الجمعة، 23 أغسطس 2019

طرف من سيرة أبي بكر -رضي الله عنه-

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون:

ولما طال الأمر على كثير من الناس، أصابت القلوب الغفلة والقسوة وحينما ابتليت بالغفلة والقسوة تخبطت واتخذت طرائق مختلفة، ومن الطرائق المتخبطة اتخاذهم سفلة الناس، وخبالة المجتمعات، قدوات لها تترسم خطاها، وتسير على سيرها، فراج سوق المغنيين والمغنيات، والممثلين والممثلات، واللاعبين واللاعبات، فأمسى التشبه بهم مواكبة للعصر، واتخاذ صورهم وجمعها في ألبومات دليل الحب والولاء، وإذا كان أمثال هؤلاء الساقطين هم قدوة لنا فكبر على الأمة أربعاً.

أيها الاخوة الكرام:

في ظل الضجيج الإعلامي في إبرز القدوات السيئة والمنحرفة، فإنه يحلونا أن نبحث في صفحات التاريخ المشرق، وآياته الخالدة، مشاعل غائبة عن واقع الناس، ولنطلع على أحاديث وقصص ما كانت لتفترى، ونتعرف على ما روى التاريخ من أبناء العظمة الباهرة، إنها ليست أساطير، وإن بترت من فرط إعجازها كالأساطير، إنها حقائق تبين ما كان لأصحاب رسول الله من شخصية وحياة، وإنها لتسمو وتتألق بقدر ما بذلوا في سبيل التفوق يضع يده في العذرة ويدنيها من فيها، فإذا وجد ريحها صدف عنها، فحرمها أبو بكر على نفسه، لقد توصل هذا الإمام بصفاء طبعه وحدة فؤاده إلى ضرر الخمر فحرمها على نفسه، ولم ينزل في تحريمها وحي، ولم تمنعها شريعة، والناس في جاهلية فكيف يحلها اليوم لأنفسهم ناس من الناس يشربونها في منتدياتهم وسمرهم، وبين أيديهم كتاب الله الذي حرمها عليهم.

وفي جانب الصدع بكلمة الحق وإعلانه للناس وحبه العظيم لرسول الله وصحبه على الأذى في ذات ابن هذا الموقف، جاء في الإصابة لابن حجر أن أصحاب رسول الله اجتمعوا وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً، فألح أبو بكر على رسول الله بالظهور قال: ((أبا بكر إنما قليل)) فلم يزل يلح إلى رسول الله حتى ظهر وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، وقام أبو بكر خطيبا ورسوله جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله -عز وجل- والى رسوله، وثار المشركون عليه وعلى المسلمين فضربوهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ودنا عتبة بن ربيعة من أبي بكر وجعل يضرب بنعلين مخصوفين حتى لم يعرف أنفه من وجهه، وجاءت بنو تميم وهم قبيلة أبي بكر فأجلواْ المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب حتى أدخلوه بيته لا يشكون في موته، ورجع بنو تميم فدخلوا المسجد فقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ورجعوا إلى أبي بكر يكلمونه، حتى أجابهم آخر النهار، فكان أول ما قاله: ماذا يمكن أن يقول أي إنسان حصل له مثل ما حصل للصديق قال الصديق: ما فعل رسول الله؟ لقد نسي الصديق آلامه الشديدة، نسي الجراح التي كانت تشغب دما، نسي نعلي عتبة بن ربيعة التي هوى بها على وجهه الكريم، وتذكر رسول الله، خشي عليه أن يصيبه المشركون بأذى كما أصيب هو، وحينما سمع بنو تميم سؤال أبي بكر عن الرسول نالوه بألسنتهم وعذلوه، ثم قالوا لأمه، انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه، فلما خلت به وألحت جعل يقول: ما فعل رسول الله، قالت: والله ما أعلم بصاحبك، قال: فاذهبي إلى أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن شئت ذهبت معك إليه، قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا، فدنت منه أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت إن قوما نالوا منك هذا لأهل فسق، وإني لأرجوا أن ينتقم الله لك، قال: ما فعل رسول الله قالت: هذا أمك تسمع، قال: لا عين عليك منها، قالت: سالم وصالح، قال: إي هو: قالت في دار الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاما ولا شرابا أو أتي رسول الله فأمهلتا وحتى إذا هدأت الرجال، وسكن الناس، خرجنا به يتكئ عليهما، حتى دخلتا به على رسول الله فانكب عليه فقبله، وانكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي.

هذا نموذج حق، وموقف صدق من كثير من المواقف المثالية التي أنتجها الصديق في عالم لا يعرف القيم قدرها.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فلم يبلغ الصديق رضوان الله عليه ما بلغ من المنزلة الشامخة، والسؤدد العظيم إلا بالإيمان بالله ورسوله عليه صلوات الله وسلامه عليه، فحين قضى النبي على مشركي قريش وعلى صحابته ما حدث في ليلة الإسراء والمعراج ارتد من ارتد عن ضعفاء الإيمان، وهزئت قريش برسول الله أيما هزء، واستغل الخبيث أبو جهل الفرصة ليفتن أبي بكر بهذا الخبر، فجاء لينظر ماذا يكون موقفه من هذه الحادثة العجيبة، فإذا بأبي بكر يرد على رئيس الضلالة في قريش بهدوء المؤمن الواثق بنبيه، المطمئن إلى صدق رسول الله: أو قد قال ذلك؟ فيقول أبو جهل: نعم! فيقول الصديق: لئن قال ذلك لقد صدق، قال أبو جهل ومن معه: تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وعاد قبل أن يصبح؟ قال أبو بكر إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك من خبر السماء في غدوة أو روحة، إنه إيمان بلغ الدين وأتى أكله كل حين بإذن ربه.

أيها المسلمون:

ولئن كان الناس في خصوماتهم ونزاعاتهم يتراشقون بالسباب والشتم، والكذب البهتان فإن الصديق لم يكن كذلك، عن ربيعة الأسلمي قال: كنت أخدم النبي فأعطاني أرضا وأعطى أبا بكر أرضا، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة فقال أبو بكر: هي في حدي، وقلت أنا: هي في حدي، فكان بيني وبين وبينه كلام، فقال أبو بكر كلمة كرهتها، وندم، فقال: يا ربيعة رد علي بمثلها حتى يكون قصاصاً، فقلت لا أفعل، فقال: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله، فانطلقت أتوله، فجاء أناس من أسلم فقالوا: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله وهو الذي قال لك ما قال؟ قلت: أتدرون من هذا؟ أبو بكر الصديق وهو ثاني اثنين وهو ذو شيبة في الإسلام، فإياكم أن يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله فيغضب لغضبه، فيغضب الله -عز وجل- لغضبهما فيهلك ربيعة، قالوا: فما تأمرنا قلت: ارجعوا وانطلقت وحدي اتبع أبا بكر حتى أتى رسول الله فحدثه الحديث، فقال يا ربيعة، مالك وللصديق فقلت: يا رسول الله كان كذا وكذا، قال لي كلمة كرهتها، فقال لي: قل لي كما قلت لك حتى يكون قصاصا فأبيت قال رسول الله: ((أجل فلا ترد عليه ولكن قل غفر الله لك يا أبا بكر)) فولى أبو بكر وهو يبكي -رضي الله عنهم- أجمعين.

أيها المسلمون:

إنها لآلئ منثورة هنا وهناك من سيرة أولئك، العظماء الذين يجب علينا أن نقرأ سيدهم ونقرأها أبناءنا وننشئهم على وابلها انقياض كي نراها سلوكا عمليا في واقعنا وواقعهم، وما لم يحصل ذلك فإن الشباب والجيل سوف يكون كهشيم تذروه الرياح وسراب يحسبه الظمآن ماء.

ترجمة الامام مسلم

فصل الأول ترجمة مسلم بن الحجاج:المبحث الأول:
اسمه ، ونسبه : مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري.
سير أعلام النبلاء 12/558
والقشيري : بضم القاف وفتح الشين المعجمة وسكون الياء المنقوطة من تحتها باثنتين وفي آخرها راء هذه النسبة إلى قشير
بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قبيلة كبيرة ينسب إليها كثير من العلماء منهم .. الإمام مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري .
الأنساب لأبي سعد السمعاني 4/501 واللباب في تهذيب الأنساب لعز الدين بن الأثير3/37 .

وهل هو من أنفسهم أو مولى ؟ ظاهر صنيع السمعاني وابن الأثير أنه من أنفسهم ، وقال ابن الصلاح في المقدمة ص160: من أنفسهم ، وقال في صيانة صحيح مسلم ص1215: القشيري النسب ... عربي صليبة .
ووافقه النووي في شرح مسلم 1/122، و تهذيب الأسماء 2 /395 .
وقال التجيبي في برنامجه ص 93 : أخبرنا العلامة النسابة شرف الدين أبو محمد التوني ـ أعجوبة زمانه في حفظ الأنساب ـ [عبد المؤمن بن خلف الدمياطي ت705هـ] بقراءتي عليه في بعض تخاريجه ، ومجموعاته إثر حديث وقع له مصافحة لمسلم ـ رحمه الله ـ قال فيه : لكأني شافهت فيه الإمام الناقد أبا الحسين مسلم بن الحجاج المضري القيسي الهوازني العامري القشيري مولى قشير بن كعب أخو عقيل بن كعب .. الخ.
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/558 : فلعله من موالي قشير . اهـ.
قلتُ: لعل الإمام الذهبي تلقاه عن شيخه أبي محمد بن خلف الدمياطي ، ولم يجزم به لكونه لم يره لغيره ، ولذا لم يذكره في بقية كتبه ، وهذا الذي ذكره العلامة الدمياطي ـ رحمه الله ـ غريب ، وهو ، وإن كان علامة في الأنساب ، وله خبرة بها إلا أن ما ذكره لم يذكره من تقدمه من العلماء ممن هم أخبر بالرجل منه ، وأقرب زمانا ، ومكانا ، وقد نسبوه لبني قشير ، ولم يشيروا لكونه مولى .
وعلى قول الدمياطي أيضا : هو عربي أصيل ، فالله أعلم.
والنيسابوري نسبة إلى بَلَدِه نيسابور من مدن خراسان .
قال ياقوت في معجم البلدان 5/331: مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة معدن الفضلاء ، ومنبع العلماء لم أر فيما طوفت من البلاد مدينة كانت مثلها .اهـ.
وفي الإرشاد للخليلي 2/802: "نيسابور" قال هلال بن العلاء الرقي: شجرة العلم أصلها بالحجاز ، ونقل ورقها إلى العراق ، وثمرها إلى خراسان.اهـ.
وكل من رأيته ترجم لمسلم لا يجاوز في عد آبائه جده : كوشاذ ، بل كثير منهم لم يذكر إلا جده مسلما ، ولم أر من زاد على هذه التسمية .

المبحث الثاني :
كنيته ، ولقبه :
كنيته أبو الحسين ، ولم أجد له لقبا .

المبحث الثالث:
مولده :
اختلف أهل العلم في مولده :
القول الأول: قال الذهبي في العبر 2/23: إنه مات وله ستون سنة . فعليه تكون ولادته عام 201هـ ، لأنه لا خلاف أنه توفي عام 261هـ ، وأظن أن هذا القول من العلامة الذهبي تخمينا ، لأنه ـ رحمه الله ـ قال في سير أعلام النبلاء 12/580 : توفي عن بضع وخمسون .اهـ.
وأما في تذكرة الحفاظ 2/590 : فقال : يقال: إنه ولد سنة 204 هـ . وبه جزم الحافظ ابن كثير في البداية 11/34-35 ـ في وفيات سنة 261هـ ـ قال : وكان مولده في السنة التي توفي فيها الشافعي ، وهي سنة أربع ومائتين ، فكان عمره سبعا وخمسين سنة .
وكذا قال ابن حجر في تقريب التهذيب ص529 : مات سنة إحدى وستين ، وله سبع وخمسون سنة.
وهذا القول الثاني.
والقول الثالث: قال ابن الصلاح في صيانة مسلم ص1216 : مات مسلم ـ رحمه الله ـ سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور ، وهذا مشهور لكن تاريخ مولده ، ومقدار عمره كثيرا ما تطلب الطلاب علمه ، فلا يجدونه ، وقد وجدناه ـ ولله الحمد ـ فذكر الحاكم أبو عبد الله ابن البيع الحافظ في كتاب "المزكين لرواة الأخبار" أنه سمع أبا عبد الله ابن الأخرم الحافظ يقول: توفي مسلم بن الحجاج رحمه الله عشية يوم الأحد ، ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين ، وهو ابن خمس وخمسين سنة ، وهذا يتضمن أن مولده كان في سنة ست ومائتين ، والله أعلم. وعنه النووي في شرح مسلم 1/123 .
فهذه ثلاثة أقول أضعفها الأول ، أقواها الثالث لأن ابن الأخرم من أئمة هذا الشأن ، وله عناية بمسلم ، وذهب أكثر عمره في جمع المستخرج على مسلم ، وهو أيضا قريب العهد جدا من مسلم فتوفي مسلم وعمره إحدى عشرة سنة ، وهو بلديه ، والحاكم قد ارتضى قوله ، و الحاكم خبير بأهل بلده أيضا ، وله فيهم تأريخه العظيم: تأريخ نيسابور. والله أعلم.
ترجمة ابن الأخرم في تذكرة الحفاظ 3/864 .

المبحث الرابع:
أول سماعه للحديث : قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/558 : وأول سماعه في سنة ثمان عشرة [يعني: ومائتين]من يحيى بن يحيى التميمي اهـ.
قلت: فيكون عمره أول سماعه ـ على القول الراجح ـ اثنتي عشرة سنة .

المبحث الخامس:
شيوخه ، وتلاميذه : تلقى مسلم العلم عن جموع من العلماء من أبرزهم هؤلاء الأئمة : عبد الله بن مسلمة القعنبي ، ويحيى بن يحيى النيسابوري ، وقتيبة بن سعيد ، وسعيد بن منصور ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي خيثمة زهير بن حرب ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن بشار بندار ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، وأبي كريب محمد بن العلاء ، وأبي الربيع الزهراني ، وأبي موسى محمد بن المثنى ، وهناد بن السري ، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر ، ومحمد بن يحيى الذهلي ، والبخاري ، وعبد الله الدارمي ، وإسحاق الكوسج ، وخلق سواهم.
انظر: صحيح مسلم ، تسمية من أخرجهم البخاري ومسلم ، رجال مسلم لا بن منجويه ، وتأريخ بغداد 13/100، وتأريخ دمشق 58/85 ، و تهذيب الكمال 27/500 ، وسير أعلام النبلاء 12/558 .

وقد ذكر مغلطاي في إكمال تهذيب الكمال ، وابن حجر في تهذيب التهذيب كلاهما عن كتاب " زهرة المتعلمين في أسماء مشاهير المحدثين " ـ لبعض المغاربة ـ عند كل شيخ روى عنه صاحبا الصحيح في كتابيهما عدد الأحاديث التي رواها عنه في صحيحه ، فراجعها في مواضعها من الكتابين إن شئت.
وأخذ الحديث ، والعلم عن الإمام مسلم خلق من الرواة من أبرزهم :
الإمام أبو عيسى الترمذي ، والفقيه إبراهيم بن محمد بن سفيان ، وأبو حامد أحمد بن حمدون ، والحافظ أبو الفضل أحمد بن سلمة ، وأبو حامد ابن الشرقي ، والحافظ أبو عمرو الخفاف ، والحافظ سعيد بن عمرو البرذعي ، والحافظ صالح بن محمد البغدادي ، وعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، ومحمد بن إسحاق السراج ، وأبو عوانة الإسفراييني ، وأبو محمد القلانسي ، ومكي بن عبدان ، وخلق غيرهم. تأريخ دمشق 58/85 ، وتهذيب الكمال 27/504 ، وسير أعلام النبلاء 12/562 ، وغيرها.

المبحث السادس :
مؤلفاته: الجامع المسند الصحيح ، التمييز ، الكنى والأسماء ، الطبقات ، المنفردات والوحدان ، رجال عروة بن الزبير ، وهذه كلها قد طبعت .
وله : كتاب العلل ، كتاب الأفراد ، كتاب الأقران ، سؤالاته أحمد ابن حنبل ، كتاب عمرو بن شعيب ، كتاب الانتفاع بأهب السباع ، كتاب مشايخ مالك ، كتاب مشايخ الثوري ، كتاب مشايخ شعبة ، كتاب من ليس له إلا راو واحد ، كتاب المخضرمين ، كتاب أولاد الصحابة ، كتاب أوهام المحدثين ، أفراد الشاميين ، الرد على محمد بن نصر. وغيرها .
سير أعلام النبلاء 12/579 ، وطبقات علماء الحديث 2/288 ، وغنية المحتاج ص40 ، تدريب الراوي 2/363 .

المبحث السابع:
ثناء العلماء عليه : أثنى على مسلم كبار العلماء من شيوخه ، وأقرانه ، وتلاميذه ، ومن جاء بعدهم من علماء الأمة ، والثناء عليه كثير جدا سأنقل شيئا من ذلك :
قال أبو قريش محمد بن جمعة بن خلف ـ تأريخ دمشق 58/89 ـ: سمعت بندارا محمد بن بشار يقول: حفاظ الدنيا أربعة : أبو زرعة بالري ، ومسلم بن الحجاج بنيسابور ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند ومحمد بن إسماعيل ببخارى .
وقال الحسين بن منصور: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ـ وذكر مسلم بن الحجاج ـ ، فقال : مردا كابن بوذ ، قال المنكدري [شيخ الخطيب]: وتفسيره : أي رجل كان هذا ؟!
وقال أحمد بن سلمة : رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلما في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما .
تأريخ بغداد 13/101-102 .
وقال إسحاق الكوسج : لمسلم لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين.
تأريخ دمشق 58/89 وتذكرة الحفاظ 2/588 .
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم في الجرح والتعديل 8/182: كتبت عنه بالري ، وكان ثقة من الحفاظ له معرفة بالحديث.
وقال أبو عبدالله محمد بن يعقوب بن الأخرم الحافظ إنما أخرجت نيسابور ثلاثة رجال محمد بن يحيى ، ومسلم بن الحجاج ، وإبراهيم بن أبي طالب . سير أعلام النبلاء 12/565 .
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ 2/588: مسلم بن الحجاج الإمام الحافظ حجة الإسلام.

المبحث الثامن:
مهنته : قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/570 : قال الحاكم : كان متجرُ مسلم خان محمش ـ اسم موضع ـ ، ومعاشه من ضياعه بأستوا .
قلتُ: أستوا ناحية من نواحي نيسابور ، كما في معجم البلدان 1/175.
وفي تهذيب التهذيب لابن حجر 10/114: قال محمد بن عبد الوهاب الفراء : كان مسلم من علماء الناس ..، وكان بزازا .
وفي العبر 2/29 : وكان صاحب تجارة ، وكان محسن نيسابور ، وله أملاك وثروة . اهـ.
فتجارته في البز ، وكانت المزارع في أستوا المصدر الثاني له.

المبحث التاسع:
صفته الخَلْقية : قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/566 : قال الحاكم: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: رأيت شيخا حسن الوجه ، والثياب عليه رداء حسن ، وعمامة قد أرخاها بين كتفيه ، فقيل: هذا مسلم ، فتقدم أصحاب السلطان ، فقالوا: قد أمر أمير المؤمنين أن يكون مسلم بن الحجاج إمام المسلمين فقدموه في الجامع ، فكبر وصلى بالناس. وهذا الخبر عند ابن عساكر في تاريخ دمشق 58/89: ولفظه : يقول رأيت في منامي شيخا..
وقال الذهبي 12/570 : قال الحاكم: وسمعت أبي يقول: رأيت مسلم بن الحجاج يحدث في خان محمش فكان تام القامة أبيض الرأس ، واللحية يرخي طرف عمامته بين كتفيه .

المبحث العاشر:
عقيدته :
هي عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين ومما يدل على ذلك:
أـ قوله في مقدمة صحيحه 1/6 : أعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها ، وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه ، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم ، والمعاندين من أهل البدع .اهـ.
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 12/558 : وأكثر عن علي بن الجعد لكنه ما روى عنه في الصحيح شيئا .اهـ
قلتُ: هذا السبب : قال مكي بن عبدان : سألت مسلما عن علي بن الجعد ؟ فقال: ثقة ، ولكنه كان جهميا .
سير أعلام النبلاء 12/568 .
ب ـ وافتتح صحيحه بكتاب الإيمان ، وضمنه أحاديث في تقرير مذهب أهل السنة في عدد من المسائل ، والرد على أهل البدع من القدرية ، والمرجئة ، والخوارج ، والجهمية ، وغيرهم ، وفيه الاحتجاج بخبر الواحد .. ، وأفرد كتابا للقدر ..
ج ـ وموضوع كتابه كله على منهاج أهل السنة ، وهو نقمة على أهل البدع.
د ـ وذكر أبو عثمان الصابوني في اعتقاد أهل السنة وأصحاب الحديث ص121-123: في آخر الكتاب .. ـ بعد أن ذكر عقيدة أهل السنة ـ أسماء جمع من أئمة أهل السنة منهم " مسلم بن الحجاج " وقال : من أحبهم فهو صاحب سنة ، ثم قال: وهذه الْجُمَلُ التي أثبتها في هذا الجزء كانت معتقد جميعهم لم يخالف فيها بعضهم بعضا ، بل أجمعوا عليها كلها ، ولم يثبت عن أحد منهم ما يضادها .اهـ.
هـ ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل 7/36
وأما في معرفة ما جاء به الرسول وما كان عليه الصحابة والتابعون فمعرفتهم [جماعة ممن وقعوا في بدع المتكلمين] بذلك قاصرة ، و إلا فمن كان عالما بالآثار ، وما جاء عن الرسول ، وعن الصحابة ، والتابعين من غير حسن ظن بما يناقض ذلك لم يدخل مع هؤلاء ـ إما لأنه علم من حيث الجملة أن أهل البدع المخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعا ، وقد علم أنه من خالف الرسول فهو ضال ـ كأكثر أهل الحديث ، أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك ، وتناقضها كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم كمالك [ثم سرد أسماء جموع من الأئمة منهم:] ومسلم بن الحجاج النيسابوري ... ومن لا يحصي عدده إلا الله من أئمة الإسلام ، وورثة الأنبياء وخلفاء الرسل ؛ فهؤلاء كلهم متفقون على نقيض قول النفاة كما تواترت الآثار عنهم ، وعن غيرهم من أئمة السلف بذلك من غير خلاف بينهم في ذلك.
وـ قال العلامة محمد السفاريني في كتابه "لوامع الأنوار البهية ، وسواطع الأسرار الأثرية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية " 1/22: [في سرده لعلماء أهل السنة ..] ومسلم ، وأبو داود ... ثم قال: وغير هؤلاء كلهم على عقيدة واحدة سلفية أثرية .
وهذا يزيل إشكال عدم ذكر اللالكائي له في معرض سياقه من رسم بالإمامة في السنة ، والدعوة ، والهداية إلى طريق الاستقامة .. في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة 1/ 51-53 مع أنه ذكره في 1/302:
فيمن نقلوا كلاما في رد بدعة .
قلتُ: فلعله لم يذكره لأنه لم يؤلف في الرد على أهل البدع .. ، أو يكون قد غفل عنه ، أو سقط سهوا.
ز ـ سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ مجموع الفتاوي 20/39 ـ هل البخاري ومسلم ـ وذكر جمعاً من العلماء ـ هل كان هؤلاء مجتهدين لم يقلدوا أحدا من الأئمة أم كانوا مقلدين ؟ وهل كان من هؤلاء أحد ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة .. ؟
فأجاب جوابا طويلا جاء في آخره : وهؤلاء كلهم يعظمون السنة ، والحديث. اهـ .
ح ـ ومما يؤكد ذلك أيضا كونه تلميذا ، وصاحباً لأئمة أهل السنة كأحمد ، وإسحاق ، والبخاري ، وأبي زرعة وغيرهم ، ومعلوم مكانة وشدة هؤلاء في السنة ، وشدتهم على أهل البدع ، حيث لم يكن لأهل البدع نصيب من مجالستهم .
ط ـ كل من ذكره ، وترجم له من العلماء ابتداء من شيوخه ، وحتى اليوم قد أثنوا عليه ، وذكروه بأحسن الذكر ، ولم يَنقل أحد منهم أنه كان مخالفا لطريقة السلف ، أو متلبسا ببدعة ، وحاشاه من ذلك ، بل كان متابعا متأسيا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فرحمه الله رحمة واسعة .

المبحث الحادي عشر:
مذهبه الفقهي :
إذا نظرت في أسماء كتب الإمام مسلم تجدها كلها تقريبا في علم الحديث وفنونه ، كما هو حال أكثر أهل الحديث في ذاك الزمان ، ولذا لم يتضح منهجه الفقهي تماما ، إلا أنه بلا شك من أهل العلم الكبار في زمانه في الحديث والفقه ، وإن لم يكن من الأئمة المجتهدين كأحمد ، والبخاري ، و إلا لظهر رأيه ، واختياره كما ظهر رأي غيره ، والناظر في كتابه الصحيح ، وانتقائه الأحاديث ، وحسن ترتيبه يدرك أنه من فقهاء أهل الحديث ، وأنه مطلع على اختلاف الفقهاء ، ولذا قال الحافظ ابن حجر في التقريب ص529: عالم بالفقه .
و ذكر حاجي خليفة مسلما في كتابه كشف الظنون 1/555 فقال: مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري الشافعي . وأخذه بنصه صديق خان في الحطة ص 198 .
وقال الدهلوي في الإنصاف في بيان سبب الاختلاف ص314ـ المطبوع ضمن مجموعة الرسائل الكمالية رقم (4) ـ : وأما مسلم والعباس الأصم .. فهم متفردون لمذهب الشافعي يناضلون دونه .
قلتُ: وهذا القول: فيه نظر .
ومما يدل على عنايته بالفقه ، أن له سؤالات للإمام أحمد ـ رحمه الله ـ قال القاضي أبو الحسين ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 3/309- 315 ـ في ترجمة الحسن بن حامد ـ قال ابن أبي يعلى: قرأت في بعض تصانيفه [ابن حامد] قال: اعلم أن الذي يشتمل عليه كتابنا هذا من الكتب والروايات المأخوذة من حيث نقل الحديث والسماع منها كتاب الأثرم ، وصالح ، وعبدالله ، وابن منصور ... ومسلم بن الحجاج ... ـ إلى أن قال ـ : وأما رواية مسلم بن الحجاج فأخبرناه أبو إسحاق المزكي قال حدثنا أبو حاتم مكي بن عبدان بن محمد بن بكر ، عن مسلم بن الحجاج عنه .
وبناء على هذا ، وعلى رواية مسلم عن أحمد = ترجم له في طبقات الحنابلة 2/413 وقال عنه : أحد الأئمة من حفاظ الأثر .
قلتُ: ولا يعني ذلك أنه حنبلي ، بل وصفه بالإمامة ، وحفظ الأثر ، وقد ترجم أيضا: لشيخي أحمد : وكيع بن الجراح ، وعبد الرحمن بن مهدي ؛ لكونهم حكوا شيئا عن أحمد .
ولهذا السبب ترجم له غير واحد ممن ألف في طبقات الحنابلة بعد ابن أبي يعلى.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ مجموع الفتاوي 20/39 ـ هل البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود الطيالسي والدرامي والبزار والدارقطني والبيهقي وابن خزيمة وأبو يعلى الموصلي هل كان هؤلاء مجتهدين لم يقلدوا أحدا من الأئمة أم كانوا مقلدين ؟ وهل كان من هؤلاء أحد ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة ؟ ...
فأجاب:الحمد لله رب العالمين أما البخاري ، وأبو داود ؛ فإمامان في الفقه من أهل الاجتهاد ، وأما مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وأبو يعلى والبزار ونحوهم فهم على مذهب أهل الحديث ليسوا مقلدين لواحد بعينه من العلماء ، ولا هم من الأئمة المجتهدين على الإطلاق بل هم يميلون إلى قول أئمة الحديث كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأمثالهم ، ومنهم من له اختصاص ببعض الأئمة كاختصاص أبي داود ، ونحوه بأحمد بن حنبل وهم إلى مذاهب أهل الحجاز كمالك ، وأمثاله ، أميل منهم إلى مذاهب أهل العراق كأبي حنيفة والثوري ... وهؤلاء كلمهم يعظمون السنة والحديث .. اهـ باختصار .
وقال السخاوي في غنية المحتاج في ختم صحيح مسلم بن الحجاج ص40-41:
والظاهر أنه ـ رحمه الله ـ كان على طريقة الأئمة من أهل الآثار في عدم التقليد بل سلك الاختيار مع إمكان الاستدلال بما وجد له من مقال لكونه مقتديا بإمامنا ابن إدريس الفائق في الاجتهاد ، والتأسيس ، فإنه قال في كتابه الانتفاع بجلود السباع ، وقد ذكر قولة من عاب قوله : ورب عياب له منظر مشتمل الثوب على العيب .
بل قال الأستاذ أبو منصور البغدادي : بالغ مسلم في تعظيم الشافعي ـ رحمهم الله تعالى ـ في كتابه الانتفاع .
وفي كتابه الرد على محمد بن نصر وعده في هذا الكتاب من الأئمة الذين يرجع إليهم في الحديث ، وفي الجرح والتعديل . اهـ
قلتُ: ومبالغته في تعظيم الشافعي ـ رحمه الله ـ لا تعني أنه يقلده ، فقد كان أحمد أيضا: يبالغ في تعظيمه فهل كان شافعيا ؟ هذا الاستدلال فيه نظر ، والله أعلم.
ثم قال السخاوي: وكذا يمكن استدلال أصحاب أحمد بأنه كتب عن إمامهم مسائل تروى عنه ، وتُعتمد .
ولكن الميل بخلاف كل هذا أكثر مما هو أظهر ـ إلى أن قال ـ وممن قال إنه على مذهب أهل الحديث ، وليس بمقلد لواحد بعينه من العلماء ، ولا هو من المجتهدين على الإطلاع : التقي ابن تيمية رحمه الله تعالى ، وإيانا .

المبحث الثاني عشر:
وفاته ، وسببها :
قال ابن الصلاح في صيانة مسلم ص1216: وكان لموته سبب غريب نشأ عن غمرة فكرية علمية ـ ثم ساق سنده إلى الحاكم ـ قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب سمعت أحمد بن سلمة يقول: عقد لأبي الحسين مسلم بن الحجاج مجلس للمذاكرة ، فذكر له حديث لم يعرفه ، فانصرف إلى منزله ، وأوقد السراج ، وقال لمن في الدار : لا يدخلن أحد منكم هذا البيت ، فقيل له: أهديت لنا سلة فيها تمر ، فقال: قدموها إلي ، فقدموها ، فكان يطلب الحديث ، ويأخذ تمرة تمرة يمضغها ، فأصبح وقد فني التمر ، ووجد الحديث.
قال الحاكم: زادني الثقة من أصحابنا: أنه منها مرض ، ومات . اهـ.
وانظر: تاريخ بغداد 13/103، وعنه ابن عساكر في تاريخ دمشق 58/94 ، و تهذيب الكمال27/506 .
وكانت وفاته عشية يوم الأحد ، ودفن الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين ، رحمه الله رحمة واسعة .
انظر: طبقات الحنابلة 2/417 ، وتاريخ دمشق 58/94، وصيانة مسلم ص1216 ، وشرح مسلم للنووي 1/123 و تهذيب الكمال 27/507 

عروة بن الزبير ودوره في نشأة وتطور مدرسة المدينة التاريخية



جهاد محمود توفيق أحمد عبدالغفار





عروة بن الزبير


ودوره في نشأة وتطور مدرسة المدينة التاريخية




المقدمة:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.



أما بعد:

إن علم التاريخ من أهم وأشرف العلوم؛ لذلك دائمًا ما نتذكر قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111].



إن المسلمين هم أول من منهج التاريخ كعلم، ووجهه نحو الشمول، وكانت نظرتهم إِليه كسجل للعبر والمعرفة وحركة الحياة في مسار الزمن نابعة من القرآن الكريم، والسنة المطهرة؛ لذلك لا مفر من العودة إلي المنهج الإسلامي في كتابة التاريخ، بعد انتشار المناهج المنحرفة في عالمنا المعاصر، التي شوهت قضية الفكر التاريخي في حضارة المسلمين، ووضعت في آفاقه غيومًا كالحة أخفت ملامح أصالته وشموليته.



سيكون موضوع البحث عن دور عروة بن الزبير بن العوام في نشأة وتطور مدرسة المدينة التاريخية.



سأعرض في البحث كيف عكف العلماء المسلمون ومنهم عروة بن الزبير؛ على تدوين السيرة النبوية الشريفة وكل ما يتعلق بحياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث إن القرن الأول إلى مطالع القرن الثاني انصب على الاهتمام خاصة، وتحت ضغط المتدينين والحاجة الدينية والسياسية إلى مواضيع محددة من السيرة النبوية، وقد ظهر في هذه الفترة من رجال الطبقة الأولى في مدرسة المدينة التاريخية عروة بن الزبير؛ الذي روى جوانب من السيرة سميت " المغازي" لأنها تهتم بحياة النبي - صلى الله عليه وسلم.



بينما عن خطة البحث فقد كانت كالتالي:

لقد قمت بعد الاستعانة بالله بعمل البحث وقسمته إلى مقدمة وثلاثة مباحث رئيسة ثم خاتمة أوضحت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها خلال البحث، ثم ذكرتُ قائمة بالمصادر والمراجع في نهاية البحث.



أما عن تقسيم المباحث الثلاثة فكالتالي:

المبحث الأول: ترجمة عروة بن الزبير بن العوام.

المبحث الثاني: مدرسة المدينة التاريخية.

المبحث الثالث: دور عروة بن الزبير في نشأة وتطور مدرسة المدينة التاريخية.



فأرجو من الله التوفيق، فإن وفقت فذلك من الله ومن فضله وكرمه عليَّ، وأما الثانية فمن نفسي، وبشريتي، وشيطاني، والكمال لله وحده رب العالمين، وصل اللهم وبارك وسلم على خير الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم.






المبحث الأول


ترجمة عروة بن الزبير بن العوام


هو أبو عبدالله عُروة بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبدالعُزَّى بن كلاب القرشيّ المدني الفقيه الحافظ، هو أحد فقهاء المدينة السبعة، أبوه الزبير بن العوام أحد الصحابة العشرة المشهود لهم بالجنة، جدته صفية بنت عبدالمطلب أم أبيه الزبير وعمة النبي - صلى الله عليه وسلم.



أمه ذات الناطقين أسماء بنت أبى بكر الصديق - رضي الله عنها - ومن أخوته عبدالله بن الزبير، ومصعب بن الزبير ولكنه أخو عُروة من أبيه، فإنه لم يكن من أم عروة وعبدالله.




ومن أولاد عُروة بن الزبير:

عبد الله وعمر والأسود وأم كلثوم وعائشة.

ولد عُروة بن الزبير في سنة تسع وعشرين (29هـ)، وتوفى سنة 93هـ - في قرية يقال لها فُرْع وهى من ناحية الرَّبذة، بينها وبين المدينة أربع ليالٍ، وهى ذات نخيل ومياه[1].



أصيب عُروة بالأكلة في رجله وهو بالشام عند الوليد بن عبدالملك، فقطعت رجله، والوليد مشغول عنه بمن يحدثه، فلم يتحرك عروة، ولم يشعر الوليد أنها قطعت حتى كويت فوجد رائحة الكي، ولم يترك عُروة ورده تلك الليلة، حتى قدم إلي المدينة فقال: " اللهم إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدًا وأبقيت لي ثلاثة، فلكَ الحمد، وأيم الله لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لطالما عافيت"[2].



عاش عروة بعد قطع رجله ثماني سنين، ويذكر العتبي أن المسجد الحرام جمع بين عبدالملك بن مروان وعبد الله بن الزبير وأخويه عُروة ومصعب أيام تألفهم بعهد معاوية بن أبى سفيان، فقال بعضهم: هلم فلنتمنه، فقال عبدالله: مُنيتي أن أملك الحرمين وأنال الخلافة، وقال مصعب: مُنيتي أن أملك العراقيين وأجمع بين عقليتي قريش سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، وقال عبدالملك بن مروان: مُنيتي أن أملك الأرض كلها وأخلف معاوية، فقال عروة: لست في شيء مما أنتم فيه، فمُنيتي الزهد في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة، وأن أكون ممن يُروْى عنى هذا العلم، قال: فصرف الدهر من صرفه إلى أن بلغ كل واحد منهم إلى أمله، وكان عبدالملك لذلك يقول: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى عروة بن الزبير[3].



احتفر عروة بئر عُروة التي بالمدينة، وهى منسوبة إِليه، وليس بالمدينة بئر أعذب من مائها[4].



عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قالت لي عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها ـ: "أبوك والله من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح"[5].






المبحث الثاني


مدرسة المدينة التاريخية


تعد مدرسة المدينة التاريخية أو مدرسة (الحجاز) من كبرى المدارس التاريخية بل المدرسة الأولى في التاريخ؛ فقد عظم الاهتمام الإسلامي بهذه المدرسة، ولعل السبب في ذلك أن المدينة كانت عاصمة الرسول والخلفاء من بعده - صلى الله عليه وسلم -، ومركز تجمع الصحابة والبلد الأساسي للدين الجديد صاحب الدولة والفتوح، فأكثر كتاب السيرة الأولين كانوا من أهل المدينة؛ لأن أكثر أحداث السيرة من تشريع مدني و مغازِ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، وكان من حوله أصحابه، وهم أعرف الناس بتلك الأخبار[6].



فعندما جاء الإسلام، وقامت الدولة العربية، ومست الحاجة إلى معرفة سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - العربي وأحواله واستقصاء السنة، توفر رجال على جمع أخبار السيرة وتدوينها، فكان ذلك بد اشتغال العرب في الإسلام بالتاريخ، على أن التاريخ لم يخرج يومئذ عن كونه فرعًا من فروع علم الحديث، فلذلك ارتبطت مدرسة المدينة التاريخية منذ نشأتها بدراسة مغازي - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثم يكون اصطلاح مدرسة المغازي مرادفًا لمصطلح المدرسة التاريخية الأولى في المدينة [7].



ومن أشهر رواة مدرسة المدينة التاريخية:

أبان بن عثمان بن عفان (ت105هـ)، عُروة بن الزبير (ت93هـ)، وهب ابن منبه (ت 110هـ)، ثم انتهاء علم السيرة والمغازي إلى رجلين من الموالى هما: محمد ابن إسحاق (ت152هـ)، ومحمد بن عمر الواقدي (ت 207هـ)[8].



ومن الملاحظ أن تسجيل الأحاديث النبوية لم يبدأ إلا في القرن الثاني للهجرة، وقد تأخر هذا التسجيل؛ لنهى النبي عن كتابة أحاديثه في حياته، حتى لا يختلط البعض بينها وبين القرآن، وعنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تكتبوا عنى غير القرآن، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه، وحدثوا عنى ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". ويبدو واضحًا من الحديث النهى عن الكتابة ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عن الرواية[9].



بدأ المسلمون تأريخهم بهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وقد اهتم أوائل الرواد في مدرسة المدينة التاريخية بجمع وتبويب الأحاديث النبوية، والأخبار المأثورة الواردة في سيرته - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وبعدها؛ ولذلك كانت المدينة المدرسة التاريخية الأولى للثقافة الإسلامية، والمهد الأول لعلم التاريخ الذي بدأ بالسير والمغازي [10].






المبحث الثالث


دور عروة بن الزبير في نشأة وتطور مدرسة المدينة التاريخية


من العلماء التابعين لمدرسة المدينة التاريخية - عروة بن الزبير - كان من أعلم أهل المدينة، فهو أحد فقهاء المدينة السبعة، فقد نشأ فيها ودرس على شيوخها، ثم أقام في مصر في بداية النصف الثاني من القرن الأول الهجري حيث استقر فيها، وتردد على العواصم الإسلامية فزار دمشق والتقى بعلمائها، وقد نشأ محبًا للعلم زاهدًا في الدنيا[11].



كان عروة ابن الزبير أول من ألف في المغازي، أي كتب حول حياة الرسول وحول أحداث الإسلام وقد أخذ عنه محمد بن إسحاق (ت 152هـ)، والواقدي (ت 207هـ)، والطبري (ت 310هـ)، ومع ذلك لم يصلنا كتاب دونه عروة عن السيرة النبوية، فكل ما وصلنا عنه كتابات كتبها غيره عنه أمثال الواقدي ت207هـ، والطبري ت310هـ[12].



كان لعروة عددٌ من الأعمال التاريخية: فقد سجل بعث رسول الله، ونزول الوحي عليه وهو يتعبد بغار حراء، وذكر وفاة السيدة خديجة بنت خويلد، وذكر هجرة الرسول إلى الحبشة، وسبباختيارها للهجرة، حيث ذكر أنها كانت متجرًا لقريش - أي مألوفة لأهل مكة - وكان بها ملك عادل لا يظلم عنده أحد، وبعض أسماء من هاجر إليها، ومحاولةقريش إرجاع المسلمين المهاجرين إلى الحبشة، وتحدث عن هجرة الرسول من مكة إلى المدينة، وسرية عبدالله بن جحش، ومسألة القتال في الأشهر الحرم، وما نزل في ذلك من القرآن، وغزوة بدر الكبرى 2هـ/624م، وقدتحدث فيها عن دعاء الرسول على المشركين، واختلاف كلمة المشركين، ورغبةبعضهم في العودة، وترك القتال، وبعض أسماء من قتل من المشركين، واستشهد منالمسلمين فيها، وغزة بني قينقاع 2هـ/624م، وغزة بني المصطلق (المُرَيسيع) 6هـ - /627م، وصلح الحديبية 6هـ /628م، وغزوة خيبر 7هـ /628م، وغزوة حنين والطائف 8هـ /630م، ورسل الرسول إلى الملوك، وحجة الوداع، وتجهيزرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أسامة، ومرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووفاته في بيت عائشة، وعمره حين توفى، وإشارته إلى فضل أبي بكر، ووصيته بالأنصار قبل موته، كما تناول عصر الخلفاء الراشدين وصولا إلى عصر عبدالملك بن مروان، الذي عرفه عروة في صباه، وكان يجتمع إليه في المسجد الجامع بالمدينة المنورة[13].



وقد كتب عروة إلى عبدالملك بن مروان أخبارًا عن فجر الإسلام، وهذا واضح في روايات الطبري عن عروة، قال: حدثني أبى قال: حدثنا أبان العطار، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة، أنه كتب إلى عبدالملك بن مروان: أما بعد، فإنه - يعنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دعا قومه لما بعثه الله من الهدى والنور الذي أنزل عليه، لم يبعدوا من أول من دعاهم، وكادوا يسمعون له، حتى ذكر طواغيهم، وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال، أنكروا ذلك عليه، واشتدوا عليه، وكرهوا ما قال لهم، وأغروا به من أطاعهم، فـانصفق عنه عامة الناس (أي بعدوا عنه وتركوه)، فتركوه إلا من حفظه الله منهم، وهم قليل، فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث، ثم ائتمرت، رءوسهم بأن يفتنوا من تبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم......، فقد كان الخليفة عبدالملك بن مروان حريصًا على توجيه أسئلة تاريخية إلى عروة بن الزبير، وكان عروة يجيبه عنها، وخاصة فيما يتصل بسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - [14].



ولم تقتصر روايات عروة عن حياة الرسول فحسب، إنما امتدت رواياته إلى ما بعد عهد الرسول، فتناول حوادث القادسية، وموقعة اليرموك، وبعض وقائع الشام، كما اهتم أيضًا بأخبار الزبيريين [15].



كانت نشأة عُروة بن الزبير في حجر خالته (السيدة عائشة)، حيث تعلم منها معنى كل آية، ومعنى كل حديث يستفسر منها عنه، حتى أصبح مستودع علم، كما أنه استفاد من علم ابن المسيب الذي كان يكبره بسبع أو ثماني سنوات، فكل الأحاديث التي روتها أمنا عائشة جاءت إِلينا عن طريقه كما روى الحديث عن كثير من الصحابة الكرام أمثال: علي بن أبى طالب، وابن عباس، وأبو أيوب الأنصاري، كما أخذ عنه من التابعين أمثال: قتادة بن دعامة، وزيد بن أسلم، ويحيى بن سعيد الأنصاري[16].



قال محمد بن شهاب الزهري عن عروة: كان عروة بحرًا لا ينزف، وهذا معناه أن معارف عروة شملت الحديث والتفسير والشعر والفقه، إضافة إلى السيرة والمغازي التي لا ينازعه فيها منازع من شيوخ عصره[17].



تعد روايات عروة من المصادر المهمة، حيث وصل إلينا كثير من رواياتعروة التاريخية متناثرة عند ابن هشام في " السيرة "، والواقدي في " المغازي "، وابن سعد في "الطبقات"، والطبري في "تاريخ الرسل والملوك"، وابن الأثير في "أسد الغابة"، والذهبي فيكتابيه "السيرة " " والمغازي "، وابن كثير في "البداية والنهاية"، والسيوطي في " الخصائص"، وقد أخذ عنه الطبري أخبار الردة في روايات قصيرة موجزة[18].



وما أخذه ابن هشام، وابن سعد، والواقدي، والطبري، عن عروة. يكشف منهج عروة التاريخي، وهو كالتالي:

ورغم كثرة الروايات التاريخية عنعروة، إلا أننا لا نستطيع أن نعرف أو نحدد بإيضاح المنهج الذي سلكه في كتابةرواياته أو جمعها؛ لأن هذه الروايات كما ذكرت وردت متناثرة في ثنايا الكتب (كما فعل ذلك الواقدي، والطبري)، إضافة إلى أن المؤرخين الذين حفظوها لنا كانوا في بعض الأحيان لا ينقلونالرواية كاملة، وإنما يأخذون منها ما يحتاجون لدمجه في روايات أخرى لتكوين الفكرة التي يريدون عرضها أو تقديمها.



1- إن روايات عروة كانت بسيطة تخلو من المبالغة وتستمد معلوماتها من مصادر أولية هامة. من عائشة وآل الزبير.



2- تنوع روايات عروة، حيث إنه روى عن سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وامتد رواياته إلى عصر الخلفاء الراشدين، وروى لعبدالملك بن مروان روايات عن فجر الإسلام، وتحدث عن بعض المعارك الشهيرة أمثال: معركة القادسية، ومعركة اليرموك.



3- اهتم بالرواية الشفوية، فقد أخذها عن ثقات الرواة، فقد روى عن عائشة، وأسامة بن زيد، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وأبى ذر الغفاري.



4- عناية عروة بالوثائق المكتوبة مثل: رسائل الرسول إلى عبدالله بن جحش، ولعله أضحى بذلك من أوائل الذين وضعوا للسيرة النبوية منهجًا علميًا أصيلا، يعتمد على الوثيقة[19].



5- كان منهج رجال الطبقة الأولى بل رجال الطبقات الثلاث في مدرسة المدينة التاريخية منهجًا واحدًا، وهو الرواية القائمة على الإسناد.



6- كان عروة مثل غيره من الإخباريين يورد الشعر كثيرًا، ويستعين به لا يتحرج من ذلك، ولكنه كان لا يفتى بما لا يعرف، ويمسك عن إبداء رأيه في الحوادث، ويقف عند الحديث والمأثور[20].



7- حياد عروة التام واستقلاليته، فهو لم يشترك في الأحداث السياسية التي عاشتها الأمة الإسلامية في عصره، وكان يعتزل أهل الجور في زمانه، فهذا يضفى أهمية كبرى على كتابات عروة بن الزبير بن العوام[21].



8- كان عروة يربط بين تفسير القرآن والأحداث التاريخية[22].



9- الإيجاز والاختصار على الجانب المهم من الراوية أو الخبر.



10- أنهكان يمهد للحادثة التي يتكلم عنها في مقدمة توضح سببها قبل ذكرتفاصيلها، ومثال ذلك: تمهيده لهجرة المسلمين إلى الحبشة بقوله: " لما دعا - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه لما بعثه الله من الهدى والنورالذي أنزل عليه، ولم يبعدوا منه أول ما دعاهم، وكادوا يسمعون له، حتىذكر طواغيتهم، وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال، أنكروا ذلك عليهواشتدوا عليه... ثم ائتمرت رءوسهم بأن يفتنوا من تبعه عن دين الله منأبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال على من اتبع رسولالله - صلى الله عليه وسلم - فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، فلمافعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوا إلى أرضالحبشة[23].



11- عند حديثه عن غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو المعارك الإسلامية كانيقدم مع أحداث الغزوة قائمة بأسماء من شهدها ومن استشهد فيها فيقول مثلاً: ممن شهد بدرًا أبو حذيفة بن عتبة، وثابت بن حسان، وممن شهد أحدًاثعلبة بن ساعدة، وممناستشهد باليمامة بشير بن عبدالله الأنصاري.



12- حرصه على إيراد التواريخ وبدقة تامة فيقول عن نزول الوحي " عرض لهجبريل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم أتاه بالرسالة يوم الاثنين لسبع عشرة ليلةخلت من شهر رمضان، ورسول الله ابن أربعين "، ووصفه لمرض ووفاةأبي بكر الصديق " كان أول ما بدأ مرض أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنهاغتسل يوم الاثنين لسبع خلت من جمادى الآخرة، وكان يومًا باردًا فحُمَّخمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الصلاة.... وتوفى ليلة الثلاثاء لثمان ليالٍبقين من جُمادى سنة 13هـ، وكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا أربع ليالٍ، فتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة.



الخاتمة

الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام، وهدانا للإيمان، وعصمنا من الضلالة وعلمنا بعد الجهالة، وهدانا إلى أقوم الطريق، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخاتم النبيين، ورحمة الله للعالمين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -.



وبعد:

لقد استعرضت في هذا البحث دور عروة بن الزبير في نشأة وتطور مدرسة المدينة التاريخية.



وقد توصلت في هذا البحث إلي عدة نتائج ومنها:

♦ لا عجب أن تكون روايات عروة في التاريخ من الراويات الموثوق فيها؛ فهو سليل عائلة كريمة الحسب والنسب والشرف والمقام.


♦ إن مدرسة المدينة المنورة كانت الأم لباقي المدارس التاريخية؛ فهي من كبرى المدارس التاريخية.


♦ كان كتاب السيرة النبوية أغلبهم من المدينة وكانوا من أبناء صحابة الرسول وقد أتاح لهم قربهم من عاصمة الإسلام - بعد مكة - أن يرووا الأحداث كما سمعوها من أقرب الناس إليها - وإن انتقل عنهم هذه الأخبار - على طريق الإسناد كما في رواية الحديث - في الأمصار.


♦ كان عروة واسع المعرفة، محيطا بالسير والمغازي، حتى إنه أول من ألف في هذا الفن.


♦ صبر عروة وتحمله لما وقعت الأكلة في رجله، واحتيج إلي قطعها.


♦ تعدد معارف عروة وكثرتها، حتى قال عنه الزهري: كان عروة بحرًاً لا ينزف.



قائمة المصادر والمراجع:

أولا: المصادر:

1- القرآن الكريم.



2- ابن الأثير ( ت360هـ)، الكامل في التاريخ، تحقيق أبى الفداء عبدالله القاضي، م2، دار الكتب العلمية ( بيروت - لبنان)، الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م.



3- الإمام الجوزي، صفة الصفوة، تحقيق: مركز الدراسات والبحوث، مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة الأولى 1417هـ - 1996م.



4- الخطيب البغدادي (ت 463هـ)، تاريخ بغداد، تحقيق: مصطفى عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية (بيروت - لبنان)، الطبعة الأولى1417هـ 1997م.



5- أبو العباس أحمد بن حسن بن على بن الخطيب (الشهير بابن قنقذ القسنطيني)، الوفيات، تحقيق: عادل نويهض، منشورات دار الأفاق الجديدة بيروت، الطبعة الأولى 1971م.



6- الإمام أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل (ت 164 - 241هـ)، فضائل الصحابة، تحقيق/ وصي الله بن محمد بن عباس، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1403هـ -1983م.



7- ابن حجر العسقلاني (ت 463هـ)، الإصابة في تمييز الصحابة، ج4، المكتبة التجارية الكبرى 1358هـ- 1939م.



8- ابن خلكان (ت 681هـ)، وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر بيروت.



9- الذهبي (ت748هـ)، العبر في خبر من غبر، تحقيق: صلاح الدين المنجد، مكتبة التراث العربي (الكويت) 1960م، وتاريخ الإسلام، تحقيق: عمر عبدالسلام تدمري، ج6، دار الكتاب العربي 1423ه - ـ2003م، وسير أعلام النبلاء، ج1، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وحسين الأسد، مؤسسة الرسالة، الطبعة الحادية عشر1417هـ- 1996م.



10- ابن سعد، الطبقات الكبرى، دراسة وتحقيق: محمد عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية (بيروت - لبنان).



11- السيوطي (ت 911هـ)، طبقات الحفاظ، تحقيق: علي محمد المنياوي، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى 1393هـ - 1973م.



12- الطبري (310هـ)، تاريخ الرسل والملوك، ج9، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، الطبعة الرابعة.



13- ابن كثير (ت774هـ)، البداية والنهاية، تحقيق: أحمد عبدالوهاب فتيح، ج3، دار الحديث القاهرة - الطبعة الخامسة 1418هـ - 1998م.



14- أبى نعيم بن عبدالله الأصفهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج2، مطبعة السعادة 1412ه - 1992م.



15- الواقدي (ت 207هـ)، المغازي، تحقيق: مارسدن جونس، ج1، مطبعة جامعة أكسفورد 1966م، وطبعة أخرى باسم مغازي رسول الله، نشرتها جماعة نشر الكتب القديمة، الطبعة الأولى 1367هـ - 1948م.



16- ياقوت الحموي (ت 626هـ)، معجم البلدان، م1، دار صادر بيروت.



ثانيًا: المراجع:

1- أحمد أمين، فجر الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الرابعة عشر1987م.



2- أحمد بن محمد الأدنروي، طبقات المفسرين، تحقيق: سليمان بن صالح الخزى، مكتبة العلوم والحكمة، الطبعة الأولى 1417هـ - 1997م.



3- أمين مدنى، التاريخ العربي ومصادره، دار المعارف بمصر1971م.



4- سعد القاضي، مائة من الصحابة وقائدهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، ج3، دار غريب للطباعة والنشر2002م.



5- شوقي أبو خليل، أطلس السيرة النبوية، دار الفكر دمشق - سورية، الطبعة الأولى 2002م.



6- شاكر مصطفى، التاريخ العربي والمؤرخون، دار العلم للملايين.



7- عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم، التاريخ تاريخه وتفسيره وكتابته، الدار السودانية للكتب 1420هـ - 1999م.



8- عبدالعليم عبدالرحمن خضر، المسلمون وكتابة التاريخ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى 1414هـ - 1993م.



9- فتحية عبدالفتاح النبراوي، علم التاريخ دراسة في مناهج البحث، دار الأفاق العربية، الطبعة الثانية 1416هـ - 1996م.



10- محمد الغزالي، فقه السيرة، دار الكتب بمصر، الطبعة الأولى 1373هـ.



11- محمد فتح الله كولن، النور الخالد محمد - صلى الله عليه وسلم - مفخرة الإنسانية، ترجمه: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة، الطبعة الخامسة 1430هـ - 2009م.



12- محمود محمد الطناحي، الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم، مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة الأولى 1406هـ - 1985م.



13- محمد نصر مهنا وجلال الشايب، التدوين التاريخي ودور المخطوطات السياسية في العالم الإسلامي، دار الفجر للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1996م.



14- محمد يوسف الكاندهلوي، حياة الصحابة، مكتبة دار التراث.



15- هرنشو، علم التاريخ، ترجمة عبدالحميد العبادي، سلسلة المعارف العامة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة 1937م.



16- وضعها لجنة من أدباء الأقطار العربية، التراجم والسير، دار المعارف.



17- يوسف بن إسماعيل، غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، منشورات دار المعارف.



ثالثًا: الرسائل العلمية:

1- عروة بن الزبير فقهيًا، الطالب صلاح عبدالتواب سعداوي؛ إشراف د/ إبراهيم محمد عبدالرحيم، 1424هـ - 2004م (رسالة ماجستير).



رابعًا الدوريات العلمية:

1- عبدالرحيم الحسناوي، تدوين التاريخ عند العرب من البدايات إلى مقدمة ابن خلدون، مجلة الرافد، تصدر عن دائرة الثقافة والإعلام (شبكة النت).



2- يوسف رزين، نشأة علم التاريخ عند العرب، مجلة الحوار المتمدن، العدد4023، 2013م.






[1] ابن خلكان، وفيات الأعيان، م3 ص255، وللمزيد انظر (الإمام الجوزي، صفة الصفوة، ص 153 - 156، أبى العباس أحمد بن حسن علي بن الخطيب، الوفيات، ص89، السيوطي، طبقات الحفاظ، ص 23، الذهبي، أعلام النبلاء، ج1 ص41 - 67، عروة بن الزبير فقهيًا، صلاح عبدالتواب سعداوي، ص14 - 17، ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج5ص136).




[2] الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ص 467 - 468.




[3] مصدر سابق (ابن خلكان) ص 256 - 258، ومحمد فتح الله كولن، النور الخالد محمد - صلى الله عليه وسلم - مفخرة الإنسانية، ص722 - 733.




[4] ياقوت الحموي، معجم البلدان، م1 ص 300 - 301، وللمزيد انظر (ابن خلكان، ص257).




[5] سعد القاضي، مائة من الصحابة وقائدهم - صلى الله عليه وسلم -، ج2 ص125.




[6] شاكر مصطفى، التاريخ العربي والمؤرخون، ص 149، وللمزيد انظر (عبدالعليم عبدالرحمن خضر، المسلمون وكتابة التاريخ، ص83، ورسالة سابقة عروة بن الزبير فقهيًا، ص9.




[7] فتحية النبرواى، علم التاريخ دراسة في مناهج البحث، ص91، و هرنشو، علم التاريخ، ص53.




[8] شاكر مصطفى (مرجع سابق)، ص151 - 152.




[9] عبدالعزيز عبدالغنى إبراهيم، التاريخ تاريخه وتفسيره وكتابته، ص77.




[10] أمين مدنى، التاريخ العربي ومصادره، ج2 ص 174، وللمزيد انظر (محمد نصر مهنا، التدوين التاريخي ودور المخطوطات السياسية في العالم الإسلامي)، ص80.




[11] أحمد أمين، فجر الإسلام، ص175 - 176، وللمزيد انظر (شوقي أبو خليل، أطلس السيرة النبوية، أحمد بن محمد الأدنروي، طبقات المفسرين، ص5، الذهبي، تاريخ الإسلام، ج6 ص424 - 427، والتراجم والسير، ص 30.




[12] أبى نعيم أحمد بن عبدالله الأصفهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج2ص 180.




[13] الواقدي، المغازي، ص305 - 307، وللمزيد انظر (ابن كثير، البداية والنهاية، ج3 ص157 - 167، محمد الغزالي، فقه السيرة، ص 219، الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 406 - 610، ابن الأثير، الكامل في التاريخ، م2 ص81، يوسف بن إسماعيل النبهاني، غزوات الرسول، ص33، محمود محمد الطناحى، الموجز في مراجع التراجم والبلدان، ص42.




[14] انظر مصدر سابق (الواقدي)، ص20 - 21، وابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، ج4 ص349.




[15] انظر مرجع سابق (محمد فتح الله كولن)، ص 723.




[16] انظر مرجع سابق (محمد فتح الله كولن)، ص732.




[17] أبى عبدالله محمد بن حنبل، فضائل الصحابة، ج2 ص 733، والذهبي، العبر في خبر من غبر، ج1 ص 111.




[18] عبدالرحمن الحسناوي، تدوين التاريخ العربي من البدايات إلى مقدمة ابن خلدون، مجلة الرافد، صادرة عن دائرة الثقافة والإعلام.




[19] عبدالعزيز عبدالغنى إبراهيم، التاريخ تاريخه وتفسيره وكتابته، ص80.




[20] المرجع السابق نفسه (عبدالعزيز عبدالغنى إبراهيم)، ص 80، وللمزيد انظر (محمد يوسف الكاندهلوي، حياة الصحابة، ج1 ص514، شاكر مصطفى (التاريخ العربي والمؤرخون)، ص152.




[21] انظر (أبى القيم أحمد بن عبدالله الأصفهاني) مصدر سابق، ج2 ص180.




[22] يوسف رزين، نشأة علم التاريخ عند العرب، العدد 4032، 2013م.

عبد الله بن مسعود - الصحابي الجليل

ترجمته هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شَمْخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة ابن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هُذَيل بن مدركة بن إلياس، الهُذَلي المكي، صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد أفقه الصحابة رضوان الله عليهم الذين رووا علمًا كثيرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان أحد السابقين الأولين الذين أسلموا  قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم؛ إذ أخرج الطبراني والبزار وغيرهما عنه أنه قال: لقد رأيتني سادس ستة ما على وجه الأرض مسلم غيرنا.
روى عنه القراءة أبو عبد الرحمن السُّلَمي وعبيد بن فُضيلة وغيرهم، واتفق البخاري ومسلم في الصحيحين على أربعة وستين حديثًا، وانفرد له البخاري بواحد وعشرين حديثًا، ومسلم بخمسة وثلاثين.
وكنيته أبو عبد الرحمن، فقد روي عن علقمة عنه أنه قال: كنّاني النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبد الرحمن قبل أن يولد لي.
وكان يعرف أيضًا بأمه فيقال له: ابن أمّ عَبْد.وكان رضي الله عنه ءادم شديد الأدمة، نحيفًا قصيرًا دقيق الساقين، وكان لطيفًا فطنًا ومعدودًا في أذكياء العلماء. من مناقبههو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الذي كان أحد أعلم الصحابة الكرام، فقد ألهمه الله حب العلم وطلبه منذ نعومة أظفاره، فقد روى الإمام ابن الجوزي في «صفة الصفوة» عنه أنه قال: كنتُ غلامًا يافعًا أرعى غنمًا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقالا: يا غلام هل عندك لبن تسقينا فقلت: إني مؤتمن على الغنم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل عندك من جذعة لم يَنْزُ عليها الفحل قلت: نعم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرعها ودعا فامتلأ الضرع، فاحتلب، فشرب أبو بكر وشربت، ثم قال للضرع: اقلص، فقلص. ثم قلت له: عَلّمني من هذا القول، فقال: إنك غلام مُعَلَّم، فأخذت من فمه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد.
وكان أول شىء علمه عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكره الذهبي في سيره وغيره، عن لسان ابن مسعود أنه قال: قدمت مكة مع أناس من قومي نبتاع منها، فأرشدونا إلى العباس بن عبد المطلب فإذا هو جالس عند زمزم، فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من باب الصفا عليه ثوبان أبيضان، كأنه القمر ليلة البدر، يمشي على يمينه غلام حسن الوجه، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصد الحجر فاستلم واستلم الغلام واستلمت المرأة، ثم طافوا البيت سبعًا، ثم استقبل الركن فرفع يده، وكَبَّر وقام ثم ركع ثم سجد ثم قام، فأقبلنا  على العباس نسأله فقال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله، والغلام علي بن أبي طالب، والمرأة خديجة بنت خويلد امرأته. أما والله ما على وجه الأرض أحد نعلمه يعبد الله بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة.
كان ابن مسعود رضي الله عنه أحد أفقه الصحابة وأعلمهم بالقرءان، فقد تكلم الصحابة الأجلاء ومن جاء بعدهم فذكروا سعة علمه، ففي «صفة الصفوة» عن زيد بن وهب أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أقبل ذات يوم وعمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس فقال: كنيف مُلئ علمًا.
وسئل الإمام علي رضي الله عنه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عن أيهم تسألون قالوا: أخبرنا عن عبد الله بن مسعود، فقال: عُلّمَ  القرءان والسُّنَّة ثم انتهى.
وروى الذهبي في «سير أعلام النبلاء» أن أبا موسى الأشعري قال: لا تسألوني عن شىء ما دام هذا الحَبْرُ فيكم، يعني بـذلك ابـن مسعود رضي الله عنه.
وعن مسروق أنه قال: قال ابن مسعود: والذي لا إله غيره ما نزلت ءاية من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت وأعلم فيما نزلت، ولو أعلم أن أحدًا أعلم بكتاب الله مني تناله المطيُّ لأتيته.
وعن مسروق أيضًا أنه قال: شاممتُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة نفر منهم: عمر وعلي وعبد الله وأبيّ بن كعب وأبو الدرداء وزيد ابن ثابت،  ثم شاممتُ هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى رجلين: علي وعبد الله بن مسعود.
وقال علقمة: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بعرفة فقال: جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة وتركت بها رجلًا  يملي المصاحف عن ظهر قلبه، فغضب وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتَي الرحل، فقال: من هو ويحك فقال الرجل: عبد الله بن مسعود، فما زال عمر يطفأ ويسير عنه الغضب حتى عاد إلى حاله التي كان عليها ثم قال: ويحك، والله ما أعلم بقي من الناس أحد هو أحق بذلك منه، وسأحدثك عن ذلك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر الليلة كذلك في الأمر من أمر المسلمين، وإنه سَمَرَ عنده ذات ليلة وأنا معه، فخرج رسول الله وخرجنا معه فإذا رجل قائم يصلي في المسجد، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع قراءته ثم قال: «مَنْ سَرَّه أن يقرأ القرءان رطبًا كما أُنزل فليقرأه  على قراءة ابن أُمّ عَبْد» ثم جلس عبد الله يدعو، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: «سَلْ تُعْطَ».وفي سير الذهبي عن أبي الأحوص أنه قال: أتيت أبا موسى الأشعري وعنده ابن مسعود وأبو مسعود الأنصاري وهم ينظرون إلى مصحف، ثم خرج ابن مسعود فقال أبو مسعود: والله ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم ترك أحدًا أعلم بكتاب الله من هذا القائم، يعني بذلك عبد الله بن مسعود. ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهمما مدح به الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود ما رواه أبو نعيم في «حلية الأولياء» وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يصعد ويجتني سواكًا من الأراك وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه وتميله، فضحك القوم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما يضحككم» قالوا: من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحُد».
في سير الذهبي عن زهير بن معاوية عن منصور عن أبي إسحق عن الحارث عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنت مؤمرًا  أحدًا عن غير مشورة لأمَّرتُ عليهم ابن أُم عبد» يعني ابن مسعود.كما  أخــرج الحاكــم والذهبــي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد رضيتُ لكم ما رضي لكم ابن أم عبد». بعض كلامه ومواعظهلقد كان ابن مسعود رضي الله عنه كثير الحكم والمواعظ شديد التأثير في سامعيه، فمن شهير مواعظه قوله: إنكم في ممر من الليل والنهار في ءاجال منقوصة وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن زرع خيرًا فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرًا فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارعٍ مثل ما زرع. لا يَسْبق بطىء بحظه، ولا يُدرك حريصٌ ما لم يُقَدَّرْ له، فإن أُعطي خيرًا فالله أعطاه، ومن وُقِيَ شرًا فالله وقاه. المتقون سادة والفقهاء قادة، ومجالسهم زيادة.
ومن حكمه: ما قَلَّ وكفى خير مما كَثُرَ وألهى، ونفسٌ  تُنْجيها خير من إمارة لا تحصيها، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة ندامة يوم القيامة، وشر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى.
ومن بليغ كلامه ما رواه الطبراني أنه ارتقى الصفا  يومًا وأخذ لسانه وخاطبه قائلاً: يا لسان، قُلْ  خيرًا تغنم، واسكت عن شر تسلم، من قبل أن تندم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أكثر خطايا ابن ءادم من لسانه».
ومن مواعظه ما رواه ابنه عبد الرحمن، وهو أنه أتاه رجل فقال: يا أبـا عبد الرحمن عَلّمني كلمات جوامع نوافع، فقال له: لا تشرك بالله شيئًا، وزُلْ مع القرءان حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبل منه وإن كان بعيدًا بغيضًا، ومن جاءك بالباطل فاردُدْه عليه وإن كان حبيبًا قريبًا.
وعن أبي الأحوص أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: مع كل فَرْحة تَرْحة، وما مُلِئ بيت حَبْرة (سعة عيش) إلا مُلِئ عِبرة.
ومن حكمه في بيان حال الدنيا وساكنيها: ما منكم إلا ضيف وماله عاريَّة، فالضيف مرتحل، والعاريَّة مؤداة إلى أهلها.وفي «صفة الصفوة» لابن الجوزي عن سليمان بن مهران قال: بينما ابن مسعود يومًا معه نفر من أصحابه، إذ مر أعرابي فقال: علام اجتمع هؤلاء؟ فقال ابن مسعود: على ميراث محمد  يقتسمونه. يعني بذلك علم الدين؛ وذلك مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء». أي أنهم ورثوا عنهم العلم يتعلمونه ويعلمونه الناس. وفاتهذكر الذهبي عن عُبَيد الله بن عبد الله بن مسعود أنه توفي سنة اثنتين وثلاثين للهجرة وكذا قال ابن الجوزي، وعن ابن أبي عُتبة وابن بكير أنه مات سنة ثلاث  وثلاثين، وقال الذهبي: قلتُ لعله مات في أولها.
وكانت وفاته في المدينة المنورة ودفن في البقيع.
وفي سير الذهبي أن الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه زاره في مرض وفاته فقال له: ما تشتكي قال: ذُنوبي، فقال: فما تشتهي قال: رحمة ربي.رحم الله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

~ سلسلة عظماء اسلموا ~ الحلقة الثانية عشرة {الحاخام بولات .. يتحول إلى داعية للإسلام ! }

لقد تحدى الجميع واعتنق الدين الحنيف، فدخل نور الإيمان إلى قلبه، ومنذ ذلك اليوم وهو يعمل مؤذنًا ومقرئًا للقرآن ويقوم بتحفيظ كتاب الله الكريم، فضلاً عن أنه يعمل داعية للإسلام، وقد اهتدى على يديه خلق كثير..

إنه إبراهيم بن إسماعيل بولات من أوزيك (أوزبكستان).

إن رحلته مع الحق جاءت في وقت مبكر منذ كان صبيًّا في الثالثة عشرة من عمره، في هذه السن الباكرة بدأت الأسئلة القلقة تعصف بعقله وقلبه وكيانه كله.

كان يتعامل مع المسلمين من بني وطنه فيجد فيهم مودة ورحمة، كانوا يجلون الكبير، ويرحمون الصغير، ويعودون المريض، ويعطفون على المسكين. رآهم يتزاورون ويحب بعضهم بعضًا، والأهم أنه رأى فيهم حرصًا على الدين واستمساكًا بحفظ القرآن وأداء الصلوات برغم القهر الشيوعي الملحد الذي كان يمنع كل شكل من أشكال العبادة منذ وَلِي السلطة في البلاد، ولكن المسلمين الذين عرفهم لم يكونوا يرهبون هذا الإلحاد ولا رجاله، بل كانوا أقوياء بدينهم أعزة بما يؤمنون به، وكان فيهم كبرياء جميل يعلو فوق كل صغار الناس والأشياء من حولهم.

في المقابل كان الفتى يجد آباءه وأجداده وبني عشيرته من اليهود يخضعون في ذلة، وينافقون في رياء، وكان كل منهم يكنّ الكره لأخيه، والحقد للجميع من حوله.

ومع سنوات العمر والنضج العقلي بدأ الفتى يقرأ ويسمع ويقارن، راح يسأل ويبحث ويُعمِل عقله فيما يأتيه من إجابات.

وكانت الحقيقة أمامه أوضح من كل بيان، لقد وجد أن اليهودية -كما يتبعها ذووه- ليست إلا مجموعة من الأساطير والخزعبلات التي لا تقنع مؤمنًا يبحث عن الحق، وفي المقابل وجد في الإسلام إيمانًا وقوة ونورًا فعرف أنه الحق، واتخذ قراره بالفعل، فاعتنق الإسلام. لقد حدد مصيره بقوة وشجاعة وهو يعلم العنت من الحزب الشيوعي أولاً ثم من أهله وجيرانه اليهود ثانيًا، ولكنه لم يبال بشيء، بل أعطاه الإيمان قوة ومنعة جعلتاه محور أفئدة الناس. وما كان منه إلا أن أقام وليمة كبرى دعا إليها كل أهل البلدة؛ ليعلم الجميع أنه أصبح مسلمًا يدعو إلى الحق.

وكان أول من دعاهم هم أهله وعشيرته، فأسلمت زوجته وأبناؤه، ولم يزل بأبيه حتى أسلم هو الآخر قبل أن يموت بشهرين.

ماذا كنت تعمل قبل الإسلام؟

كنت حاخامًا في معبد، وأعمل نساجًا في مصنع بالمدينة، وبعد أن هداني الله إلى الحق تفرغت للدعوة، فأنا أعمل مؤذنًا ومحفظًا للقرآن هنا في الجامع الكبير في مرغلان، فضلاً عن أنني أسعى إلى هداية أكبر عدد من اليهود إلى الدين الحنيف.

نموذج من تواضع العلماء

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
يقول الذهبي في ترجمة نفسه في "معجم المحدثين" في الترجمة رقم 113 ما نصه :
" محمد بن أحمد الذهبي (المؤلف)
الذهبي ، المصنف ، محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز ابن الشيخ عبد الله التركماني الفارقي ثم الدمشقي الشافعي المقرئ المحدث ، مُخَرِّج هذا المعجم . وُلِد سنة ثلاث و سبعين ( و ستمائة) .
و أجاز له أبو زكريا ابن المصري و ابن أبي الخير و القطب ابن عصرون و القاسم الإربلي و عدة . و سمع بدمشق من عمر ابن القواس ، و ببعلبك من التاج ابن علوان و بالقاهرة من الدمياطي ، و بالقرافة من الأبرقوهي ، و بالثغر من الغرافي ، و بمكة من التوزري ، و بحلب من سنقر الزينبي ، و بنابلس من العماد ابن بدران . و جمع تواليف - يُقالُ مفيدة - و الجماعة يتفضلون و يثنون عليه ، و هو أخبر بنفسه و بنقصه في العلم و العمل ، و الله المستعان و لا قوة إلا به ، و إذا سلم لي إيماني فيا فوزي ". انتهى
و الذهبي رحمه الله توفي السنة الثامنة بعد الأربعين و السبع مائة . و بذلك يكون عمره خمسة و سبعين سنة .

سبحان الله بمجرد ما تقرأ ترجمة الإمام الذهبي لنفسه حتى يهجم عليك الشعور بالنقص والجهل ...

إنها حقا موعظة لمن كان له قلب من أدعياء العلم اليوم والمتطفلين على موائد المعرفة ..
و لا حول و لا قوة إلا بالله

عمر المختار.. نشأته واستشهاده

ولد الشيخ الجليل عمر المختار من أبوين صالحين عام 1862م وقيل 1858م، وكان والده مختار بن عمر من قبيلة المنفة من بيت فرحات وكان مولده بالبطنان في الجبل الأخضر، ونشأ وترعرع في بيت عز وكرم، تحيط به شهامة المسلمين وأخلاقهم الرفيعة، وصفاتهم الحميدة التي استمدوها من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

توفي والده في رحلته إلى مكة لأداء فريضة الحج، فعهد وهو في حالة المرض إلى رفيقه السيد أحمد الغرياني (شقيق شيخ زاوية جنزور الواقعة شرق طبرق) بأن يبلغ شقيقه بأنه عهد إليه بتربية ولديه عمر ومحمد، وتولى الشيخ حسين الغرياني رعايتهما محققاً رغبة والدهما، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم الحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الأخوان والقبائل الأخرى.

لقد ذاق عمر المختار - رحمه الله - مرارة اليتم في صغره، فكان هذا من الخير الذي أصاب قلبه الملئ بالإيمان وحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حيث التجأ إلى الله القوي العزيز في أموره كلها، وظهر منه نبوغ منذ صباه مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء، والفقهاء والأدباء والمربين الذين كانوا يشرفون على تربية وتعليم وإعداد المتفوقين من أبناء المسلمين ليعدوهم لحمل رسالة الإسلام الخالدة، ثم يرسلوهم بعد سنين عديدة من العلم والتلقي والتربية إلى مواطن القبائل في ليبيا وافريقيا لتعليم الناس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وتعاليمه الرفيعة. ومكث في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه، والحديث والتفسير..

أشهر شيوخه
ومن أشهر شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم، السيد الزروالي المغربي، والسيد الجواني، والعلامة فالح بن محمد بن عبدالله الظاهري المدني وغيرهم كثير، وشهدوا له بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة، وكان يقوم بما عليه من واجبات عملية أسوة بزملائه الذين يؤدون أعمالاً مماثلة في ساعات معينة إلى جانب طلب العلم وكان مخلصاً في عمله متفانياً في أداء ما عليه ولم يعرف عنه زملاؤه أنه أجل عمل يومه إلى غده، وهكذا اشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر، ولفتت شمائله أنظار أساتذته وزملائه وهو لم يزل يافعاً، وكان الأساتذة يبلغون الإمام محمد المهدي أخبار الطلبة وأخلاق كل واحد منهم، فأكبر السيد محمد المهدي في عمر المختار صفاته وما يتحلى به من خلال، وأصبح على إلمام واسع بشئون البيئة التي تحيط به، وعلى جانب كبير في الإدراك بأحوال الوسط الذي يعيش فيه، وعلى معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها، وتوسع في معرفة الأنساب والارتباطات التي تصل هذه القبائل بعضها ببعض، وبتقاليدها، وعاداتها، ومواقعها، وتعلم من بيئته التي نشأ فيها وسائل فض الخصومات البدوية وما يتطلبه الموقف من آراء ونظريات، كما أنه أصبح خبيرا بمسالك الصحراء وبالطرق التي كان يجتازها من برقة إلى مصر والسودان في الخارج وإلى الجغبوب والكفرة من الداخل، وكان يعرف أنواع النباتات وخصائصها على مختلف أنواعها في برقة، وكان على دراية بالأدواء التي تصيب الماشية ببرقة ومعرفة بطرق علاجها نتيجة للتجارب المتوارثة عند البدو ـ وهي اختبارات مكتسبة عن طريق التجربة الطويلة، والملاحظة الدقيقة، وكان يعرف سمة كل قبيلة، وهي السمات التي توضع على الإبل والأغنام والأبقار لوضوح ملكيتها لأصحابها، فهذه المعلومات تدل على ذكاء عمر المختار وفطنته منذ شبابه.

وصف عمر المختار
كان عمر المختار متوسط القامة يميل إلى الطول قليلاً، ولم يكن بالبدين الممتلئ أو النحيف الفارغ، أجش الصوت بدوي اللهجة، رصين المنطق، صريح العبارة، لا يمل حديثه، متزن في كلامه، تفتر ثناياه أثناء الحديث عن ابتسامة بريئة، أو ضحكة هادئة إذا ما اقتضاها الموقف، كثيف اللحية وقد أرسلها منذ صغره، تبدو عليه صفات الوقار والجدية في العمل، والتعقل في الكلام والثبات عند المبدأ وقد أخذت هذه الصفات تتقدم معه بتقدم السن.

تلاوته للقرآن الكريم وعبادته
كان عمر المختار شديد الحرص على أداء الصلوات في أوقاتها وكان يقرأ القرآن يومياً، فيختم المصحف الشريف كل سبعة أيام منذ أن قال له الإمام محمد المهدي السنوسي ياعمر (وردك القرآن) وقصة ذلك كما ذكرها محمد الطيب الأشهب، أنه استأذن في الدخول على الإمام محمد المهدي من حاجبه محمد حسن البسكري في موقع بئر السارة الواقع في الطريق الصحراوي بين الكفرة والسودان وعندما دخل على المهدي تناول مصحفاً كان بجانبه وناوله للمختار وقال: هل لك شيء آخر تريده؟ فقلت له: ياسيدي إن الكثيرين من الإخوان يقرؤون أوراداً معينة من الأدعية والتضرعات أجزتوهم قراءتها وأنا لا أقرأ إلا الأوراد الخفيفة عقب الصلوات فأطلب منكم إجازتي بما ترون  بقوله: (ياعمر وردك القرآن) فقبلت يده وخرجت أحمل هذه الهدية العظيمةtفأجابني (المصحف) ولم أزل بفضل الله احتفظ بها في حلي وترحالي ولم يفارقني مصحف سيدي منذ ذلك اليوم، وصرت مداوماً على القراءة فيه يومياً لأختم كل سبعة ايام، وسمعت من شيخنا سيدي احمد الريفي أن بعض كبار الأولياء يداوم على طريقة قراءة القرآن مبتدئاً (بالفاتحة) الى (سورة المائدة) ثم الى (سورة يونس) ، ثم الى (سورة الاسراء) ثم الى (سورة الشعراء) ، ثم الى (سورة الصافات) ثم إلى (سورة ق) ثم إلى آخر السلكة ومنذ ذلك الحين وأنا أقرأ القرآن من المصحف الشريف بهذا الترتيب.

إن المحافظة على تلاوة القرآن والتعبد به تدل على قوة الإيمان، وتعمقه في النفس، وبسبب الإيمان العظيم الذي تحلى به عمر المختار انبثق عنه صفات جميلة، كالأمانة والشجاعة، والصدق، ومحاربة الظلم، والقهر، والخنوع وقد تحلى هذا الإيمان في حرصه على أداء الصلوات في أوقاتها قال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا}.. وكان يتعبد المولى عز وجل بتنفيذ أوامره ويسارع في تنفيذها، وكان كثير التنفل في أوقات الفراغ، وكان قد ألزم نفسه بسنة الضحى وكان محافظاً على الوضوء حتى في غير أوقات الصلاة، ومما يروى عنه أنه قال: لا أعرف إنني قابلت أحداً من السادة السنوسية وأنا على غير وضوء منذ شرفني الله بالانتساب إليهم.

لقد كان هذا العبد الصالح يهتم بزاده الروحي اليومي بتلاوة القرآن الكريم، وقيام الليل واستمر معه هذا الحال حتى استشهاده.
فهذا المجاهد محمود الجهمي الذي حارب تحت قيادة عمر المختار وصاحبه كثيراً، يذكر في مذكراته أنه كان يأكل معه وينام معه في مكان واحد ويقول: (لم أشهد قط أنه نام لغاية الصباح، فكان ينام ساعتين او ثلاثاً على أكثر تقدير، ويبقى صاحياً يتلو القرآن الكريم، وغالباً ما يتناول الإبريق ويسبغ الوضوء بعد منتصف الليل ويعود الى تلاوة القرآن ، لقد كان على خلق عظيم يتميز بميزات التقوى والورع، ويتحلى بصفات المجاهدين الأبرار.

وأما الأستاذ محمد الطيب الأشهب فقد قال: وقد عرفته معرفة طيبة وقد مكنتني هذ المصاحبة من الاحتكاك به مباشرة، فكنت أنام بخيمته والى جانبه وأهم ماكنت امقته منه رحمه الله وأنا وقت ذاك حديث السن هو أنه لا يتركنا أن ننام إذ يقضي كل ليلة يتلو القرآن ويقوم مبكراً فيأمرنا بالوضوء بالرغم عما نلاقيه من شدة البرد ومتاعب السفر.

وكأني أراه من خلف السنين وهو قائم يصلي لله رب العالمين في وديان وجبال وكهوف الجبل الأخضر وقد التف ببرده الأبيض في ظلمة الليل البهيم وهو يتلو كتاب الله بصوت حزين، وتنحدر الدموع على خدوده من خشية العزيز الرحيم. قال تعالى: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور} سورة فاطر ، الآية 

لقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر بذلك فقال: (عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء) وقد حذر الرسول الكريم من هجر القرآن فقال: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخَرِبْ(
قال الشاعر:

قم في الدجى واتل الكتاب
ولا تنم إلا كنومة حائر ولهان
فلربما تأتي المنية بغتة
فتساق من فرش الى الاكفان
ياحبذا عينان في غسق الدجى
من خشية الرحمن باكيتان
اعرض عن الدنيا الدنيئة زاهداً
فالزهد عند أولى النهى زهدان
زهد عن الدنيا وزهد في الثناء
طوبى لمن أمسى له الزهدان
إن من أسباب الثبات الذي تميز به عمر المختار حتى اللحظات الأخيرة من حياته إدمانه على تلاوة القرآن الكريم والتعبد به وتنفيذ أحكامه، لأن القرآن الكريم مصدر تثبيت وهداية وذلك لما فيه من قصص الأنبياء مع أقوامهم، ولما فيه من ذكر مآل الصالحين، ومصير الكافرين والجاحدين وأوليائه بأساليب متعددة.

لقد كان عمر المختار يتلوا القرآن الكريم بتدبر وإيمان عظيم فرزقه الله الثبات وهداه طريق الرشاد، ولقد صاحبه حاله في التلاوة حتى النفس الأخير، وهو يساق إلى حبل المشنقة وهو يتلو قوله تعالى :{يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية.} سورة الفجر
 شجاعته وكرمه
إن هذه الصفة الجميلة تظهر في سيرة عمر المختار منذ شبابه الباكر ففي عام 1311هـ (1894م) تقرر سفر عمر المختار على رأس وفد إلى السودان يضم كل من السيد خالد بن موسى، والسيد محمد المسالوسي، وقرجيله المجبري وخليفة الدبار الزوي أحد اعضاء زاوية واو بفزان (وهو الذي روى القصة) وفي الكفرة وجد الوفد قافلة من التجار من قبيلتي الزوية والمجابرة، وتجار آخرين من طرابلس وبنغازي تتأهب للسفر إلى السودان، فانضم الوفد إلى هؤلاء التجار الذين تعودوا السير في الطرق الصحراوية، ولهم خبرة جيدة بدروبها وعندما وصل المسافرون إلى قلب الصحراء بالقرب من السودان قال بعض التجار الذين تعودوا المرور من هذا الطريق إننا سنمر بعد وقت قصير بطريق وعر لا مسلك لنا غيره ومن العادة - إلا في القليل النادر- يوجد فيه أسد ينتظر فريسته من القوافل التي تمر من هناك، وتعودت القوافل أن تترك له بعيراً كما يترك الإنسان قطعة اللحم إلى الكلاب أو القطط، وتمر القوافل بسلام واقترح المتحدث أن يشترك الجميع في ثمن بعير هزيل ويتركونه للأسد عند خروجه، فرفض عمر المختار بشدة قائلاً: (إن الأتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف بدون حق أبطلت فكيف يصح لنا أن نعيد أعطاءها للحيوان إنها علامة الهوان والمذلة. إننا سندفع الأسد بسلاحنا إذا ما اعترض طريقنا) وقد حاول بعض المسافرين أن يثنيه عن عزمه، فرد عليهم قائلاً: أنني أخجل عندما أعود وأقول أنني تركت بعيراً إلى حيوان اعترض طريقي وأنا على استعداد لحماية ما معي وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، إنها عادة سيئة يجب أن نبطلها، وما كادت القافلة تدنو من الممر الضيق حتى خرج الأسد من مكانه الذي اتخذه على إحدى شرفات الممر فقال أحد التجار وقد خاف من هول المنظر وارتعشت فرائصه من ذلك: أنا مستعد أتنازل عن بعير من بعائري ولا تحاولوا مشاكسة الأسد، فانبرى عمر المختار ببندقيته وكانت من النوع اليوناني ورمى الأسد بالرصاصة الأولى فأصابته ولكن في غير مقتل واندفع الأسد يتهادى نحو القافلة فرماه بأخرى فصرعته، وأصر عمر المختار على أن يسلخ جلده ليراه أصحاب القوافل فكان له ما أرد.

إن هذه الحادثة تدلنا على شجاعة عمر المختار وقد تناولتها المجالس يومذاك بمنتهى الإعجاب وقد سأل الأستاذ محمد الطيب الأشهب عمر المختار نفسه عن هذه الحادثة في معسكر المغاربة بخيمة السيد محمد الفائدي عن هذه الواقعة فأجاب بقوله: تريدني يا ولدي أن أفتخر بقتل صيد قال لي ما قاله قديماً أحد الأعراب لمنافسه وقد قتل أسداً (أتفتخر عليّ بأنك قتلت حشرة) وامتنع عمر المختار بقول الله تعالى : {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}} سورة الانفال

إن جواب عمر المختار بهذه الآية الكريمة يدل على تأثره العميق بالقرآن الكريم، لأنه تعلم أن أهل الإيمان والتوحيد في نظرتهم العميقة لحقيقة الوجود، وتطلعهم إلى الآخرة ينسبون الفضل إلى العزيز الوهاب سبحانه وتعالى، ويتخلصون من حظوظ نفوسهم، فهو الذي مرّ كثيراً على دعاء نبي الله يوسف عليه السلام:  {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} سورة يوسف: الآية 101

وهو الذي تعلم من سيرة ذي القرنين هذا المعنى الرفيع والذي لابد من وجوده في الشخصية القيادية الربانية في قوله تعالى: {هذا رحمة من ربي....} (سورة الكهف، الآية 98)، فعندما بنى السد، ورفع الظلم، وأعان المستضعفين نسب الفضل إلى ربه سبحانه وتعالى.

إن عمر المختار كان صاحب قلب موصول بالله تعالى، فلم تسكره نشوة النصر، وحلاوة الغلبة بعد ما تخلص من الأسد الأسطورة وأزاح الظلم وقهر التعدي بل نسب الفضل إلى خالقه ولذلك أجاب سائله بقوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} سورة الانفال، الآية 17

إن صفة الشجاعة ظهرت في شخصية عمر المختار المتميزة في جهاده في تشاد ضد فرنسا، وفي ليبيا ضد ايطاليا ويحفظ لنا التاريخ هذه الرسالة التي أرسلها عمر المختار رداً على رسالة من الشارف الغرياني الذي أكرهته ايطاليا ليتوسط لها في الصلح مع عمر المختار وإيقاف الحرب.

قال بعد البسملة والصلاة على رسول الله القائل أن الجنة تحت ظلال السيوف.
إلى أخينا سيدي الشارف بن أحمد الغرياني حفظه الله وهداه، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ومغفرته ومرضاته. نعلمكم أن إيطاليا إذا أرادت أن تبحث معنا في أي موضوع تعتقد أنه يهمها ويهمنا فما عليها إلا أن تتصل بصاحب الأمر ومولاه سيدي السيد محمد إدريس ابن السيد محمد المهدي ابن السيد محمد السنوسي رضي الله عنهم جميعاً، فهو الذي يستطيع قبول البحث معهم أو رفضه، وأنتم لا تجهلون هذا بل وتعرفون إذا شئتم أكثر من هذا ومكان سيدي إدريس في مصر معروف عندكم وأما أنا وبقية الإخوان المجاهدين لا نزيد عن كوننا جند من جنوده لا نعصي له أمراً ونرجو من الله سبحانه وتعالى أن لا يقدر علينا مخالفته فنقع فيما لا نريد الوقوع فيه.. حفظنا الله وإياكم من الزلل..

 نحن لا حاجة عندنا إلا مقاتلة أعداء الله والوطن وأعدائنا وليس لنا من الأمر شيء إذا ما أمرنا سيدنا وولى نعمتنا رضي الله عنه ونفعنا به بوقف القتال نوقفه وإذا لم يأمرنا بذلك فنحن واقفون عند ما أمرنا به ولا نخاف طيارات العدو ومدافعه ودباباته وجنوده من الطليان والحبش والسبايس المكسرين (هؤلاء الآخرين هم المجندون من بعض الليبيين) ولا نخاف حتى من السم الذي وضعوه في الآبار وبخوا به الزروع النابتة في الأرض نحن من جنود الله وجنوده هم الغالبون، ونحن لا نريد لكم ما يدفعكم إليه النصارى وظننا بكم خير. والله يوفقنا ويهدينا وإياكم إلى سبل الرشاد وإلى خدمة المسلمين ورضاء سيدنا رضي الله عنه وسلام الإسلام على من تبع الإسلام.

 إعدام شيخ الجهاد في بلادنا الحبيبة
وفي يوم 16 سبتمبر من صباح يوم الأربعاء من سنة 1931 عند الساعة التاسعة صباحاً نفذ الطليان في (سلوق) جنوب مدينة بنغازي حكم الإعدام شنقاً في شيخ الجهاد وأسد الجبل الأخضر بعد جهاد طويل ومرير.

ودفعت الخسة بالايطاليين أن يفعلوا عجباً في تاريخ الشعوب، وذلك أنهم حرصوا على أن يجمعوا حشداً عظيماً لمشاهدة التنفيذ فأرغموا أعيان بنغازي، وعدداً كبيراً من الأهالي من مختلف الجهات على حضور عملية التنفيذ فحضر مالا يقل عن عشرين الف نسمة. على حد قول غراسياني في كتاب برقة الهادئة.

ويقول الدكتور العنيزي ( لقد أرغم الطليان الأهالي والأعيان المعتقلين في معسكرات الاعتقال والنازلين في بنغازي على حضور المحاكمة، وحضور التنفيذ وكنت أحد أولئك الذين أرغمهم الطليان على المحاكمة، ولكني وقد استبد بي الحزن شأني في ذلك شأن سائر أبناء جلدتي، لم أكن استطيع رؤية البطل المجاهد على حبل المشنقة فمرضت، ولم يعفني الطليان من حضور التنفيذ في ذلك اليوم المشئوم، إلا عندما تيقنوا من مرضي وعجزي عن الحضور .

ويالها من ساعة رهيبة تلك التي سار المختار فيها بقدم ثابتة وشجاعة نادرة وهو ينطق بالشهادتين إلى حبل المشنقة، وقد ضل المختار يردد الشهادتين أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمد رسول الله.

لقد كان الشيخ الجليل يتهلهل وجهه استبشاراً بالشهادة وارتياحاً لقضاء الله وقدره، وبمجرد وصوله إلى موقع المشنقة أخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الإعدام على انخفاض، وبصوت مدوي لمنع الأهالي من الاستماع إلى عمر المختار إذ ربما يتحدث إليهم أو يقول كلاماً يسمعونه، وصعد حبل المشنقة في ثبات وهدوء .

وهناك أعمل فيه الجلاد حبل المظالم فصعدت روحه الطاهرة إلى ربها راضية مرضية، هذا وكان الجميع من أولئك الذين جاءوا يساقون إلى هذا المشهد الرهيب ينظرون إلى السيد عمر وهو يسير إلى المشنقة بخطى ثابتة، وكانت يداه مكبلتين بالحديد وعلى ثغره ابتسامة راضية، تلك الابتسامة التي كانت بمثابة التحية الأخيرة لأبناء وطنه، وقد سمعه بعض المقربين منه ومنهم ليبيون أنه صعد سلالم المشنقة وهو يؤذن بصوت هادئ آذان الصلاة وكان أحد الموظفين الليبيين من أقرب الحاضرين إليه، فسمعه عندما وضع الجلاد حبل المشنقة في عنقه يقول: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية} (سورة الفجر: آية 27،28).

لقد استجاب الله دعاء الشيخ الجليل وجعل موته في سبيل عقيدته ودينه ووطنه لقد كان يقول: (اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة)

زياد علي

زياد علي محمد