الجمعة، 23 أغسطس 2019

عثمان بن مظعون.. راهبٌ صومعتُه الحياة!

خالد محمد خالد




إذا أردتَ أن ترتّبَ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفق سبقهم الزمني إلى الإسلام فاعلم إذا بلغت الرقم الرابع عشر أنَّ صاحبه هو عثمان بن مظعون.


واعلم أنَّه كان أول المهاجرين وفاة بالمدينة، وأول المسلمين دفنا بالبقيع.


واعلم أخيرًا أنَّ هذا الصحابيَّ الجليل الذي تطالع الآن سيرته كان راهبا عظيما.. لا من رهبان الصوامع، بل من رهبان الحياة!!


فقد كانت رهبانيته عملاً دائبًا في سبيل الحق، وتفانيًا في سبيل الخير والصلاح.


فعندما كان الإسلام يتسرّب ضوؤه الباكر االنديّ من قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان عثمان بن مظعون هناك، واحدًا من القلَّة التي سارعت إلى الله والتفّتْ حول رسوله.


ولقد نزل به من الأذى والضر، ما كان ينزل يومئذ بالمؤمنين الصابرين الصامدين.


وحين آثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه القِلَّة المؤمنة المضطهدة بالعافية، آمرًا إيّاها بالهجرة إلى الحبشة، كان عثمان بن مظعون أميرَ الفَوْجِ الأوَّل من المهاجرين، مصطحبًا معه ابنه السائب مولِّيًا وجهه شطر بلاد بعيدة عن مكايد عدو الله أبي جهل، وضراوة قريش.


وكشأن المهاجرين إلى الحبشة في كلتا الهجرتين: الأولى والثانية، لم يزدد عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - إلا استمساكًا بالإسلام، واعتصامًا به.


وفي الحبشة عاش المهاجرون آمنين مطمئنين. وهناك، لم ينس عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - في غربته مكايِدَ ابْنِ عمّه أمية بن خلف، فراح ويتوعده:




ترِيشُ نِبَالاً لا يُوَاتِيكَ رِيشُهَا وَتَبْرِي نِبَالاً رِيشُهَا لَكَ أَجْمَعُ
وَحَارَبْتَ أَقْوَامًا كِرَامًا أَعِزَّةً وَأَهْلَكْتَ أَقْوَامًا بِهِمْ كُنْتَ تَفْزَعُ
سَتَعْلَمُ - إِنْ نَابَتْكَ يَوْمًا مُلِمَّةٌ وَأَسْلَمَكَ الأَوْبَاشُ - مَا كُنْتَ تَصْنَعُ




وبينما المهاجرون في دار هجرتهم يعبدون الله، ويتدارسون ما معهم من القرآن، إذِ الأنباءُ تواتيهم أنَّ قريشًا أَسْلَمَتْ، وسجدت مع الرسول لله الواحد القهار.

هنالك حمل المهاجرون أمْتِعَتَهُم وطاروا إلى مَكَّة تَسْبِقُهم أشواقُهم، ويحدوهم حنينهم.


بَيْدَ أنَّهم ما كادوا يقتربون من مشارِفِها حتَّى تبيَّنوا كذب الخبر الذي بلغهم عن إسلام قريش، فرأوا أنهم قد عجلوا، ولكن أنّى يذهبون وهذه مكة على مرمى البصر؟!


وقد سمع مشركو مكة بمقدَم الصَّيد الذي طالما رَدُّوه ونصبوا شباكهم لاقتناصه.


ويومئذٍ، كان الجوار تقليدًا من تقاليد العرب، فإذا دخل رجلٌ مُستَضْعَف جوار سيّد قرشي، أصبح في حمًى منيع.


لم يظفَر بِالجوار إلاّ قليلٌ منهم، أمَّا عثمان بن مظعون فقد ظفِر بجوار الوليد بن المغيرة، ودخل مكة آمنًا مطمئنًا.


ولكن .. !

لمَّا رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البلاء، وهو يغدو ويروح في أمان الوليد بن المغيرة، قال: والله إن غدوّي ورواحي آمنًا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يَلْقَوْنَ من البلاء والأذى ما لا يُصيبُني - لنقص كبير في نفسي.


فمشَى إلى الوليد بن المغيرة فقال له:

يا أبا عبدشمس وَفَتْ ذِمَّتك، وقد ردَدْتُ إليك جوارك.


فقال له:لم يا ابن أخي؟ لعله آذاكَ أحدٌ من قومي؟


قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره.

فانطلِقْ إلى المسجِدْ فارْدُدْ عَلَيَّ جِواري علانيةً.

فانطلقا حتَّى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمانُ قد جاء يردُّ عليَّ جواري.


قال عثمان: صدق، ولقد وجدتُه وفيًّا كريمَ الجوار، ولكنني أحبَبْتُ ألاّ أستجيرَ بِغَيْرِ الله.

ثُم انصرف عثمان - ولبيد بن ربيعة في مجلس من مجالس قريش ينشدهم - فجلس معهم عثمان فقال لبيد:

أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلُ


فقال عثمان: صدقت.


قال لبيد:

وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلُ


قال عثمان: كذبت؛ نعيم الجنة لا يزول.


فقال لبيد: يا معشر قريش، واللهِ ما كان يؤذَى جليسُكم، فمتى حدث هذا فيكم؟


فقال رجلٌ مِنَ القَوْمِ: إن هذا سفيهٌ فارَقَ دِينَنَا، فلا تجِدَنّ في نفسك من قوله.

فردَّ عليه عثمان بن مظعون حتى سرى أمرهما. فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فأصابها، والوليد بن المغيرة قريب، يرى ما يحدث لعثمان، فقال: أما والله يا بن أخي إن كانت عينك عمّا أصابها لغنيّة، لقد كانت في ذمة منيعة.


فقال عثمان: بل - والله - إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله.. وإني لفي جوار مَنْ هو أَعَزُّ منك وأقدرُ يا أبا عبدشمس!


فقال له الوليد: هلمَّ يا ابن أخي، إن شِئْتَ فَعُدْ إلى جواري.


قال ابن مظعون: لا.

وغادر ابن مظعون هذا المشهد وعينه تضجّ بالألم، ولكنَّ روحه تتفجر عافية، وصلابة، وهو ينشد:




فَإِنْ تَكُ عَيْنِي فِي رِضَا اللَّهِ نَالَهَا يَدَا مُلْحِدٍ فِي الدِّينِ لَيْسَ بِمُهْتَدِي
فَقَدْ عَوَّضَ الرَّحْمَنُ مِنْهَا ثَوَابَهُ وَمَنْ يَرْضَهُ الرَّحْمَنُ يَا قَوْمِ يَسْعَدِ
فَإِنِّي وَإِنْ قُلْتُمْ غَوِيٌّ مُضَلَّلٌ لأَحْيَا عَلَى دِينِ الرَّسُولِ مُحَمَّدِ
أُرِيدُ بِذَاكَ اللَّهَ وَالْحَقُّ دِينُنَا عَلَى رَغْمِ مَنْ يَبْغِي عَلَيْنَا وَيَعْتَدِي

وَيُهَاجِرُ عُثْمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَيْثُ لا يُؤَرِّقُهُ أَبُو جَهْلٍ هُنَاكَ، وَلا أَبُو لَهَبٍ.... وَلا أُمَيَّةُ.. وَلا عُتْبَةُ..



وَفِي دَارِ الْهِجْرَةِ الْمُنَوَّرَةِ، يَتكشفّ جوهر عثمان بن مظعون وتستبين حقيقته العظيمة الفريدة، فإذا هو العابد، الزاهد، المتبتل، الأوّاب، وإذا هو الراهب الجليل، الذكي الذي لا يأوي إلى صومعة يعتزل فيها الحياة؛ بل يملأ الحياة بعمله، وبجهاده في سبيل الله..


أجل.. راهب الليل فارس النهار، بل راهب الليل والنهار، وفارسهما معًا!


وما إن ذاق حلاوة الاستغراق في العبادة حتى همّ بتقطيع كل الأسباب التي تربط الناس بمناعم الحياة.


دخل المسجدَ يومًا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه جلوس، وكان يرتدي لباسًا تمزق، فرقّعه بقطعة من فروة، فرق له قلبُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودمعت عيون أصحابه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((كيف أنتم يوم يغدو أحدكم في حلة، ويروح في أخرى، وتوضع في قصعة، وترفع أخرى، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة؟!))


قال الأصحاب: وددنا أن يكون ذلك يا رسول الله، فنصيب الرخاء والعيش.

فأجابهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائلا: ((إنَّ ذلك لكائنٌ، وأنتم اليومَ خيرٌ منكم يومئذ)).


وكان بديهيًّا - وابن مظعون يسمع هذا - أن يزداد إقبالاً على الشظف وهربًا من النعيم.


وأحبّه الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - حبّا عظيما.


وحين كانتْ رُوحه الطاهرة تتهيَّأُ لِلرَّحيل ليكونَ صاحِبُها أوَّلَ المُهَاجِرِينَ وَفاةً بالمدينة، وأوَّلَهُمْ ارْتِيَادًا لِطَرِيق الجنَّة، كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - هناك إلى جواره.


ولقد أكبّ على جبينه يقبله، ويعطّره بدموعه. وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - يودّع صاحبه الحبيب: ((رحمك الله يا أبا السائبِ.. خرجتَ من الدنيا وما أصبتَ منها، ولا أصابتْ منك)).

ولم ينس الرسول الودود صاحبَه بعد موته، بل كان دائمَ الذِّكر له، والثناء عليه.


حتى لقد كانتْ كلمات وداعه - عليه السلام - لابنته رقيّة، حين فاضت روحها: ((الحقي بسلفنا الخير، عثمان بن مظعون)).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

زياد علي

زياد علي محمد