الجمعة، 23 أغسطس 2019

أنس بن النضر "رضي الله عنه "


أنس بن النضر "رضي الله عنه "

نسبه وقبيلته:
هو أبو عمرو أنس بن النضر بن ضخم النجاري الخزرجي الأنصاري عم أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إسلامه:
أسلم رضي الله عنه بعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم خيرًا.
مواقف من حياته مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
عن أنس قال:عمي أنس بن النضر سميت به لم يشهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر علي فقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع قال فهاب أن يقول غيرها فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد من العام القابل فاستقبله سعد بن معاذ فقال يا أبا عمرو أين؟ قال: واها لريح الجنة أجدها دون أحد فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية فقالت: عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه.
أهم ملامح شخصيته:
في البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً }.
روى البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه أن الربيع وهي ابنة النضر كسرت ثنية جارية فطلبوا الأرش وطلبوا العفو فأبوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص فقال أنس بن النضر أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال: «يا أنس كتاب الله القصاص» فرضي القوم وعفوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» زاد الفزاري عن حميد عن أنس: فرضي القوم وقبلوا الأرش.
مواقف من حياته مع الصحابة:
لما جال المسلمون يوم أحد جولاتهم، وأُشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل استمر أنس بن النضر يقاتل فرأى عمر ومعه رهط فقال: ما يقعدكم ؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم جال بسيفه حتى قتل.
وفاته:
استشهد رضي الله عنه وأرضاه في غزوة أحد، ووجد به بضع وثمانون مابين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ومثل به المشركون انتقاماً مما صنع بهم حتى لم يعرفه أحد إلا أخته الرُّبَيّع عرفته ببنانه.


من مراجع البحث:
- ابن الجوزي: صفة الصفوة.
- د سيد بن حسين العفاني: فرسان النهار من الصحابة الأخيار.



عثمان بن مظعون.. راهبٌ صومعتُه الحياة!

خالد محمد خالد




إذا أردتَ أن ترتّبَ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفق سبقهم الزمني إلى الإسلام فاعلم إذا بلغت الرقم الرابع عشر أنَّ صاحبه هو عثمان بن مظعون.


واعلم أنَّه كان أول المهاجرين وفاة بالمدينة، وأول المسلمين دفنا بالبقيع.


واعلم أخيرًا أنَّ هذا الصحابيَّ الجليل الذي تطالع الآن سيرته كان راهبا عظيما.. لا من رهبان الصوامع، بل من رهبان الحياة!!


فقد كانت رهبانيته عملاً دائبًا في سبيل الحق، وتفانيًا في سبيل الخير والصلاح.


فعندما كان الإسلام يتسرّب ضوؤه الباكر االنديّ من قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان عثمان بن مظعون هناك، واحدًا من القلَّة التي سارعت إلى الله والتفّتْ حول رسوله.


ولقد نزل به من الأذى والضر، ما كان ينزل يومئذ بالمؤمنين الصابرين الصامدين.


وحين آثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه القِلَّة المؤمنة المضطهدة بالعافية، آمرًا إيّاها بالهجرة إلى الحبشة، كان عثمان بن مظعون أميرَ الفَوْجِ الأوَّل من المهاجرين، مصطحبًا معه ابنه السائب مولِّيًا وجهه شطر بلاد بعيدة عن مكايد عدو الله أبي جهل، وضراوة قريش.


وكشأن المهاجرين إلى الحبشة في كلتا الهجرتين: الأولى والثانية، لم يزدد عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - إلا استمساكًا بالإسلام، واعتصامًا به.


وفي الحبشة عاش المهاجرون آمنين مطمئنين. وهناك، لم ينس عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - في غربته مكايِدَ ابْنِ عمّه أمية بن خلف، فراح ويتوعده:




ترِيشُ نِبَالاً لا يُوَاتِيكَ رِيشُهَا وَتَبْرِي نِبَالاً رِيشُهَا لَكَ أَجْمَعُ
وَحَارَبْتَ أَقْوَامًا كِرَامًا أَعِزَّةً وَأَهْلَكْتَ أَقْوَامًا بِهِمْ كُنْتَ تَفْزَعُ
سَتَعْلَمُ - إِنْ نَابَتْكَ يَوْمًا مُلِمَّةٌ وَأَسْلَمَكَ الأَوْبَاشُ - مَا كُنْتَ تَصْنَعُ




وبينما المهاجرون في دار هجرتهم يعبدون الله، ويتدارسون ما معهم من القرآن، إذِ الأنباءُ تواتيهم أنَّ قريشًا أَسْلَمَتْ، وسجدت مع الرسول لله الواحد القهار.

هنالك حمل المهاجرون أمْتِعَتَهُم وطاروا إلى مَكَّة تَسْبِقُهم أشواقُهم، ويحدوهم حنينهم.


بَيْدَ أنَّهم ما كادوا يقتربون من مشارِفِها حتَّى تبيَّنوا كذب الخبر الذي بلغهم عن إسلام قريش، فرأوا أنهم قد عجلوا، ولكن أنّى يذهبون وهذه مكة على مرمى البصر؟!


وقد سمع مشركو مكة بمقدَم الصَّيد الذي طالما رَدُّوه ونصبوا شباكهم لاقتناصه.


ويومئذٍ، كان الجوار تقليدًا من تقاليد العرب، فإذا دخل رجلٌ مُستَضْعَف جوار سيّد قرشي، أصبح في حمًى منيع.


لم يظفَر بِالجوار إلاّ قليلٌ منهم، أمَّا عثمان بن مظعون فقد ظفِر بجوار الوليد بن المغيرة، ودخل مكة آمنًا مطمئنًا.


ولكن .. !

لمَّا رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البلاء، وهو يغدو ويروح في أمان الوليد بن المغيرة، قال: والله إن غدوّي ورواحي آمنًا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يَلْقَوْنَ من البلاء والأذى ما لا يُصيبُني - لنقص كبير في نفسي.


فمشَى إلى الوليد بن المغيرة فقال له:

يا أبا عبدشمس وَفَتْ ذِمَّتك، وقد ردَدْتُ إليك جوارك.


فقال له:لم يا ابن أخي؟ لعله آذاكَ أحدٌ من قومي؟


قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره.

فانطلِقْ إلى المسجِدْ فارْدُدْ عَلَيَّ جِواري علانيةً.

فانطلقا حتَّى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمانُ قد جاء يردُّ عليَّ جواري.


قال عثمان: صدق، ولقد وجدتُه وفيًّا كريمَ الجوار، ولكنني أحبَبْتُ ألاّ أستجيرَ بِغَيْرِ الله.

ثُم انصرف عثمان - ولبيد بن ربيعة في مجلس من مجالس قريش ينشدهم - فجلس معهم عثمان فقال لبيد:

أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلُ


فقال عثمان: صدقت.


قال لبيد:

وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلُ


قال عثمان: كذبت؛ نعيم الجنة لا يزول.


فقال لبيد: يا معشر قريش، واللهِ ما كان يؤذَى جليسُكم، فمتى حدث هذا فيكم؟


فقال رجلٌ مِنَ القَوْمِ: إن هذا سفيهٌ فارَقَ دِينَنَا، فلا تجِدَنّ في نفسك من قوله.

فردَّ عليه عثمان بن مظعون حتى سرى أمرهما. فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فأصابها، والوليد بن المغيرة قريب، يرى ما يحدث لعثمان، فقال: أما والله يا بن أخي إن كانت عينك عمّا أصابها لغنيّة، لقد كانت في ذمة منيعة.


فقال عثمان: بل - والله - إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله.. وإني لفي جوار مَنْ هو أَعَزُّ منك وأقدرُ يا أبا عبدشمس!


فقال له الوليد: هلمَّ يا ابن أخي، إن شِئْتَ فَعُدْ إلى جواري.


قال ابن مظعون: لا.

وغادر ابن مظعون هذا المشهد وعينه تضجّ بالألم، ولكنَّ روحه تتفجر عافية، وصلابة، وهو ينشد:




فَإِنْ تَكُ عَيْنِي فِي رِضَا اللَّهِ نَالَهَا يَدَا مُلْحِدٍ فِي الدِّينِ لَيْسَ بِمُهْتَدِي
فَقَدْ عَوَّضَ الرَّحْمَنُ مِنْهَا ثَوَابَهُ وَمَنْ يَرْضَهُ الرَّحْمَنُ يَا قَوْمِ يَسْعَدِ
فَإِنِّي وَإِنْ قُلْتُمْ غَوِيٌّ مُضَلَّلٌ لأَحْيَا عَلَى دِينِ الرَّسُولِ مُحَمَّدِ
أُرِيدُ بِذَاكَ اللَّهَ وَالْحَقُّ دِينُنَا عَلَى رَغْمِ مَنْ يَبْغِي عَلَيْنَا وَيَعْتَدِي

وَيُهَاجِرُ عُثْمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَيْثُ لا يُؤَرِّقُهُ أَبُو جَهْلٍ هُنَاكَ، وَلا أَبُو لَهَبٍ.... وَلا أُمَيَّةُ.. وَلا عُتْبَةُ..



وَفِي دَارِ الْهِجْرَةِ الْمُنَوَّرَةِ، يَتكشفّ جوهر عثمان بن مظعون وتستبين حقيقته العظيمة الفريدة، فإذا هو العابد، الزاهد، المتبتل، الأوّاب، وإذا هو الراهب الجليل، الذكي الذي لا يأوي إلى صومعة يعتزل فيها الحياة؛ بل يملأ الحياة بعمله، وبجهاده في سبيل الله..


أجل.. راهب الليل فارس النهار، بل راهب الليل والنهار، وفارسهما معًا!


وما إن ذاق حلاوة الاستغراق في العبادة حتى همّ بتقطيع كل الأسباب التي تربط الناس بمناعم الحياة.


دخل المسجدَ يومًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه جلوس، وكان يرتدي لباسًا تمزق، فرقّعه بقطعة من فروة، فرق له قلبُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودمعت عيون أصحابه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنتم يوم يغدو أحدكم في حلة، ويروح في أخرى، وتوضع في قصعة، وترفع أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟!))


قال الأصحاب: وددنا أن يكون ذلك يا رسول الله، فنصيب الرخاء والعيش.

فأجابهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائلا: ((إنَّ ذلك لكائنٌ، وأنتم اليومَ خيرٌ منكم يومئذ)).


وكان بديهيًّا - وابن مظعون يسمع هذا - أن يزداد إقبالاً على الشظف وهربًا من النعيم.


وأحبّه الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - حبّا عظيما.


وحين كانتْ رُوحه الطاهرة تتهيَّأُ لِلرَّحيل ليكونَ صاحِبُها أوَّلَ المُهَاجِرِينَ وَفاةً بالمدينة، وأوَّلَهُمْ ارْتِيَادًا لِطَرِيق الجنَّة، كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - هناك إلى جواره.


ولقد أكبّ على جبينه يقبله، ويعطّره بدموعه. وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - يودّع صاحبه الحبيب: ((رحمك الله يا أبا السائبِ.. خرجتَ من الدنيا وما أصبتَ منها، ولا أصابتْ منك)).

ولم ينس الرسول الودود صاحبَه بعد موته، بل كان دائمَ الذِّكر له، والثناء عليه.


حتى لقد كانتْ كلمات وداعه - عليه السلام - لابنته رقيّة، حين فاضت روحها: ((الحقي بسلفنا الخير، عثمان بن مظعون)).

أدب الأنبياء

بسم الله الرحمن الرحيم

أدبهم مع الله تعالى:
إن الغاية القصوى من حركة الأنبياء هو توحيد الله تعالى، وتعبيد الناس إليه وفق شرعه المقدس؛ ولذلك فهم يخضعون أنفسهم كلياً لأوامره تعالى. بنيات خالصة من أي شائبة أخرى فيبلغون رسالة لخلقه من دون تردد أو خشية من أحد ((مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً)) (الأحزاب:38) (فالأنبياء هم المهديون بهداية الله لا يتبعون الهوى البتة فعواطفهم النفسانية وأميالهم الباطنية من شهوة، أو غضب، أو حب، أو بغض، أو سرور، أو حزن مما يتعلق بمظاهر الحياة من مال وبنين ونكاح وأكل وملبس ومسكن وغير ذلك كل ذلك واقعة في سبيل الله لا يقصدون به إلا الله جلت عظمته فإنما هما سبيلان مسلوكان سبيل يتبع فيه الحق، وسبيل يتبع فيه الهوى، وإن شئت قلت: سبيل ذكر الله، وسبيل نسيانه.
والأنبياء إذا كانوا مهديين إلى الله لا يتبعون الهوى كانوا على ذكر من ربهم لا يقصدون بحركة أو سكون غيره تعالى، ولا يقرعون بحاجة من حوائج حياتهم باب غيره من الأسباب بمعنى أنهم إذا تعلقوا بسبب لم ينسهم ذلك ربهم وأن الأمر إليه تعالى لا انهم ينفون الأسباب نفيا مطلقا لا يبقى مع ذلك لها وجود في التصور مطلقا فإن ذلك مما لا مطمع فيه، ولا أنهم يرون ذوات الأشياء وينفون عنها وصفة السببية فإن في ذلك خروجا عن صراط الفطرة الإنسانية بل التعلق به أن لا يرى لغيره استقلالا، ويضع كل شئ موضعه الذي وضعه الله فيه)

أدبهم في الدعاء:
أول أدب نستوحيه من أدب الأنبياء مع الله تعالى أدبهم في الدعاء؛ لنتأمل قليلاً في قصة آدم حينما أكل من الشجرة، وارتفعت منه ومن زوجه السعادة، وشعرا بالخطر يداهمهما فيفزعان إلى الله تعالى بلسان الاعتراف بالتقصير فيتضرعان ((قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (الأعراف:23)
أنها حالة اللجوء إلى الله تعالى بلسان الضراعة، والخضوع، والعبودية لله تعالى والاعتراف بالخطأ - رغم أن هذا الخطأ في أمر إرشادي وليس بأمر مولوي - فكان أملهما بالله تعالى أن يغفر لهما فلجأ إليه فقدما الاعتراف بالربوبية أولاً، والاعتراف بالذنب ثانياً، ثم طلباً بعد ذلك العفو والغفران، فتعلقاً بالربوبية، وأقرا بالعبودية واعترافاً بالذنب؛ لأنهما يعرفان أن هذا السبيل هو المنقذ الوحيد لهما.
وعلى هذا الأدب كانت مسيرة نوح عليه السلام في مقاومة الكافرين من قومه... نراه يشكو حالته معهم إلى ربه بلسان الخضوع والتذلل ((قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَاراً)) (نوح:21) ويشعر رغم تلك الجهود الجبارة التي بذلها طيلة آلف سنة إلا خمسين عاماً بالقصور أمام الله تعالى، فيقول: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلا تَبَاراً)) (نوح:28)
وحين يركب السفينة، ويتخلف ولده الذي تمرد على أمره ناداه: ((يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ)) (هود:42) في هذا الحال أخذه حنان الأبوة فدعا الله تعالى خاشعاً خاضعاً متضرعاً في منتهى الأدب ((وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)) (هود:45)
أنظر كيف جعل الحكم لله تعالى أي لا إرادة له مع إرادة الله، وإنما دعا الله أن يحكم تعالى في ولده، ولما جاءه الرد ((قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) (هود:46)
حينئذ أدرك حقيقة ولده، وانه ليس من أهله تراجع، وخشع، وتصاغر أمام ربه، واستعاذ به، وتوسل إليه بلسان الحال والمقال ((قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (هود:47)
هكذا يتوسل بصدق خالص واعتراف دقيق إنه لولا رحمة الله وغفرانه له لهلك وهذا منتهى العبودية لله تعالى؛ ولهذا رضى بهلاك ولده مع الهالكين ومن هنا (لم يجترئ عليه السلام على مسألة قاطعة، بل ألقى مسألته كالعارض المستفسر لعدم إحاطته بالعوامل المجتمعة واقعا على أمر ابنه، بل بدأ بالنداء باسم الرب؛ لأنه مفتاح دعاء المربوب المحتاج السائل...)
وهكذا نستنتج (أن الأدب الإلهي أن يقف العبد على ما يعلمه ولا يبادر إلى مسألة ما لا يدري وجه المصلحة فيه)
ومن ذلك أدب إبراهيم عليه السلام مع الله تعالى فهو لم ينسب إلى الله إلا الجميل حتى المرض نسبه إلى نفسه من خلال دعائه قائلاً على ما حكي القرآن عنه: ((الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي اْلآخِرِينَ)) (الشعراء:78-84)
هذا هو الأدب النبوي الرفيع يبدأ بالمدح والثناء، وبيان الأفضال الإلهية، والمنن الربانية، والاعتراف بالربوبية المطلقة، ثم بعد هذا كله يقدم طلبه في غاية التذلل والخضوع، ومن أدبه العظيم صلوات الله عليه أنه كلما ذكر حاجة من حاجاته أردفها باسم من أسماء الله الحسنى مما يناسبها بعد أن يسبقها النداء العظيم (رب) مكرراً مرات ومرات... وهذا يتجلى في دعائه الذي يقول فيه: ((رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اْلأَصْنَامَ ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ، رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي اْلأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)) (إبراهيم:35-38)
ففي دعاء واحد يذكر كلمة الربوبية خمس مرات وهذا هو الأدب الرفيع مع الله في دعائه ومناجاته، ومن أعظم أدبه أنه تجرد عن الحقد حتى على الذين عصوه وتمردوا على دعوته المباركة بقوله: ((رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (إبراهيم:36)
وأروع صور الأدب النبوي مع الله تعالى ما برز في قصة ذبح إسماعيل عليه السلام التي تجلى فيها الاستسلام الكامل، والطاعة الخالصة في أمر تهتز فيه القلوب، وترتعش فيه الأيدي إنه الذبح! وما أصعبه، وليس ذبح عدو إنما ذبح حبيب فلذة الكبد والأروع جواب المراد ذبحه في حوار هادئ بلا تكليف ولا تشجع وإنما استسلام لأمر الله تعالى يقول ابراهيم عليه السلام لولده العزيز الوحيد الذي طلبه من الله ((رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) (الشعراء:83) وتأتي البشارة لإبراهيم عليه السلام من ربه ((فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ)) (الصافات:112) حتى إذا بلغ إسماعيل السن الذي يعين به والده في أداء رسالته وقضاء حاجته تأتيه الإشارة من ربه بأن يذبح هذا العزيز، ويعرض الشيخ الوحيد الأمر على ولده الوحيد له ((يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)) (الصافات:102) هكذا يعرض الخليل عليه السلام هذا الأمر المروع المخيف على ولده بهذا العرض الهادي الوديع بلا تكلف ولا توسل أنه عرض غريب على الفطرة البشرية فقد يتحمل الأب أن يرسل ولده إلى الحرب؛ ليَقتُل ويُقتل، وقد يتحمل أن يُقتل ولده أمامه بيد عدو، وقد يتحمل أن يراه يموت أمامه أما أن يذبحه بيده فهذا من الصعب المستصعب... استجاب إبراهيم، وعرض الأمر على عزيز قلبه ماذا كان الجواب؟ أن القلم ليقف أمام هذا الجواب الذي يجسد أسمى آيات الطاعة والاستسلام والصبر أمام أمر مروع وبدون تسأل لماذا؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟ نعم بدون تسأل. أجاب: ((قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)) (الصافات: 102) هذا هو الأدب الرفيع أدب الطاعة والاستسلام لأوامر الله وهو بكل هذا يستمد الصبر من الله تعالى... انه امتحان صعب رهيب ولكن الله يمد الصابرين المستسلمين له بالرحمة والفرج.
وهكذا كان أدب جميع الأنبياء والرسل مع الله مما لا يمكن استقصاؤه في هذا المقال القصير ونذكر أمثلة من ذلك على نحو الإشارة باختصار لتتم الفائدة.
فيعقوب عليه السلام عندما يفقد يوسف عليه السلام يرفع شكواه وحزنه وبثه إلى الله تعالى ولا يشتكي إلى الخلق فيقول (ع): ((قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)﴾ (يوسف:86)
ويوسف عليه السلام عندما يمر بمحنة امرأة العزيز، ويُخير بين معصية الله تعالى، وبين السجن الشديد يتضرع إلى الله، ويختار الشدة والعذاب في السجن على المعصية ويرفع أمره إلى الله تعالى: ((قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإلاَ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) (يوسف:33)
إنها السيرة العطرة العصماء في تحمل الأذى في السجن بضع سنين رغم ما يعرض عليه من لذات إلا أنه يعلم أن تلك لذات الجاهلين الذين لا يعرفون سر وجودهم، ولا يرعون حق ربهم، ويأبى الله لأنبيائه أن يهبطوا إلى هذا المستوى الرخيص وفي أشد الحالات يرجع الأمر إلى الله تعالى فيقول: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) (يوسف: 40)
وحينما تنفرج الشدائد، وتنكشف الصعاب، ويلتقي أباه واخوته بعد امتحانات وفتن عسيرة لم يشغله شوق اللقاء عن ذكر ربه بل أخذ يثني على الله تعالى، ويعدد ألطافه بدعاء رقيق وخطاب لطيف يتجلى فيه سمو الأدب النبوي: ((فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ اخوتي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) (يوسف:99-100)
فيذكر عليه السلام أن كل ما مر به، وما جرى عليه من الابتلاء ألطاف ربانية فأهله جاءوا من البدو إلى المدن بمشية الله، وأن خلاصه من السجن إحسان إليه من الله. وان ما جرى بينه وبين أخوته كان من نزغ الشيطان، وهذا كله بلطف الله وعلمه وحكمته، ثم يرجع إلى الثناء والمدح والحمد، وان كل ما عنده هي منن إلهية ((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأرض أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَاْلآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) (يوسف:101) لم ينسب إلى نفسه شيئاً من تلك الملكات العظيمة بل نسبها إلى ألطاف الله، وتجرد من كل طاقاته ولذلك نراه يتوسل بالله أن يتوفاه على الإسلام، ويلحقه بالصالحين (فليتدبر الباحث فيما تعطيه الآيات من أدب النبوة، وليمثل عنده ما كان عليه يوسف عليه السلام من الملك ونفوذ الأمر، وما كان عليه أبواه من توقان النفس إلى لقائه، وما كان عليه أخوته من التواضع وهم جميعا على ذكر من تاريخ حياته من حين فقدوه إلى حين وجدوه وهو عزيز مستو على عرش العزة والهيمنة. لم يشق عليه السلام فَمَاً بكلام إلا ولربه فيه نصيب،أو كل النصيب إلا ما أصدره من الآمر بقوله: " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " فأمرهم بالدخول وحكم لهم بالأمن، ولم يستتم الكلام حتى استثنى فيه بمشيئة الله لئلا يوهم الاستقلال في الحكم دون الله، وهو عليه السلام القائل: " إن الحكم إلا لله ")
وموسى عليه السلام في أول حياته حينما وكز القبطي وقضى عليه قال: (﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) (القصص:16)... فهو عليه السلام يقدم نفسه إلى الله بكونه ظالماً لنفسه على نحو التذلل والخضوع رغم كونه لم يفعل خلافاً ؛ لأنه قتل نفساً كافرة غير محترمة ، وإنما طلب المغفرة لأنه كان (يخاف أن يفشو أمره، ويظهر ما هو ذنب له عندهم فسأله تعالى أن يستر عليه ويغفره، والمغفرة في عرف القرآن أعم من إمحاء العقاب بل هي إمحاء الأثر السيئ كائنا ما كان، ولا ريب أن أمر الجميع بيد الله سبحانه)
ومن سمو الأدب النبوي أنه عليه السلام عندما نزل الوحي وأحس بثقل الرسالة يلجأ إلى الله ويطلب منه أن يشرح صدره ويطلق لسانه ويعينه بأخيه ((قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي ، وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هَارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ، وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً)) (طه: 25-35)
والمَشاهد في حياة موسى كثيرة ، ومن أروعها حينما لجأ إلى مدين وكان وحيداً ((فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)) (القصص:24) يقول أمير المؤمنين (ع) يصف حالة موسى عليه السلام عندما دعا ربه بهذا الدعاء: (وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله عليه السلام إذ يقول: ((رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)) والله ما سأله إلا خبزاً يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض. ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله وتشذب لحمه)
وأما سيد الأنبياء والمرسلين وخاتم رسالة السماء الذي وصفه تعالى بأنه على خلق عظيم فقد كان دائم الذكر لله تعالى لا يكل ، ولا يمل ، ولا يفتر في كل حالاته خاشعاً متضرعاً باكياً، (وكان صلى الله عليه وسلم يبكي حتى يغشى عليه، فقيل له: يا رسول الله أليس الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: بلى أفلا أكون عبدا شكورا؟)
وعن أبي عبد الله أنه قال: (كان رسول الله يتوب إلى الله في كل يوم سبعين مرة ، وقام الليل حتى تورمت قدماه فأنزل الله تعالى: ((طه ، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)) (طه:1-2)

قصة أويس القرني ,,

قصة أويس القرني ,,

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه القصة التي تجسد موضوع السكينة، فقدْ أخرج مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أويس القرني رضي الله عنه:

((أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَفَدُوا إِلَى عُمَرَ وَفِيهِمْ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ الْقَرَنِيِّينَ ؟ فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: إِنَّ رَجُلاً يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ لَا يَدَعُ بِالْيَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ قَدْ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَدَعَا اللَّهَ فَأَذْهَبَهُ عَنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ الدِّينَارِ أَوْ الدِّرْهَمِ فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ ))
[ رواه مسلم عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ]
(( إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ وَلَهُ وَالِدَةٌ وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَمُرُوهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ))
[ رواه مسلم عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ]
وقد ورد في كتب السيرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمرَ بن الخطاب وعليِّ بن أبي طالب: إذا لقيتما أويساً القرني فاسألاه أن يستغفر لكما فإنه مجاب الدعوة. فترصدا موسم الحج عشر سنين يدعوان أهل الموسم من اليمن على طعام فما ظفرا بضالّتهما، ثم جاء العام الذي يليه فقال عمر لرئيس وفد اليمن: أبقي أحد لم يحضر وليمتنا، قال: لا، إلا فتىً خامل الذكر يرعى إبلاً لنا، فقال له سيدنا عمر: أهو آدم أشهل ذو صهوبة ؟ فقال: كأنك تعرفه يا أمير المؤمنين، فذهب عمر وعلي إليه، فلما أتياه قالا: من الرجل ؟ قال: راعي إبل وأجير قوم، قالا: لسنا نسألك عن ذلك ما اسمك ؟ قال: عبد الله، قال له علي رضي الله عنه: قد علمنا أن كل من في السماوات والأرض عبيد لله، ما اسمك الذي سمتك به أمك ؟ قال: يا هذان من أنتما وما تريدان مني ؟ فقال عمر: أنا عمر بن الخطاب، وهذا علي بن أبي طالب، فانتفض واقفاً، وقال: جزاكما الله عن الإسلام خيراً يا أمير المؤمنين، ويا صهر رسول الله، أما أنتما فقد كان لكما شرف الصحبة، وأما أنا فقد حرمت هذا الشرف، فقال له سيدنا عمر: كيف تتصور النبي يا أويس ؟ قال: أتصوره نوراً يملأ الأفق، فبكى عمر شوقاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال عمر: يا أويس إن النبي أمرنا أن تستغفر لنا، وأن تدعو لنا، قال: ما أخص بالدعاء أحداً، ولكن أعمم ! قال عمر: يا أويس عظني، قال: يا أمير المؤمنين، اطلب رحمة الله عند طاعته، واحذر نقمته عند معصيته، ولا تقطع رجاءك منه، قال سيدنا عمر: أفلا نأمر لك بصلة ؟ قال: يا أمير المؤمنين أخذت على عملي أربعة دراهم، ولي على القوم ذمة، متى تراني أنفقها ؟ وعليّ رداء وإزار، متى تراني أخرقهما ؟ يا أمير المؤمنين إن بين يدي ويديك عقبة كؤود لا يقطعها إلا كل مخفّ مهزول، فبكى عمر، وقال: ليت أم عمر لم تلد عمر، قال: يا أويس ألا تقيم عندنا ؟ قال: أريد الكوفة، قال: أفلا أكتب لك إلى عاملها ؟ قال: أحب أن أكون في دهماء الناس، ومضى إلى سبيله، ومات في غمار خيمة من خيام المسلمين خاملاً في الأرض علماً في السماء.
إنها السكينة التي يسعد بها الإنسان ولو فقد كل شيء، ويشقى بفقدها ولو ملك كل شيء.

المؤلفات - كتاب ومضات في الإسلام – الباب الثالث - الفقرة (24-39) : قصة أويس القرني
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي

سنان باشا المجاهد العثماني

بسم الله الرحمن الرحيم

سنان باشا .. حياته ونشأته
يعد سنان باشا (1) من أعظم القادة العثمانيين الفاتحين في القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي، الذين كان لهم قدم وباع طويل في الجهاد العثماني خاصة في الشمال الأفريقي.

ولد سنان باشا بن علي بن عبد الرحمن عام 912هـ/ 1506م، في رحاب الدولة العثمانية الفتية في عهد السلطان سليم الأول، ونشأ سنان باشا نشأة علمية وقتالية عالية، وكان لذلك أثر كبير في حياته، فاشتهر بذكائه ودهائه وقدراته العسكرية والسياسية، وما هي إلا سنوات حتى أصبح سنان باشا من رجال البلاط العثماني ومن الوزراء المقربين للسلاطين العثمانيين، خاصة السلطان العثماني سليم الثاني (930 هـ/ 1524 م-982 هـ/ 1574م).

سنان باشا والفتح العثماني لتونس
أصدر السلطان سليم الثاني أوامره إلى وزيره سنان باشا وقبودانه قلج علي بالاستعداد للتوجه إلى تونس، لفتحها نهائياً، وإعادة نفوذ الدولة العثمانية إليها، كما صدرت نفس الأوامر والتوجيهات لبقية الأقاليم بتحضير الجنود والذخيرة، والمؤن والجنود مع مائتين وثلاث وثمانين سفينة مختلفة الأحجام، كما أكد على المكلفين بالخدمة في الأناضولي والروم يلي بالاشتراك في السفر بحراً، كما أحضر المجدفين اللازمين للأسطول، وأنذر من لا يحضر من المجدفين بالفصل من مناصبهم على أن لا يسند إليهم في المستقبل أي عمل وبينما كان الأسطول يتأهب، أخذ حيدر باشا الحاكم العثماني في تونس والذي انسحب للقيروان في حشد المجاهدين من الأهالي الذين التفوا حوله.

أبحر الأسطول العثماني بقيادة سنان باشا وقلج علي في 23 محرم 982هـ / 14 مايو 1574م، فخرج من المضائق ونشر أشرعته في البحر الأبيض، فقاموا بضرب ساحل كالابريا، مسينا، واستطاع العثمانيون أن يستولوا على سفينة مسيحية ومن هناك قطعوا عرض البحر في خمسة أيام في هذا الوقت وصل الحاكم العثماني في تونس حيدر باشا، كما وصلت قوة من الجزائريين بقيادة رمضان باشا، وقوة طرابلس بقيادة مصطفى باشا، كما وصل ثمة متطوعين من مصر.

بدأ القتال في ربيع سنة 981هـ/ 1574م، ونجح العثمانيون في الاستيلاء على حلق الواد، بعد أن حوصروا حصاراً محكماً وقامت قوات أخرى بمحاصرة مدينة تونس، ففر الأسبان الموجودون فيها ومعهم الملك الحفصي محمد بن الحسن إلى البستيون التي بالغ الأسبان في تحصينها وجعلوه من أمنع الحصون في الشمال الأفريقي.

توجه العثمانيون بعد تجمع قواتهم إلى حصار البستيون، وضيق العثمانيون الخناق على أهلها من كل ناحية وباشر الوزير سنان الحرب بنفسه كواحد من الجند حتى أنه أمر بعمل متراس يشرف منه على قتال من في البستيون كما كان ينقل الحجارة والتراب على ظهره مثل الجنود، فعرفه أحد أمراء الجنود فقال له: ما هذا أيها الوزير؟ نحن إلى رأيك أحوج منا إلى جسمك، فقال له سنان: لا تحرمني من الثواب.

وشدد سنان باشا في حصاره على البستيون حتى استطاع فتحه لجأ الحفصيون إلى صقلية حيث ظلوا يوالون الدسائس والمؤامرات والتضرعات لملوك إسبانيا سعياً لاسترداد ملكهم، واتخذهم الأسبان آلات طيعة تخدم بها مآربهم السياسية حسبما تمليه الظروف عليهم وقضى سقوط تونس على الآمال الاسبانية في أفريقيا وضعفت سيطرتها تدريجياً حتى اقتصرت على بعض الموانئ مثل مليلة ووهران والمرسى الكبير وتبدد حلم الأسبان نحو إقامة دولة إسبانية في شمال أفريقيا وضاع بين الرمال.

سنان باشا والفتح العثماني لليمن
اضطربت الأحوال في اليمن مع ظهور الزعيم الزيدي المطهر الذي كاتب أهل اليمن ودعاهم للخروج عن طاعة السلطان العثماني فاجتمعت القبائل لدى المطهر الذي دخل صنعاء بعد أن ألقى بالعثمانيين هزيمة ساحقة وشعرت الحكومة العثمانية بخطورة الموقف وقررت إرسال حملة كبرى إلى اليمن بقيادة سنان باشا، وقد اهتم السلطان العثماني سليم الثاني اهتماماً كبيراً بإرسال تلك الحملة، لأن اليمن كان يمثل جزءاً هاماً من إستراتيجية العثمانيين في البحر الأحمر، وهي غلق هذا البحر أمام الخطر البرتغالي، علاوة على ذلك يكون درعاً قوياً للحجاز، وقاعدة للتقدم في المحيط الهندي.

وصل الوزير العثماني سنان باشا إلى مصر تنفيذاً لأوامر السلطان وهناك اجتمعت لديه الجنود في كافة الأنحاء، حتى أنه لم يبقى في مصر إلا المشايخ والضعفاء.

تحركت الحملة ووصلت إلى ينبع واستقبله هناك قاضي القضاة في مكة وعند وصوله إلى مكة المكرمة استقبله أهلها ودخلت الجيوش العثمانية معه، وكأن جنود مصر انتقلت إلى مكة بالإضافة إلى جنود الشام وحلب وفرمان ومرعش، وضبط سنان باشا الجنود، وأجرى الصدقات وأحسن على العلماء والفقهاء، ومكث عدة أيام في مكة وغادرها إلى جازان، وعندما اقترب منها، هرب حاكمها من قبل الإمام الزيدي المطهر، وأقام سنان باشا في جازان، فأقبلت عليه العربان يطلبون الطاعة وكان منهم أهل صبيا فأكرمهم سنان باشا وخلع عليهم وكساهم كما أقبلت عليه وفود عربان اليمن وبذلوا الطاعة طالبين الأمان.

أسرع سنان باشا إلى تعز، بعد أن ضبط جازان إذ بلغه أن الوالي العثماني في تعز ومن معه من الجنود في ضيق من أمرهم بسبب قطع عرب الجبال عليهم الميرة، وحصل عليهم المجاعة، فقطع الوزير سنان باشا المسافة في غاية السرعة، ونزل خارج تعز، وانتشر جنوده في جبالها ولما شاهد الزيديون كثافة ذلك الجيش، اعتصموا بأحد الجبال المسمى الأغبر.

قام سنان باشا وجزء من جيشه بمتابعة الزيود في جبل الأغبر، وتمكنوا منه عند ذلك خرج الزيود من مخابئهم لمواجهة العثمانيين، فانهزم الزيود وولوا هاربين فأنعم سنان باشا على جميع الجنود العثمانيين.

سنان باشا والاستيلاء على عدن
جهز سنان باشا حملتان وذلك للاستيلاء على عدن، الأولى عن طريق البحر بقيادة خير الدين القبطان المعروف بقورت أوغلي، وأخو سنان باشا، والثانية عن طريق البر بقيادة الأمير حامي وبرفقته عدد من الفرسان.

وكان حاكم عدن قاسم بن شويع من قبل الإمام الزيدي المطهر، قد أظهر شعار الزيدية، فكرهه أهالي عدن لأنهم شافعيون، ثابتون على الكتاب والسنة وبنى مدرسة باسم مطهر يدرس فيها بعض من مذهب الزيدية، كما استدعى البرتغاليون الذين أرسلوا سفينة وعليها عشرين جندياً، فأطلعهم قاسم إلى القلعة وأراهم ما فيها من العدد والآلات وأعطاهم المدافع ليدافعوا عن عدن من جهة البحر ويكون البر للزيدية وأشياعهم إلا أن خير الدين القبطان سبق إلى عدن ورأى من وسط البحر عشرين شراعاً للمسيحيين قاصدة عدن ولما تحقق خير الدين من ذلك توجه بسفنه إليهم فولوا هاربين، وتتبعهم خير الدين حتى اطمأن على ذلك.

لما عاد خير الدين إلى الساحل وأنزل مدافعه فوجهها نحو قلعة عدن منتظراً القوة البرية لتتم محاصرة عدن ففاجأهم الزيود، وإذا بالأمير ماحي قد وصل وأحاطوا بعدن من كل جانب، فهجموا عليها هجمة واحدة ودخلوا عليها من كل جانب، وأعطى خير الدين الأمان للأهالي الذين جاءوا بقاسم بن شويع وولده وذويه، وإذا بشخص منهم تقدم ليقبل يد خير الدين، فضربه بخنجر في بطنه وجرح خير الدين على أثرها، وتقدم الأمير ماحي، وقطع رأس بن شويع لاتهامه بهذه الخيانة وأراد قتل ولده وجميع أتباعه فمنعه الأمير خير الدين عند ذلك فرح لذلك الفتح الوزير سنان باشا وشاركه في ذلك الجنود وزينوا زبيد وتعز وسائر الممالك السلطانية في اليمن، ثم عين الوزير سنان باشا ابن أخته الأمير حسين، وأرسل معه مائتين من الجنود، ورقى جميع الجنود الذين فتحوا عدن.

سنان باشا ودخول صنعاء
فرغ سنان باشا في هذا الوقت من جنوب اليمن، فاتجه نحو ذمار وأمر بسحب المدافع لحصار صنعاء، فجهز المطهر نفسه للانسحاب منها، ونقل ما فيها من الخزائن وتقدم سنان باشا نحو صنعاء بعد أن وعد أهلها بالأمان فاطمأنت قلوبهم واختاروا عدداً منهم لمقابلته، فأكرمهم سنان ودخل صنعاء بعد ذلك إلا أنه لم يستقر فيها بل نهض بجيوشه الجرارة لحرب كوكبان وثلا؛ لأن سنان باشا رأى أنه لن يتمكن من السيطرة على اليمن بأكمله إلا بالقضاء على مقاومة المطهر وأتباعه، فأخذ يوالي حشد قواته وتبعه في ذلك الوالي العثماني، ودامت الحرب سجالاً ما يقرب من عامين، انتهت بموت الإمام الزيدي المطهر في مدينة ثلا سنة 980هـ/ 1573م، وقد أتاح موت المطهر للعثمانيين مزيداً من السيطرة وبسط النفوذ حتى تمكن الوالي العثماني حسن باشا من الاستيلاء على ثلا ومدع وعفار وذي مرمر والشرفين الأعلى والأسفل وصعدة مركز الإمامة الزيدية فقضى بذلك على حركة المقاومة اليمنية فترة من الوقت، واستطاع حسن باشا أن يأسر الإمام الحسن بن داود الذي استحوذ على الإمامة بعد وفاة المطهر.

لقد تحولت سياسة الدولة العثمانية بعد معركة ليبانتو 979هـ/ 1571م إلى أن تكون الأولوية للمحافظة على الأماكن المقدسة الإسلامية أولاً ثم البحر الأحمر والخليج العربي كحزام أمني حول هذه الأماكن، وتطلب ذلك منها أسطولاً قادراً على أن يقاوم البرتغاليين.

استطاعت الدولة العثمانية أن تبني درع قوي، حمى الأماكن المقدسة الإسلامية من الهجمات المسيحية، ومع ذلك الدرع فقد احتفظ السلطان بحرس عثماني خاص في مكة المكرمة والمدينة المنورة وينبع، كما أقامت الدولة العثمانية محطات حراسة بجوار آبار المياه على طول الطريق بين مصر وسوريا ومكة المكرمة لحماية القوافل، كما قررت الدولة أن يكون الوالي في جدة ممثلاً للباب العالي في الحجاز، عرف الحجاز في العصر العثماني بثنائية السلطة، وقررت الدولة أن تقسم حصيلة الرسوم الجمركية التي تجمع من السفن في ميناء جدة بين الوالي العثماني وشريف مكة المكرمة (2).

المناصب التي تقلدها سنان باشا
نظرا لما تمتع به سنان باشا من مهارات قيادية وعسكرية وما أظهره من إخلاص وتفان للدولة العثمانية جعلته موضع ثقة من السلاطين العثمانيين، فقد تقلد ولاية مصر مرتين الأولى في سنة 975 هـ / 1568م، والثانية في سنة 979 هـ / 1571م. كما تقلد سنان باشا ولاية دمشق سنة 995هـ / 1586م.

ويقال أنه تقلد منصب الصدر الأعظم خمس مرات، أولها عام 988هـ / 1580م في عهد السلطان مراد الثالث، ففي عام 1579م حدث أن قُتل الصدر الأعظم محمد باشا صوقللي، نتيجة لدسائس حاشية السلطان المتأثرة بدسائس الأجانب الذين لا يروق لهم وجود مثل هذا الوزير القدير، الذي سار على منهج الاستقامة، فدسوا إليه من قَتله تخلصا من صادق خدمته للدولة فكان موته ضربة شديدة ومحنة عظيمة لا سيما وقد كثر بعده تنصيب وعزل الصدور، وكان منهم سنان باشا (3).

وقد اضطربت أحوال الخلافة العثمانية فثارت الجنود الإنكشارية في إستانبول والقاهرة وبودا يطالبون بإشعال الحروب حينما اقتضت المصلحة ألا تكون هناك حروبا، وقد أشار الصدر الأعظم سنان باشا عام 997 هـ / 1589م على السلطان العثماني مرا الثالث إلى أشغالهم بمحاربة المجريين تحت إلحاح شديد من قبلهم وكانت النتيجة انهزام والي بودا العثماني ومقتل حسن باشا والي الهرسك وسقوط عدة قلاع عثمانية بأيدي النمسا، ثم استردها سنان باشا الصدر الأعظم سنة 1003هـ / 1595م (4).

سنان باشا .. آثاره المعمارية
مع اشتهار سنان باشا بالقدرات العسكرية والسياسية اشتهر أيضا بالآثار المعمارية، ومنها إعادة فتح خليج الإسكندرية، وبناء قصر في حي الزيتون، وبناء جامع يحمل اسمه (مسجد سنان باشا)، في شارع السنانية المنسوب إليه بالسبتية في حي بولاق، وهو ثاني جامع عثماني يتم إنشاؤه في القاهرة في سنة 979 هـ / 1571م، يبلغ طوله 35 مترا وعرضه 27 مترا، ويتكون من قبة مركزية كبيرة يحيطها ثلاثة إيوانات: شمالا وجنوبا وغربا. ونظرا لضيق مساحته فإن الجامع لا يحيطه فناء، بل أسوار تهدم الشرقي منها في العام 1902م، وكان الجامع يطل علي النيل مباشرة.

وفي العام 998هـ/ 1590م أتم سنان باشا بناء مجموعة في ساحة باب الجابية بدمشق، تضم جامعا ومدرسة وسبيلا للماء. والتي شرع والي دمشق سنان باشا في بنائه 994هـ / 1586م، ويمتاز الجامع الذي عن غيره من مساجد دمشق بمناراته المستديرة والمكسوة بألواح القاشاني الأخضر (5).

وفاة سنان باشا
وفي 1004هـ/ 1596م توفي سنان باشا بعد حياة حافلة بالجهاد والعمارة، أسكنه الله فسيح جناته وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

المصلح و العلامة التركي سعيد نورسي ++رحلة كفاح و دعوة ++++ الجزء الاول

ولد الملا سعيد النورسي في عام 1293 هـ، الموافق عام1876م، وفي قرية نورس الواقعة في جنوب شرقي تركيا(كردستان تركيا)، وولد في أسرة دينية لأبوين أشتهرا في القرية بورعهما، وكتب له أن يكون أحد أبرز علماء الإصلاح الديني والاجتماعي في العصر الراهن.

أسم والده ميرزا بن علي بن خضر بن ميرزا خالد بن ميرزا رشان من عشيرة أسباريت، أما والدته فإسمها نورية بنت ملا طاهر من قرية بلكان، وهي من عشيرة خاكيف، والعشيرتان من عشائر قبائل الكرد الهكارية في تركيا.


كان والده ورعا يضرب به المثل لم يذق حراما ولم يطعم أولاده من غير الحلال حتي أنه إذا عاد بمواشيه من المرعي شدّ أفواهها لئلا تأكل من مزارع الآخرين وتقول أمه " نورية " أنها ما أرضعت أطفالها إلاّ وهي على طهر ووضوء .




نشأته وحياته






لم تكن حياة سعيد النورسي إلا ملحمة من الوقائع والأحداث التي وضع جميعها في خدمة القرآن العظيم وتفسير نصوصه، وبيان مرامي آياته البينات، ضمن رؤية تبلورت مع الزمن ومع أطوار رحلة العمر، وكانت غايتها النهائية بث اليقظة، وإعادة الحياة والفعل للأمة الإسلامية بعد طول رقاد.

وما برح سعيد أن ألتحق بمجموعة من الكتاتيب والمرافق التعليمية المبثوثة في تلك النواحي من حول قريته نورس. وكان يستوعب كل ما يقدم له من علم، وسرعان ما أضحى لا يجد ما يستجيب لنهمه التحصيلي في المراكز التي يقصدها. ومن هنا كانت إقامته في تلك المراكز ظرفية، إذ كان يتوق إلى الاستزادة المعرفية الحقَّة. وظل يرتحل من مركز إلى مركز، ومن عالم إلى آخر حتى حفظ ما يقرب من تسعين كتابًا من أمهات الكتب.

وتهيأ بعد ذلك وبفضل المحصول العلمي الجم الذي أكتسبه في طفولته المبكرة تلك، أن يجلس إلى المناظرة ومناقشة العلماء، وأنعقدت له عدة مجالس تناظر فيها مع أبرز الشيوخ والعلماء في تلك المناطق، وظهر عليهم جميعًا. وأنتشرت شهرته في الآفاق. في سنة 1314 هـ 1897م ذهب إلى مدينة وان الكردية، وأنكبّ فيها بعمق على دراسة كتب الرياضيات وعلم الفلك والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا والفلسفة والتاريخ؛ حتى تعمَّق فيها إلى درجة التأليف في بعضها فسمّي بـ بديع الزمان اعترافًا من أهل العلم بذكائه الحاد، وعلمه الغزير، وأطلاعه الواسع

~ سلسلة عظماء اسلموا ~ الحلقة الحادية عشرة {مرمادوك بكشوك .. الإسلام نعمة كبرى }

في السابع من إبريل عام 1875م رُزق القسُّ شارلي بكشوك راعي كنيسة شلفورد بإنجلترا بطفل جميل أطلق عليه اسم مرمادوك Mmermadjok Pkhuck، وكانت والدة هذا الطفل ابنة الأدميرال دونات هنش أوبرين أحد كبار قادة الأساطيل البحرية البريطانية، وقد بدت علامات النجابة ودلائل الذكاء على مرمادوك منذ صغره، وأظهر منذ بلغ سنَّ الشباب شغفًا كبيرًا بتعلُّم اللغات الأجنبية، فبعث به والده إلى نيوشاتل حيث أتقن اللغة الفرنسية، ثم رحل إلى إيطاليا حيث أقام بها فترة طويلة من حياته أتقن خلالها اللغة الإيطالية(1).

قصة إسلام مرمادوك بكشوك
ولما عاد مرمادوك بكشوك إلى وطنه (إنجلترا) عكف على دراسة المزيد من اللغات الأجنبية فتعلَّم اللغة الألمانية والإسبانية، ثم تاقت نفسه لتعلم اللغات الشرقية فأرسلته والدته إلى الشرق بعد وفاة والده؛ حيث أُتيحت له فرصة مطالعة العلوم الإسلامية، وخالط المسلمين وتعامل معهم، ودرس أحوالهم وعاداتهم ولهجاتهم؛ فأُعجب بعَلاقة المسلمين بعضِهم ببعض، وبمعاملاتهم للغرباء عنهم.

ثم رحل مرمادوك بكشوك إلى مصر عام 1904م، فدرس أحوال المسلمين بها بنظرة فاحصة منصفة، وفكر حرٍّ لا يتقيد بالأوهام ولا يعوقه الأباطيل والأكاذيب التي ألصقها الصليبيون بالإسلام؛ فأيقن مرمادوك بكشوك أن ما ينعم به المسلمون من طيب الأحوال وهدوء البال وطمأنينة النفس إنما يرجع إلى تمسُّكهم بمبادئ دينهم، وأن ما يُعاب عليهم من الأحوال فمرجعه إلى التراخي في التمسُّك بهذه الشريعة أو الجهل بها.

وأوحت إليه انطباعاته ودراساته في مصر وغيرها من الدول الإسلامية إلى تأليف كتاب في سنة 1906م بعنوان: (حكم شعوب الأرض المقدسة)، ثم ألّف في عام 1908م كتاب (أبناء النيل)، وفي عام 1909م ألف كتاب (وادي الملوك)، وفي الوقت نفسه نشر في بعض المجلات العالمية عدَّة مقالات عن الإسلام مدافعًا عنه، ومبرِّئًا له من التُّهم التي ألصقها به أعداء الإسلام الحاقدون عليه، ثم رحل إلى مقرِّ الخلافة الإسلامية في تركيا، واتصل بعلماء الإسلام بها، وعندما غادرها أفصح علانيةً عن إيمانه القوي بالإسلام، وأنه الدين السماوي القادر على علاج مشكلات البشرية المادية والروحية، وأشهر إسلامه وتسمَّى (محمد مرمادوك)(2).

إسهامات مرمادوك بكشوك
وقد اشتهر محمد مرمادوك بتأليف عدد من الروايات التي تُعَدُّ من دُرر الأدب الإنجليزي، استوحى موضوعاتها من انطباعاته بالشرق وبالإسلام على وجه الخصوص، وله مؤلفات كثيرة طُبع بعضها عدَّة مرَّات؛ ومن رواياته المشهورة سعيد الصياد، وعنبر، وبرفول، وبيت الأحلام. وفي عام 1913م ألَّف كتابه الشهير (المرأة المحجبة)، وفي عام 1914م كتابه (مع الترك في الحرب)، وفي عام 1917م (فرسان عرابي)، وفي عام 1922م (كما يرانا الآخرون).

وكان قد دُعي مرمادوك بكشوك في سنة 1920م لتولي رئاسة تحرير صحيفة حديث بومباي بالهند، واستُدعِي إلى إمارة حيدر آباد حيث شارك في إصدار مجلة الثقافة الإسلامية عام 1927م، وبلغ من رواج المجلة وانتشارها أن اشتركت بها نحو سبعين جامعة عمالية، كما تولَّى الإشراف على نظام التعليم بإمارة حيدر آباد، وكان من أهم الأبحاث التي نُشرت له في تلك المجلة بحثٌ عن الثقافة الإسلامية، وبحثٌ آخر عن التربية الإسلامية نُشِرَا في عام 1927م، وبحثٌ آخر عن العرب وغيرهم في ترجمة القرآن نُشِر عام 1931م.

ومن كلمات مرمادوك بكشوك المأثورة: "ليست هناك نعمة من نعم الدنيا يستمتع بها الإنسان أعظم من أن يشرح الله له صدره للإسلام، فيهتدي بنوره حتى يُبصر حقائق الدنيا والآخرة، فيُمَيِّز بين الحقِّ والباطل فيختار الحقَّ، ويُمَيِّز طريق السعادة من طريق الشقاء فيختار طريق السعادة، وإني لأسجدُ لله شكرًا على هذه النعمة الجليلة التي حباني بها، والتي ملأت نفسي بالسعادة الحقيقية، وأتاحت لي أن أستظلَّ بهذه الدوحة الكبرى الوارفة الظلال المتعدِّدة الثمار، وهي دوحة الأسرة الإسلامية والأخوة في الإسلام"(3).

المصدر: كتاب (عظماء أسلموا) للدكتور راغب السرجاني.

(1) مفيد الغندور: الإسلام يصطفي من الغرب العظماء ص97.
(2) السابق نفسه، الصفحة نفسها.
(3) المصدر السابق ص98.

زياد علي

زياد علي محمد