الجمعة، 23 أغسطس 2019

♦ ومضات تربوية في سورة يوسف ♦

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

والصلاة والسلام على اشرف المرسلين سيدنا محمد خاتم الأنبياءوالمرسلين وعلى صحبه اجميعين وبعد


منقول من مقالة
الباحث ياسر محمود

تمثل قضيَّة التربية في قصَّة سيدنا يوسف عليه السلام مرتكزاً أساسياً من المرتكزات الأخلاقية التي تقوم عليها أحداث القصة، وتدعو إليها مواقفها المختلفة. وذلك عبر اللفتة الموحية والإشارة الدالة التي حملتها كلمة(رَبّ) في البناء اللغوي البياني المعجز في السورة.

واسم (الربّ) يطلق في اللغة على المالك، و السيّد، والمدبر، والمربي، والقيّم، والمنعم. (انظر: لسان العرب/م1/ص399). من هنا فإن أول ما تحمله سورة الفاتحة بعد البسملة قوله تعالى: " الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " ذلك أن الحمد كله لله المنعم المتفضل الذي لولا إنعامه على خلقه لما كان لهم وجود ولا بقاء.

ولا يطلق اسم (الرب) غير مضاف إلا على الله سبحانه وتعالى (ولم يرد على هذا النحو في القرآن الكريم). أما إذا أضيف فقد يُقصد به الله سبحانه وتعالى، مثل (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) البقرة /286/، وقوله تعالى (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 5]. وقد يُقصد به بعض خلقه كقولنا: (ربّ المنزل، ربّ العمل).

تحمل كلمة الرب إذاً المعاني التي تقوم عليها عملية التربية من الرعاية والاهتمام والتدبير وغير ذلك. من هنا، من هذه الكلمة (الرب) ينطلق البحث في قضية التربية في قصة يوسف (عليه السلام).

عرضت لنا القصة ثلاث مراحل في حياة سيدنا يوسف:

مرحلة الطفولة: من ذكر الرؤيا حتى وصوله إلى بيت عزيز مصر.
مرحلة الشباب: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ).

مرحلة الرجولة والنضج: (يقول المؤرخون إن بين رؤياه واجتماعه بأبيه و إخوته في مصر أربعون سنة).

فكيف نتلمّس دور المربي (الله سبحانه وتعالى) في حياة يوسف عليه السلام عبر أطوارها المتتالية، وظروفها المختلفة...؟

أول ما يطالعنا من قصة يوسف عليه السلام ذكر سيدنا يوسف رؤياه لأبيه، وهو في مرحلة مبكرة من العمر (12 سنة حسب أرجح الأقوال)، ويدرك أبوه يعقوب عليه السلام أن ما رآه ابنه في رؤياه إنما هو من دلائل النبوة، فيبشّره: (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

ثمة أمور ثلاثة يأتي ذكرها في الآية حكاية عن سيدنا يعقوب (عليه السلام):

1-الاجتباء و التربية:
يجتبيك ربك: أي يختارك ويصطفيك لمهمة سيوكلها إليك. وهذه المهمة تحتاج إلى تهيئة وتدريب و استعداد، وأنت ما تزال طفلاً صغيراً. ولكن الذي يختارك ويجتبيك هو (ربّك) أي هو القائم على شؤونك، ورعايتك، وتدريبك.

وقد خصّه سيدنا يعقوب بكاف الخطاب في قوله (ربك) إشعاراً له بخصوصية العلاقة بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وإيناساً له وهو في هذه السن المبكرة.

2- التعليم:
بعد مرحلة الاجتباء والاختيار، تأتي مسألة التهيئة (وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ). وتأويل الرؤيا وتعبيرها معجزة أيدّه الله بها، لتكون عوناً له في المهمة الموكلة إليه.

3- النبوة:
(و َيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ)وهذه الواو تعني اجتماع هذه الأمور لسيدنا يوسف فالاختيار ثم تعليمه تأويل الرؤيا وحدهما لا يعنيان إتمام النعمة. ونفهم من قوله تعالى (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ ) أن إتمام النعمة هو النبوة وحمل الرسالة، وهذه هي المهمة التي يعدّك الله للقيام بها بعد اختيارك وتأييدك بعلم تأويل الرؤيا. وتختتم الآية بقوله تعالى حكاية عن سيدنا يعقوب (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

فكلمة (عليم) ترجع إلى قوله تعالى (وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)، وكلمة (حكيم) تعود إلى الاجتباء والاختيار، أي أن هذا الاختيار جاء لحكمة يعلمها الله فـ (اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام:124].

إذاً في هذه السن المبكرة يختار الله تعالى سيدنا يوسف ليقوم بتبليغ رسالته، وهذه مهمة عظيمة تحتاج إلى تهيئة واستعداد، وقد تكفّل الله (ربّه) بتربيته وتهيئته ورعايته حتى يتم المهمة الموكلة إليه على الوجه الذي يرضي ربه. فكيف تجلت مظاهر التربية في مراحل حياة سيدنا يوسف عليه السلام.؟

مظاهر التربية في حياة يوسف عليه السلام
حادثة إلقائه في الجب
يعيش يوسف عليه السلام المحنة الأولى في حياته في مرحلة الطفولة حين يكيد له إخوته ويقرروا أن يلقوه في ظلمة بئر ليلتقطه بعض السيارة، ويحملوه بعيداً، فيخلو لهم وجه أبيهم. (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ)، إنه الآن في ذروة الأزمة، وفي أشدّ أوقات المحنة والكرب، وهو ما يزال طفلاً صغيراً. هنا يأتي دور المربي في بث الطمأنينة في نفسه (وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ).

إن سيدنا يوسف وهو في هذه السن المبكرة و في ظرف كهذا بحاجة إلى من يهدئ نفسه ويشعره بالأمان، غير أنه على حداثة سنه يفتقر إلى الدليل الموصل إلى هذه الغاية، فكان أن طمأنه (ربّه) بأن لا تخف ولا تحزن فإنك ناج مما أنت فيه ومخبرهم بما يدبرونه من المكر والأذى... ولنا أن نتصور مشاعر هذا الطفل وقد طمأنه ربّه وآنسه ووعده بالنجاة والسلامة.

حادثة بيعه عبداً
ينجي الله سيدنا يوسف من محنته الأولى ويُحمل إلى مصر ليباع ـ وهو الحرّ ـ عبداً بثمن قليل. ويشتريه العزيز ثم يطلب من امرأته أن تهتم بهذا الغلام وتكرم مثواه، ويأتي قوله تعالى(وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ) إن (ربه) الذي تولّى رعايته وتربيته سيجعل من محنته هذه ـ إذاً ـ سبباً من أسباب رفعة شأنه وعلوّ منزلته كيف لا والله هو (ربّه) !

أمره مع امرأة العزيز
يوسف عليه السلام ما يزال حتى هذا الوقت في مرحلة الاختيار والاجتباء بما تتطلبه هذه المرحلة من الرعاية والتربية، والحفظ والإعداد. ويأتي قوله تعالى (وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) وهذه المرحلة سيشهدها سيدنا يوسف في مصر بعد أن جعل الله من مصر مكاناً لاستقراره وعيشه في عزّ وأمان (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)

بعد أن حفظ الله تعالى سيدنا يوسف في طفولته ونجاه من محنتين عظيمتين، تأتي مرحلة الشباب (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) وفي هذه المرحلة سيتعلم سيدنا يوسف درساً اسمه (الاعتماد على الله).

وتراوده امرأة العزيز عن نفسه، وهو في مرحلة الشباب والقوة، ولمّا أن هيأت للأمر أسبابه ودعته إلى ارتكاب الفاحشة، استعاذ سيدنا يوسف بالله مما تدعوه إليه، وذكّرها بفضل العزيز عليه قائلاً (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) إشارة إلى ما أوصى به العزيز امرأته عندما اشترى يوسف عبداً (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه).

ولمّا لم يردع امرأة العزيز تذكيرها بزوجها وبفضله عليه ورعايته له، ولما لم يكن ذلك سبباً في منعها من إنفاذ ما فكّرت بارتكابه، اشتدت المحنة على سيدنا يوسف (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) وعلى اختلاف الآراء في ماهية البرهان الذي رآه سيدنا يوسف إلا أنّ (ربّه) الذي يتولى العناية به، ويتكفل برعايته، يقوم بحفظه في هذه المحنة ويصرف عنه السوء والفحشاء.

وتأتي كلمة (ربّه) في الآية لتذكرنا بأن الله تعالى القائم على أموره هو الذي أنجاه من منطلق (التربية) من هذه المحنة، ذلك أن المربي لا يرضى لمربوبه الوقوع في الخطيئة.

وعلى الرغم من أن سيدنا يوسف استعاذ بالله مما تدعوه إليه امرأة العزيز، إلا أنه خاطبها بحجة من واقع الحال الذي تفهمه وتدركه، لعل ذلك يكون أدعى إلى إقناعها بالعدول عما عزمت عليه.

لكن امرأة العزيز لم تزدد ـ أمام موقفه ـ إلا إصراراً. فعلى الرغم من اكتشاف زوجها أمر مراودتها يوسف عن نفسه، ها هي تخاطب النسوة اللواتي كن يلمنها على فعلتها (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ).

لقد تعلم سيدنا يوسف من المحن السابقة درس (الاعتماد على الله) فربّه هو الذي حفظه في مرحلة الطفولة وذلك دون طلب منه إذ كان ما يزال صغيراً، لا يدرك أمور الحياة أو يتفهم طبائع الأحداث.

وكذلك حين راودته امرأة العزيز عن نفسه، قام مربيه (ربه) بدوره في التربية وأراه البرهان ليحفظه ويصرف عنه السوء والفحشاء....

لذلك لما أدرك سيدنا يوسف أن إقناع امرأة العزيز بعدم ارتكاب الفاحشة أمر لم يعد ممكناً التجأ إلى ربه التجاءً واضحاً مباشراً طالباً العون منه سبحانه وتعالى (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ)

تلك كانت مرحلة الاجتباء والتربية التي أشار إليهما الله تعالى حكاية عن سيدنا يعقوب (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ)، فـ(يجتبيك = الاختيار) و (ربّك = التربية والرعاية).

تأويل الرؤيا والدعوة إلى الله تعالى
مرحلة التعليم كانت في مصر كما أخبرنا الله تعالى بقوله: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ).

ولأن تأويل الرؤيا كان المعجزة التي أيد الله بها سيدنا يوسف للدلالة على صدق نبوته، فقد اقترن وجودها في القصة بدعوة يوسف عليه السلام إلى عبادة الله وتوحيده.

في السجن يبدأ سيدنا يوسف بالدعوة إلى الله، مستفيداً من حاجة الفتيين إلى تأويل رؤياهما وقد طلبا منه ذلك، وقبل أن يؤوّل لهما رؤياهما، يؤكد لهما قدرته على معرفة بعض المغيبات (قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا) لكنه سرعان ما يضيف (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أي هذا بعض ما خصّني به الله الذي اختارني وحفظني ورعاني وربّاني وأعدّني لتبليغ رسالته.

إذاً إن أول ما يظهر من دلائل العلم الذي وهبه الله لسيدنا يوسف ما كان من أمر الرؤيا التي رآها كل من الرجلين اللذين دخلا معه السجن وهذا ما كان بشره به سيدنا يعقوب (وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)،وما ذكره الله لنا بقوله (وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ).

ونلاحظ هنا استخدام سيدنا يوسف كلمة (ربّي) في قوله (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)، وذلك تأكيداً منه على أنّ ما به من فضل، وما لديه من علم، ما كان ليكون لولا أن الله الذي ربّاه وحفظه قد وهبه هذا العلم. ثم يبدأ في السجن دعوته إلى الله، ولنقرأ فيما قاله أثناء ذلك العبارات التالية:

(إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ).

(مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِمِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِعَلَيْنَا).

(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُالْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)

(مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُبِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّلِلّهِ)

نلاحظ أن سيدنا يوسف يستخدم في دعوته لفظ الجلالة (الله)، دون كلمة (رب)، ذلك أن اسم (الله) جامع لأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، ففيه صفات العظمة والجلال وصفات الفعل والقدرة والقوة وصفات العدل و الإحسان والجود وصفات الإعزاز والإذلال والقهر.. وغير ذلك من صفاته تعالى.

وهذا توازن في الدعوة إلى الله التي يفترض فيها أن تجمع بين الترغيب و الترهيب. وكلمة (الربّ) تحمل معاني التربية والرعاية والقوامة وهذه كلها تندرج في أبواب الرحمة، أي الترغيب.

بعد أن دعا سيّدنا يوسف الفتيين إلى عبادة الله وتوحيده عاد إلى ما سألاه عنهمن تأويل الرؤيا. ولما انتهى من تأويل رؤياهما (قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ) أي عند سيدك. لكن الساقي نسي ذكر يوسف لدى سيّده (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).

وسبب بقائه في السجن ـ حسب ما رأى المفسرون ـ أنه التمس النجاة من محنته هذه في أن يذكره ساقي الملك عند سيّده، عله ينظر في أمره ويخرجه من السجن، ولم يسأل الله تعالى النجاة من هذه المحنة (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).

ولعلنا نلاحظ هنا أن الله تعالى أراد أن يعلم سيدنا يوسف ألا يلتجئ في محنه إلا إلى ربه الذي حفظه ونجاه من محنه السابقة كلها، فأبقاه في السجن بضع سنين تعليماً وتأديباً، والتأديب جزء من التربية التي تلقاها يوسف عن ربه.

بعد أن لبث يوسف عليه السلام في سجنه ـ تعليماً وتأديباً ـ بضع سنين، يأتي سؤال الملك عمن يؤول رؤياه ليخرج الله سيدنا يوسف من السجن، وليظهر براءته في أمره مع امرأة العزيز والنسوة اللواتي قطعن أيديهن، وليجعله على خزائن الأرض.

وهكذا يهبه (ربه) بما علمه من تأويل الأحاديث مجداً وعزة، وقوة وسلطاناً، وهو الذي دخل مصر عبداً يباع بثمن زهيد.

لقاء يوسف (عليه السلام) بأبويه وإخوته:

تدور الأحداث ويلتقي سيدنا يوسف بأبويه وإخوته (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا) ويأتي اعتراف يوسف عليه السلام بفضل ربّه عليه، ورعايته له، وحفظه إياه، في مراحل حياته كلها ووقف أمام ما آلت إليه الأمور (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)

ثم يتوجه إلى صاحب الفضل، إلى ربه، بالشكر والحمد والدعاء بأن يتوفاه مسلماً ويلحقه بالصالحين، فتأتي الآية الأخيرة في قصة سيدنا يوسف (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ).

إنه سيدنا يوسف الذي اجتباه الله سبحانه وتعالى، وعلمه، وأتم نعمته عليه، يقف أمام ربه خاشعاً، خاضعاً، متذللاً، يقر باستمرارية الحاجة إليه، وافتقاره إلى رحمته، وفي هذا عرفان بالجميل وإقرار بالفضل، لا يصدر إلا عمن أدَّبه الله تعالى فأحسن تأديبه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

زياد علي

زياد علي محمد