "خراسان" (وهى منطقة واسعة تقع اليوم في الشمال الشرقي من "إيران" وجنوب "روسيا" وغرب "أفغانستان" )

وزار "البصرة" ونزل ببغداد ، وكانت حينئذ عاصمة للخلافة العباسية . وقد استفاد "البخاري" من تلك الرحلات العلمية أعظم استفادة ، وقرت عينه بمقابلة معظم رجال الحديث في زمانه فجلس إليهم واستمع منهم وحفظ عنهم العلم



وذات مساء رأى "البخاري" رؤية عجيبة كانت لها أثرًا عظيمًا جدًّا في حياته كلها!!

فقد رأى نفسه وهو واقف أمام رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وهو يمسك في يده مروحة يدفع بها الأذى عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فأصابته الحيرة وأخذته الدهشة فذهب إلى شيوخه ليسألهم عن تفسيرهذه الرؤية فقالوا له في فرحة: إنك إن شاء الله سوف تدفع الكذب والافتراء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم

– وهنا تذكر "البخاري" شيخه "إسحاق بن راهويه" عالم "خراسان" الكبير عندما قال لتلاميذه : "لو أنكم جمعتم كتاباً مختصراً في الصحيح من سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم" .

فوقع ذلك القول في قلب "البخاري" ، وتذكر ذلك الحلم الذي كان يلح عليه منذ بدأ يطلب الحديث النبوي الشريف ، فشمر من فوره عن ساعد الجد ، وخاض غمار رحلته الطويلة في تأليف ذلك الكتاب العظيم سنة (217 ه) ، وكان عمره حينئذٍ ثلاثة وعشرين عامًا.

وبسبب ذلك الحلم قطع "البخاري" آلاف الأميال متنقلاً بين أقطار العالم الإسلامي متعرضًا للمتاعب والأهوال ، متكبدًا المشاق الكبيرة ، ربما من أجل حديث واحدٍ من أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم ، وقد وصل به الأمر في بعض الأحيان أن أكل الحشائش لكي يسد جوعه بعد ما أنفق كل ما معه من مال ، حتى الساعات القليلة التي كان يقتنصها لينال قسطًا قليلاً من الراحة والنوم ، لم يكن يترك نفسه تهنأ بها ؛ فقد كان يقوم في الليلة الواحدة من خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة يوقد السراج ، ثم يجلس يصنف ويرتب ما جمعه من أحاديث .

وقد أخذ "البخاري" شرطًا على نفسه ألا يكتب حديثًا عن راوٍ من رواة الحديث إلا بعد أن يلتقي به بنفسه ، ويسمع منه الحديث بأذنه ، وكان لا يأخذ حديثًا إلا ممن يتصفون بالأمانة والإتقان والدقة والورع وقوة الحفظ ، وبعد كل ذلك كان يغتسل ويصلى ركعتين لله- عز وجل – ثم يضع الحديث الذي تكتمل كل شروطه في كتابه .

وبعد ستة عشرعامًا من الجهد والعمل المتواصل أتم "البخاري" كتابه الجليل ، جامعًا بين دفتيه ما يقرب من (7000) حديث صحيح ، اختارها من بين

(600.000) حديث من الصحيح وغير الصحيح ، وقد ترك "البخاري" كثيرًا من الأحاديث الصحيحة حتى لا يطول الكتاب ، واختار الإمام اسم "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وسننه وأيامه" ليكون عنوانًا لأصح كتاب بعد كتاب الله – عز وجل المعروف (بصحيح البخارى)

وقد نال الكتاب شهرة كبيرة ، وحظى "البخاري" بسببه بمكانة عظيمة ، كان جدير بمثله أن يتبوءها ، فقد كان – رضى الله عنه – واسع المعرفة غزير العلم ، عظيم الخلق ، سمح الطبع ، عزيز النفس ، عفيف اللسان ، زاهدًا في الدنيا ، قوى الإيمان ، شديد المراقبة لله ، وبعد أن ذاعت شهرة الإمام "البخاري" في ربوع الدنيا أقبل ألوف الدارسين يتتلمذون على إمام الحفاظ والمحدثين حتى وصل عدد من كان يحضر مجلسه ببغداد إلى عشرين ألف إنسان ، وكان من أعلام تلامذته : "الترمذى" و"النسائي" و"مسلم"وغيرهم .

وفى عام (250 ه) رحل "البخاري" إلى مدينة "نيسابور" من مدن "خراسان" ، وأقام فيها مدة يعلم أهلها ، ثم قرر أن يعود إلى بلده الحبيب " بخارى" فتسابق أهلها إلى الخروج لاستقباله في احتفال عظيم نصبت فيه الخيام ، وعلقت الزينات ونثرت على الإمام الورود والدراهم والدنانير ، وكانت فرحة عظيمة عمت "بخاري" كلها .

وتشاء رحمة الله بالإمام ألا يقبضه إليه قبل أن تطمئن نفسه ، وتعود الفرحة إلى قلبه ، فى أحد الأيام أرسل إليه أهل "سمرقند" يطلبونه ، فأجابهم الإمام إلى طلبهم ، واستعد للرحيل إليهم في سعادة بالغة ، فلما مشى إلى دابته قليلاً قال : "أعيدوني فقد ضعفت واشتد على المرض"  فلما أعادوه إلى بيته دعا بدعوات ، ثم اضطجع على سريره ، وسال منه عرق غزير ، ثم صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها ، وكانت وفاته – رضى الله عنه – ليلة السبت ، أول شهر شوال سنة (256 ه = 870 م) ، وكان عمره حينئذ اثنين وستين عامًا ، ودفن الإمام بقرية "خرتنك" ، وهى تعرف الآن بقرية "خواجة صاحب" ، فرضى الله عنه، وأسكنه فسيح جناته آمين

نبذة مختصرة عن السيرة الذاتية للعلامة الشيخ صالح الفوزان

نسبه :
هو فضيلة الشيخ الدكتور: صالح بن فوزان بن عبد الله, من آل فوزان من أهل الشماسية, الوداعين من قبيلة الدواسر.

نشأته ودراسته :
ولد عام 1354 هـ, وتوفي والده وهو صغير, فتربى في أسرته, وتعلم القرآن الكريم, وتعلم مبادىء القراءة والكتابة على يد إمام مسجد البلد, وكان قارئا متقنا وهو فضيلة الشيخ: حمود بن سليمان التلال, الذي تولى القضاء أخيرا في بلدة ضرية في منطقة القصيم.

ثم التحق بمدرسة الحكومة حين افتتاحها في الشماسية عام 1369 هـ, وأكمل دراسته الابتدائية في المدرسة الفيصلية ببريدة عام 1371 هـ, وتعين مدرسا في الابتدائي, ثم التحق بالمعهد العلمي ببريدة عند افتتاحه عام 1373 هـ, وتخرج منه عام 1377 هـ, والتحق بكلية الشريعة بالرياض, وتخرج منها عام 1381 هـ, ثم نال درجة الماجستير في الفقه, ثم درجة الدكتوراه من هذه الكلية في تخصص الفقه أيضا.

أعماله الوظيفية :
بعد تخرجه من كلية الشريعة عين مدرسا في المعهد العلمي في الرياض, ثم نقل للتدريس في كلية الشريعة, ثم نقل للتدريس في الدراسات العليا بكلية أصول الدين, ثم في المعهد العالي للقضاء, ثم عين مديرا للمعهد العالي للقضاء, ثم عاد للتدريس فيه بعد انتهاء مدة الإدارة, ثم نقل عضوا في اللجنة الدائمة للإفتاء والبحوث العلمية, ولا يزال على رأس العمل.

أعماله الأخرى :
فضيلة الشيخ عضو في هيئة كبار العلماء, وعضو في المجمع الفقهي بمكة المكرمة التابع للرابطة, وعضو في لجنة الإشراف على الدعاة في الحج, إلى جانب عمله عضوا في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء, وإمام وخطيب ومدرس في جامع الأمير متعب بن عبد العزيزآل سعود في الملز, ويشارك في الإجابة في برنامج (نور على الدرب) في الإذاعة, كما أن لفضيلته مشاركات منتظمة في المجلات العلمية على هيئة بحوث ودراسات ورسائل وفتاوى, جمع وطبع بعضها, كما أن فضيلته يشرف على الكثير من الرسائل العلمية في درجتي الماجستير والدكتوراه, وتتلمذ على يديه العديد من طلبة العلم الذين يرتادون مجالسه ودروسه العلمية المستمرة.

مشايخه :
تتلمذ فضيلة الشيخ على أيدي عدد من العلماء والفقهاء البارزين, ومن أشهرهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز, وسماحة الشيخ عبد الله بن حميد, حيث كان يحضر دروسه في جامع بريدة, وفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي, وفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي, وفضيلة الشيخ صالح بن عبد الرحمن السكيتي, وفضيلة الشيخ صالح بن إبراهيم البليهي, وفضيلة الشيخ محمد بن سبيل, وفضيلة الشيخ عبد الله بن صالح الخليفي, وفضيلة الشيخ إبراهيم بن عبيد العبد المحسن, وفضيلة الشيخ حمود بن عقلا, والشيخ صالح العلي الناصر. وتتلمذ على غيرهم من شيوخ الأزهر المنتدبين في الحديث والتفسير واللغة العربية.

مؤلفاته :
لفضيلة الشيخ مؤلفات كثيرة, من أبرزها:
1- (التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية) في المواريث, وهو رسالته في الماجستير, مجلد.
2- (أحكام الأطعمة في الشريعة الإسلامية) , وهو رسالته في الدكتوراه ; مجلد.
3- (الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد) مجلد صغير.
4- (شرح العقيدة الواسطية) مجلد صغير.
5- (البيان فيما أخطأ فيه بعض الكتاب) مجلد كبير.
6- ( مجموع محاضرات في العقيدة والدعوة) مجلدان.
7- (الخطب المنبرية في المناسبات العصرية) في أربع مجلدات.
8- (من أعلام المجددين في الإسلام).
9- (رسائل في مواضيع مختلفة).
10- (مجموع فتاوى في العقيدة والفقه) مفرغة من نور على الدرب, وقد أنجز منه أربعة أجزاء.
11- (نقد كتاب الحلال والحرام في الإسلام).
12- (شرح كتاب التوحيد- للشيخ محمد بن عبد الوهاب), شرح مدرسي.
13- ( التعقيب على ما ذكره الخطيب في حق الشيخ محمد بن عبد الوهاب ).
14- (الملخص الفقهي) مجلدان.
15- (إتحاف أهل الإيمان بدروس شهر رمضان).
16- ( الضياء اللامع من الأحاديث القدسية الجوامع) .
17- (بيان ما يفعله الحاج والمعتمر).
18- (كتاب التوحيد) جزءان مقرران في المرحلة الثانوية بوزارة المعارف.
19- (فتاوى ومقالات نشرت في مجلة الدعوة), وهو هذا الذي نشر ضمن (كتاب الدعوة).

علاوة على العديد من الكتب والبحوث والرسائل العلمية, منها ما هو مطبوع, ومنها ما هو في طريقه للطبع.

نسأل الله تعالى أن ينفع به, وأن يجعله في موازين حسنات شيخنا الجليل, إنه سميع مجيب. 

زياد علي

زياد علي محمد