الجمعة، 3 أبريل 2020

النفط

النفط

النفط مادّة طبيعية تستخرج من التكوينات الجيولوجية في جوف الأرض، والتي قد تتجمّع فيها عبر عملية تحوّل بطيئة للمواد العضوية دامت عصوراً وحقبات طويلة نسبياً. يعرّف النفط كيميائياً أنّه مزيج معقّد من الهيدروكربونات؛ وهو يختلف في مظهره ولونه وتركيبه بشكل كبير حسب مكان استخراجه؛ ويعدّ من الخامات الطبيعية، وعندما يستخرج من تحت سطح الأرض يسمّى أيضاً نفط خام. يخضع النفط الخام لاحقاً إلى عملية تكرير للحصول على أنواع مختلفة من المنتجات النفطية؛ أي تجرى عليه تقنياً عملية تقطير بالتجزئة تمكّن من فصله إلى مجموعة من المزائج تتمايز فيما بينها بتدرّجات نقطة الغليان في برج التقطير؛ وتدعى تلك المجموعات عادة باسم «قَطَفَات». يصنّف النفط من أنواع الوقود الأحفوري، وذلك بسبب تشكّله تحت طبقات الأرض العميقة من كمّيات كبيرة من الكائنات المندثرة (الأحافير) مثل العوالق الحيوانية والطحالب والتي طمرت تحت الصخور الرسوبية ثمّ تحلّلت بغياب الأكسجين وارتفاع الضغط ودرجة الحرارة تحت سطح الأرض. يستخرج النفط من مكامنه في باطن الأرض، والتي تدعى بآبار النفط، بحفر القشرة الأرضية وذلك بعد إجراء عملية مسح جيولوجي لاختبار مسامية ونفاذية الخزان الجيولوجي.

يعدّ النفط مصدراً هامّاً من مصادر الطاقة الأوّلية، ولذلك يطلق عليه اصطلاحاً اسم «الذهب الأسود» بسبب أهمّيته الاقتصادية العالية. إذ تستخدم القطفات الخفيفة منه بشكل أساسي في مزائج وقود السيّارات ووقود الطائرات، أمّا القطفات الثقيلة فتستخدم في إنتاج الطاقة الكهربائية وتشغيل المصانع وتشغيل الآليات الثقيلة؛ كما يعدّ النفط المادّة الأوّلية الخام للعديد من الصناعات الكيمائية على اختلاف منتجاتها، بما فيها الأسمدة ومبيدات الحشرات واللدائن والأقمشة والأدوية.

تصنّف المنطقة العربية وخاصّةً منطقة الخليج العربي من أكثر مناطق العالم غنىً بالاحتياطي النفطي، وهي كذلك أكثرها إنتاجاً وتصديراً للنفط، والذي ينقل عادةً إمّا بالأنابيب أو بالناقلات. يزداد معدّل استهلاك النفط مع التقدّم البشري والاعتماد على هذه الخامة مصدراً أساسياً للطاقة؛ ويلعب سعر النفط دوراً مهمّاً في الأداء الاقتصادي العالمي. إلّا أنّ الاحتياطات النفطية عُرضةٌ للنضوب وعدم التجدد خاصّةً مع الاقتراب المستمرّ لما يعرف باسم ذروة النفط، وهو أقصى معدّل لإنتاج النفط في العالم؛ ممّا فتح الباب للبحث عن وتطوير بدائل جديدة للطاقة مثل مصادر الطاقة المتجدّدة. انعكس الاستعمال المفرط للنفط وأنواع الوقود الأحفوري الأخرى سلباً على المحيط الحيوي والنظام البيئي للكرة الأرضية، إذ عادةً ما تُسبّب التسرّبات النفطية كوارث بيئية؛ كما أنّ حرق الوقود الأحفوري هو أحد الأسباب الرئيسية للاحترار العالمي.
أصل الكلمة
عرف العرب كلمة نفط قديماً، وكانت تستخدم للدلالة على المشتقّات النفطية اللزجة مثل القطران (أو القار) أو الزفت، إذ ورد في لسان العرب: «النَّفط الذي تُطْلى به الإِبل للجَرب والدَّبَر والقِرْدانِ وهو دون الكُحَيْلِ. وروى أَبو حنيفة أَن النفط هو الكحيل»؛ وقد يكون أصل الكلمة من الأكّادية «نبتو» أو من الأرامية «نفتا». ومنها انتقلت إلى الإغريقية حيث اشتقّت كلمة نفثا، والتي كانت تستخدم في أواخر القرن التاسع عشر للإشارة إلى النفط بشكل عام؛ إلّا أنّ دلالة كلمة نفثا تغيّر مع مرور الوقت، إذ يشير حالياً إلى مزيج خام من قطفات النفط يحصل عليه بعد إجراء تقطير أوّلي. كما ذُكرت أيضاً كلمة "بطرالاون" عند العرب، وقالوا هو "دهن الحَجَر"، قال ابن البيطار "بطرالاون" معناه باليونانية دهن الحَجَر، وهو النفط.

أمّا كلمة petroleum، والتي تعرّب أحياناً لفظياً بترول، فمشتقّة من الإغريقية، وهي مؤلّفة من مقطعين، الأوّل πέτρα (بترا) بمعنى صخر والثاني ἔλαιον (إيلايون) بمعنى زيت؛ بالتالي يكون المعنى الكامل زيت الصخر. استخدم جورجيوس أغريكولا كلمة بتروليوم في كتابه De Natura Fossilium الذي نشره سنة 1546، وكان يقصد بها الزيت المعدني المستحصل من تقطير قطع الفحم القاري والصخر الزيتي.

التاريخ
كان النفط معروفاً بشكل أو بآخر منذ العصور القديمة، إلّا أنّ أهميّته ازدادت بشكل ملحوظ منذ منتصف القرن التاسع عشر وخاصّةً مع اندلاع الثورة الصناعية واختراع محرّك الاحتراق الداخلي وانتشار الطيران التجاري والتقدّم الصناعي في القطاعات المختلفة.

التاريخ القديم
عرفت الشعوب القديمة النفط أو مشتقّاته (من القار أو الأسفلت) من التجمّعات الطبيعية للبرك النفطية التي ارتشحت بسبب عوامل التصدّع الطبيعية من باطن الأرض إلى ظاهرها. وفقاً للمؤرّخ الإغريقي هيرودوت وديودور الصقلّي فقد استخدم الأسفلت في بناء وتعمير جدران وأبراج مدينة بابل؛ كما شاع استخدام المواد النفطية في منطقة الشرق الأدنى القديم مثل حضارات بلاد الرافدين ومملكة فارس؛ وخاصّةً في عمليات جلفطة السفن، وهي سدّ حزوزها وما بين ألواحها بطليها بالزفت.

كان الصينيون من أوائل الشعوب الذين وثّقوا استخدام المواد النفطية الخام في الحياة اليومية في القرن الأول قبل الميلاد مثلما ورد في كتاب التغيّرات؛ كما أنّ استعمال تلك المواد مصدراً للطاقة كان معروفاً لديهم منذ القرن الرابع للميلاد، كما استخدمت قضبان الخيزران بشكل بدائي للحصول على النفط من الآبار السطحية.

من المحتمل أن يكون الرومان قد استعملوا النفط المتوفّر لديهم آنذاك في تزليق عرباتهم؛ في حين أنّ الإمبراطورية البيزنطية استخدمت المشتقّات النفطية في العصور الوسطى المبكّرة في تركيب النار الإغريقية التي استخدمت في الحروب قاذفةً للهب. بدأ استخراج النفط الرملي في أوروبا في القرن الثامن عشر؛ كما عثر في مناطق سكسونيا السفلى على الأسفلت منذ ذلك الوقت؛ إلَا أنَ صناعة الفحم واستخراجه هي التي كانت سائدةً حينها.

التاريخ الحديث
بدأت الصناعة النفطية بشكل فعلي في أواسط القرن التاسع عشر بفضل جهود عدّة مكتشفين حاولوا الحصول على السوائل الهيدروكربونية من معالجة الفحم. من الرائدين في هذا المجال كلّ من الكندي أبراهام غيسنر والأمريكي جيمس يونغ. فعلى سبيل المثال، لاحظ الكيميائي جيمس يونغ أواسط القرن التاسع عشر وجود بركة طبيعية من النفط في منطقة في ولاية ديربيشاير البريطانية، حيث أخذ منها عيّنات وأجرى عليها عملية تقطير فحصل على قطفة خفيفة كانت ملائمة للاستخدام وقوداً لمصباحه، في حين أنّ القطفة الثانية كانت ذات لزوجة مرتفعة واستخدمها للتزليق؛ وبناءً على هذا الاكتشاف بدأ يونغ مشروعه الخاصّ في تكرير الهيدروكربونات. تمكّن يونغ لاحقاً من تقطير بعض أنواع الفحم القاري فحصل على سائل أوّلي يشبه النفط في شكله، والذي أجرى عليه عملية تقطير لاحقة بطيئة مكّنته من الحصول على عدد من السوائل النافعة، من بينها زيت أطلق عليه اسم «زيت البرافين»، لأنّه يتجمّد عند درجات حرارة منخفضة بشكل يشبه شمع البرافين. وفي سنة 1850 أصدر يونغ براءة اختراع وأسسس مع رفاقه مجموعة شركات في غرب لوثيان وغلاسكو.

أمّا أوّل مصفاة نفط في العالم بمعناها الفعلي فأنشئت سنة 1856 من إغناسي لوكاسيفيتش؛ حيث تمكّن من الحصول على الكيروسين من التجمّعات الطبيعية لبرك النفط، وساهم في انتشار المصابيح العاملة على المشتقّات النفطيةـ بالإضافة إلى مساهمته في الإنشاءات النفطية. مع مرور الوقت بدأ الطلب العالمي على مشتقّات النفط بالازدياد للحصول على مصدرٍ جديدٍ للإضاءة. وفي نفس الوقت شهدت التقنيات الميكانيكية تقدّماً ساهم في تطوير الصناعة النفطية في عدّة أماكن في العالم كما هو الحال في مساهمات إدوين دريك على سبيل المثال في تطويرها في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، وكذلك مساهمات جيمس ميلر ويليامز في استخراج النفط في كندا. أمّا في أوروبا فأدّت مساهمات غيورغ هونايوس في منطقة فيتسه الألمانية إلى تأمين حوالي 80% من الطلب الألماني على النفط أواخر القرن التاسع عشر؛ إلى أن توقّف الإنتاج في فيتسه سنة 1963، وأمسى موقع الإنتاج متحفاً للنفط منذ سنة 1970. كما شهدت روسيا تطوّرات مماثلة في حفر آبار النفط في منتصف القرن التاسع عشر؛ وبدأ حفر الأبار ينتشر في مناطق مختلفة من أوروبا مثل بولندا ورومانيا. ازدادت أهمّية الحصول على مصادر النفط مع بداية القرن العشرين، وخاصّةً أثناء النزاعات العسكرية التي بلغت ذروتها في الحربين العالميتين الأولى والثانية.

في المنطقة العربية
بدأت عمليات التنقيب عن النفط في المنطقة العربية أوائل القرن العشرين، وخاصّةً بعد سقوط الدولة العثمانية حيث ظهر التنافس بين الدول الكبرى للحصول على حقوق الاستخراج. اكتشف النفط في العراق لأول مرة سنة 1927 في حقل كركوك. أمّا أوّل اكتشاف للنفط في منطقة شبه الجزيرة العربية فكان سنة 1932 في البحرين؛ ثمّ سنة 1938 في كلّ من السعودية والكويت وقطر؛ ثمّ في سنة 1962 في كلّ من الإمارات وعُمان. كما شهد منتصف القرن العشرين اكتشافات في دول عربية أخرى؛ حيث اكتشف النفط في الجزائر سنة 1949، وفي ليبيا سنة 1958، استخدم النفط وسيلةً للضغط على الحكومات كما حدث في حظر النفط سنة 1973 خلال حرب أكتوبر.

الخواص الكيميائية والفيزيائية
يتكوّن النفط الخام كيميائياً من مزيجٍ معقّدٍ من المركّبات الهيدروكربونية على اختلاف حالاتها الغازية والسائلة والصلبة، والتي قد يصل مجموعها إلى ما يزيد عن 17000 مركب عضوي. عند الظروف القياسية من الضغط ودرجة الحرارة توجد الهيدروكربونات الخفيفة ذات الرقم الكربوني من 1 إلى 4 (ميثان وإيثان وبروبان وبوتان) على شكل غازي؛ في حين أنّ البنتان والهيدروكربونات الأثقل توجد على شكل سائل، وفي القطفات الثقيلة ذات درجات الغليان المرتفعة توجد الهيدروكربونات على شكل صلب. تعتمد نسبة المكوّنات الغازية والسائلة والصلبة على الظروف وعلى مخطّط الأطوار للمزيج النفطي تحت سطح الأرض.

تكون الهيدروكربونات في النفط مكوّنةً من الغالب من الألكانات الخطّية وبدرجة أقلّ من الألكانات الحلقية والهيدروكربونات العطرية؛ مع وجود نسبة ضئيلة من مركّبات عطرية حاوية على ذرّات غير متجانسة من النتروجين والأكسجين والكبريت، بالإضافة إلى كمّيات نزرة من فلزّات مثل الحديد والنحاس والنيكل والفاناديوم. تحوي العديد من الخزّانات النفطية أيضاً على بكتريا حيّة في مزائجها. يختلف التركيب الجزيئي الدقيق للنفط الخام بشكل كبير حسب المزيج من مكان لآخر، إلّا أنّ الاختلاف في نسبة العناصر الكيميائية في المزائج يكون ضئيلاً نسبياً، ويمكن على العموم تقدير نسبة العناصر وفق ما يلي:
يعطي تفاعل الاحتراق الكامل للهيدروكربونات (التفاعل مع كمّية كافية من غاز الأكسجين) على العموم غاز ثنائي أكسيد الكربون والماء (على شكل بخار ماء)، ويمكن تمثيل ذلك بتفاعل احتراق 4،2،2-ثلاثي ميثيل البنتان (أو كما يعرف باسم إيزو الأوكتان C8H18)، وهو تفاعل ناشر للحرارة.

يختلف النفط الخام في مظهره حسب تركيبه، وعادةً ما يتراوح لونه بين الأسود إلى البني الغامق، رغم وجود عيّنات ذات لون أصفر أو أحمر أو أخضر؛ كما تختلف اللزوجة حسب التركيب أيضاً، فهناك مثلاً أنواع من النفط لزوجتها منخفضة، في حين أنّ أنواعاً أخرى ذات لزوجة مرتفعة جدّاً. تكون لزوجة بعض أنواع النفط غير التقليدي مثل نفط أثاباسكا الرملي مرتفعة جدّاً بحيث يوجد على شكل شبه صلب وعادةً ما يكون مخلوطاً مع الرمل والماء، ولذلك يشار إليه باسم أسفلت خام (بيتومين). للنفط على العموم رائحة قوّية مميّزة، وهي تختلف في شدّتها حسب نسبة عنصر الكبريت في التركيب الكيميائي. يمكن لبعض أنواع النفط أن يكون لها خاصّة فلورية عند التعرّض للأشعّة فوق البنفسجية، خاصّة مع تنوّع المركّبات العطرية متعدّدة الحلقات في المزيج النفطي.

التشكّل
النفط هو وقود أحفوري يعود أصله إلى مستحاثّات عضوية عتيقة مثل العوالق الحيوانية والطحالب. بعد فنائها وترسّبها وتجمّع كمّيات كبيرة منها في قعر البحر طُمرت تلك البقايا بالوحل والغِرْيَن والصلصال في مناطق المياه الراكدة. يكون تركيز الأكسجين تقريباً في طبقة عمقها 1 متر تحت هذه الرسوبيات أقلّ من 0.1 مغ/ل، وبذلك تعدّ تلك الطبقات فقيرةً بالأكسجين بشكل يمنع حدوث التحلّل الهوائي فيتشكّل في البداية طين لزج حمئ؛ وتبقى أثناءها درجات الحرارة ثابتة في المراحل الأولى. مع ترسّب الطبقات وتكدّسها فوق بعضها لمئات الآلاف من السنين يبدأ الضغط ودرجة الحرارة بالازدياد في المناطق السفلى، ممّا يدفع إلى حدوث عملية تحوّل في المواد العضوية (تدعى عملية النشأة المابعدية) إلى مادّة شمعية تعرف باسم كيروجين، وهي نفسها الموجودة في الصخر الزيتي (السجيل الزيتي) في عدّة مناطق من العالم، والتي تتحوّل بالمعالجة الحرارية إلى هيدروكربونات سائلة وغازية بعملية تسمى النشأة التقهقرية.

ظهرت عدّة نظريات لتفسير تشكّل النفط، وكان العالم الروسي ميخائيل لومونوسوف رائداً في هذا المجال، إذ وضع نظريته عن تشكّل النفط في أواسط القرن الثامن عشر وعرضها آنذاك على الأكاديمية الروسية للعلوم.

مراحل التحلّل الحيوي
يتشكّل النفط من التحلّل الحراري للهيدروكربونات في طبقات الأرض السفلى في عدد من التفاعلات الماصّة للحرارة. تمرّ تلك العمليات بأطوار ومراحل وهي:

التحلّل اللاهوائي (الطور الأول من النشأة المابعدية)
في غياب كمّية كافية من الأكسجين تكون البكتريا الهوائية غير قادرة على تحليل المواد العضوية المنطمرة تحت سطح الرسوبيات أو الماء؛ إلّا أنّ البكتريا اللاهوائية تكون قادرة على فعل ذلك بحيث تتحلّل المواد العضوية عن طريق عدّة تفاعلات كيميائية. من تلك التفاعلات الكيميائية الممكنة هناك تفاعل الاختزال، حيث تختزل الأملاح الموجودة مثل الكبريتات (السلفات) أو النترات إلى غازات كبريتيد الهيدروجين (H2S) والنيتروجين (N2) على الترتيب. من التفاعلات الأخرى للبكتريا الهوائية تفاعل الحلمهة (التحلّل المائي)؛ حيث تتحلّل بواسطته السكّريات المتعدّدة والبروتينات إلى سكّريات أحادية وأحماض أمينية على الترتيب. تخضع تلك المواد الأوّلية الناتجة ضمن الشروط الخالية من الأكسجين إلى تفاعلات لاحقة، خاصّةً بوجود الإنزيمات. فعلى سبيل المثال، تتفاعل الأحماض الأمينية لاحقاً عن طريق تفاعل نزع أمين تأكسدي إلى أحماض إيمينية، والتي بدورها تتفاعل لاحقاً إلى الأمونيا وأحماض α-كيتو (ألفا-كيتو). أمّا السكّريات الأحادية فتتحلّل بدورها إلى ثنائي أكسيد الكربون (CO2) والميثان (CH4). في ظرف تلك الشروط اللاهوائية والقيم المتزايدة من الضغط ودرجة الحرارة تتفاعل الأحماض الأمينية والسكّريات الأحادية والفينولات والألدهيدات إلى منتجات أحماض الفولفيك؛ في حين أنّ الدهون والشموع لا يطرأ عليها تحلّل مائي كبير تحت تلك الشروط المعتدلة نسبياً.

تشكّل الكيروجين (الطور الثاني من النشأة المابعدية)
يكون لبعض المركّبات الفينولية الناشئة من التفاعلات السابقة تأثير مبيد وقاتل للبكتريا، ممّا يكبح من أثر البكتريا اللاهوائية في أعماق أدنى من 10 أمتار تحت سطح الرسوبيات أو الماء. تحوي تركيبة المواد في تلك الأعماق على مزيج من أحماض الفولفيك ومن الدهون والشموع المتفاعلة جزئياً، بالإضافة إلى الليغنين المحوّر بشكل طفيف، وكذلك بعض الراتنجات (ريزينات) والهيدروكربونات الأخرى. مع ازدياد العمق تزداد قيم الضغط ودرجة الحرارة كما هو مذكور، ممّا يدفع بالنهاية إلى تشكّل الكيروجين، وذلك بأسلوب غير واضح بالكامل بسبب تعقّد الظروف المحيطة وتنوّع المواد المتفاعلة، إذ يمكن حدوث تفاعلات كيميائية تتضمّن تفاعلات تشبيك بشكل مماثل لحدٍّ ما لتفاعلات تشكّل راتنج يوريا-فورمالدهيد. تدعى العملية الكاملة لتشكّل الكيروجين بدايةً من عمليات التحلّل اللاهوائي باسم النشأة المابعدية، والتي تتضمّن في معناها نشأة وتشكّل الكيروجين من عمليات تحوّل للمواد العضوية بالتحلّل أولاً ثم بالاتحاد اللاحق. هناك ثلاثة أنماط معروفة من الكيروجين مصنّفة حسب نوع الدقائق البنيوية المكوّنة، وهي النمط الأول I (الطحالبي) والنمط الثاني II (الفحمي) والنمط الثالث III (الدبالي).

تحوّل الكيروجين إلى وقود أحفوري (النشأة التقهقرية)
يمثّل الكيروجين منتصف المسافة بنيوياً بين المواد العضوية المكوّنة وبين الناتج من الوقود الأحفوري؛ إذ من الممكن أن يتعرّض الكيروجين إلى الأكسجين ممّا يؤدّي إلى تفكّكه، أو أن يطمر تحت القشرة الأرضية لأعماق أكبر حيث تتوفّر الشروط للتحوّل البطيء إلى وقود أحفوري في عملية تسمى النشأة التقهقرية. تحدث العملية الأخيرة في أعماق الأرض وتتضمّن تفاعلات إعادة ترتيب جذرية للكيروجين في عملية بطيئة للغاية تصل إلى مئات الآلاف أو ملايين السنين. هناك نمطان من النواتج النهائية لتفاعلات النشأة التقهقرية الجذرية، وهما أ) نواتج ذات نسبة هيدروجين/كربون (H/C) منخفصة (وهي مركّبات مؤلّفة من حلقات سداسية مندمجة مثل الأنثراسين وما شابهه) وب) نواتج ذات نسبة هيدروجين/كربون (H/C) مرتفعة (مثل الميثان وما شابهه). أي أنّ النواتج إمّا أن تكون غنية بالكربون أو غنية بالهيدروجين.

تكون آلية عملية النشأة التقهقرية مشابهة إلى حدٍ ما لآلية التحلّل الحراري، رغم أنّ الأولى تحدث عند درجات حرارة منخفضة نسبياً. يطلق الجيولوجيون على المجال من درجة الحرارة الذي يتشكّل فيه النفط في جوف الأرض باسم «نافذة النفط»؛ وهي تتراوح عملياً ما بين 60 °س إلى حوالي 120-130 °س؛ والتي يبقى دونها النفط محتجزاً في بنية الكيروجين؛ أمّا الأعلى منها فيكون فيها معدّل تشكّل النفط ضئيلاً، إذ من الممكن أن يتحوّل فيها الكيروجين عند درجات حرارة بين 170 و200 °س إلى غاز طبيعي بعملية تكسير حراري، وفي بعض الأحيان يمكن للكيروجين أن يهاجر من الطبقات العميقة إلى الطبقات الأقرب لسطح الأرض، كما هو الحال في نفط أثاباسكا الرملي.

تختلف الحرارة حسب تدرّج الحرارة الأرضية، وهناك عدّة مصادر للحرارة تحت سطح الأرض، منها التحلل الإشعاعي لمواد القشرة الأرضية مثل البوتاسيوم-40 والثوريوم-232 واليورانيوم-235؛ كما تلعب الصهارة الأرضية دوراً في تسخين بعض المناطق في جوف الأرض. تكون قيم الضغط في باطن الأرض مرتفعة، وعادةً ما يتشكّل النفط في أعماق تحت سطح الأرض تصل ما بين 2 إلى 4 كم.

أصل غير حيوي للنفط
ظهرت في روسيا أواسط القرن التاسع عشر نظرية تقول إن تشكّل النفط لم يكن بسبب التحلّل العضوي للمستحاثات الأحفورية، إنّما تشكّل طبيعياً في باطن الأرض في طبقة الوشاح، وأنّ الفوالق نتيجة حركة الصفيحات تحت الأرضية هي المسؤولة عن صعود النفط إلى القشرة الأرضية؛ ومن أبرز من دافع عن هذه النظرية كلّ من الروسي نيكولاي كودريافتسيف والأمريكي توماس غولد. ذهب غولد في نظريته أنّ غاز الميثان فقط هو الذي تشكّل في طبقة الوشاح، وأنّه بعد هجرته إلى القشرة الأرضية تحوّل إلى الألكانات العليا (نظرية الغاز العميق)؛ أمّا الباحثون الروس فافترضوا أنّه حتى الألكانات العليا قد تشكّلت في أعماق الأرض.

تستند هذه النظرية على حقيقة وجود بعض المركّبات العضوية المعقّدة في نيازك الكوندريت، بالإضافة إلى وجود بعض الكمّيات من الألكانات القصيرة الغازية في الصخر فوق المافي؛ ممّا يعزّز من الافتراض القائل بأنّ جوف الأرض يسود فيه وسط مختزل يساعد على تشكّل الهيدروكربونات بشكل عام. كما تمكّنت مجموعة بحث روسية من الحصول على بعض الألكانات العليا انطلاقاً من تعريض الميثان لضغوط مرتفعة؛ في حين بيّنت أخرى أن تحوّل السكّريات، وهي من المكوّنات الأساسية للكتلة الحيوية، إلى سلاسل ألكانية طويلة هي عملية غير مفضّلة وفق قوانين الديناميكا الحرارية.

تعدّ هذه النظرية خلافية، ويقف ضدّها عددٌ من الشواهد والأدلة الجيولوجية والجيوكيميائية؛ إلّا أنّها وجدت من يدافع عنها، خاصّة مع العثور على المصادر النفطية ذات الأصل غير الحيوي، رغم شحّها وعدم ربحية الاستخراج اقتصادياً.

الاختزان
تدعى التشكيلات الجيولوجية الطبيعية القادرة على اختزان النفط باسم «خزّان النفط» (أو مكمن النفط)، ويمكن التمييز بين خزّانات النفط التقليدي، وهي تشكيلات جيولوجية طبيعية في باطن الأرض ذات نفاذية ضئيلة؛ وبين خزّانات النفط غير التقليدي التي تكون على شكل صخور ذات مسامية مرتفعة بشكل تكون قادرةً فيها على اختزان النفط داخلها.

يوجد النفط الخام عادة في الخزّان تحت سطح الأرض برفقة الغاز الطبيعي، الذي يشكّل ما يعرف باسم «الغطاء الغازي» فوق السائل النفطي؛ في حين أنّ الماء المالح عادةً ما يوجد أسفله لأن كثافته أعلى من النفط.

النفط التقليدي
هناك ثلاثة عوامل جيولوجية من الضروري توفّرها لتشكيل خزّانات نفطية تحت سطح الأرض، وهي:

وجود صخور مصدرية غنية بالهيدروكربونات في أعماق مناسبة تحت سطح الأرض بحيث تكون الحرارة الأرضية كافية لتشكّل النفط. نشأت أغلب الصخور المصدرية في فترات جيولوجية تعود من 100 إلى 400 مليون سنة (ما بين العصر الديفوني والعصر الطباشيري).
وجود صخور مسامية ونفوذة تمكّن من تخزين النفط
وجود صخور غطائية تحجب تسرّب النفط.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

زياد علي

زياد علي محمد