الحمدُ لله الذي انْعم علينا بالإسلام، وَ رزقـنَـا هذه الهداية بعد الجهْل والضَـلال، وصلّى الله على سيّدنا محمّد الهادي البشير، وَ السّراج المنـير،
وعلى آله وصحْبه، ومَنْ تَبعه إلى يوْمِ الدين ..
وبـعْـد ..
السلامُ عليكم و رحمةُ اللهِ و برَكاته
أخوتي و أخَواتي في الله
أتمنى مِنْ الله عز و جل أن تكونوا جميعاً بأفضل حال
دخول عمر بن الخطاب القدس واستكمال فتح الشام
الكـاتب : موقع قصة الإسلام
مقدمة:
بعد أن عقد عمر - رضي الله عنه - صلحاً مع أهل القدس، وأعطاهم الأمان، ما عدا اليهود؛ توجه - رضي الله عنه - بجيشه من الجابية لدخول القدس؛ فلما اقترب منها، ورآها من بعيد صعد على جبل وكبر، فكبر المسلمون، وسمي هذا الجبل بجبل المكبر، ودخل " عمر" - رضي الله عنه - القدس ليلاً، وحينما دخل بحث عن "كعب الأحبار" - رضي الله عنه - (الذي كان يهودياً ثم أسلم)، وسأله عن مكان الصخرة (أي المسجد الأقصى) (وكان أمير القدس قد حاول أن يضلله عن مكانه) (عن تاريخ الطبري) فقال: يا أمير المؤمنين اذرع من وادي جهنم كذا وكذا ذراعاً فهي ثَمَّ (هناك)؛ فذرعوا فوجدوها، وقد اتخذها النصارى مزبلة كما فعلت اليهود بمكان القمامة وهو المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي شبه بعيسى، فاعتقدت النصارى واليهود أنه المسيح، وقد كذبوا في اعتقادهم هذا كما نص الله - تعالى - على خطئهم في ذلك، والمقصود أن النصارى لما حكموا بيت المقدس قبل البعثة بنحو من ثلثمائة سنة طهروا مكان القمامة، واتخذوه كنيسة هائلة بنتها أم الملك قسطنطين باني المدينة المنسوبة إليه، واسم أمه هيلانة الحرانية البندقانية، وأمرت ابنها فبنى للنصارى بيت لحم على موضع الميلاد، وبنت هي على موضع القبر فيما يزعمون، والغرض أنهم اتخذوا مكان قبلة اليهود مزبلة أيضاً في مقابلة ما صنعوا في قديم الزمان وحديثه، فلما فتح عمر بيت المقدس، وتحقق موضع الصخرة؛ أمر بإزالة ما عليها من الكناسة حتى قيل: إنه كنسها بردائه، (وفعل ذلك معه الصحابة والتابعين) حتى طهر الباب فدخلوا إلى الساحة، وصلى عمر - رضي الله عنه - في محراب داود ركعتين تحية المسجد، ثم انقضى الليل، وجاء الفجر؛ فأَذَّنَ المؤذن لصلاة الفجر وهي أول مرة يُؤَذَّن فيها في القدس الشريف.
وصَلَّى عمر بن الخطاب بالناس، وصلى الركعة الأولى بسورة (ص)، وسجد فيها سجدة داود، وصلى في الركعة الثانية بصدر سورة الإسراء، وبعد الصلاة عادوا لتنظيف بقية أنحاء المسجد، ثم قرر المسلمون بناء المسجد الأقصى لأنه كان مجرد سور بداخله مساحة واسعة فقط، فاستشار عمر بن الخطاب كعباً: أين يضع المسجد؟ فأشار عليه بأن يجعله وراء الصخرة (القدس شمال مكة، فلو بنى المسجد خلف الصخرة؛ عندئذٍ من يتجه نحو القبلة في البيت الحرام ستكون الصخرة حائلاً بينه وبين القبلة) فضرب في صدره وقال: يا ابن أم كعب ضارعت اليهود (أي أن كعباً كان يريد أن يجعل قبلة اليهود والمسلمين واحدة إلى الصخرة ) وأمر ببنائه في مُقَدِّم بيت المقدس "أمام الصخرة".
تاريخ المسجد الأقصى:
تاريخ بناء المسجد الأقصى يعود إلى قديم الزمان، إذ بُني بعد المسجد الحرام بنحو 40 عاماً لحديث أَبَي ذَرٍّ يَقُولُ: ساًلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ؟ قاًل: الْمَسْجِدُ الْحَراًمُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيّ؟ قاًلَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُماً؟ قاًلَ: أَرْبَعُونَ عاًمً، ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ فَحَيْثُماً أَدْرَكَتْكَ الصَّلاًةُ فَصَلِّ. رواه مسلم
والذي بنى المسجد الأقصى هو إبراهيم - عليه السلام - غالباً، ولم يُصَرَّحْ بذلك بوضوح، ولكن يُعْرَف من هذا الحديث؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - كان يعيش في أرض فلسطين، وهذا البناء بني في عصر سيدنا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -.
كان دخول عمر بن الخطاب القدس في رجب من عام 16هـ، وهذا ربما يلفت أنظارنا أن حادثة الإسراء والمعراج حدثت في نفس الشهر عام 10 قبل البعثة، فيتكرر دخول عمر بن الخطاب القدس لتحريرها من الروم في نفس الشهر الذي أسري به الرسول إلى المسجد الأقصى، وربما يكون في ذلك إشارة (كما أن صلاح الدين الأيوبي فتح القدس في 27 رجب، وحررها بعد 91 سنة من احتلال الصليبيين), وإن شاء الله يتكرر ذلك قريباً.
للمسجد الأقصى خاصية أنه يمكن للمسلم أن يسافر، ويشد الرحال إليه، وأنه مسرى رسول لله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وهذا تشريف كبير له، فلا يجوز أن يسافر المسلم من بلد لآخر بغرض الصلاة في أي مسجد غير هذه المساجد الثلاثة.
عُرِفَ المسجدُ الأقصى في التاريخ ببيت المقدس، وأول مرة يسمى فيها بـ(المسجد الأقصى) عندما نزلت الآية الكريمة: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) فالله - سبحانه وتعالى - هو الذي سماه هذا الاسم، والأقصى بمعنى الأبعد أي الأبعد عن مكة، وهي أول مرة يذكر فيها، وبعدها عرف عند المسلمين بهذا الاسم.
بذلك تسلم عمر بن الخطاب المقاليد، وتم فتح القدس بعد نحو 4 أعوام من الحروب والمعارك المتلاحقة داخل أراضي الشام، وأصبحت أرض فلسطين منذ ذلك الحين أرضاً إسلامية.
حقيقة الأرض الإسلامية:
أي أرض حُكِمَتْ في فترة من الزمان ولو ليوم واحد بالإسلام؛ أصبحت أرضاً إسلامية، حتى لو بَعُدَ هذا الزمان عنّاً بألف عام تظل أرضاً إسلامية، ولا يهمنا في هذا الصدد التقسيمات الجديدة، وسيادة الدول على الحدود المصطنعة، فالدولة الإسلامية حدودها تصل إلى كل دولة حكمت بالإسلام في وقت ما، سواء كان ذلك من عام مضى، أو من عامين، أو من ألف وأربعمائة عام، هذا ما نعتقده، وهذا ما نؤمن به، فأرض فلسطين كلها إسلامية، وليست مدينة القدس فحسب على ما لها من أهمية أكبر لوجود المسجد الأقصى بها، ولكن بقية المدن الموجودة في فلسطين كلها أرض إسلامية، بل حتى "تل أبيب" أرض إسلامية؛ لأنها مدينة مبنية على أرض إسلامية يجب أن تحرر ممن يسكنها، سواء كان من يسكنها أحفاد القردة والخنازير أو غيرهم.
وعليه فإن الأندلس (إسبانيا) أرض إسلامية مهما عاش فيها عُبّاًدُ الصليب، أو عباد المسيح، ألف عام فهي أرض إسلامية، يجب على المسلمين تحريرها فرض عين عليهم مادامت قد حكمت يوماً واحداً بالإسلام، فكيف يكون الأمر إذا حكمت 8 قرون.
وكذلك أرض الهند أرض إسلامية حتى لو عاش فيها عباد البقر ألف عام، أو ألفي عام، لن نتهاون في تحريرها، ولا يهمنا في هذا الصدد القانون الدولي الجديد، ولا النظام الدولي الجديد، ولا يهمنا القوانين والتشريعات التي وضعها اليهود، والنصارى، والملحدون، ومن شايعهم، ولا يهمنا في ذلك الولايات المتحدة أمريكية كانت أو غير أمريكية، ولا يهمنا في ذلك شرقٌ أو غرب، ولا يهمنا في ذلك شياطين الإنس والجن، هذا شرع الله - سبحانه وتعالى -، ثابت لا يتغير، وجند الله ملتزمون بشرعه، ينفذونه في كل عصر وفي كل مكان.
وهذه ليست أحلاماً ولا أوهاماً وإنما هي عقيدة ومبادئ سيحققها الله - سبحانه وتعالى - يوماً مـا، ستحرر هذه الأراضي إن شاء الله كلها بالكامل، ستحرر الهند، وفلسطين، والأندلس، ستحرر كل البلاد التي حُكِمت بالإسلام من قبل، وسيأتي يوم تحرر فيه هذه البلاد جميعها (وَلَتَعْلَمُنَّ نبأَهُ بعدَ حِين).
لكن لن يحرر هذه البلاد عميل خائن باع نفسه للشيطان، ولن يحررها قائدٌ متسلط حمل البندقية ووجهها إلى صدر إخوانه وأهله، لن يحررها قائد تخلى عن شرف القيادة، ولكن يحررها جيش عقيدة كهذه الجيوش التي فتحتها، جيش يجعل من الإيمان السلاح الأول، ويجعل وجهته إلى الله - سبحانه وتعالى - لا إلى الشرق، ولا إلى الغرب، مهما كانت قوة الشرق والغرب، ذلك الجيش الذي يحقق سلاح الإيمان بالله أولاً، ثم يسعى بعد ذلك إلى السلاح المادي، ويحققه، هذا هو الجيش الذي سيحررها، مهما ضعفت الإمكانيات، حتى إن كان سلاحه الحجارة ستحرر هذه البلاد، ولو بحجارة من سجيل.
فالله - عز وجل - قادر على تحقيق ذلك، ولكن المهم أن يُوجَدَ جُندُ الله الراغبون في تحرير هذه البلاد، وهي ستتحرر ولا شَكَّ.
لم يتبق للمسلمين غير "قيسرية" و"يافا" في فلسطين، وكذلك الشام لم يتبق فيه إلا "طرابلس" ليصبح الشام كله مسلماً، وبعد فتح القدس؛ عاد "أبو عبيدة" إلى حمص، وعاد خليفة المسلمين "عمر بن الخطاب" - رضي الله عنه - إلى المدينة، وشرحبيل بن حسنة إلى الأردن، ويزيد بن أبي سفيان إلى دمشق، وظل عمرو بن العاص في فلسطين.
في بقية هذا العام 16هـ يفتح "معاوية بن أبي سفيان" مدينة طرابلس، وكان على مقدمة جيش "يزيد" بأمر "عمر بن الخطاب" - رضي الله عنه -.
محاولات رومية لاستراداد حمص وصمود قيسارية:
يأتي عام 17هـ ويكون أبو عبيدة في حمص آنذاك، وتفكر مجموعة من نصارى العرب، والروم الموجودين في الجزيرة (الموجودة بين دجلة والفرات) في الهجوم على المسلمين، فيتوجهوا بقوة لحصار حمص، وبها أبو عبيدة، فيقاتلهم أبو عبيدة وهو في حصنه، ويطول بينهما القتال، ولا يستطيع أن يفك الحصار، فتصل المعلومات إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ فيوجه الأوامر مباشرة إلى (سعد بن أبي وقاص) أمير العراق أن يرسل قوة من عنده لإنقاذ أبي عبيدة ((وهذه فائدة أن تكون الدولة الإسلامية متحدة، وأن تعرف القيادة المركزية ظروف كل منطقة))، يرسل سعد بن أبي وقاص قوتين: الأولى لمحاربة منطقة الجزيرة نفسها التي خرج منها المقاتلون، فأرسل ثلاثة جيوش، بقيادة "سهيل بن عدي" - رضي الله عنه -، و"عبد الله بن عبد الله بن عتبان"، و"عياض بن غنم" الذي قاد الجيوش الثلاثة حتى الجزيرة؛ لكي يقطع المدد عن الجيش الذي يحاصر حمص، وأرسل قوة أخرى إلى حمص مباشرة على رأسها "القعقاع بن عمرو" - رضي الله عنه - القائد المنقذ، الذي قبل أن يصل إلى حمص بثلاثة أيام بلغه نبأ انتصار المسلمين على الروم، وتمكُّن أبو عبيدة وجيشه من هزيمة الروم، وقتل عدد كبير منهم، وفرار الباقين.
احتار المسلمين عندئذٍ كيف يوزعون الغنائم، وقد وصلهم جيش "القعقاع" بعد انتصارهم، أيشركون عَمْراً في الغنيمة أم لا؟، فأرسلوا بذلك إلى "عمر بن الخطاب"، فرأى أن يُقْسَمَ له من الغنائم؛ لأن مجرد وجودهم قد أرهب الروم، كما أنهم لم يأت بهم إلا الجهاد ونجدة المسلمين، وقسم لهم فعلاً من الغنائم.
صمود قيسارية:
ولا يزال عمرو بن العاص - رضي الله عنه - محاصراً لقيسارية وهي مستعصية على الفتح منذ عام 16هـ، وذلك لأنها كانت من المدن الحصينة، وهي على حدود البحر الأبيض المتوسط، وبها حامية قوية جداً: 120 ألف مقاتل تجمعوا بعد اليرموك، وكان الروم حريصين على بقاء جزء منهم داخل الأراضي الشامية حتى يستطيعوا الدخول منه لحرب المسلمين، لكن بعد هزيمة الروم في حمص (الهزيمة الثانية) لم يفكر الروم في الهجوم على المسلمين مطلقاً حتى هذه اللحظة، لكن قوة (قيسارية) التي لا تستسلم، ولا تهزم؛ هي الوحيدة التي استعصت على المسلمين، وكانت (يافا) قد فتحت على يد "معاوية بن أبي سفيان" بعد أن جاءت أوامر من المدينة ليزيد بذلك.
وتنتهي سنة 17هـ دون سقوط "قيسارية"، وأصبحت هي المدينة الوحيدة في الشام كله التي لم تُفْتَحْ.
طاعون عمواس:
بحلول عام 18هـ يحدث حدث مروع كارثة تحدث للمسلمين في أرض الشام؛ لم يسبق لها مثيل في تاريخهم تلك هي "طاعون عمواس" ذلك الذي أصاب كثيرا من المسلمين، وكل من يصاب به يموت فوراً بعد 5 أيام على الأكثر، ولم يفلح أي نوع من الأدوية والعلاجات في علاج هذا الوباء الخطير.
والطاعون في لغة العرب يحمل أي نوع من الوباء (لا يُشترط أن يكون المرض المعروف الذي تنقله الفئران والبراغيث)، ولكن مِن وَصْفِ هذا المرض على لسان من رأوه يغلب على الظن أنه هو المرض المعروف الآن باسم (الطاعون)، وقد انقرض الآن من الدنيا والحمد لله، (لكنه عاد في الهند) ينتقل عن طريق الفئران والبراغيث، وظل الطاعون في أرض الشام شهوراً، بل إنه انتشر من "عمواس" إلى مدن أخرى كثيرة حتى أنه وصل إلى مدينة البصرة في العراق، ومات خلق كثير.
كان عدد المسلمين في أرض الشام بعد الفتوحات، وبعد إسلام بعض أهل الشام؛ بين 30 و36 ألف مسلم، وقد توفي منهم في هذا الوباء الخطير ما بين 25 و 30 ألف مسلم، أي أن نسبة الوفاة بلغت 80 بالمائة من الجيش الإسلامي الموجود في الشام، فكانت كارثة عظيمة على المسلمين لا تقارن بعدد شهداء المسلمين منذ بدء الحروب مع الكفار (من بدر) حتى لحظتهم هذه.
لما علم خليفة المسلمين "عمر بن الخطاب" - رضي الله عنه - بهذه الكارثة أراد أن يستنقذ أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - الذي كان قائد المسلمين في الشام، وكان يرى أنه لو مات أبو عبيدة فسيكون ذلك مشكلة كبيرة لبقية الجيش الإسلامي الموجود في الشام.
وكانت فتوحات المسلمين في فارس مستمرة، ولكنه أراد أن يستنقذ أبا عبيدة حتى يحافظ عليه قائداً لجيش المسلمين في أرض الشام، فأرسل له رسالة: (سلامٌ عليك، فإني قد عرضت إليَّ فيك حاجة، وأود أن أشافهك بها؛ فعزمتُ عليك إذا نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إلي، فإن أتاك ليلاً فلا تصبحْ حتى تركب إلي، وإن أتاك نهاراً فلا تُمْسِ حتى تركب إلي)، ولكن أبا عبيدة فهم رسالة عمر وقال: "غفر الله لأمير المؤمنين"، وأرسل له رسالة يقول له فيها: "يا أمير المؤمنين إني قد عرفتُ حاجتك إلي، وإني في جندٍ من المسلمين، لا أجد لنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله فيَّ وفيهم أمره وقضاءه، فَخَلِّني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي".
هذا هو أبو عبيدة أمين هذه الأمة، ونذكر ما قاله عنه الصديق - رضي الله عنه - أثناء توديعه لحروب الشام عندما قال له: (ما دعوتك إلا أني أردت أن أخبرك بمنزلتك عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإني والله بعد أن علمت هذه المنزلة لا أعدل على الأرض أحداً بك، أو بهذا الرجل (وأشار إلى عمر بن الخطاب)، ونعلم ما فعله كذلك يوم السقيفة حينما خَيَّر المسلمين بين أبي عبيدة، وعمر بن الخطاب؛ أن يبايعا أحدهما.
فلما قرأ عمر بن الخطاب كتابه بكى، فسأله المسلمون وهم يخشون أن يكون قد مات أبو عبيدة، فقال لهم: (لا، ولكن قـد.. ) أي أنه على وشك أن يموت، وهناك رواية أن "عمر" ذهب بنفسه إلى الشام حول مدينة عمواس وقد انتشر الوباء في أكثر من مدينة، فخرج إليه أبو عبيدة، ورفض عمر أن يدخل المدينة الموبوءة، فقال له أبو عبيدة: أتفِرُّ من قدر الله يا عمر؟، فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، إنما نفر من قدر الله إلى قدر الله.
أي أنه إنما يأخذ بالأسباب، فقضاء الله نافذٌ لا محالة، ولكن عمر لم يدخل مدينة عمواس، ورفض أبوعبيدة أن يعود معه، وعاد إلى داخل المدينة...
وأرسل عمر إلى أبي عبيدة - رضي الله عنهما - رسالة أخرى فقال له: "سلامٌ عليك، أما بعد فإنك أنزلت الناس أرضاً عميقة؛ فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة" يرى أن الحل ربما يكون في تغير المكان، فلما وصلت الرسالة أبا عبيدة استدعى أحد علماء الأرض، ومن الأدلة في أرض الشام وهو "طارق بن شهاب البجلي" فقال له: اختر لنا منزلاً، فعاد طارق إلى بيته ليعد راحلته، فوجد زوجته قد أصيبت بالطاعون وماتت، فرجع يبكي لأبي عبيدة ويقول له: لقد أصيبت زوجتي بالطاعون، وماتت.
وفاة أبي عبيدة ومعاذ ويزيد وشرحبيل رضى الله عنهم:
فعزّاًه أبو عبيدة، ولكن ما إن ينظر طارق إليه حتى يجده قد أصيب في رجله؛ وفي كفه؛ بالطاعون، فعلم أنه أصيب، فسأله عن هذه الآثار؛ فعلم أبو عبيده أنه قد أصيب، (وهذا ما كان يخشاه عمر)؛ فجمع أبو عبيدة الناس، وقام فيهم خطيباً فقال: "إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير، أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا وحجوا، واعتمروا وتواصوا، وانصحوا لأمرائكم، ولاتغشوهم، ولا تلهكم الدنيا؛ فإن امرءا لو عُمِّرَ ألفَ حَوْلٍ ما كان له بُدٌّ من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، وأكيسُهم أطوعهم لربه، وأعلمهم ليوم معاده، والسلام عليكم، صَلِّ بالناس يا معاذ"، ورد في خطبة أبي عبيدة في كتب التاريخ: "أيها الناس إن هذا الوجع رحمة من ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لنا حظاً منه، فطعن، فمات".
استخلاف معاذ - رضي الله عنه -:
واستخلف معاذ بن جبل، ومات - رضي الله عنه - وأرضاه عن عمر يناهز ثمانية وخمسين عاماً،
وكان قد أوصى أن يُدْفن في بيت المقدس، ثم عدَّل فيها وقال: ادفنوني حيث مِتُّ خوفاً أن تصبح سنة.
وفاة معاذ:
وقام "معاذ بن جبل" فقال للناس: "يا أيها الناس توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً، فإن عبداً لا يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له، من كان عليه دين فليقضه، فإن العبد يُرتهن بدينه، ومن أصبح منكم مهاجراً أخاه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاث، وهو الذنب العظيم، إنكم أيها المسلمون قد فُجِعْتُم برجل ما أزعم أني رأيت عبداً أبرَّ صدراً، ولا أبعد من الغائلة (من الحقد للناس)، ولا أشد حباً للعامة، ولا أنصح للعامة؛ منه، فترحموا عليه - رحمه الله -، واحضروا الصلاة عليه.
فَصَلَّى عليه المسلمون، ودُفن - رضي الله عنه - في أرض الشام.
في صباح هذا اليوم يسمع "معاذ" مقولة تسري بين المسلمين أن هذا الوباء "طوفان ورِجْز" أي كالذي عُذِّبَ به آل فرعون، فغضب معاذ لذلك غضباً شديداً لأن هذا ليس عذاباً من الله - سبحانه وتعالى -، فجمع الناس جميعاً (في نهاية هذا اليوم، وهناك روايات أنه بعدها) فقال لهم: أيها الناس لو أعلم أني أقوم فيكم بعد مقامي هذا ما تكلفت اليوم القيام فيكم (أي أنه يخشى أن يموت قبل أن يبلغهم ما يريد، ويخشى أن يكون قد أصيب بالطاعون، وقد أُصِيبَ فعلاً)، وقد بلغني أنكم تقولون هذا الذي وقع فيكم طوفان ورجز، والله ما هو طوفان ولا رجز، وإنما الطوفان والرجز كان عَذَّب الله به الأمم، ولكنها شهادة أهداها الله لكم، واستجاب فيكم دعوة نبيكم (- صلى الله عليه وسلم -) (أن تُوهب الشهادة لقومه؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن المطعون شهيد، فقد مات أبو عبيدة شهيداً، وكل من مات في هذا الطاعون شهداء).
ومات "معاذ بن جبل" - رضي الله عنه - في يومه ذاك وهو لم يبلغ الثامنة والثلاثين من عمره (وفي روايات 33 فقط)، فلم يتأَمَّر على الشام إلا يوماً واحداً في أصح الأقوال، ووصلت الأنباء إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في المدينة فحزن حزناً شديداً، وبكى بكاءً طويلاً حتى اخضلَّت لحيته بالدموع - رضي الله عنه -، واحتار في الأمر، ثم كتب كتاباً، وأمر على المسلمين (يزيد بن أبي سفيان) فأصبح يزيد أمير الشام كلها، وكان آنذاك لا يزال محاصراً لقيسرية بعد أن تركها له "عمرو بن العاص"، وكان معه في هذا الحصار "معاوية بن أبي سفيان" - رضي الله عنهما -، فتولى أمر المسلمين وهو لا يزال حول "قيسرية".
وفاة يزيد وشرحبيل:
وما هي إلا أيام حتى أصيب "يزيد بن أبي سفيان" - رضي الله عنه - بالطاعون أيضاً، فسقط شهيداً - رضي الله عنه - وهو أمير المسلمين الثالث؛ في غضون أقل من شهر.
فتصل الأنباء إلى عمر، فيزداد حزنه، ويقرر أن يقسم الشام إلى قسمين: شمالي وجنوبي، جعل على القسم الشمالي "معاوية بن أبي سفيان"، وعلى القسم الجنوبي "شرحبيل بن حسنة" - رضي الله عنهما -، وما هي إلا أيام ويسقط شرحبيل بن حسنة - رضي الله عنه - شهيداً صريعاً للطاعون.
وجمع عمر إمرة الشام كله لمعاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك عام 18 هـ، وبقيت في يده بأمر "عمر" حتى خلافة الحسن بن علي - رضي الله عنه -، وأحداث الفتنة، حتى أصبح أميراً للمؤمنين عام 40هـ.
لما عمَّ هذا البلاء على المسلمين قام عمرو بن العاص خطيباً في فلسطين، وقال: أيها الناس إن هذا البلاء ليس له حل إلا أن تهربوا في الشعاب، والأودية، والجبال، (لم يبق من المسلمين إلا 6 آلاف على أكثر تقدير)؛ فغضب لمقولته كثير من الصحابة، حتى إن أحدهم واسمه " أبو وائل الهذيلي " - رضي الله عنه - قام لعمرو بن العاص وقال له: كذبت.
عمر يرجع إلى الشام:
خشي المسلمون بعد ذلك لقلة أعدادهم من بطش الأعداء بعد هذا الطاعون، وخاصة أن الروم ذوو أعداد كبيرة، وعتاد ضخم، فداخل " قيسارية " يوجد 120 ألف رومي، وسبحان الذي ألقى في قلوبهم الرعب ولم يخرجوا للمسلمين حتى هذه اللحظة، ولكن "عمر بن الخطاب" خشي على بقية الجيش الإسلامي من أن يهاجمهم الروم؛ فبحث لهم عن المدد، وأعد لهم العدة، وذهب بنفسه - رضي الله عنه - إلى الشام، فانقمعت بذلك قلوب الأعداء كما يذكر ابن كثير؛ لأنه كان ذا رهبة كبيرة في قلوب الأعداء، وكان قد ذهب لهدفين رئيسيين:
الأول: إرهاب الأعداء حتى لا يأتوا بالقوة لأرض المسلمين، بعد تهديدهم بهذه الكارثة الرهيبة.
والثاني: هدف شرعي وهو الفصل في تقسيم المواريث بين المسلمين؛ لأنهم احتاروا في تقسيم مواريث (25 إلى 30 ألفاً) متوفى، وقسم مواريث 25 ألف متوفى بنفسه، ومكث فترة في أرض الشام في أواخر عام 18 هـ حتى زاد المدد، وازدادت شوكة المسلمين.
ولم يحدث في هذا العام أي هجوم على المسلمين من الروم على الرغم من أنها كانت فرصة سانحة ومواتية تماماً للقضاء على من تبقى من المسلمين.
وممن استشهد في الطاعون: ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الفضل بن العباس" - رضي الله عنه -، وكذلك "أبو جندل بن سهيل بن عمرو" - رضي الله عنه - الذي جاء إلى رسول الله بعد صلح الحديبية، وطلب أن يدخل في حلف المسلمين بعد أن أسلم، فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبيه، وكذلك "الحارث بن هشام" - رضي الله عنه - وهو أخو أبو جهل "عمرو بن هشام"، أسلم في فتح مكة، خرج للجهاد في الشام في فتح الشام كما ذكرنا في اليرموك، وخرج في سبعين من أهله؛ فاستشهدوا جميعاً في طاعون عمواس إلا أربعة.
وتوفي "أبو مالك الأشعري"، ومات الكثير من أبناء "خالد بن الوليد" - رضي الله عنه وأرضاه -، وابنا "معاذ بن جبل" وزوجته.
معاوية يفتح قيسارية:
بعد انقطاع الطاعون في أواخر عام 18هـ بقي للمسلمين مدينة واحدة فقط لم تفتح حتى هذه اللحظة وهي مدينة "قيسارية"، فذهب إليها معاوية بن أبي سفيان بنفسه، وحاصرها مدة طويلة (بلغت 6 سنوات)، ويأتيه في ليلة من الليالي رجل من اليهود اسمه يوسف؛ يقول له: أَمِّنِّي على نفسي، وأهلي، ومالي، وأنا أدلُّك كيف تدخل هذه المدينة، فيُؤَمنه معاوية؛ فَدَلَّه على سرداب تحت الأرض فيه المياه إلى حِقْوِ الرجل، وأخبره أن هذا المجرى من الماء يصل إلى داخل الحصون.
فدخل معاوية وجيشه من خلال هذا السرداب ليلاً، ولما دخل الجيش كله؛ كبر معاوية؛ فكبر المسلمون، وقام أهل المدينة فزعين، وفوجئوا بوجود المسلمين داخل الحصن، فأسرعوا ليفروا عن طريق السرداب؛ فوجدوا المسلمين عنده، ودارت معركة قاسية جداً، ولم يكن جيش المسلمين يتجاوز الـ17 ألف مجاهد مقابل 120 ألف رومي، وكتب الله النصر للمسلمين، وسقط من القتلى داخل الحصن 80 ألف رومي، ولم يُسْتَشهد عدد يذكر من المسلمين، وهرب الباقون؛ فلاحقهم المسلمون، وقتلوا منهم 20 ألفاً آخرين.
وتصل الأنباء إلى المدينة المنورة ليلاً فيكبر عمر، ويكبر المسلمون فرحاً بهذا النصر المبين، بعد هذه المصيبة التي كانت قد ألمت بالمسلمين في أرض الشام، وتكون أول ليلة من الفرح بعد ليال طويلة من الحزن لما حدث في طاعون عمواس، وبذلك تسقط آخر مدينة من مدن الشام، ويصبح الشام كله مسلماً عام 19هـ.