الجمعة، 23 أغسطس 2019

نفح العبير من لقاء الشيخين: العثيمين والخضير..بقلم: تميم بن عبد العزيز القاضي

..بقلم: تميم بن عبد العزيز القاضي

[متممة، منقحة]
في عصر يوم(الخميس) التاسع والعشرين من شهر صفر، لعام خمسة وثلاثين وأربع مائة بعد الألف من الهجرة النبوية، شرفت بالجلوس في لقاء من أمتع مجالس العلم.
جمع عَلَمين من أجلاء العلماء، وحَبرين دهاقنة الكتب والمخطوطات، على مستوى العالم العربي، أو قل العالم أجمع.
إنهما الشيخان الجليلان:
الشيخ د. عبد الرحمن العثيمين.
وفضيلة الشيخ: د.عبد الكريم الخضير.
وذلك في مجلس الشيخ العثيمين.
وبحضور الشيخين: د. أحمد القاضي، ود. عمر المقبل، وأربعة من الأفاضل.
امتد اللقاء من أول العصر إلى ما بعد أذان المغرب.
لقاء حافل، وثري، ومطارحات معرفية حول الكتب وطبعاتها(من مائتي سنة)، وأخذ ورد بين هذين (العملاقين) في ذلك المجال، فماذا عساك أن تأخذ أو أن تدع من تلك المحاورات العلمية البهيجة، والمواقف النادرة، وأخبار المكتبات والدور والمخطوطات، ونوادر النسخ والطبعات، فما إن ينتهي د.العثيمين من خبر طبعة إلا ويتبعها د.الخضير بنظيرها، وما إن يذكر هذا قصة مخطوط إلا ويتبعها صاحبه بمثلها، وتخلل ذلك الوقوف على بعض نوادر المخطوطات التي لم تطبع، وقد صورت لكم بعض صفحاتها.
وبعد الجلسة، أخذنا جولة معهما في مكتبة العثيمين النادرة، تخللها الكثير من الكلام على الكتب، وتقييم طبعاتها، ونقد (لاذع) لبعضها.
قد كانت نزهة معرفية مبهجة، ولذة علمية غامرة، تذكرت معها ما قيل عن لذة العلماء بكتبهم، والتي لم يعدلوا بها لذة عرس ولا مال.

***
[كنت قد نشرت وقفات من هذا اللقاء، كتبتها بعده على عجل، وأرسلته لبعض الخواص، ووعدتهم بإتمامه، فطارت به من ليلته الركبان، وانتشر في المشرق والمغرب، فرأيت أن أتمم بعض ما دونته من ذلك اللقاء، رجاء النفع للجميع، وربما امتزج التعبير العربي بالعامي، فهو حكاية عما حصل لا غير].
فمما دار في الجلسة:
-كان اللقاء السابق بين العلَمَين(العثيمين#الخضير): (بالفايت): حسب تعبير الشيخ عبد الكريم.
وتبين أن هذا (الفايت) قبل خمس وثلاثين سنة، في زيارة من الشيخ عبد الكريم لجامعة أم القرى.
*قضية: الاستكثار من الطبعات، أو الاقتصار على أحسنها.
كان رأي الشيخ العثيمين: عدم الاستكثار منها، فإذا طبع كتاب طبعة، ثم طبع أحسن منها، يستبعد السيئة، وينقل تعليقاته عليها، إلا إذا كانت السابقة طبعة قديمة جداً،(غير ملعوب بها) وأما الملعوب بها فيخرجها تماماً، لأنها تضيق المكان، يقول: لست مع من يبالغ في اقتناء الطبعات النفيسة(مثلاً: لسان العرب بعشرة آلاف ريال):
وأما الشيخ الخضير مع الاستكثار، كل نسخة لها ميزة.
-الخضير: ذكر خبر نسخة للآجرومية(طُبعت في روما قبل 600 سنة!!!) عام 1440م !!!
.. بيعت بتسعين ألف ريال.!!![[الأجرومية بتسعين ألف ريال]]
-العثيمين: عَرض علي واحد كتاب مخطوط نفيس جداً، طلب فيه (خمسين ألف ريال)، فرفضه، وصوره ابن عثيمين بخمسة آلاف، وقال: بعه على غيري.
-الخضير: سنة: 99، زرت الشيخ د. محمد مصطفى الأعظمي، فأراني لقطة من صحيح البخاري من تركيا، عليها تعليقات لابن سيد الناس، والحافظ العراقي، والهيثمي، ومجموعة من أهل العلم.
قال له الشيخ عبد الكريم : لماذا لم تصورها كاملة؟
قال الأعظمي: طلبوا على اللقطة الواحدة مثل هذه: ألف ريال، وهي 300 صفحة(يبون ثلاثمائة ألف).
قال الشيخ: لو أنك أتيت بها، وصورت ألف نسخة، وبعتها 1000، لأتت لك بمليون.
فقال الأعظمي: طيب .. لو أتيت بها، وبعتها على واحد بألف، وصورها وباعها بخمسين ريال: قعدت به.
قال الشيخ الخضير: قبل أسبوع: أرسل لي نظام يعقوبي هذه النسخة على ورق أفضل من الأصل.
قال د.العثيمين: وقد أرسل لي نسخة أيضاً.
قال الخضير: هناك نسختان: نسخة النويري(وهي التي أعني).
وهناك نسخة البقاعي.
-العثيمين: أنفس نسخ البخاري هي نسخة عبد المجيد البعلي، وخطه أحسن من المطبعة فيما نُقِل لي: نسخها، وقابلها أربع مرات، ولم يشذ عنها شيء، ويقولون: كان يتوضأ ويصلي ركعتين يسأل الله التسديد، فقرأه على ابن مالك صاحب الألفية، ليضبط شكله،(هي نسخة اليونيني، لأن يونين قرية من قرى بعلبك).
صارت تعرف باليونينية.
أحد المغاربة باع داره واشترى هذه النسخة.
الخضير: النسخة الأصل بحث عنها القسطلاني فلم يجدها، فوجد الفرع، وقابل نسخته على الفرع(18) مرة!! حتى ضبطها.
وبعد مده يقول: وجدت المجلد الثاني من الأصل، فقابل الفرع على الأصل، فلم يختلف ولا نقطة.
ولذا... إذا أراد في الشرح أن يبين اختلاف الروايات قال: (كذا في الفرع كأصله).
العثيمين: هناك مغربي يسمى محمد بن ناصر الدَّرعي، من علماء الحديث.
جاءته نسخة من نسخة اليونيني واشتراها بمائتي مثقال ذهباً (دِرعَة قرية من قرى المغرب، من قرى مدينة تامكروت(هكذا أظنها) شمال المغرب، مكتبة الحمزاوية).
وهي قرية مليانة مَلِي من المخطوطات، وحتى الآن.
قال العثيمين: وقد ذهبت لها، وصورت منها مئات المخطوطات.

حركة الفتوح في عهد معاوية

الحمدُ لله الذي انْعم علينا بالإسلام، وَ رزقـنَـا هذه الهداية بعد الجهْل والضَـلال، وصلّى الله على سيّدنا محمّد الهادي البشير، وَ السّراج المنـير،

وعلى آله وصحْبه، ومَنْ تَبعه إلى يوْمِ الدين ..

وبـعْـد ..




السلامُ عليكم و رحمةُ اللهِ و برَكاته

أخوتي و أخَواتي في الله
أتمنى مِنْ الله عز و جل أن تكونوا جميعاً بأفضل حال





حركة الفتوح في عهد معاوية
الكـاتب : موقع قصة الإسلام


حركة الفتوح في عهد معاوية كانت الغارات على بلاد الروم أثناء خلافة معاوية -رضي الله عنه- لا تنقطع صيفًا أو شتاءً، وكان الغرض من هذه الغارات استنزاف قوة العدو، والمحاولات الحثيثة لنشر الإسلام في هذه البلدان، ومن أشهر القواد المجاهدين في بلاد الروم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وبُسْر بن أرطأة الذي تقدم على رأس شاتية عام 43هـ حيث اقترب من القسطنطينية، ومالك بن هبيرة، وأبو عبد الرحمن القيني وعبد الله بن قيس الفزاري، وفضالة بن عبيد الأنصاري، وغيرهم كثير.

وكان هدف هذه الغزوات جميعها القسطنطينية، وفي عام 50هـ جهز معاوية حملة كبيرة من البر والبحر لتغزو القسطنطينية، وأعطى قيادة جيش البر لسفيان بن عوف الأزدي، وجعل ابنه يزيد في قيادة الحملة إلا أن يزيد لم يخرج مع الحملة، أما الأسطول فقد قاده بسر بن أرطأة، وحوصرت عاصمة الروم، وجرت اشتباكات بين الطرفين خسر فيها المسلمون خسائر كبيرة، فعمل معاوية على إرسال نجدة كبيرة بقيادة ابنه يزيد ومعه أبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن العباس.

وبوصول النجدة ارتفعت معنويات المجاهدين فاشتد الحصار، وأصاب المسلمون من الروم وإن لم يستطيعوا فتح القسطنطينية، وقد استُشهِد في هذا القتال أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- وعبد العزيز بن زرارة الكلابي، وقد كانا على رأس الذين يثيرون حماسة المجاهدين.

استطاع معاوية -رضي الله عنه- أن يضيق الخناق على الدولة البيزنطية بالحملات المستمرة والاستيلاء على جزر رودس وأرواد، وقد كان لجزيرة أرواد أهمية خاصة لقربها من القسطنطينية، حيث اتخذ منها الأسطول الإسلامي في حصاره الثاني للمدينة أو حرب السنين السبع 54- 60هـ قاعدة لعملياته الحربية، وذلك أن معاوية -رضي الله عنه- أعد أسطولاً ضخمًا وأرسله ثانية لحصار القسطنطينية، وظل مرابطًا أمام أسوارها من سنة 54هـ إلى سنة 60هـ، وكانت هذه الأساطيل تنقل الجنود من هذه الجزيرة إلى البر لمحاصرة أسوار القسطنطينية، وقد أرهق هذا الحصار البري والبحري والبيزنطيين كما أنزل المسلمون بالروم خسائر فادحة، وعلى الرغم من ذلك فلم يستطع المسلمون فتح القسطنطينية.

ومن أجل بناء أسطول إسلامي بحري قوي، أقام معاوية -رضي الله عنه- دارًا لصناعة السفن البحرية في جزيرة الروضة بمصر عام 54هـ.

كما نفذ معاوية خطة لنقل أعداد من العرب المسلمين إلى الجزر في البحر الأبيض المتوسط؛ لحمايتها ونشر الإسلام على ربوعها.

فتم نزول المسلمين بصقلية عام 48هـ، واستطاع فضالة بن عبيد الأنصاري فتح جزيرة (جربا) عام 49هـ، وقد سار إليها على رأس شاتية في ذلك العام.

وعندما تولى معاوية بن حديج أَمْرَ المغرب فتح بنزرت عام 41هـ، كما دخل قمونية موضع القيروان عام 45هـ، وأرسل عبد الله بن الزبير ففتح سوسة في العام نفسه، ورجع معاوية بن حديج إلى مصر فتولى أمر المغرب رويفع بن ثابت الأنصاري، وبقي عقبة بن نافع على برقة ففتح (سرت) و(مغداس) وأعاد فتح ودَّان، ودخل فزَّان، ووصل إلى جنوبها إلى كاوار، ودخل غدامس وقفصة وابتنى القيروان، كما فتح كورًا من بلاد السودان.

وفي عام 50هـ تولى أمر مصر مسلمة بن مخلد فعزل عقبة بن نافع عن أمر المغرب وولَّى أبا المهاجر دينار فوصل إلى المغرب الأوسط، هذا ما كان أيام معاوية في إفريقية.

أما في الجبهة الشرقية للدولة الإسلامية فقد غزا المسلمون بلاد اللان عام 41هـ، وفتحوا الرخج وغيرها من بلاد سجستان عام 43هـ، ودخل الحكم بن عمرو الغفاري منطقة القيقان في طخارستان وغنم غنائم كثيرة عام 45هـ، كما فتح المسلمون قوهستان، وفي عام 55هـ قطع عبيد الله بن زياد نهر جيحون ووصل إلى تلال بخارى.

وغزا المسلمون في عام 44هـ بلاد السند بإمرة المهلب بن أبي صفرة كما غزوا جبال الغور عام 47هـ، وكان المهلب مع الحكم بن عمرو الغفاري، وكان سكان المنطقة الشرقية ينكثون بالعهد مرة بعد أخرى، ويعود المسلمون لقتالهم ودخول أراضيهم؛ لذلك نلاحظ أن مناطق تلك الجهات قد فُتِحَت عدة مرات، واستمرت مدة من الزمن على هذه الحال حتى دانت نهائيًا أيام الوليد بن عبد الملك.

والحق أن ثمرة الفتوحات الإسلامية التي تجلت في عهد الوليد بن عبد الملك -رحمه الله- كانت النتيجة الطبيعية لسياسة الخلافة الأموية التي ابتدأها معاوية -رضي الله عنه-.

دخول عمر بن الخطاب القدس واستكمال فتح الشام

الحمدُ لله الذي انْعم علينا بالإسلام، وَ رزقـنَـا هذه الهداية بعد الجهْل والضَـلال، وصلّى الله على سيّدنا محمّد الهادي البشير، وَ السّراج المنـير،

وعلى آله وصحْبه، ومَنْ تَبعه إلى يوْمِ الدين ..

وبـعْـد ..




السلامُ عليكم و رحمةُ اللهِ و برَكاته

أخوتي و أخَواتي في الله
أتمنى مِنْ الله عز و جل أن تكونوا جميعاً بأفضل حال





دخول عمر بن الخطاب القدس واستكمال فتح الشام

الكـاتب : موقع قصة الإسلام

مقدمة:

بعد أن عقد عمر - رضي الله عنه - صلحاً مع أهل القدس، وأعطاهم الأمان، ما عدا اليهود؛ توجه - رضي الله عنه - بجيشه من الجابية لدخول القدس؛ فلما اقترب منها، ورآها من بعيد صعد على جبل وكبر، فكبر المسلمون، وسمي هذا الجبل بجبل المكبر، ودخل " عمر" - رضي الله عنه - القدس ليلاً، وحينما دخل بحث عن "كعب الأحبار" - رضي الله عنه - (الذي كان يهودياً ثم أسلم)، وسأله عن مكان الصخرة (أي المسجد الأقصى) (وكان أمير القدس قد حاول أن يضلله عن مكانه) (عن تاريخ الطبري) فقال: يا أمير المؤمنين اذرع من وادي جهنم كذا وكذا ذراعاً فهي ثَمَّ (هناك)؛ فذرعوا فوجدوها، وقد اتخذها النصارى مزبلة كما فعلت اليهود بمكان القمامة وهو المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي شبه بعيسى، فاعتقدت النصارى واليهود أنه المسيح، وقد كذبوا في اعتقادهم هذا كما نص الله - تعالى - على خطئهم في ذلك، والمقصود أن النصارى لما حكموا بيت المقدس قبل البعثة بنحو من ثلثمائة سنة طهروا مكان القمامة، واتخذوه كنيسة هائلة بنتها أم الملك قسطنطين باني المدينة المنسوبة إليه، واسم أمه هيلانة الحرانية البندقانية، وأمرت ابنها فبنى للنصارى بيت لحم على موضع الميلاد، وبنت هي على موضع القبر فيما يزعمون، والغرض أنهم اتخذوا مكان قبلة اليهود مزبلة أيضاً في مقابلة ما صنعوا في قديم الزمان وحديثه، فلما فتح عمر بيت المقدس، وتحقق موضع الصخرة؛ أمر بإزالة ما عليها من الكناسة حتى قيل: إنه كنسها بردائه، (وفعل ذلك معه الصحابة والتابعين) حتى طهر الباب فدخلوا إلى الساحة، وصلى عمر - رضي الله عنه - في محراب داود ركعتين تحية المسجد، ثم انقضى الليل، وجاء الفجر؛ فأَذَّنَ المؤذن لصلاة الفجر وهي أول مرة يُؤَذَّن فيها في القدس الشريف.

وصَلَّى عمر بن الخطاب بالناس، وصلى الركعة الأولى بسورة (ص)، وسجد فيها سجدة داود، وصلى في الركعة الثانية بصدر سورة الإسراء، وبعد الصلاة عادوا لتنظيف بقية أنحاء المسجد، ثم قرر المسلمون بناء المسجد الأقصى لأنه كان مجرد سور بداخله مساحة واسعة فقط، فاستشار عمر بن الخطاب كعباً: أين يضع المسجد؟ فأشار عليه بأن يجعله وراء الصخرة (القدس شمال مكة، فلو بنى المسجد خلف الصخرة؛ عندئذٍ من يتجه نحو القبلة في البيت الحرام ستكون الصخرة حائلاً بينه وبين القبلة) فضرب في صدره وقال: يا ابن أم كعب ضارعت اليهود (أي أن كعباً كان يريد أن يجعل قبلة اليهود والمسلمين واحدة إلى الصخرة ) وأمر ببنائه في مُقَدِّم بيت المقدس "أمام الصخرة".

تاريخ المسجد الأقصى:

تاريخ بناء المسجد الأقصى يعود إلى قديم الزمان، إذ بُني بعد المسجد الحرام بنحو 40 عاماً لحديث أَبَي ذَرٍّ يَقُولُ: ساًلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ؟ قاًل: الْمَسْجِدُ الْحَراًمُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيّ؟ قاًلَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُماً؟ قاًلَ: أَرْبَعُونَ عاًمً، ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ فَحَيْثُماً أَدْرَكَتْكَ الصَّلاًةُ فَصَلِّ. رواه مسلم

والذي بنى المسجد الأقصى هو إبراهيم - عليه السلام - غالباً، ولم يُصَرَّحْ بذلك بوضوح، ولكن يُعْرَف من هذا الحديث؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - كان يعيش في أرض فلسطين، وهذا البناء بني في عصر سيدنا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -.

كان دخول عمر بن الخطاب القدس في رجب من عام 16هـ، وهذا ربما يلفت أنظارنا أن حادثة الإسراء والمعراج حدثت في نفس الشهر عام 10 قبل البعثة، فيتكرر دخول عمر بن الخطاب القدس لتحريرها من الروم في نفس الشهر الذي أسري به الرسول إلى المسجد الأقصى، وربما يكون في ذلك إشارة (كما أن صلاح الدين الأيوبي فتح القدس في 27 رجب، وحررها بعد 91 سنة من احتلال الصليبيين), وإن شاء الله يتكرر ذلك قريباً.

للمسجد الأقصى خاصية أنه يمكن للمسلم أن يسافر، ويشد الرحال إليه، وأنه مسرى رسول لله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وهذا تشريف كبير له، فلا يجوز أن يسافر المسلم من بلد لآخر بغرض الصلاة في أي مسجد غير هذه المساجد الثلاثة.

عُرِفَ المسجدُ الأقصى في التاريخ ببيت المقدس، وأول مرة يسمى فيها بـ(المسجد الأقصى) عندما نزلت الآية الكريمة: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) فالله - سبحانه وتعالى - هو الذي سماه هذا الاسم، والأقصى بمعنى الأبعد أي الأبعد عن مكة، وهي أول مرة يذكر فيها، وبعدها عرف عند المسلمين بهذا الاسم.

بذلك تسلم عمر بن الخطاب المقاليد، وتم فتح القدس بعد نحو 4 أعوام من الحروب والمعارك المتلاحقة داخل أراضي الشام، وأصبحت أرض فلسطين منذ ذلك الحين أرضاً إسلامية.

حقيقة الأرض الإسلامية:

أي أرض حُكِمَتْ في فترة من الزمان ولو ليوم واحد بالإسلام؛ أصبحت أرضاً إسلامية، حتى لو بَعُدَ هذا الزمان عنّاً بألف عام تظل أرضاً إسلامية، ولا يهمنا في هذا الصدد التقسيمات الجديدة، وسيادة الدول على الحدود المصطنعة، فالدولة الإسلامية حدودها تصل إلى كل دولة حكمت بالإسلام في وقت ما، سواء كان ذلك من عام مضى، أو من عامين، أو من ألف وأربعمائة عام، هذا ما نعتقده، وهذا ما نؤمن به، فأرض فلسطين كلها إسلامية، وليست مدينة القدس فحسب على ما لها من أهمية أكبر لوجود المسجد الأقصى بها، ولكن بقية المدن الموجودة في فلسطين كلها أرض إسلامية، بل حتى "تل أبيب" أرض إسلامية؛ لأنها مدينة مبنية على أرض إسلامية يجب أن تحرر ممن يسكنها، سواء كان من يسكنها أحفاد القردة والخنازير أو غيرهم.

وعليه فإن الأندلس (إسبانيا) أرض إسلامية مهما عاش فيها عُبّاًدُ الصليب، أو عباد المسيح، ألف عام فهي أرض إسلامية، يجب على المسلمين تحريرها فرض عين عليهم مادامت قد حكمت يوماً واحداً بالإسلام، فكيف يكون الأمر إذا حكمت 8 قرون.

وكذلك أرض الهند أرض إسلامية حتى لو عاش فيها عباد البقر ألف عام، أو ألفي عام، لن نتهاون في تحريرها، ولا يهمنا في هذا الصدد القانون الدولي الجديد، ولا النظام الدولي الجديد، ولا يهمنا القوانين والتشريعات التي وضعها اليهود، والنصارى، والملحدون، ومن شايعهم، ولا يهمنا في ذلك الولايات المتحدة أمريكية كانت أو غير أمريكية، ولا يهمنا في ذلك شرقٌ أو غرب، ولا يهمنا في ذلك شياطين الإنس والجن، هذا شرع الله - سبحانه وتعالى -، ثابت لا يتغير، وجند الله ملتزمون بشرعه، ينفذونه في كل عصر وفي كل مكان.

وهذه ليست أحلاماً ولا أوهاماً وإنما هي عقيدة ومبادئ سيحققها الله - سبحانه وتعالى - يوماً مـا، ستحرر هذه الأراضي إن شاء الله كلها بالكامل، ستحرر الهند، وفلسطين، والأندلس، ستحرر كل البلاد التي حُكِمت بالإسلام من قبل، وسيأتي يوم تحرر فيه هذه البلاد جميعها (وَلَتَعْلَمُنَّ نبأَهُ بعدَ حِين).

لكن لن يحرر هذه البلاد عميل خائن باع نفسه للشيطان، ولن يحررها قائدٌ متسلط حمل البندقية ووجهها إلى صدر إخوانه وأهله، لن يحررها قائد تخلى عن شرف القيادة، ولكن يحررها جيش عقيدة كهذه الجيوش التي فتحتها، جيش يجعل من الإيمان السلاح الأول، ويجعل وجهته إلى الله - سبحانه وتعالى - لا إلى الشرق، ولا إلى الغرب، مهما كانت قوة الشرق والغرب، ذلك الجيش الذي يحقق سلاح الإيمان بالله أولاً، ثم يسعى بعد ذلك إلى السلاح المادي، ويحققه، هذا هو الجيش الذي سيحررها، مهما ضعفت الإمكانيات، حتى إن كان سلاحه الحجارة ستحرر هذه البلاد، ولو بحجارة من سجيل.

فالله - عز وجل - قادر على تحقيق ذلك، ولكن المهم أن يُوجَدَ جُندُ الله الراغبون في تحرير هذه البلاد، وهي ستتحرر ولا شَكَّ.

لم يتبق للمسلمين غير "قيسرية" و"يافا" في فلسطين، وكذلك الشام لم يتبق فيه إلا "طرابلس" ليصبح الشام كله مسلماً، وبعد فتح القدس؛ عاد "أبو عبيدة" إلى حمص، وعاد خليفة المسلمين "عمر بن الخطاب" - رضي الله عنه - إلى المدينة، وشرحبيل بن حسنة إلى الأردن، ويزيد بن أبي سفيان إلى دمشق، وظل عمرو بن العاص في فلسطين.

في بقية هذا العام 16هـ يفتح "معاوية بن أبي سفيان" مدينة طرابلس، وكان على مقدمة جيش "يزيد" بأمر "عمر بن الخطاب" - رضي الله عنه -.

محاولات رومية لاستراداد حمص وصمود قيسارية:

يأتي عام 17هـ ويكون أبو عبيدة في حمص آنذاك، وتفكر مجموعة من نصارى العرب، والروم الموجودين في الجزيرة (الموجودة بين دجلة والفرات) في الهجوم على المسلمين، فيتوجهوا بقوة لحصار حمص، وبها أبو عبيدة، فيقاتلهم أبو عبيدة وهو في حصنه، ويطول بينهما القتال، ولا يستطيع أن يفك الحصار، فتصل المعلومات إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -؛ فيوجه الأوامر مباشرة إلى (سعد بن أبي وقاص) أمير العراق أن يرسل قوة من عنده لإنقاذ أبي عبيدة ((وهذه فائدة أن تكون الدولة الإسلامية متحدة، وأن تعرف القيادة المركزية ظروف كل منطقة))، يرسل سعد بن أبي وقاص قوتين: الأولى لمحاربة منطقة الجزيرة نفسها التي خرج منها المقاتلون، فأرسل ثلاثة جيوش، بقيادة "سهيل بن عدي" - رضي الله عنه -، و"عبد الله بن عبد الله بن عتبان"، و"عياض بن غنم" الذي قاد الجيوش الثلاثة حتى الجزيرة؛ لكي يقطع المدد عن الجيش الذي يحاصر حمص، وأرسل قوة أخرى إلى حمص مباشرة على رأسها "القعقاع بن عمرو" - رضي الله عنه - القائد المنقذ، الذي قبل أن يصل إلى حمص بثلاثة أيام بلغه نبأ انتصار المسلمين على الروم، وتمكُّن أبو عبيدة وجيشه من هزيمة الروم، وقتل عدد كبير منهم، وفرار الباقين.

احتار المسلمين عندئذٍ كيف يوزعون الغنائم، وقد وصلهم جيش "القعقاع" بعد انتصارهم، أيشركون عَمْراً في الغنيمة أم لا؟، فأرسلوا بذلك إلى "عمر بن الخطاب"، فرأى أن يُقْسَمَ له من الغنائم؛ لأن مجرد وجودهم قد أرهب الروم، كما أنهم لم يأت بهم إلا الجهاد ونجدة المسلمين، وقسم لهم فعلاً من الغنائم.

صمود قيسارية:

ولا يزال عمرو بن العاص - رضي الله عنه - محاصراً لقيسارية وهي مستعصية على الفتح منذ عام 16هـ، وذلك لأنها كانت من المدن الحصينة، وهي على حدود البحر الأبيض المتوسط، وبها حامية قوية جداً: 120 ألف مقاتل تجمعوا بعد اليرموك، وكان الروم حريصين على بقاء جزء منهم داخل الأراضي الشامية حتى يستطيعوا الدخول منه لحرب المسلمين، لكن بعد هزيمة الروم في حمص (الهزيمة الثانية) لم يفكر الروم في الهجوم على المسلمين مطلقاً حتى هذه اللحظة، لكن قوة (قيسارية) التي لا تستسلم، ولا تهزم؛ هي الوحيدة التي استعصت على المسلمين، وكانت (يافا) قد فتحت على يد "معاوية بن أبي سفيان" بعد أن جاءت أوامر من المدينة ليزيد بذلك.

وتنتهي سنة 17هـ دون سقوط "قيسارية"، وأصبحت هي المدينة الوحيدة في الشام كله التي لم تُفْتَحْ.

طاعون عمواس:

بحلول عام 18هـ يحدث حدث مروع كارثة تحدث للمسلمين في أرض الشام؛ لم يسبق لها مثيل في تاريخهم تلك هي "طاعون عمواس" ذلك الذي أصاب كثيرا من المسلمين، وكل من يصاب به يموت فوراً بعد 5 أيام على الأكثر، ولم يفلح أي نوع من الأدوية والعلاجات في علاج هذا الوباء الخطير.

والطاعون في لغة العرب يحمل أي نوع من الوباء (لا يُشترط أن يكون المرض المعروف الذي تنقله الفئران والبراغيث)، ولكن مِن وَصْفِ هذا المرض على لسان من رأوه يغلب على الظن أنه هو المرض المعروف الآن باسم (الطاعون)، وقد انقرض الآن من الدنيا والحمد لله، (لكنه عاد في الهند) ينتقل عن طريق الفئران والبراغيث، وظل الطاعون في أرض الشام شهوراً، بل إنه انتشر من "عمواس" إلى مدن أخرى كثيرة حتى أنه وصل إلى مدينة البصرة في العراق، ومات خلق كثير.

كان عدد المسلمين في أرض الشام بعد الفتوحات، وبعد إسلام بعض أهل الشام؛ بين 30 و36 ألف مسلم، وقد توفي منهم في هذا الوباء الخطير ما بين 25 و 30 ألف مسلم، أي أن نسبة الوفاة بلغت 80 بالمائة من الجيش الإسلامي الموجود في الشام، فكانت كارثة عظيمة على المسلمين لا تقارن بعدد شهداء المسلمين منذ بدء الحروب مع الكفار (من بدر) حتى لحظتهم هذه.

لما علم خليفة المسلمين "عمر بن الخطاب" - رضي الله عنه - بهذه الكارثة أراد أن يستنقذ أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - الذي كان قائد المسلمين في الشام، وكان يرى أنه لو مات أبو عبيدة فسيكون ذلك مشكلة كبيرة لبقية الجيش الإسلامي الموجود في الشام.

وكانت فتوحات المسلمين في فارس مستمرة، ولكنه أراد أن يستنقذ أبا عبيدة حتى يحافظ عليه قائداً لجيش المسلمين في أرض الشام، فأرسل له رسالة: (سلامٌ عليك، فإني قد عرضت إليَّ فيك حاجة، وأود أن أشافهك بها؛ فعزمتُ عليك إذا نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إلي، فإن أتاك ليلاً فلا تصبحْ حتى تركب إلي، وإن أتاك نهاراً فلا تُمْسِ حتى تركب إلي)، ولكن أبا عبيدة فهم رسالة عمر وقال: "غفر الله لأمير المؤمنين"، وأرسل له رسالة يقول له فيها: "يا أمير المؤمنين إني قد عرفتُ حاجتك إلي، وإني في جندٍ من المسلمين، لا أجد لنفسي رغبة عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله فيَّ وفيهم أمره وقضاءه، فَخَلِّني من عزمتك يا أمير المؤمنين، ودعني في جندي".

هذا هو أبو عبيدة أمين هذه الأمة، ونذكر ما قاله عنه الصديق - رضي الله عنه - أثناء توديعه لحروب الشام عندما قال له: (ما دعوتك إلا أني أردت أن أخبرك بمنزلتك عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإني والله بعد أن علمت هذه المنزلة لا أعدل على الأرض أحداً بك، أو بهذا الرجل (وأشار إلى عمر بن الخطاب)، ونعلم ما فعله كذلك يوم السقيفة حينما خَيَّر المسلمين بين أبي عبيدة، وعمر بن الخطاب؛ أن يبايعا أحدهما.

فلما قرأ عمر بن الخطاب كتابه بكى، فسأله المسلمون وهم يخشون أن يكون قد مات أبو عبيدة، فقال لهم: (لا، ولكن قـد.. ) أي أنه على وشك أن يموت، وهناك رواية أن "عمر" ذهب بنفسه إلى الشام حول مدينة عمواس وقد انتشر الوباء في أكثر من مدينة، فخرج إليه أبو عبيدة، ورفض عمر أن يدخل المدينة الموبوءة، فقال له أبو عبيدة: أتفِرُّ من قدر الله يا عمر؟، فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، إنما نفر من قدر الله إلى قدر الله.

أي أنه إنما يأخذ بالأسباب، فقضاء الله نافذٌ لا محالة، ولكن عمر لم يدخل مدينة عمواس، ورفض أبوعبيدة أن يعود معه، وعاد إلى داخل المدينة...

وأرسل عمر إلى أبي عبيدة - رضي الله عنهما - رسالة أخرى فقال له: "سلامٌ عليك، أما بعد فإنك أنزلت الناس أرضاً عميقة؛ فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة" يرى أن الحل ربما يكون في تغير المكان، فلما وصلت الرسالة أبا عبيدة استدعى أحد علماء الأرض، ومن الأدلة في أرض الشام وهو "طارق بن شهاب البجلي" فقال له: اختر لنا منزلاً، فعاد طارق إلى بيته ليعد راحلته، فوجد زوجته قد أصيبت بالطاعون وماتت، فرجع يبكي لأبي عبيدة ويقول له: لقد أصيبت زوجتي بالطاعون، وماتت.

وفاة أبي عبيدة ومعاذ ويزيد وشرحبيل رضى الله عنهم:

فعزّاًه أبو عبيدة، ولكن ما إن ينظر طارق إليه حتى يجده قد أصيب في رجله؛ وفي كفه؛ بالطاعون، فعلم أنه أصيب، فسأله عن هذه الآثار؛ فعلم أبو عبيده أنه قد أصيب، (وهذا ما كان يخشاه عمر)؛ فجمع أبو عبيدة الناس، وقام فيهم خطيباً فقال: "إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير، أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا وحجوا، واعتمروا وتواصوا، وانصحوا لأمرائكم، ولاتغشوهم، ولا تلهكم الدنيا؛ فإن امرءا لو عُمِّرَ ألفَ حَوْلٍ ما كان له بُدٌّ من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، وأكيسُهم أطوعهم لربه، وأعلمهم ليوم معاده، والسلام عليكم، صَلِّ بالناس يا معاذ"، ورد في خطبة أبي عبيدة في كتب التاريخ: "أيها الناس إن هذا الوجع رحمة من ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لنا حظاً منه، فطعن، فمات".

استخلاف معاذ - رضي الله عنه -:

واستخلف معاذ بن جبل، ومات - رضي الله عنه - وأرضاه عن عمر يناهز ثمانية وخمسين عاماً،

وكان قد أوصى أن يُدْفن في بيت المقدس، ثم عدَّل فيها وقال: ادفنوني حيث مِتُّ خوفاً أن تصبح سنة.

وفاة معاذ:

وقام "معاذ بن جبل" فقال للناس: "يا أيها الناس توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً، فإن عبداً لا يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له، من كان عليه دين فليقضه، فإن العبد يُرتهن بدينه، ومن أصبح منكم مهاجراً أخاه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاث، وهو الذنب العظيم، إنكم أيها المسلمون قد فُجِعْتُم برجل ما أزعم أني رأيت عبداً أبرَّ صدراً، ولا أبعد من الغائلة (من الحقد للناس)، ولا أشد حباً للعامة، ولا أنصح للعامة؛ منه، فترحموا عليه - رحمه الله -، واحضروا الصلاة عليه.

فَصَلَّى عليه المسلمون، ودُفن - رضي الله عنه - في أرض الشام.

في صباح هذا اليوم يسمع "معاذ" مقولة تسري بين المسلمين أن هذا الوباء "طوفان ورِجْز" أي كالذي عُذِّبَ به آل فرعون، فغضب معاذ لذلك غضباً شديداً لأن هذا ليس عذاباً من الله - سبحانه وتعالى -، فجمع الناس جميعاً (في نهاية هذا اليوم، وهناك روايات أنه بعدها) فقال لهم: أيها الناس لو أعلم أني أقوم فيكم بعد مقامي هذا ما تكلفت اليوم القيام فيكم (أي أنه يخشى أن يموت قبل أن يبلغهم ما يريد، ويخشى أن يكون قد أصيب بالطاعون، وقد أُصِيبَ فعلاً)، وقد بلغني أنكم تقولون هذا الذي وقع فيكم طوفان ورجز، والله ما هو طوفان ولا رجز، وإنما الطوفان والرجز كان عَذَّب الله به الأمم، ولكنها شهادة أهداها الله لكم، واستجاب فيكم دعوة نبيكم (- صلى الله عليه وسلم -) (أن تُوهب الشهادة لقومه؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن المطعون شهيد، فقد مات أبو عبيدة شهيداً، وكل من مات في هذا الطاعون شهداء).

ومات "معاذ بن جبل" - رضي الله عنه - في يومه ذاك وهو لم يبلغ الثامنة والثلاثين من عمره (وفي روايات 33 فقط)، فلم يتأَمَّر على الشام إلا يوماً واحداً في أصح الأقوال، ووصلت الأنباء إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في المدينة فحزن حزناً شديداً، وبكى بكاءً طويلاً حتى اخضلَّت لحيته بالدموع - رضي الله عنه -، واحتار في الأمر، ثم كتب كتاباً، وأمر على المسلمين (يزيد بن أبي سفيان) فأصبح يزيد أمير الشام كلها، وكان آنذاك لا يزال محاصراً لقيسرية بعد أن تركها له "عمرو بن العاص"، وكان معه في هذا الحصار "معاوية بن أبي سفيان" - رضي الله عنهما -، فتولى أمر المسلمين وهو لا يزال حول "قيسرية".

وفاة يزيد وشرحبيل:

وما هي إلا أيام حتى أصيب "يزيد بن أبي سفيان" - رضي الله عنه - بالطاعون أيضاً، فسقط شهيداً - رضي الله عنه - وهو أمير المسلمين الثالث؛ في غضون أقل من شهر.

فتصل الأنباء إلى عمر، فيزداد حزنه، ويقرر أن يقسم الشام إلى قسمين: شمالي وجنوبي، جعل على القسم الشمالي "معاوية بن أبي سفيان"، وعلى القسم الجنوبي "شرحبيل بن حسنة" - رضي الله عنهما -، وما هي إلا أيام ويسقط شرحبيل بن حسنة - رضي الله عنه - شهيداً صريعاً للطاعون.

وجمع عمر إمرة الشام كله لمعاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك عام 18 هـ، وبقيت في يده بأمر "عمر" حتى خلافة الحسن بن علي - رضي الله عنه -، وأحداث الفتنة، حتى أصبح أميراً للمؤمنين عام 40هـ.

لما عمَّ هذا البلاء على المسلمين قام عمرو بن العاص خطيباً في فلسطين، وقال: أيها الناس إن هذا البلاء ليس له حل إلا أن تهربوا في الشعاب، والأودية، والجبال، (لم يبق من المسلمين إلا 6 آلاف على أكثر تقدير)؛ فغضب لمقولته كثير من الصحابة، حتى إن أحدهم واسمه " أبو وائل الهذيلي " - رضي الله عنه - قام لعمرو بن العاص وقال له: كذبت.

عمر يرجع إلى الشام:

خشي المسلمون بعد ذلك لقلة أعدادهم من بطش الأعداء بعد هذا الطاعون، وخاصة أن الروم ذوو أعداد كبيرة، وعتاد ضخم، فداخل " قيسارية " يوجد 120 ألف رومي، وسبحان الذي ألقى في قلوبهم الرعب ولم يخرجوا للمسلمين حتى هذه اللحظة، ولكن "عمر بن الخطاب" خشي على بقية الجيش الإسلامي من أن يهاجمهم الروم؛ فبحث لهم عن المدد، وأعد لهم العدة، وذهب بنفسه - رضي الله عنه - إلى الشام، فانقمعت بذلك قلوب الأعداء كما يذكر ابن كثير؛ لأنه كان ذا رهبة كبيرة في قلوب الأعداء، وكان قد ذهب لهدفين رئيسيين:

الأول: إرهاب الأعداء حتى لا يأتوا بالقوة لأرض المسلمين، بعد تهديدهم بهذه الكارثة الرهيبة.

والثاني: هدف شرعي وهو الفصل في تقسيم المواريث بين المسلمين؛ لأنهم احتاروا في تقسيم مواريث (25 إلى 30 ألفاً) متوفى، وقسم مواريث 25 ألف متوفى بنفسه، ومكث فترة في أرض الشام في أواخر عام 18 هـ حتى زاد المدد، وازدادت شوكة المسلمين.

ولم يحدث في هذا العام أي هجوم على المسلمين من الروم على الرغم من أنها كانت فرصة سانحة ومواتية تماماً للقضاء على من تبقى من المسلمين.

وممن استشهد في الطاعون: ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الفضل بن العباس" - رضي الله عنه -، وكذلك "أبو جندل بن سهيل بن عمرو" - رضي الله عنه - الذي جاء إلى رسول الله بعد صلح الحديبية، وطلب أن يدخل في حلف المسلمين بعد أن أسلم، فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبيه، وكذلك "الحارث بن هشام" - رضي الله عنه - وهو أخو أبو جهل "عمرو بن هشام"، أسلم في فتح مكة، خرج للجهاد في الشام في فتح الشام كما ذكرنا في اليرموك، وخرج في سبعين من أهله؛ فاستشهدوا جميعاً في طاعون عمواس إلا أربعة.

وتوفي "أبو مالك الأشعري"، ومات الكثير من أبناء "خالد بن الوليد" - رضي الله عنه وأرضاه -، وابنا "معاذ بن جبل" وزوجته.

معاوية يفتح قيسارية:

بعد انقطاع الطاعون في أواخر عام 18هـ بقي للمسلمين مدينة واحدة فقط لم تفتح حتى هذه اللحظة وهي مدينة "قيسارية"، فذهب إليها معاوية بن أبي سفيان بنفسه، وحاصرها مدة طويلة (بلغت 6 سنوات)، ويأتيه في ليلة من الليالي رجل من اليهود اسمه يوسف؛ يقول له: أَمِّنِّي على نفسي، وأهلي، ومالي، وأنا أدلُّك كيف تدخل هذه المدينة، فيُؤَمنه معاوية؛ فَدَلَّه على سرداب تحت الأرض فيه المياه إلى حِقْوِ الرجل، وأخبره أن هذا المجرى من الماء يصل إلى داخل الحصون.

فدخل معاوية وجيشه من خلال هذا السرداب ليلاً، ولما دخل الجيش كله؛ كبر معاوية؛ فكبر المسلمون، وقام أهل المدينة فزعين، وفوجئوا بوجود المسلمين داخل الحصن، فأسرعوا ليفروا عن طريق السرداب؛ فوجدوا المسلمين عنده، ودارت معركة قاسية جداً، ولم يكن جيش المسلمين يتجاوز الـ17 ألف مجاهد مقابل 120 ألف رومي، وكتب الله النصر للمسلمين، وسقط من القتلى داخل الحصن 80 ألف رومي، ولم يُسْتَشهد عدد يذكر من المسلمين، وهرب الباقون؛ فلاحقهم المسلمون، وقتلوا منهم 20 ألفاً آخرين.

وتصل الأنباء إلى المدينة المنورة ليلاً فيكبر عمر، ويكبر المسلمون فرحاً بهذا النصر المبين، بعد هذه المصيبة التي كانت قد ألمت بالمسلمين في أرض الشام، وتكون أول ليلة من الفرح بعد ليال طويلة من الحزن لما حدث في طاعون عمواس، وبذلك تسقط آخر مدينة من مدن الشام، ويصبح الشام كله مسلماً عام 19هـ.

بطل المواجهة علي بن أبي طالب رضي الله عنه

بطل المواجهة علي بن أبي طالب

عائض القرني

ملخص الخطبة

1- إسلام علي &. 2- شجاعة علي &. 3- منقبة لعلي يوم تبوك. 4- علي خليفة للمسلمين. 5- مقتل علي على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم. 6- أخلاق النبي . 7- الأدب الواجب مع النبي .

الخطبة الأولى



أيها الأخيار البررة:

نحن اليوم مع ((بطل المواجهة)) نتكلم اليوم عن بطل من الأبطال، بطل في زهده وفي غناه، بطل في شجاعته وفي إقدامه، بطل في سلمه وفي حربه، عاش بطلاً، ومات بطلاً، ويبعث – إن شاء الله – بطلاً.

نتحدث اليوم عن هذا البطل؛ لأننا في عصر نحتاج فيه إلى الأبطال فلا نجدهم، نبحث عن أبطال المواجهة في الحرب والسلم، فلا نجد لهم أثراً.

إن هذا البطل، بطل في مواجهة الكفر والوثنية، بطل أمام اليهود والنصارى، بطل أمام الظلم والظلام.

إنه علي بن أبي طالب!!

هل تريدون مني اليوم أن أعرف علي بن أبي طالب؟ بأي لسان أتكلم على المنبر عن أبي الحسن؟ إنني أعلن أنني عاجز عن الوفاء بحقه، أو إنزاله منزلته، ولكن يكفينا وفاءً له أن قلوبنا تحبه، وتفرح لذكره، ودراسة سيرته.

أسلم علي بن أبي طالب وعمره عشر سنوات، فهو أول غلام في الأرض يعلن لا إله إلا الله محمد رسول الله.

أسلم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو ابن عمه، وصهره وحبيبه.

فلما أسلم علي  ضمه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى حنانه، إلى قلبه، إلى بيته، فأعطاه الرسول  كل ما يملك أعطاه الحب أولاً، أعطاه العلم والهداية، زوجه بابنته الزهراء، ولاه المبارزة أمام الأبطال، مجده بالكلمات، ذبّ عنه وعن عرضه، وقف معه حتى مات  وبقي علي.

ولما أراد النبي  أن يهاجر مختفياً، وكانت عنده أموال العرب، لأنه الأمين استأمنوه على أموالهم، ثم كذبوه، ولكنه  ترك ودائعهم عند علي ليردها إلى أصحابها، وخرج النبي  متسللاً، وترك علياً في فراشه، فأتى إليه الكفار شاهرين سيوفهم، متوثبين للقتل وإراقة الدماء، إلا أنه كان ثابت الجأش، لم يخف ولم يضطرب، لأنه بطل المواجهة، ثم لحق الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة.

وفي سيرة علي  قصصٌ وسلوى للفقراء والمنكوبين، وفيها عزاء للمصابين المجروحين وفيها تخفيف عن المضطهدين والمظلومين.

فسيرة علي، تمسح دموع البائسين، وتخفف الألم عن المحرومين، فهي قصة طويلة، يستفيد من أحداثها كل مسلم على وجه الأرض.

لما وصل إلى المدينة، أعطاه عليه الصلاة والسلام جائزة كبرى، هل هي قصر؟ أو فيلا؟ أو مال ؟ لا، وإنما أعلن إمام الناس، إمام الأجيال، أن علي ابن أبي طالب، يحب الله ورسوله، وأن الله ورسوله، يحبان علي بن أبي طالب.

فما سبب هذه المنحة الكبرى؟ والجائزة العظمى؟

حاصر عليه الصلاة والسلام خيبر، حاصر اليهود في خيبر، قبل أن يجلوا منها بالقوة الحديد والنار.

اليهود هم أعداء الله؛ لأنهم سبوا الله، وقتلوا الأنبياء، وحرّفوا كلام الله، وبدلوا شرائع الله، وقتلوا الموحدين، واليوم يجلسون على مائدة المفاوضات يناقشون مستقبل الأمة الإسلامية!!

حاصرهم النبي عليه الصلاة والسلام، ضيق عليهم الخناق، وحاول أن يفتح مدينة خيبر، فاستعصت عليه، كانت متمنعة، أرسل أبا بكر الصديق فما استطاع، أرسل عمر فما استطاع، فاهتم الناس هماّ شديداً، وباتوا ليلة طويلة، فقام عليه الصلاة والسلام وسط الليل يقول: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه، فبات الناس يدوكون ليلتهم[1]، أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس، غدوا على رسول الله  كلّهم يرجوا أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب، فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله، قال: فأرسلوا إليه، فأتوني به، فلما جاء، بصق في عينيه، ودعا له، فبرأ، حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال علي: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليه من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من أن يكون لك حمرُ النعم[2].

انطلق علي  يحمل الراية، ووقف على أسوار إخوان القردة والخنازير يناديهم إلى الحق، ويدعوهم إلى العدل، أيها الناس.. اسمعوا.. وعوا.. استفيقوا.. استيقظوا.. تنبهوا، ولكن لأن القرد لا يفهم، ولو رأى إشارتك وعرف كلامك، ولأن الخنزير مطموس على بصيرته طمساً، لم يسمعوا، ولم يروا، ولم يهتموا.

فلما رأى علي  أن المفاوضات غير مجدية، وأن المناقشات معهم لا توصل إلى حلول، كان عنده حلّ آخر، دعا بطلهم للمبارزة علناً أمام الجماهير، فنزل مرحب اليهودي الخسيس، وكان شجاعاً فقال:

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرّب

إذا الحروب أقبلت تلهب

فنزل إليه علي بن أبي طالب مردداً:

أنا الذي سمّتني أمي حيدره

كليث غابات كريه المنظره

أكيلهم بالسيف كيل السندره

فتنازل الصديق علي بن أبي طالب مع الزنديق مرحب اليهودي، فقطعّه علي بسيفه، وقيل: إنه قسمه بالسيف نصفين إلى الهاوية، إلى النار، وافتتح علي خيبر، كما أخبر بذلك الرسول : ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله، أو يحب الله ورسوله؛ يفتح الله عليه)).

أراد علي بن أبي طالب  نسب الرسول  فذهب ليخطب فاطمة الزهراء البتول، سيدة نساء العالمين، وقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يتكلم معه فما استطاع.

حياءٌ من إلهي أن يراني وقد ودّعت صحبك واصطفاك

فتبسم عليه الصلاة والسلام، وعرف مقصده، فقال: يا علي، أتريد فاطمة زوجة لك؟ قال: نعم، قال: عندك مهر، ويعلم عليه الصلاة والسلام أن علياً لا يملك درهماً ولا ديناراً، ولا ذهباً ولا فضة، ولا قصراً ولا حديقة، ولكنه يملك إيماناً كالجبال، يملك تاجاً على رأسه؛ ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله)) يملك أنه بطل المواجهة.

قال: يا رسول الله، ما عندي شيء، قال: ((أين درعك الحطميّة))[3] قال: درعٌ لا تساوي درهمين، فأتى به علي، وسلمه للرسول، عليه الصلاة والسلام، فعقد لهما  وتزوج علي فاطمة الزهراء، وأنجبت له الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.

هي بنت من؟ هي زوج من؟ هي أم من؟           من ذا يُساوي في الأنام عُلاها

أمـا أبوهـا فهـو أشـرف مـرسـلٍ            جبريل بالتوحيد قـد ربّاهـا

وعلــيُّ زوج لا تسـل عنـه سـوى       سـيف غـدا بيمينـه تيـّاها

ودخل بها بيته، الذي أسسه على تقوى من الله ورضوان، وأصبح صهر رسول الله .

خرج  إلى تبوك، وخلّف علياً على المدينة، خلّفه لأنه شجاع وبطل للمواجهة، لا يحمي العرض إلا مثل علي بن أبي طالب، ولا يدفع الضيم إلا مثل علي بن أبي طالب، جعله في المدينة يحمي ما وراء الرسول  فجاء المنافقون إلى علي بن أبي طالب، وقالوا: يا علي، إن الرسول عليه الصلاة والسلام استثقلك، إنك ثقيل عليه، تركك في المدينة وخرج إلى تبوك، سبحان الله ! محمد يستثقل علياً، فلحق علي رسول الله  وهو في الطريق إلى تبوك، فأخبره بما يقول الناس، فتضاحك النبي  ثم قال: يا علي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون بن موسى، إلا أنه ليس نبي بعدي[4].

وهذه بشارة أخرى لعلي بن أبي طالب، ومنقبة عظمى تضاف إلى مناقبه، أنه من رسول الله  بمنزلة هارون وموسى.

كان علي  بطلاً للمواجهة يؤدب به الرسول عليه الصلاة والسلام أعداء الله، كان الرسول  ينتدبه كلما انتدب رجلاً لمواجهة الموت.

في بدر، وقبل احتدام المعركة، دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام أبطال المسلمين، ليبارزوا أبطال الكفر، فقال: أين علي بن أبي طالب، قال: ها أنا يا رسول الله، فخرج، وبارز قرنه الوليد بن عتبة، فقتله علي، ثم اشتبك مع الكفار في صراع دام، فقتل منهم مقتلة عظيمة.

كان يقرأ القرآن فقرأ قوله تعالى: هذان خصمان اختصموا في ربهم [الحج:19]. فبكى وقال: أنا أحد الخصمين يوم القيامة، وذلك لأنه كان خصماً للكفر والوثنية والإلحاد، أما الوليد وأمثاله، فيبعثون يوم القيامة خصوماً للإسلام والتوحيد والحق والعدل، ثم يفصل الله عز وجل بين الفئتين يوم القيامة ولا يظلم ربك أحداً [الكهف:49].

وتتكرر المسألة مع علي بن أبي طالب في الأحزاب، فيحاصر الرسول عليه الصلاة والسلام حصاراً دامياً من مشركي العرب واليهود، والقوميين الخونة، والنصارى، والمنافقين، ويأتي بطل من أبطال الكفر، اسمه عمرو بن ود، فيدعو المسلمين للمبارزة، فيقول: من يبارز أيها المسلمون؟! فيسكتون، من يتقدم ليبارزني أمام الجماهير؟ فلا يبرز أحد، ولكن علياً لا يرضى بذلك، فيقول: أنا يا رسول الله، يحب المواجهة، دائماً روحه على كفه، يقدمها رخيصة لنصرة الدين، وإعلاء راية التوحيد.

أرواحنا يا رب فوق أكفنا            نرجو ثوابك مغنماً وجواراً

فقال عليه الصلاة والسلام: إنه عمرو بن ود!! قال: ولو كان عمرو بن ود، فنزل له علي  وتبارز البطلان، بطل الإسلام، وبطل الكفر، وبرقت السيوف، وارتفع الغبار، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو الله لينصر علياً، وانجلى الغبار، وإذا بعلي واقف على صدر عمرو، وقد قطع رأسه، وسيفه يقطر دما، فكبر الرسول عليه الصلاة والسلام، الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. وكبر معه المسلمون، إنه بطل المواجهة.

وفي البخاري، في كتاب الرقاق، قال علي بن أبي طالب  وأرضاه: إن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، فكونوا من أبناء الآخرة، ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل[5].

كان فقيراً لا يملك قليلاً ولا كثيراً، تولى الخلافة خمس سنوات، كانت كلها مواجهة؛ واجه الخوارج وأدبهم، وواجه المتمردين وطاردهم، وواجه البغاة وشتتهم، فحياته كلها مواجهة، قلبه مجروح وجسمه مجروح، وعرضه مجروح من أهل النفاق والريبة.

لقي علي  طلحة في الجمل، في ذاكم الصراع الذي نكف عنه، ونكل أمرهم فيه إلى الله، ونسأله تبارك وتعالى أن يجمعنا بهم في دار كرامته، قتل طلحة في هذه الفتنة، ورآه علي مجندلاً في دمائه، فنزل، ومسح التراب من على وجهه، وبكى طويلاً، وقال: اسأل الله أن جعلني وإياك ممن قال فيهم: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين [الججر:47].

تولى علي الخلافة خمس سنوات، ولكنه ظل فقيراً، لم يشبع ولو يوماً واحداً، رجع إلى أهله ذات يوم، فقال: عندكم طعام؟ قالوا: لا !! عندكم شيء؟ قالوا: لا!! فخرج بسيفه الذي هو سيف الرسول  واسمه ذو الفقار، فوقف أمام أهل العراق يقول لهم: قاتلكم الله يا أهل العراق، أموت أنا وأسرتي جوعاً، وهذا سيف الرسول  معي، ولطالما جلّيت به الكربات عن وجه رسول الله  ثم قال: من يشتريه مني بطعام ليلة!!.

لا يجد قوت يومه وهو الذي ذهب إلى بيت المال، وكان مملوءاً بالطعام والمال والسلاح، فوزع ما فيه في يوم واحد، ورش عليه الماء، وصلى ركعتين، وقال: اللهم اشهد أني ما أبقيت لنفسي منه درهماً ولا ديناراً، ولا حبة ولا تمرة ولا زبيبة.

مرض علي  قبل أن يموت فعاده أبو فضالة الأنصاري، وقال له: ما يقيمك بهذا المنزل، ولو هلكت به، لم يلك إلا أعراب جُهينة، فلو دخلت المدينة، كنت بين أصحابك، فلو أصابك ما تخاف، أو نخاف عليك، وليك أصحابك، وكان أبو فضالة من أهل بدر، فقال علي: إني لست ميتاً من مرضي هذا، إنه عهد إلي النبي  أني لا أموت حتى تخضب هذه من هذه[6]، يعني تخضب لحيته من صدغه .

عاش  بطلا، وأسلم بطلاً، وجاهد بطلاً، ومات بطلاً، ويبعث إن شاء الله بطلاً.

علو في الحياة وفي الممات         بحق تلك إحدى الكرمات

كان يقول : متى يبعث أشقاها ! يشير إلى قول النبي : ((إنك ستضرب ضربة هاهنا وضربة هنا، وأشار إلى صدغه، فيسيل دمها حتى تخضب لحيتك، ويكون صاحبها أشقاها، كما كان عاقر الناقة، أشقى ثمود))[7].

خرج علي  قبل صلاة الفجر ليوقظ المسلمين للصلاة، ثم دخل المسجد، فوجد عبد الرحمن بن مُلْجم الخارجي المارد الخبيث، وجده منبطحاً على بطنه، وقد جعل سيفه مما يلي الأرض مسلولاً، فركله علي برجله وقال: لا تنم على بطنك، فإنها نومة أهل النار، وافتتح علي ركعتين، فوثب عليه الخارجي عدو الرحمن، فضربه بالسيف على صدغه فانفلق، فقال علي: الله أكبر.. لله الأمر من قبل ومن بعد، فسقط على وجهه، وسالت لحيته دماءً غزيراً، وحمل إلى البيت، وبكى المسلمون جميعاً، كل الرجال والنساء، والشيوخ والأطفال، وتحولت بيوت المسلمين إلى مناحات، يبكون بطل المواجهة.

قامت عجوز تبكي، وتعبر عن جراحها وأساها، فقالت بيتاً من الشعر، فيه لوعة وأسى وحرقة على هذا البطل العظيم، قالت:

يا ليتها إذ فدت عمراً بخارجةٍ                 فدت علياً بمن شاءت من البشر

تقول: يا ليت المنية، يوم تركت عمرو بن العاص، وأصابت خارجة رئيس الشرطة، وقتل خارجة وسلم عمرو وكان هو المقصود بالقتل، يا ليتها تركت علياً وأصابت من شاءت من البشر.

أبا حسن لهفي لذكراك لهفة            يباشر مكواها الفـؤاد فينضـج

متى تستعيد الأرض جمالها          فتصبح فـي أثـوابهـا تتبهـرج

عفاءٌ على دنيا رحلت لغيره           فليـس بهـا للصـالحين معـرّج

كدأب علي في المواطن كلها           أبي حسن والغصن من حيث يخرج

قتل علي بن أبي طالب، وقد كان ينتظر الموت، وينتظر الشقيّ الذي سيقضي عليه، وكان دائماً يتمثل بهذين البيتين:

اشدد حيازيمك للموت         فإن الموت لاقيكا 

ولا تجزع من الموت          فإن الموت آتيكا

أيها المسلمون:

لماذا نتحدث اليوم عن علي بن أبي طالب؟ لماذا نخصّ اليوم علي بن أبي طالب؟.

إننا نتحدث عن علي بن أبي طالب في هذا اليوم، لأنه بطل المواجهة، ونحن نفتقر إلى المواجهة، لا نتحمل المواجهة، أمة سلمت قيادها لغيرها، أمة سُحقت كرامتها، لأنها لا تملك بطلاً للمواجهة.

أمة أصبح القرار بيد غيرها لأنها لا تقوى على المواجهة.

إن علي بن أبي طالب قدوة لكم أيها الشباب، وأستاذ لكم أيها الأطفال، وهو شيخ للشيوخ، وبطل للأبطال.

إن علي بن أبي طالب يكفيه أنه يحب الله ورسوله، وأن الله ورسوله يحبانه.

سلام عليك يا علي بن أبي طالب، يوم أسلمت، ويوم هاجرت، ويوم بايعت، ويوم قتلت، ويوم تبعث حياً.

عباد الله:

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.





[1] يدوكون: يخوضون ويتساءلون.

[2] أخرجه البخاري (4/207).

[3] أخرجه أبو داود (2/240) رقم (2125 ، 2126) والنسائي (6/129، 130) رقم (3375، 3376) وأحمد (1/80).

[4] أخرجه مسلم (4/1871) رقم (2404) وليس فيه قصة المنافقين ، وهذا السباق ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/114) وقال : رواه الطبراني بإسنادين ، في أحدهما ميمون أبو عبد الله البصري ، وثقه ابن حبان ، وضعفه جماعة ، وبقية رجاله ، رجال الصحيح ، وقوله : ((أما ترضى . . إلخ)) أخرجه البخاري (4/208).

[5] أخرجه البخاري (7/171).

[6] قال الهيثمي في المجمع (9/140) رواه البزار وأحمد بنحوه ، ورجاله موثقون.

[7] قال الهيثمي في المجمع (9/140) رواه الطبراني ، وإسناده حسن.



الخطبة الثانية



الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

أيها المسلمون:

يعيش معنا  دائماً وأبداً في مشاعرنا، وآمالنا، وطموحاتنا.

يعيش معنا، قدوة وأسوة، وإماماً، ومعلماً، وأباً، وقائداً، ومرشداً.

يعيش معنا في ضمائرنا عظيماً، وفي قلوبنا رحيماً، وفي أبصارنا إماماً، وفي آذاننا مبشراً ونذيراً.

هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [التوبة:33].

نسينا في ودادك كل غال                    فأنت اليوم أغلى ما لدينا

نلام على محبتك ويكفي                  لنا شرفٌ نلام وما علينا

ولما نلقكم لكن شـوقـاً                يذكرنـا فكيف إذا التقينا

تسلّى الناس بالدنيا وإنـا           لعمـر الله بعدك ما سلينا

تحدث القرآن عن النبي  فإذا هو الخلوق العظيم، وإذا هو الرؤوف الرحيم.

قال تعالى: وإنك لعلى خلق عظيم [القلم:4].

وقال تعالى: لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [التوبة:128].

وسئلت السيدة عائشة عن أخلاقه  فقال: ((كان خلقه القرآن))[1].

وعلق الله الهداية على اتباعه  فقال: وإن تطيعوه تهتدوا [النور:54].

ونفى الإيمان عن البشرية إذا لم تتحاكم إليه، وتسلم له قيادها، فقال: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً [النساء:65]. وجعل الله محبته موقوفة على اتباعه ، فقال: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران:31].

وحذر الله من مخالفته فقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور:63].

فيا أمة الإسلام، ويا إخوة العقيدة، ويا أبناء الرسالة الخالدة، هذا نبيكم ، وهذا فضله، ووصفه، وشرفه، فلماذا تبحثون عن غيره؟ ولماذا تلتمسون سواه؟

أن هناك آداباً تجاه رسول الله  ينبغي أن يتأدب بها كل مسلم، وكل مؤمن، وكل موحد معه .

ورأس هذه الآداب: كمال التسليم له، والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يعارضه، أو يحمّله شبهة أو يقدّم عليه آراء الرجال، فينبغي أن يوحّد الرسول  بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان، كما يوحّد الله – عز وجل – بالعبادة، والخشوع، والذل، والإنابة، والتوكل.

ومن الأدب مع الرسول : أن لا يتقدم بين يديه بأمر، ولا نهي، ولا إذن، ولا تصرف، حتى يأمر هو، وينهي هو، ويأذن وبتصرف، كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله[الحجرات:1].

وهذه الآية باقية إلى يوم القيامة، لم تنسخ بوفاته  كما يزعم المارقون فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته، كالتقدم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم.

قال مجاهد رحمه الله في معنى الآية: لا تفتاتوا على رسول الله .

وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر، ولا تنهوا حتى ينهى.

ومن الأدب معه  أن لا يجعل دعاءه كدعاء غيره. قال تعالى: لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاًْ [النور:63].

وفيه قولان للمفسرين:

أحدهما: لا تدعونه باسمه، كما يدعو بعضكم بعضاً، بل قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله.

الثاني: أن المعنى، لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضاً، إن شاء أجاب، وإن شاء ترك، بل إذا دعاكم لم يكن لكم بدٌ من إجابته، ولم يسعكم التخلف عنه البتة.

ومن الأدب معه : أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع، من خطبة، أو جهاد، أو رباط، لا يجوز لأحد منهم أن يذهب في حاجته مذهباً، حتى يستأذنه، كما قال تعالى: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه [النور :62].

ومن الأدب معه  عدم استشكال قوله، بل تستشكل الآراء لقوله  ولا يعارض نصّه بقياس، بل تُهدر الأقيسة، وتلقى لنصوصه، ولا يحرّف كلامه عن حقيقة، لخيالٍ يسميه أصحابه معقولاً. نعم هو مجهول وعن الصواب معزول، ولا يوقف ما جاء به  على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه  وهو عين الجرأة.

ومن الأدب معه : أن لا يتهم العبد دليلاً من أدلة الدين أو حديثاً من أحاديث سيد المرسلين، بحيث يظنه فاسد الدلالة، أو ناقص الدلالة، أو أن غيره كان أولى منه، ولكن ليتهم فهمه هو، وعلقه هو، وليعلم أن الآفة منه، والبلية فيه، كما قيل:

وكم من عائب قولاً صحيحاً         وآفته من الفهـم السـقيم

ولكن تأخـذ الأذهـان منـه         على قدر القرائح والفهوم

وهذا هو الواقع، وتلك هي الحقيقة، فإنه ما اتهم أحد دليلاً من أدلة الدين، إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن، المأفون في عقله وذهنه، فالآفة في الذهن العليل، لا في نفس الدليل.

قال الشافعي رحمه الله: أجمع المسلمون، على أن من استبانت له سنة رسول الله  لم يحل له أن يدعها لقول أحد[2].

فاتقوا الله عباد الله، وتأدبوا مع نبيكم، ، وحكموه في أموركم، وانصروا دينه وسنته، ولا تعرضوا عنه، كما أعرضت الأمم الأخرى عن أنبيائها، فإن في الإعراض عنه ؛ الهلاك والدمار في الدنيا، والخزي والندامة يوم القيامة.

وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56]. وقد قال : ((من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشرا))[3].

اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين.

حق لتاريخ ان يخلدك

عبد الحميد كشك (1933م - 1996م). عالم وداعية إسلامي مصري، كفيف، يلقب بـفارس المنابر ومحامي الحركة الإسلامية، ويعد من أشهر خطباء القرن العشرين في العالم العربي والإسلامي. له أكثر من 2000 خطبة مسجلة. خطب مدة أربعين سنة دون أن يخطئ مرة واحدة في اللغة العربية

حياته وعلمه


وُلد عبد الحميد بن عبد العزيز كشك في شبراخيت بمحافظة البحيرة يوم الجمعة 13 ذو القعدة 1351 هـ الموافق لـ 10 مارس 1933م، وحفظ القرآن وهو دون العاشرة من عمره، ثم التحق بالمعهد الديني بالإسكندرية، وفي السنة الثانية ثانوي حصل على تقدير 100%. وكذلك في الشهادة الثانوية الأزهرية وكان ترتيبه الأول على الجمهورية، ثم التحق بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر. وكان الأول على الكلية طوال سنوات الدراسة، وكان أثناء الدراسة الجامعية يقوم مقام الأساتذة بشرح المواد الدراسية في محاضرات عامة للطلاب بتكليف من أساتذته الذين كان الكثير منهم يعرض مادته العلمية عليه قبل شرحها للطلاب، خاصة علوم النحو والصرف.

عُين عبد الحميد كشك معيداً بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بالقاهرة عام 1957م، ولكنه لم يقم إلا بإعطاء محاضرة واحدة للطلاب بعدها رغب عن مهنة التدريس في الجامعة، حيث كانت روحه معلقة بالمنابر التي كان يرتقيها منذ الثانية عشرة من عمره، ولا ينسى تلك الخطبة التي ارتقى فيها منبر المسجد في قريته في هذه السن الصغيرة عندما تغيب خطيب المسجد، وكيف كان شجاعاً فوق مستوى عمره الصغير، وكيف طالب بالمساواة والتراحم بين الناس، بل وكيف طالب بالدواء والكساء لأبناء القرية، الأمر الذي أثار انتباه الناس إليه والتفافهم حوله.

بعد تخرجه من كلية أصول الدين، حصل على إجازة التدريس بامتياز، ومثل الأزهر الشريف في عيد العلم عام 1961م، ثم عمل إماماً وخطيباً بمسجد الطحان بمنطقة الشرابية بالقاهرة. ثم انتقل إلى مسجد منوفي بالشرابية أيضاً، وفي عام 1962م تولى الإمامة والخطابة بمسجد عين الحياة، بشارع مصر والسودان بمنطقة حدائق القبة بالقاهرة. ذلك المسجد الذي ظل يخطب فيه قرابة عشرين عاما

سجنه

اعتقل عام 1965م وظل بالمعتقل لمدة عامين ونصف، تنقل خلالها بين معتقلات طرة وأبو زعبل والقلعة والسجن الحربي. تعرض للتعذيب رغم أنه كان كفيفا لا يبصر منذ صغره، ورغم ذلك احتفظ بوظيفته إمامًا لمسجد عين الحياة.

في عام 1972 بدأ يكثف خطبه وكان يحضر الصلاة معه حشود هائلة من المصلين.[بحاجة لمصدر] ومنذ عام 1976 بدأ الاصطدام بالسلطة وخاصة بعد معاهدة كامب ديفيد حيث اتهم الحكومة بالخيانة للإسلام وأخذ يستعرض صور الفساد في مصر من الناحية الاجتماعية والفنية والحياة العامة. وقد ألقى القبض عليه في عام 1981 مع عدد من المعارضين السياسيين ضمن قرارات سبتمبر الشهيرة للرئيس المصري محمد أنور السادات، بعد هجوم السادات عليه في خطاب 5 سبتمبر 1981. وقد أفرج عنه عام 1982 ولم يعد إلى مسجده الذي منع منه كما منع من الخطابة أو إلقاء الدروس. لقي كشك خلال هذه الاعتقالات عذاباً رهيباً ترك آثاره على كل جسده رغم إعاقته

ًفي رحاب التفسير[عدل]


ترك عبد الحميد كشك 108 كتب تناول فيها كافة مناهج العمل والتربية الإسلامية، وصفت كتاباته من قبل علماء معاصرين بكونها مبسطة لمفاهيم الإسلام، ومراعية لأحتياجات الناس[4].وكان له كتاب من عشرة مجلدات سماه "في رحاب التفسير" ألفه بعد منعه من الخطابة وقام فيه بتفسير القرآن الكريم كاملاً، وهو تفسير يعرض للجوانب الدعوية في القرآن الكريم.

كان عبد الحميد كشك مبصراً إلى أن بلغ سنه الثالثة عشرة ففقد إحدى عينيه، وفي سن السابعة عشرة، فقد العين الأخرى، وكان كثيراً ما يقول عن نفسه، كما كان يقول ابن عباس:

إن يأخذِ الله من عينيّ نورهماففي فؤادي وعقلي عنهما نورُ

وفاته



قبل وفاته وكان يوم جمعة وقبل أن يتنفل قصَ على زوجته وأولاده رؤيا وهي رؤية النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب بالمنام حيث رأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له: "سلم على عمر"، فسلم عليه، ثم وقع على الأرض ميتا فغسله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه. فقالت له زوجته: - وهي التي قصت هذه الرؤيا - علمتنا حديث النبي أنه من رأى رؤيا يكرهها فلا يقصصها. فقال الشيخ كشك: ومن قال لك أنني أكره هذه الرؤيا والله إنني لأرجو أن يكون الأمر كما كان. ثم ذهب وتوضأ في بيته لصلاة الجمعة وكعادته، بدأ يتنفل بركعات قبل الذهاب إلى المسجد، فدخل الصلاة وصلى ركعة، وفي الركعة الثانية، سجد السجدة الأولى ورفع منها ثم سجد السجدة الثانية وفيها توفي. وكان ذلك يوم الجمعة 25 رجب 1417 هـ الموافق لـ 6 ديسمبر 1996م. وكان يدعو الله من قبل أن يتوفاه ساجدا فكان له ما أراد

براءة الصحابة الكرام مما رماهم به اللئام

بسم الله الرحمن الرحيم

براءة الصحابة الكرام مما رماهم به اللئام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقبل البدء:
قال الإمام السيوطي -رحمه الله- في كتابه "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة" ص(5) -في معرض الرد على من قال: إنه لا يحتج بالسنة، إنما يحتج بالقرآن وحده-: "اعلموا -يرحمكم الله- أن من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تذكر إلا عند داعية الضرورة... وهذه آراء ما كنت أستحل حكايتها؛ لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد الذي كان الناس في راحة منه من أعصار".
أما بعد؛
فلقد كان لاتساع الفتوحات بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودخول كثير من الناس في دين الله أفواجًا من سائر الأمم والشعوب أن حدث أمران -كنتيجة طبيعية لهذا الاتساع-:
الأمر الأول: سعة الاجتهاد، والذي يتبعه -ولابد- سعة الاختلاف في الرأي.
الأمر الثاني: كثرة الحاقدين الكائدين للدين في شخص حامليه وحماته ورموزه.
وكان انطلاق هذا الكيد من فئتين اثنتين هما: اليهود والفرس، فأما حسد اليهود وحقدهم فإن ما بيَّنه الله في كتابه لا مزيد عليه لمستزيد. وأما الفرس فقد تعاظم عليهم أن يسلبهم العرب ملكهم بعد أن كانوا يعتبرون سائر الناس عبيدًا لهم، حيث كان سقوط دولتهم على أيدي العرب المسلمين دافعًا لهم على الكيد للإسلام والمسلمين. وأخطر ما في الأمر أن هؤلاء الحاقدين استخدموا الحيلة للكيد للإسلام، فأظهر قوم منهم الإسلام وأبطنوا الكفر، ووجدوا ضالتهم في أهل التشيع؛ فاستمالوهم بإظهار محبة أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستشناع ظلم علي -رضي الله عنه- على حد زعمهم وافترائهم.
وما زالوا يمدونهم في الغي حتى سلكوا بهم مسالك شتى كان من نتيجتها: تكفير أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأسقطوا الشرائع، وأحدثوا البدع والضلالات الكثيرة التي أخرجتهم من الإسلام.
حتى أنه لم يبق شيء يمت للإسلام بصلة إلا وتعرض للهدم والنقض والتشويه والتحريف من قِبَل أعداء الدين -قديمًا وحديثـًا- حقدًا وحسدًا من عند أنفسهم.
ولما كان التاريخ ميدانا خصبًا لحملات التشويه؛ كان له النصيب الأوفر من هذا التشويه، لاسيما تاريخ الصحابة -رضي الله عنهم-، وذلك من خلال العبث بالنصوص وإلصاق الأقوال ونسبتها زورًا إلى الصحابة -رضي الله عنهم-، ولا يخفى ما للروايات التاريخية الساقطة من خطورة في تشويه وجه الحقيقة.
وقد كان وراء هذا التشويه ثلاثة أهدف خبيثة:
أولها: تجريح شهادة الصحابة والطعن في عدالتهم، ومن ثمَّ التشكيك في الكتاب والسنة؛ إذ إن الصحابة هم نقلة هذين الأصلين الضابطين لدين الله وشرعه. وقد أشار إلى ذلك الإمام أبو زرعة الرازي -رحمه الله تعالى- بقوله: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة".
والثاني: هو محاولة من الأعداء لإثبات فكرة أساسية للانحلال من أحكام الشريعة، وهي أنه إذا كان الصحابة أنفسهم لم يلتزموا الإسلام ولم يتقيدوا به؛ فغيرهم من باب أولى ألا يلتزموا به في أنفسهم، وعند التأمل؛ تجد أنه هدف في غاية الخبث؛ لإظهار عجز الإسلام عن الصمود للتجربة والتطبيق، وإثبات عدم صلاحيته في هذا العصر، ذلك أنه إذا ثبت عجزه في تقويم أخلاق الصحابة وسلوكهم وإصلاح جماعتهم بعد أن فارقهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمدة يسيرة؛ فهو أعجز من أن يكون منهجًا للإصلاح في عصرنا هذا.
أما الثالث: فقد صرح به الإمام أبو بكر بن العربي -رحمه الله تعالى- قائلاً: "وذلك كله مصنوع؛ ليوغر قلوب المسلمين على السلف الماضين والخلفاء الراشدين". وأنى لخلف أن يقتدي بسلف وقلبه ساخط عليه؟!
وكان أن سار على درب هؤلاء المشوهين كل حاطب ليل على غير هدى أو منهج قويم، بل على هجين القول وسفه الرأي الذي يستوجب على أهل العلم رده وإنكاره وبيان الحق من الباطل، والصدق من المين.
ولا يخفى ما للصحابة الكرام من مكانة سامقة في تاريخ الإنسانية، فشأنهم ليس كشأن غيرهم، بل لم يسبقهم من أصحاب الرسل سابق، ولم يلحق بهم لاحق، فقد كانوا بحق معجزة الإسلام، وحججه القائمة على الدوام. فبهم أعز الله الدين، وبسط رحمته على العالمين، ومهما تطاولت الأيام، وتراكمت الأعوام ستبقى صفحتهم مضيئة ناصعة -إن شاء الله تعالى-.
"أما أبو بكر وعمر وسائر الخلفاء الأربعة الراشدين وإخوانهم من العشرة المبشرين بالجنة وطبقتهم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، خصوصًا الذين لازموه وراقبوه وتمتعوا بجميل صحبته -من أنفق منهم من قبل الفتح وقاتل، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا- فإنهم جميعًا كانوا شموسًا طلعت في سماء الإنسانية" "مقدمة العلامة محب الدين الخطيب لكتاب "العواصم من القواصم 47".
وهم -رغم هذا كله- بَشر بكل ما في البشرية من أبعاد وبكل ما فيها من نوازع، ولن يتأتى لأحد أن يدعي لهم العصمة في القول أو العمل، أو يمنحهم صفات الملائكة المقربين الذين جُبلوا على الخير وحده، ولم يكن للشر إليهم سبيل، بل لقد عملوا فأخطأ بعضهم في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونزل القرآن يعاتبهم عتاب الأحبة، واجتهدوا؛ فأصابوا حينًا، وأخطئوا حينًا آخر.
ولا يخفى على كل متأمل أن معظم البدع التي لا زالت حية في الأمة إنما ترتكز على التزوير التاريخي والتدليس والكذب في رواية الأحداث لا سيما ما يتعلق بأحداث الصدر الأول من الإسلام.
"ولقد كان المجال التاريخي -ولا زال، وسيظل- مَعْبَرا للتصورات الباهتة، والروايات الموضوعة، التي تؤيد حزبًا ضد حزب، وتعين فريقًا على فريق. إن الرواية التاريخية أصبحت على لسان المحاربين كالسيف الذي في أيديهم يقتلون بها، ويثيرون القلاقل في صفوف أعدائهم. وإذا كانت "الحرب الباردة" تعتمد على الإشاعة والأكاذيب؛ فإن الإشاعة والأكاذيب تحولت إلى روايات تاريخية، بل إلى روايات حديثية يضعها الوضاعون، ثم يرفعونها بلا خوف ولا خجل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو يوقفونها بلا حياء ولا استخزاء عند صحابته -رضوان الله عليهم-" "مقدمة العلامة محمد جميل غازي -رحمه الله تعالى- للعواصم".
وهذا كله يبرهن على أن إعادة النظر في التاريخ الإسلامي قد غدا مطلبًا ملحًا، وواجبًا كفائيًّا يقع على عاتق من كان أهلاً للقيام به، ولا يسقط هذا الواجب؛ إلا إذا تحقق القيام به على أرض الواقع؛ إذ ليست الحاجة إلى التثبت من الأخبار وتوثيق النصوص التاريخية الإسلامية بأقل من الحاجة إلى باقي العلوم الإسلامية الأخرى: كالتفسير، والحديث، والفقه.
فالتوعية التاريخية ضرورة ملحة لاكتمال الرؤية السليمة من جهة، والاستفادة من دراسة التاريخ في مجال التربية والقدوة الحسنة من جهة أخرى، لاسيما إذا استحضرنا في أذهاننا هذه الحقيقة التي لا محيص عنها ولا مجال لإنكارها لدى كل منصف، وهي: أن تاريخ الإسلام في عصر الراشدين هو بحق العصر الذهبي في تاريخ الإسلام كله، والذي يمثل التاريخ التطبيقي الصحيح لتعاليمه الكاملة الشاملة عقيدة وشريعة وسلوكًا، وهو مما يوضح الصورة النموذجية والمثال الذي يجب على مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة أن تسعى للوصول إليه.
وإن مما يبعث الأمل في تحقيق هذه التوعية: تلك الدعوات التي تنبعث من هنا وهناك من أناس استشعروا خطورة الأمر وتوفرت فيهم الغيرة الصادقة، فنادوا بضرورة إعادة دراسة التاريخ الإسلامي وفق منهج المحدثين وطريقتهم في التوثيق وإثبات الحقائق، والتحقق من صحة الروايات ونقد الأخبار، مع الحرص على الأصل المتقدم، وهو: مراعاة منزلة الصحابة وعدالتهم، ومن ثمَّ إعادة كتابة التاريخ بناء على هذا الأصل.
يقول العلامة السلفي المحقق الشيخ محب الدين الخطيب -وهو من أول من نادى بذلك رحمه الله تعالى-: "وإذا بدأ المشتغلون بتاريخ الإسلام من أفاضل المسلمين في تمييز الأصيل عن الدخيل من سيرة هؤلاء الأفاضل العظماء؛ فإنهم ستأخذهم الدهشة لما اخترعه إخوان أبي لؤلؤة وتلاميذ عبد الله بن سبأ والمجوس الذين عجزوا عن مقاومة الإسلام وجهًا لوجه في قتال شريف، فادعوا الإسلام كذبًا، ودخلوا قلعته مع جنوده خلسة، وقاتلوهم بسلاح "التَّقِيَّة" بعد أن حولوا مدلولها إلى النفاق، فأدخلوا في الإسلام ما ليس منه، وألصقوا بسيرة رجاله ما لم يكن فيها ولا من سجية أهلها" اهـ من مقدمة "العواصم من القواصم".
إن الواجب هو التركيز على إبراز تاريخ الجيل الأول من السلف الصالح، والتركيز على مجهودهم الذي قاموا به في تحمل أمانة الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وأن نعرف لهم قدرهم وفضلهم، ونُعرِّف الناس بمواقفهم وأعمالهم؛ لنحبب إلى شبابنا التأسي والاقتداء بهم، والفخر والاعتزاز بالانتساب إليهم؛ ليرتبط حاضر الأمة بماضيها العريق ذي التاريخ المشرق من الجهاد والدعوة ونشر العلم والعدل بقيادة راشدة قادت الناس إلى مراقي الفلاح في الدنيا والآخرة.
وفي ظل الإجرام الرافضي في تشويه صورة الصحابة ونفث سموم الحقد على خيار الخلق بعد الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- تبرز الحاجة الملحة لمعرفة فضائلهم ومعرفة ما كانوا عليه من علو الهمة وسمو الأخلاق، ومن ثمَّ يحسن الاقتداء بهم.
إنَّ ما يجعل الباحث يشعر بالمرارة ما يراه من بون شاسع بين ما هو مستقر في الأذهان من عدالة الصحابة -رضي الله عنهم- وسلامة معتقدهم واستقامة سلوكهم وكريم أخلاقهم وإيثارهم ما عند الله -تعالى-، وبين ما تُصوِّره الروايات التي نقلها بعض الإخباريين والقصاصين والرواة على أنه الواقع التاريخي.
لقد حدث أن كانت هناك مراكز عداء وحقد ضد الصحابة تتلقف ما كان يحدث من أمور بينهم -رضي الله عنهم- ويضخمونها ويهولونها حتى تؤدي إلى تطاير شرر الفتنة، ولا يزالون وراءها حتى تشتعل، ومِن ثمَّ يعملون جاهدين على توسيعها، مصورين الصحابة وهم يحملون السيوف مطالبين بالدنيا ومتاعها غير آبهين لمبادئ الدين وحدوده.
والواجب علينا أن ندافع عن حماهم، ونذود عن حياضهم، ونصون لهم كرامتهم ومكانتهم -رضي الله عنهم أجمعين-.
ومن أمثلة التهم التي رَمى بها هؤلاء الأفاكون الصحابة -رضي الله عنهم-: ادعاؤهم أن منهم من أعان على مقتل عثمان -رضي الله عنه-، وقد كانت فتنة مقتل عثمان -رضي الله عنه- أعظم هذه الفتن وأولها في الإسلام، فقد ترتب عليها نتائج عقدية وعملية كثيرة حيث نشأت فرق وأفكار لا تزال آثارها السيئة ممتدة تفري في جسد الأمة حتى اليوم، وقد أدى ذلك إلى تباين المواقف والآراء بشأن هذه الفتنة، فأما الذين في قلوبهم مرض فاتبعوا المتشابه منه ابتغاء الفتنة والتضليل، وأما أهل السنة والجماعة فكانت مواقفهم واضحة لا غبش فيها منذ الصدر الأول، فقد بينوا الحق ودرسوا القضية من أوثق الطرق وأوفى المسالك، وحملوا الأمور على أحسن المحامل، في الوقت الذي حاد فيه الكائدون عن الجادة، واستمروا في ترسيخ العداء عبر القرون.
إنَّ من جملة ما شغب به المشغبون زعمهم أن عددًا من الصحابة تواطؤا على مقتل عثمان -رضي الله عنه-، فهل حقًا كان أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- قد مالأ عليه؟!
يأتينا الجواب من رجل عاصر الحادثة وهو شاهد عيان عليها كان عمره وقتها أربع عشرة سنة، وهو الحسن البصري -رحمه الله- عندما سُئِل: "أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟!". فقال: "لا! كانوا أعلاجًا من أهل مصر" "تاريخ خليفة 192/1 بسند صحيح". وكذلك الثابت الصحيح عن قيس بن أبي حازم أن الذين قتلوا عثمان ليس فيهم من الصحابة أحد. "كما أخرجه ابن عساكر في "تاريخه"، ترجمة عثمان ص 408".
لقد ثبت يقينًا أن أحدًا من الصحابة -رضي الله عنهم- لم يرضَ بما حلّ لعثمان فضلاً أن يكون قد أعان على قتله، وأن ما خالف ذلك من روايات فكلها مكذوبة.
قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: "ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة، وإنما قتله همج ورعاع من غوغاء القبائل، وسفلة الأطراف والأراذل". "شرح مسلم" للنووي كتاب "فضائل الصحابة".
وقال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "سلوك سبيل الحق أن أحدًا من الصحابة لم يسع عليه ولا قعد عنه... وأن الصحابة برآء من دمه بأجمعهم". "العواصم من القواصم 143" وما بعدها.
وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان -رضي الله عنه-، بل كلهم كرهه ومقته وسب من فعله... ". "البداية والنهاية" أحداث عام 35 هـ.
ولعل في هذه النقول عمن عاصر الأحداث، وعن أئمة الشأن كافية لمن أراد الحق.
وقد يقع عند البعض أن عَمْرًا بن الحمق كان فيمن شارك في مقتل عثمان -رضي الله عنه- وهذا الخبر لا يصح عنه -رضي الله عنه-، وفي الغالب أن من يقع في هذا الخطأ يكون قد اغتر بما يذكره كثير ممن تناول أحداث هذه الفتنة من المؤرخين القدامى لاسيما المعروفين بالعقيدة السلفية الصحيحة في الصحابة: كابن عساكر، وابن كثير، وابن الأثير، وغيرهم، فقد نص ابن عساكر على أن الثابت هو: أن أحدًا من الصحابة لم يشارك في مقتل عثمان، ثم بعدها بقليل ذكر خبر طعن عمرو ابن الحمق لعثمان تسع طعنات، وصنع مثله ابن كثير وابن الأثير وقبلهم شيخ المؤرخين ابن جرير الطبري، كلهم ينص على براءة الصحابة، ثم يورد خبر ابن الحمق مما يشعر القارئ أن عَمَْرًا بن الحمق ليس من الصحابة، ومن ثمَّ يمكن قبول ما نُسب إليه من طعنه لعثمان؛ إذ كيف يقرر المؤرخ الموثوق به أصلاً ثم يروي ما يناقض هذا الأصل بعده بقليل دون تعليق، حتى لو أسند الخبر؛ فإنه يلزم التعليق في مثل هذا منعًا لما يمكن حصوله من التوهم.
ونختم كلامنا بنقل كلام الأئمة لبيان أصول أهل السنة في مواقفهم من الصحابة وما جرى بينهم:
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-... ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيِّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون" "العقيدة الواسطية".
قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم -رضي الله عنهم أجمعين-، وما زال يمر بنا ذلك في: الدواوين، والكتب، والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب... فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه؛ لتصفو القلوب وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم... فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع بينهم وجهاد محّاء، وعبادة ممحصة".
قال الإمام أبو عثمان الصابوني -رحمه الله- في كتابه "عقيدة السلف وأصحاب الحديث": "ويَرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتطهير الألسنة من ذكر ما يتضمن عيبًا لهم ونقصًا فيهم، ويرون الترحم على جميعهم، والموالاة لكافتهم".
قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ومن الحجة البينة المعروفة: ذكر محاسن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلهم أجمعين، والكف عن ذكر مساوئهم والخلاف الذي شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أحدًا منهم أو تـَنقَّصه أو طعن عليهم، أو عرَّض بعيبهم أو عاب أحدًا منهم؛ فهو مبتدع رافضي خبيث مخالف، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة".
ورحم الله عمر بن عبد العزيز عندما قال: "تلك دماء طهر الله منها سيوفنا، فلا نخضب بها ألسنتنا".
وكذلك فإن التعرض لجانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، قال أبو المظفر السمعاني -رحمه الله تعالى-: "التعرض لجانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة".
وبهذا كله يتبين لنا أن الكف عما جرى بين الصحابة مع إحسان الظن بهم هو منهج أهل السنة والجماعة، وأصل من أصولهم العظيمة.

طرف من سيرة أبي بكر -رضي الله عنه-

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون:

ولما طال الأمر على كثير من الناس، أصابت القلوب الغفلة والقسوة وحينما ابتليت بالغفلة والقسوة تخبطت واتخذت طرائق مختلفة، ومن الطرائق المتخبطة اتخاذهم سفلة الناس، وخبالة المجتمعات، قدوات لها تترسم خطاها، وتسير على سيرها، فراج سوق المغنيين والمغنيات، والممثلين والممثلات، واللاعبين واللاعبات، فأمسى التشبه بهم مواكبة للعصر، واتخاذ صورهم وجمعها في ألبومات دليل الحب والولاء، وإذا كان أمثال هؤلاء الساقطين هم قدوة لنا فكبر على الأمة أربعاً.

أيها الاخوة الكرام:

في ظل الضجيج الإعلامي في إبرز القدوات السيئة والمنحرفة، فإنه يحلونا أن نبحث في صفحات التاريخ المشرق، وآياته الخالدة، مشاعل غائبة عن واقع الناس، ولنطلع على أحاديث وقصص ما كانت لتفترى، ونتعرف على ما روى التاريخ من أبناء العظمة الباهرة، إنها ليست أساطير، وإن بترت من فرط إعجازها كالأساطير، إنها حقائق تبين ما كان لأصحاب رسول الله من شخصية وحياة، وإنها لتسمو وتتألق بقدر ما بذلوا في سبيل التفوق يضع يده في العذرة ويدنيها من فيها، فإذا وجد ريحها صدف عنها، فحرمها أبو بكر على نفسه، لقد توصل هذا الإمام بصفاء طبعه وحدة فؤاده إلى ضرر الخمر فحرمها على نفسه، ولم ينزل في تحريمها وحي، ولم تمنعها شريعة، والناس في جاهلية فكيف يحلها اليوم لأنفسهم ناس من الناس يشربونها في منتدياتهم وسمرهم، وبين أيديهم كتاب الله الذي حرمها عليهم.

وفي جانب الصدع بكلمة الحق وإعلانه للناس وحبه العظيم لرسول الله وصحبه على الأذى في ذات ابن هذا الموقف، جاء في الإصابة لابن حجر أن أصحاب رسول الله اجتمعوا وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً، فألح أبو بكر على رسول الله بالظهور قال: ((أبا بكر إنما قليل)) فلم يزل يلح إلى رسول الله حتى ظهر وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، وقام أبو بكر خطيبا ورسوله جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله -عز وجل- والى رسوله، وثار المشركون عليه وعلى المسلمين فضربوهم في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ودنا عتبة بن ربيعة من أبي بكر وجعل يضرب بنعلين مخصوفين حتى لم يعرف أنفه من وجهه، وجاءت بنو تميم وهم قبيلة أبي بكر فأجلواْ المشركين عن أبي بكر وحملوه في ثوب حتى أدخلوه بيته لا يشكون في موته، ورجع بنو تميم فدخلوا المسجد فقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة، ورجعوا إلى أبي بكر يكلمونه، حتى أجابهم آخر النهار، فكان أول ما قاله: ماذا يمكن أن يقول أي إنسان حصل له مثل ما حصل للصديق قال الصديق: ما فعل رسول الله؟ لقد نسي الصديق آلامه الشديدة، نسي الجراح التي كانت تشغب دما، نسي نعلي عتبة بن ربيعة التي هوى بها على وجهه الكريم، وتذكر رسول الله، خشي عليه أن يصيبه المشركون بأذى كما أصيب هو، وحينما سمع بنو تميم سؤال أبي بكر عن الرسول نالوه بألسنتهم وعذلوه، ثم قالوا لأمه، انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه، فلما خلت به وألحت جعل يقول: ما فعل رسول الله، قالت: والله ما أعلم بصاحبك، قال: فاذهبي إلى أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن شئت ذهبت معك إليه، قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا، فدنت منه أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت إن قوما نالوا منك هذا لأهل فسق، وإني لأرجوا أن ينتقم الله لك، قال: ما فعل رسول الله قالت: هذا أمك تسمع، قال: لا عين عليك منها، قالت: سالم وصالح، قال: إي هو: قالت في دار الأرقم، قال: فإن لله علي أن لا أذوق طعاما ولا شرابا أو أتي رسول الله فأمهلتا وحتى إذا هدأت الرجال، وسكن الناس، خرجنا به يتكئ عليهما، حتى دخلتا به على رسول الله فانكب عليه فقبله، وانكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ليس بي إلا ما نال الفاسق من وجهي.

هذا نموذج حق، وموقف صدق من كثير من المواقف المثالية التي أنتجها الصديق في عالم لا يعرف القيم قدرها.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فلم يبلغ الصديق رضوان الله عليه ما بلغ من المنزلة الشامخة، والسؤدد العظيم إلا بالإيمان بالله ورسوله عليه صلوات الله وسلامه عليه، فحين قضى النبي على مشركي قريش وعلى صحابته ما حدث في ليلة الإسراء والمعراج ارتد من ارتد عن ضعفاء الإيمان، وهزئت قريش برسول الله أيما هزء، واستغل الخبيث أبو جهل الفرصة ليفتن أبي بكر بهذا الخبر، فجاء لينظر ماذا يكون موقفه من هذه الحادثة العجيبة، فإذا بأبي بكر يرد على رئيس الضلالة في قريش بهدوء المؤمن الواثق بنبيه، المطمئن إلى صدق رسول الله: أو قد قال ذلك؟ فيقول أبو جهل: نعم! فيقول الصديق: لئن قال ذلك لقد صدق، قال أبو جهل ومن معه: تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وعاد قبل أن يصبح؟ قال أبو بكر إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك من خبر السماء في غدوة أو روحة، إنه إيمان بلغ الدين وأتى أكله كل حين بإذن ربه.

أيها المسلمون:

ولئن كان الناس في خصوماتهم ونزاعاتهم يتراشقون بالسباب والشتم، والكذب البهتان فإن الصديق لم يكن كذلك، عن ربيعة الأسلمي قال: كنت أخدم النبي فأعطاني أرضا وأعطى أبا بكر أرضا، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة فقال أبو بكر: هي في حدي، وقلت أنا: هي في حدي، فكان بيني وبين وبينه كلام، فقال أبو بكر كلمة كرهتها، وندم، فقال: يا ربيعة رد علي بمثلها حتى يكون قصاصاً، فقلت لا أفعل، فقال: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله، فانطلقت أتوله، فجاء أناس من أسلم فقالوا: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله وهو الذي قال لك ما قال؟ قلت: أتدرون من هذا؟ أبو بكر الصديق وهو ثاني اثنين وهو ذو شيبة في الإسلام، فإياكم أن يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله فيغضب لغضبه، فيغضب الله -عز وجل- لغضبهما فيهلك ربيعة، قالوا: فما تأمرنا قلت: ارجعوا وانطلقت وحدي اتبع أبا بكر حتى أتى رسول الله فحدثه الحديث، فقال يا ربيعة، مالك وللصديق فقلت: يا رسول الله كان كذا وكذا، قال لي كلمة كرهتها، فقال لي: قل لي كما قلت لك حتى يكون قصاصا فأبيت قال رسول الله: ((أجل فلا ترد عليه ولكن قل غفر الله لك يا أبا بكر)) فولى أبو بكر وهو يبكي -رضي الله عنهم- أجمعين.

أيها المسلمون:

إنها لآلئ منثورة هنا وهناك من سيرة أولئك، العظماء الذين يجب علينا أن نقرأ سيدهم ونقرأها أبناءنا وننشئهم على وابلها انقياض كي نراها سلوكا عمليا في واقعنا وواقعهم، وما لم يحصل ذلك فإن الشباب والجيل سوف يكون كهشيم تذروه الرياح وسراب يحسبه الظمآن ماء.

زياد علي

زياد علي محمد