بسم الله الرحمن الرحيم
أدبهم مع الله تعالى:
إن الغاية القصوى من حركة الأنبياء هو توحيد الله تعالى، وتعبيد الناس إليه وفق شرعه المقدس؛ ولذلك فهم يخضعون أنفسهم كلياً لأوامره تعالى. بنيات خالصة من أي شائبة أخرى فيبلغون رسالة لخلقه من دون تردد أو خشية من أحد ((مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً)) (الأحزاب:38) (فالأنبياء هم المهديون بهداية الله لا يتبعون الهوى البتة فعواطفهم النفسانية وأميالهم الباطنية من شهوة، أو غضب، أو حب، أو بغض، أو سرور، أو حزن مما يتعلق بمظاهر الحياة من مال وبنين ونكاح وأكل وملبس ومسكن وغير ذلك كل ذلك واقعة في سبيل الله لا يقصدون به إلا الله جلت عظمته فإنما هما سبيلان مسلوكان سبيل يتبع فيه الحق، وسبيل يتبع فيه الهوى، وإن شئت قلت: سبيل ذكر الله، وسبيل نسيانه.
والأنبياء إذا كانوا مهديين إلى الله لا يتبعون الهوى كانوا على ذكر من ربهم لا يقصدون بحركة أو سكون غيره تعالى، ولا يقرعون بحاجة من حوائج حياتهم باب غيره من الأسباب بمعنى أنهم إذا تعلقوا بسبب لم ينسهم ذلك ربهم وأن الأمر إليه تعالى لا انهم ينفون الأسباب نفيا مطلقا لا يبقى مع ذلك لها وجود في التصور مطلقا فإن ذلك مما لا مطمع فيه، ولا أنهم يرون ذوات الأشياء وينفون عنها وصفة السببية فإن في ذلك خروجا عن صراط الفطرة الإنسانية بل التعلق به أن لا يرى لغيره استقلالا، ويضع كل شئ موضعه الذي وضعه الله فيه)
أدبهم في الدعاء:
أول أدب نستوحيه من أدب الأنبياء مع الله تعالى أدبهم في الدعاء؛ لنتأمل قليلاً في قصة آدم حينما أكل من الشجرة، وارتفعت منه ومن زوجه السعادة، وشعرا بالخطر يداهمهما فيفزعان إلى الله تعالى بلسان الاعتراف بالتقصير فيتضرعان ((قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (الأعراف:23)
أنها حالة اللجوء إلى الله تعالى بلسان الضراعة، والخضوع، والعبودية لله تعالى والاعتراف بالخطأ - رغم أن هذا الخطأ في أمر إرشادي وليس بأمر مولوي - فكان أملهما بالله تعالى أن يغفر لهما فلجأ إليه فقدما الاعتراف بالربوبية أولاً، والاعتراف بالذنب ثانياً، ثم طلباً بعد ذلك العفو والغفران، فتعلقاً بالربوبية، وأقرا بالعبودية واعترافاً بالذنب؛ لأنهما يعرفان أن هذا السبيل هو المنقذ الوحيد لهما.
وعلى هذا الأدب كانت مسيرة نوح عليه السلام في مقاومة الكافرين من قومه... نراه يشكو حالته معهم إلى ربه بلسان الخضوع والتذلل ((قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَاراً)) (نوح:21) ويشعر رغم تلك الجهود الجبارة التي بذلها طيلة آلف سنة إلا خمسين عاماً بالقصور أمام الله تعالى، فيقول: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلا تَبَاراً)) (نوح:28)
وحين يركب السفينة، ويتخلف ولده الذي تمرد على أمره ناداه: ((يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ)) (هود:42) في هذا الحال أخذه حنان الأبوة فدعا الله تعالى خاشعاً خاضعاً متضرعاً في منتهى الأدب ((وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)) (هود:45)
أنظر كيف جعل الحكم لله تعالى أي لا إرادة له مع إرادة الله، وإنما دعا الله أن يحكم تعالى في ولده، ولما جاءه الرد ((قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) (هود:46)
حينئذ أدرك حقيقة ولده، وانه ليس من أهله تراجع، وخشع، وتصاغر أمام ربه، واستعاذ به، وتوسل إليه بلسان الحال والمقال ((قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (هود:47)
هكذا يتوسل بصدق خالص واعتراف دقيق إنه لولا رحمة الله وغفرانه له لهلك وهذا منتهى العبودية لله تعالى؛ ولهذا رضى بهلاك ولده مع الهالكين ومن هنا (لم يجترئ عليه السلام على مسألة قاطعة، بل ألقى مسألته كالعارض المستفسر لعدم إحاطته بالعوامل المجتمعة واقعا على أمر ابنه، بل بدأ بالنداء باسم الرب؛ لأنه مفتاح دعاء المربوب المحتاج السائل...)
وهكذا نستنتج (أن الأدب الإلهي أن يقف العبد على ما يعلمه ولا يبادر إلى مسألة ما لا يدري وجه المصلحة فيه)
ومن ذلك أدب إبراهيم عليه السلام مع الله تعالى فهو لم ينسب إلى الله إلا الجميل حتى المرض نسبه إلى نفسه من خلال دعائه قائلاً على ما حكي القرآن عنه: ((الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي اْلآخِرِينَ)) (الشعراء:78-84)
هذا هو الأدب النبوي الرفيع يبدأ بالمدح والثناء، وبيان الأفضال الإلهية، والمنن الربانية، والاعتراف بالربوبية المطلقة، ثم بعد هذا كله يقدم طلبه في غاية التذلل والخضوع، ومن أدبه العظيم صلوات الله عليه أنه كلما ذكر حاجة من حاجاته أردفها باسم من أسماء الله الحسنى مما يناسبها بعد أن يسبقها النداء العظيم (رب) مكرراً مرات ومرات... وهذا يتجلى في دعائه الذي يقول فيه: ((رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اْلأَصْنَامَ ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ، رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي اْلأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)) (إبراهيم:35-38)
ففي دعاء واحد يذكر كلمة الربوبية خمس مرات وهذا هو الأدب الرفيع مع الله في دعائه ومناجاته، ومن أعظم أدبه أنه تجرد عن الحقد حتى على الذين عصوه وتمردوا على دعوته المباركة بقوله: ((رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (إبراهيم:36)
وأروع صور الأدب النبوي مع الله تعالى ما برز في قصة ذبح إسماعيل عليه السلام التي تجلى فيها الاستسلام الكامل، والطاعة الخالصة في أمر تهتز فيه القلوب، وترتعش فيه الأيدي إنه الذبح! وما أصعبه، وليس ذبح عدو إنما ذبح حبيب فلذة الكبد والأروع جواب المراد ذبحه في حوار هادئ بلا تكليف ولا تشجع وإنما استسلام لأمر الله تعالى يقول ابراهيم عليه السلام لولده العزيز الوحيد الذي طلبه من الله ((رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) (الشعراء:83) وتأتي البشارة لإبراهيم عليه السلام من ربه ((فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ)) (الصافات:112) حتى إذا بلغ إسماعيل السن الذي يعين به والده في أداء رسالته وقضاء حاجته تأتيه الإشارة من ربه بأن يذبح هذا العزيز، ويعرض الشيخ الوحيد الأمر على ولده الوحيد له ((يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)) (الصافات:102) هكذا يعرض الخليل عليه السلام هذا الأمر المروع المخيف على ولده بهذا العرض الهادي الوديع بلا تكلف ولا توسل أنه عرض غريب على الفطرة البشرية فقد يتحمل الأب أن يرسل ولده إلى الحرب؛ ليَقتُل ويُقتل، وقد يتحمل أن يُقتل ولده أمامه بيد عدو، وقد يتحمل أن يراه يموت أمامه أما أن يذبحه بيده فهذا من الصعب المستصعب... استجاب إبراهيم، وعرض الأمر على عزيز قلبه ماذا كان الجواب؟ أن القلم ليقف أمام هذا الجواب الذي يجسد أسمى آيات الطاعة والاستسلام والصبر أمام أمر مروع وبدون تسأل لماذا؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟ نعم بدون تسأل. أجاب: ((قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)) (الصافات: 102) هذا هو الأدب الرفيع أدب الطاعة والاستسلام لأوامر الله وهو بكل هذا يستمد الصبر من الله تعالى... انه امتحان صعب رهيب ولكن الله يمد الصابرين المستسلمين له بالرحمة والفرج.
وهكذا كان أدب جميع الأنبياء والرسل مع الله مما لا يمكن استقصاؤه في هذا المقال القصير ونذكر أمثلة من ذلك على نحو الإشارة باختصار لتتم الفائدة.
فيعقوب عليه السلام عندما يفقد يوسف عليه السلام يرفع شكواه وحزنه وبثه إلى الله تعالى ولا يشتكي إلى الخلق فيقول (ع): ((قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)﴾ (يوسف:86)
ويوسف عليه السلام عندما يمر بمحنة امرأة العزيز، ويُخير بين معصية الله تعالى، وبين السجن الشديد يتضرع إلى الله، ويختار الشدة والعذاب في السجن على المعصية ويرفع أمره إلى الله تعالى: ((قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإلاَ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) (يوسف:33)
إنها السيرة العطرة العصماء في تحمل الأذى في السجن بضع سنين رغم ما يعرض عليه من لذات إلا أنه يعلم أن تلك لذات الجاهلين الذين لا يعرفون سر وجودهم، ولا يرعون حق ربهم، ويأبى الله لأنبيائه أن يهبطوا إلى هذا المستوى الرخيص وفي أشد الحالات يرجع الأمر إلى الله تعالى فيقول: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) (يوسف: 40)
وحينما تنفرج الشدائد، وتنكشف الصعاب، ويلتقي أباه واخوته بعد امتحانات وفتن عسيرة لم يشغله شوق اللقاء عن ذكر ربه بل أخذ يثني على الله تعالى، ويعدد ألطافه بدعاء رقيق وخطاب لطيف يتجلى فيه سمو الأدب النبوي: ((فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ اخوتي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) (يوسف:99-100)
فيذكر عليه السلام أن كل ما مر به، وما جرى عليه من الابتلاء ألطاف ربانية فأهله جاءوا من البدو إلى المدن بمشية الله، وأن خلاصه من السجن إحسان إليه من الله. وان ما جرى بينه وبين أخوته كان من نزغ الشيطان، وهذا كله بلطف الله وعلمه وحكمته، ثم يرجع إلى الثناء والمدح والحمد، وان كل ما عنده هي منن إلهية ((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأرض أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَاْلآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) (يوسف:101) لم ينسب إلى نفسه شيئاً من تلك الملكات العظيمة بل نسبها إلى ألطاف الله، وتجرد من كل طاقاته ولذلك نراه يتوسل بالله أن يتوفاه على الإسلام، ويلحقه بالصالحين (فليتدبر الباحث فيما تعطيه الآيات من أدب النبوة، وليمثل عنده ما كان عليه يوسف عليه السلام من الملك ونفوذ الأمر، وما كان عليه أبواه من توقان النفس إلى لقائه، وما كان عليه أخوته من التواضع وهم جميعا على ذكر من تاريخ حياته من حين فقدوه إلى حين وجدوه وهو عزيز مستو على عرش العزة والهيمنة. لم يشق عليه السلام فَمَاً بكلام إلا ولربه فيه نصيب،أو كل النصيب إلا ما أصدره من الآمر بقوله: " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " فأمرهم بالدخول وحكم لهم بالأمن، ولم يستتم الكلام حتى استثنى فيه بمشيئة الله لئلا يوهم الاستقلال في الحكم دون الله، وهو عليه السلام القائل: " إن الحكم إلا لله ")
وموسى عليه السلام في أول حياته حينما وكز القبطي وقضى عليه قال: (﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) (القصص:16)... فهو عليه السلام يقدم نفسه إلى الله بكونه ظالماً لنفسه على نحو التذلل والخضوع رغم كونه لم يفعل خلافاً ؛ لأنه قتل نفساً كافرة غير محترمة ، وإنما طلب المغفرة لأنه كان (يخاف أن يفشو أمره، ويظهر ما هو ذنب له عندهم فسأله تعالى أن يستر عليه ويغفره، والمغفرة في عرف القرآن أعم من إمحاء العقاب بل هي إمحاء الأثر السيئ كائنا ما كان، ولا ريب أن أمر الجميع بيد الله سبحانه)
ومن سمو الأدب النبوي أنه عليه السلام عندما نزل الوحي وأحس بثقل الرسالة يلجأ إلى الله ويطلب منه أن يشرح صدره ويطلق لسانه ويعينه بأخيه ((قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي ، وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هَارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ، وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً)) (طه: 25-35)
والمَشاهد في حياة موسى كثيرة ، ومن أروعها حينما لجأ إلى مدين وكان وحيداً ((فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)) (القصص:24) يقول أمير المؤمنين (ع) يصف حالة موسى عليه السلام عندما دعا ربه بهذا الدعاء: (وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله عليه السلام إذ يقول: ((رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)) والله ما سأله إلا خبزاً يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض. ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله وتشذب لحمه)
وأما سيد الأنبياء والمرسلين وخاتم رسالة السماء الذي وصفه تعالى بأنه على خلق عظيم فقد كان دائم الذكر لله تعالى لا يكل ، ولا يمل ، ولا يفتر في كل حالاته خاشعاً متضرعاً باكياً، (وكان صلى الله عليه وسلم يبكي حتى يغشى عليه، فقيل له: يا رسول الله أليس الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: بلى أفلا أكون عبدا شكورا؟)
وعن أبي عبد الله أنه قال: (كان رسول الله يتوب إلى الله في كل يوم سبعين مرة ، وقام الليل حتى تورمت قدماه فأنزل الله تعالى: ((طه ، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)) (طه:1-2)
أدبهم مع الله تعالى:
إن الغاية القصوى من حركة الأنبياء هو توحيد الله تعالى، وتعبيد الناس إليه وفق شرعه المقدس؛ ولذلك فهم يخضعون أنفسهم كلياً لأوامره تعالى. بنيات خالصة من أي شائبة أخرى فيبلغون رسالة لخلقه من دون تردد أو خشية من أحد ((مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً)) (الأحزاب:38) (فالأنبياء هم المهديون بهداية الله لا يتبعون الهوى البتة فعواطفهم النفسانية وأميالهم الباطنية من شهوة، أو غضب، أو حب، أو بغض، أو سرور، أو حزن مما يتعلق بمظاهر الحياة من مال وبنين ونكاح وأكل وملبس ومسكن وغير ذلك كل ذلك واقعة في سبيل الله لا يقصدون به إلا الله جلت عظمته فإنما هما سبيلان مسلوكان سبيل يتبع فيه الحق، وسبيل يتبع فيه الهوى، وإن شئت قلت: سبيل ذكر الله، وسبيل نسيانه.
والأنبياء إذا كانوا مهديين إلى الله لا يتبعون الهوى كانوا على ذكر من ربهم لا يقصدون بحركة أو سكون غيره تعالى، ولا يقرعون بحاجة من حوائج حياتهم باب غيره من الأسباب بمعنى أنهم إذا تعلقوا بسبب لم ينسهم ذلك ربهم وأن الأمر إليه تعالى لا انهم ينفون الأسباب نفيا مطلقا لا يبقى مع ذلك لها وجود في التصور مطلقا فإن ذلك مما لا مطمع فيه، ولا أنهم يرون ذوات الأشياء وينفون عنها وصفة السببية فإن في ذلك خروجا عن صراط الفطرة الإنسانية بل التعلق به أن لا يرى لغيره استقلالا، ويضع كل شئ موضعه الذي وضعه الله فيه)
أدبهم في الدعاء:
أول أدب نستوحيه من أدب الأنبياء مع الله تعالى أدبهم في الدعاء؛ لنتأمل قليلاً في قصة آدم حينما أكل من الشجرة، وارتفعت منه ومن زوجه السعادة، وشعرا بالخطر يداهمهما فيفزعان إلى الله تعالى بلسان الاعتراف بالتقصير فيتضرعان ((قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (الأعراف:23)
أنها حالة اللجوء إلى الله تعالى بلسان الضراعة، والخضوع، والعبودية لله تعالى والاعتراف بالخطأ - رغم أن هذا الخطأ في أمر إرشادي وليس بأمر مولوي - فكان أملهما بالله تعالى أن يغفر لهما فلجأ إليه فقدما الاعتراف بالربوبية أولاً، والاعتراف بالذنب ثانياً، ثم طلباً بعد ذلك العفو والغفران، فتعلقاً بالربوبية، وأقرا بالعبودية واعترافاً بالذنب؛ لأنهما يعرفان أن هذا السبيل هو المنقذ الوحيد لهما.
وعلى هذا الأدب كانت مسيرة نوح عليه السلام في مقاومة الكافرين من قومه... نراه يشكو حالته معهم إلى ربه بلسان الخضوع والتذلل ((قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَاراً)) (نوح:21) ويشعر رغم تلك الجهود الجبارة التي بذلها طيلة آلف سنة إلا خمسين عاماً بالقصور أمام الله تعالى، فيقول: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلا تَبَاراً)) (نوح:28)
وحين يركب السفينة، ويتخلف ولده الذي تمرد على أمره ناداه: ((يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ)) (هود:42) في هذا الحال أخذه حنان الأبوة فدعا الله تعالى خاشعاً خاضعاً متضرعاً في منتهى الأدب ((وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)) (هود:45)
أنظر كيف جعل الحكم لله تعالى أي لا إرادة له مع إرادة الله، وإنما دعا الله أن يحكم تعالى في ولده، ولما جاءه الرد ((قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) (هود:46)
حينئذ أدرك حقيقة ولده، وانه ليس من أهله تراجع، وخشع، وتصاغر أمام ربه، واستعاذ به، وتوسل إليه بلسان الحال والمقال ((قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (هود:47)
هكذا يتوسل بصدق خالص واعتراف دقيق إنه لولا رحمة الله وغفرانه له لهلك وهذا منتهى العبودية لله تعالى؛ ولهذا رضى بهلاك ولده مع الهالكين ومن هنا (لم يجترئ عليه السلام على مسألة قاطعة، بل ألقى مسألته كالعارض المستفسر لعدم إحاطته بالعوامل المجتمعة واقعا على أمر ابنه، بل بدأ بالنداء باسم الرب؛ لأنه مفتاح دعاء المربوب المحتاج السائل...)
وهكذا نستنتج (أن الأدب الإلهي أن يقف العبد على ما يعلمه ولا يبادر إلى مسألة ما لا يدري وجه المصلحة فيه)
ومن ذلك أدب إبراهيم عليه السلام مع الله تعالى فهو لم ينسب إلى الله إلا الجميل حتى المرض نسبه إلى نفسه من خلال دعائه قائلاً على ما حكي القرآن عنه: ((الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي اْلآخِرِينَ)) (الشعراء:78-84)
هذا هو الأدب النبوي الرفيع يبدأ بالمدح والثناء، وبيان الأفضال الإلهية، والمنن الربانية، والاعتراف بالربوبية المطلقة، ثم بعد هذا كله يقدم طلبه في غاية التذلل والخضوع، ومن أدبه العظيم صلوات الله عليه أنه كلما ذكر حاجة من حاجاته أردفها باسم من أسماء الله الحسنى مما يناسبها بعد أن يسبقها النداء العظيم (رب) مكرراً مرات ومرات... وهذا يتجلى في دعائه الذي يقول فيه: ((رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اْلأَصْنَامَ ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ، رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي اْلأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)) (إبراهيم:35-38)
ففي دعاء واحد يذكر كلمة الربوبية خمس مرات وهذا هو الأدب الرفيع مع الله في دعائه ومناجاته، ومن أعظم أدبه أنه تجرد عن الحقد حتى على الذين عصوه وتمردوا على دعوته المباركة بقوله: ((رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (إبراهيم:36)
وأروع صور الأدب النبوي مع الله تعالى ما برز في قصة ذبح إسماعيل عليه السلام التي تجلى فيها الاستسلام الكامل، والطاعة الخالصة في أمر تهتز فيه القلوب، وترتعش فيه الأيدي إنه الذبح! وما أصعبه، وليس ذبح عدو إنما ذبح حبيب فلذة الكبد والأروع جواب المراد ذبحه في حوار هادئ بلا تكليف ولا تشجع وإنما استسلام لأمر الله تعالى يقول ابراهيم عليه السلام لولده العزيز الوحيد الذي طلبه من الله ((رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) (الشعراء:83) وتأتي البشارة لإبراهيم عليه السلام من ربه ((فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ)) (الصافات:112) حتى إذا بلغ إسماعيل السن الذي يعين به والده في أداء رسالته وقضاء حاجته تأتيه الإشارة من ربه بأن يذبح هذا العزيز، ويعرض الشيخ الوحيد الأمر على ولده الوحيد له ((يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى)) (الصافات:102) هكذا يعرض الخليل عليه السلام هذا الأمر المروع المخيف على ولده بهذا العرض الهادي الوديع بلا تكلف ولا توسل أنه عرض غريب على الفطرة البشرية فقد يتحمل الأب أن يرسل ولده إلى الحرب؛ ليَقتُل ويُقتل، وقد يتحمل أن يُقتل ولده أمامه بيد عدو، وقد يتحمل أن يراه يموت أمامه أما أن يذبحه بيده فهذا من الصعب المستصعب... استجاب إبراهيم، وعرض الأمر على عزيز قلبه ماذا كان الجواب؟ أن القلم ليقف أمام هذا الجواب الذي يجسد أسمى آيات الطاعة والاستسلام والصبر أمام أمر مروع وبدون تسأل لماذا؟ وكيف؟ وأين؟ ومتى؟ نعم بدون تسأل. أجاب: ((قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)) (الصافات: 102) هذا هو الأدب الرفيع أدب الطاعة والاستسلام لأوامر الله وهو بكل هذا يستمد الصبر من الله تعالى... انه امتحان صعب رهيب ولكن الله يمد الصابرين المستسلمين له بالرحمة والفرج.
وهكذا كان أدب جميع الأنبياء والرسل مع الله مما لا يمكن استقصاؤه في هذا المقال القصير ونذكر أمثلة من ذلك على نحو الإشارة باختصار لتتم الفائدة.
فيعقوب عليه السلام عندما يفقد يوسف عليه السلام يرفع شكواه وحزنه وبثه إلى الله تعالى ولا يشتكي إلى الخلق فيقول (ع): ((قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)﴾ (يوسف:86)
ويوسف عليه السلام عندما يمر بمحنة امرأة العزيز، ويُخير بين معصية الله تعالى، وبين السجن الشديد يتضرع إلى الله، ويختار الشدة والعذاب في السجن على المعصية ويرفع أمره إلى الله تعالى: ((قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإلاَ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) (يوسف:33)
إنها السيرة العطرة العصماء في تحمل الأذى في السجن بضع سنين رغم ما يعرض عليه من لذات إلا أنه يعلم أن تلك لذات الجاهلين الذين لا يعرفون سر وجودهم، ولا يرعون حق ربهم، ويأبى الله لأنبيائه أن يهبطوا إلى هذا المستوى الرخيص وفي أشد الحالات يرجع الأمر إلى الله تعالى فيقول: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) (يوسف: 40)
وحينما تنفرج الشدائد، وتنكشف الصعاب، ويلتقي أباه واخوته بعد امتحانات وفتن عسيرة لم يشغله شوق اللقاء عن ذكر ربه بل أخذ يثني على الله تعالى، ويعدد ألطافه بدعاء رقيق وخطاب لطيف يتجلى فيه سمو الأدب النبوي: ((فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ اخوتي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) (يوسف:99-100)
فيذكر عليه السلام أن كل ما مر به، وما جرى عليه من الابتلاء ألطاف ربانية فأهله جاءوا من البدو إلى المدن بمشية الله، وأن خلاصه من السجن إحسان إليه من الله. وان ما جرى بينه وبين أخوته كان من نزغ الشيطان، وهذا كله بلطف الله وعلمه وحكمته، ثم يرجع إلى الثناء والمدح والحمد، وان كل ما عنده هي منن إلهية ((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأرض أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَاْلآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) (يوسف:101) لم ينسب إلى نفسه شيئاً من تلك الملكات العظيمة بل نسبها إلى ألطاف الله، وتجرد من كل طاقاته ولذلك نراه يتوسل بالله أن يتوفاه على الإسلام، ويلحقه بالصالحين (فليتدبر الباحث فيما تعطيه الآيات من أدب النبوة، وليمثل عنده ما كان عليه يوسف عليه السلام من الملك ونفوذ الأمر، وما كان عليه أبواه من توقان النفس إلى لقائه، وما كان عليه أخوته من التواضع وهم جميعا على ذكر من تاريخ حياته من حين فقدوه إلى حين وجدوه وهو عزيز مستو على عرش العزة والهيمنة. لم يشق عليه السلام فَمَاً بكلام إلا ولربه فيه نصيب،أو كل النصيب إلا ما أصدره من الآمر بقوله: " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " فأمرهم بالدخول وحكم لهم بالأمن، ولم يستتم الكلام حتى استثنى فيه بمشيئة الله لئلا يوهم الاستقلال في الحكم دون الله، وهو عليه السلام القائل: " إن الحكم إلا لله ")
وموسى عليه السلام في أول حياته حينما وكز القبطي وقضى عليه قال: (﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) (القصص:16)... فهو عليه السلام يقدم نفسه إلى الله بكونه ظالماً لنفسه على نحو التذلل والخضوع رغم كونه لم يفعل خلافاً ؛ لأنه قتل نفساً كافرة غير محترمة ، وإنما طلب المغفرة لأنه كان (يخاف أن يفشو أمره، ويظهر ما هو ذنب له عندهم فسأله تعالى أن يستر عليه ويغفره، والمغفرة في عرف القرآن أعم من إمحاء العقاب بل هي إمحاء الأثر السيئ كائنا ما كان، ولا ريب أن أمر الجميع بيد الله سبحانه)
ومن سمو الأدب النبوي أنه عليه السلام عندما نزل الوحي وأحس بثقل الرسالة يلجأ إلى الله ويطلب منه أن يشرح صدره ويطلق لسانه ويعينه بأخيه ((قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي ، وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هَارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ، وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً ، إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً)) (طه: 25-35)
والمَشاهد في حياة موسى كثيرة ، ومن أروعها حينما لجأ إلى مدين وكان وحيداً ((فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)) (القصص:24) يقول أمير المؤمنين (ع) يصف حالة موسى عليه السلام عندما دعا ربه بهذا الدعاء: (وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله عليه السلام إذ يقول: ((رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)) والله ما سأله إلا خبزاً يأكله لأنه كان يأكل بقلة الأرض. ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه، لهزاله وتشذب لحمه)
وأما سيد الأنبياء والمرسلين وخاتم رسالة السماء الذي وصفه تعالى بأنه على خلق عظيم فقد كان دائم الذكر لله تعالى لا يكل ، ولا يمل ، ولا يفتر في كل حالاته خاشعاً متضرعاً باكياً، (وكان صلى الله عليه وسلم يبكي حتى يغشى عليه، فقيل له: يا رسول الله أليس الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: بلى أفلا أكون عبدا شكورا؟)
وعن أبي عبد الله أنه قال: (كان رسول الله يتوب إلى الله في كل يوم سبعين مرة ، وقام الليل حتى تورمت قدماه فأنزل الله تعالى: ((طه ، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)) (طه:1-2)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق