بسم الله الرحمن الرحيم
براءة الصحابة الكرام مما رماهم به اللئام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقبل البدء:
قال الإمام السيوطي -رحمه الله- في كتابه "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة" ص(5) -في معرض الرد على من قال: إنه لا يحتج بالسنة، إنما يحتج بالقرآن وحده-: "اعلموا -يرحمكم الله- أن من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تذكر إلا عند داعية الضرورة... وهذه آراء ما كنت أستحل حكايتها؛ لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد الذي كان الناس في راحة منه من أعصار".
أما بعد؛
فلقد كان لاتساع الفتوحات بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودخول كثير من الناس في دين الله أفواجًا من سائر الأمم والشعوب أن حدث أمران -كنتيجة طبيعية لهذا الاتساع-:
الأمر الأول: سعة الاجتهاد، والذي يتبعه -ولابد- سعة الاختلاف في الرأي.
الأمر الثاني: كثرة الحاقدين الكائدين للدين في شخص حامليه وحماته ورموزه.
وكان انطلاق هذا الكيد من فئتين اثنتين هما: اليهود والفرس، فأما حسد اليهود وحقدهم فإن ما بيَّنه الله في كتابه لا مزيد عليه لمستزيد. وأما الفرس فقد تعاظم عليهم أن يسلبهم العرب ملكهم بعد أن كانوا يعتبرون سائر الناس عبيدًا لهم، حيث كان سقوط دولتهم على أيدي العرب المسلمين دافعًا لهم على الكيد للإسلام والمسلمين. وأخطر ما في الأمر أن هؤلاء الحاقدين استخدموا الحيلة للكيد للإسلام، فأظهر قوم منهم الإسلام وأبطنوا الكفر، ووجدوا ضالتهم في أهل التشيع؛ فاستمالوهم بإظهار محبة أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستشناع ظلم علي -رضي الله عنه- على حد زعمهم وافترائهم.
وما زالوا يمدونهم في الغي حتى سلكوا بهم مسالك شتى كان من نتيجتها: تكفير أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأسقطوا الشرائع، وأحدثوا البدع والضلالات الكثيرة التي أخرجتهم من الإسلام.
حتى أنه لم يبق شيء يمت للإسلام بصلة إلا وتعرض للهدم والنقض والتشويه والتحريف من قِبَل أعداء الدين -قديمًا وحديثـًا- حقدًا وحسدًا من عند أنفسهم.
ولما كان التاريخ ميدانا خصبًا لحملات التشويه؛ كان له النصيب الأوفر من هذا التشويه، لاسيما تاريخ الصحابة -رضي الله عنهم-، وذلك من خلال العبث بالنصوص وإلصاق الأقوال ونسبتها زورًا إلى الصحابة -رضي الله عنهم-، ولا يخفى ما للروايات التاريخية الساقطة من خطورة في تشويه وجه الحقيقة.
وقد كان وراء هذا التشويه ثلاثة أهدف خبيثة:
أولها: تجريح شهادة الصحابة والطعن في عدالتهم، ومن ثمَّ التشكيك في الكتاب والسنة؛ إذ إن الصحابة هم نقلة هذين الأصلين الضابطين لدين الله وشرعه. وقد أشار إلى ذلك الإمام أبو زرعة الرازي -رحمه الله تعالى- بقوله: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة".
والثاني: هو محاولة من الأعداء لإثبات فكرة أساسية للانحلال من أحكام الشريعة، وهي أنه إذا كان الصحابة أنفسهم لم يلتزموا الإسلام ولم يتقيدوا به؛ فغيرهم من باب أولى ألا يلتزموا به في أنفسهم، وعند التأمل؛ تجد أنه هدف في غاية الخبث؛ لإظهار عجز الإسلام عن الصمود للتجربة والتطبيق، وإثبات عدم صلاحيته في هذا العصر، ذلك أنه إذا ثبت عجزه في تقويم أخلاق الصحابة وسلوكهم وإصلاح جماعتهم بعد أن فارقهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمدة يسيرة؛ فهو أعجز من أن يكون منهجًا للإصلاح في عصرنا هذا.
أما الثالث: فقد صرح به الإمام أبو بكر بن العربي -رحمه الله تعالى- قائلاً: "وذلك كله مصنوع؛ ليوغر قلوب المسلمين على السلف الماضين والخلفاء الراشدين". وأنى لخلف أن يقتدي بسلف وقلبه ساخط عليه؟!
وكان أن سار على درب هؤلاء المشوهين كل حاطب ليل على غير هدى أو منهج قويم، بل على هجين القول وسفه الرأي الذي يستوجب على أهل العلم رده وإنكاره وبيان الحق من الباطل، والصدق من المين.
ولا يخفى ما للصحابة الكرام من مكانة سامقة في تاريخ الإنسانية، فشأنهم ليس كشأن غيرهم، بل لم يسبقهم من أصحاب الرسل سابق، ولم يلحق بهم لاحق، فقد كانوا بحق معجزة الإسلام، وحججه القائمة على الدوام. فبهم أعز الله الدين، وبسط رحمته على العالمين، ومهما تطاولت الأيام، وتراكمت الأعوام ستبقى صفحتهم مضيئة ناصعة -إن شاء الله تعالى-.
"أما أبو بكر وعمر وسائر الخلفاء الأربعة الراشدين وإخوانهم من العشرة المبشرين بالجنة وطبقتهم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، خصوصًا الذين لازموه وراقبوه وتمتعوا بجميل صحبته -من أنفق منهم من قبل الفتح وقاتل، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا- فإنهم جميعًا كانوا شموسًا طلعت في سماء الإنسانية" "مقدمة العلامة محب الدين الخطيب لكتاب "العواصم من القواصم 47".
وهم -رغم هذا كله- بَشر بكل ما في البشرية من أبعاد وبكل ما فيها من نوازع، ولن يتأتى لأحد أن يدعي لهم العصمة في القول أو العمل، أو يمنحهم صفات الملائكة المقربين الذين جُبلوا على الخير وحده، ولم يكن للشر إليهم سبيل، بل لقد عملوا فأخطأ بعضهم في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونزل القرآن يعاتبهم عتاب الأحبة، واجتهدوا؛ فأصابوا حينًا، وأخطئوا حينًا آخر.
ولا يخفى على كل متأمل أن معظم البدع التي لا زالت حية في الأمة إنما ترتكز على التزوير التاريخي والتدليس والكذب في رواية الأحداث لا سيما ما يتعلق بأحداث الصدر الأول من الإسلام.
"ولقد كان المجال التاريخي -ولا زال، وسيظل- مَعْبَرا للتصورات الباهتة، والروايات الموضوعة، التي تؤيد حزبًا ضد حزب، وتعين فريقًا على فريق. إن الرواية التاريخية أصبحت على لسان المحاربين كالسيف الذي في أيديهم يقتلون بها، ويثيرون القلاقل في صفوف أعدائهم. وإذا كانت "الحرب الباردة" تعتمد على الإشاعة والأكاذيب؛ فإن الإشاعة والأكاذيب تحولت إلى روايات تاريخية، بل إلى روايات حديثية يضعها الوضاعون، ثم يرفعونها بلا خوف ولا خجل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو يوقفونها بلا حياء ولا استخزاء عند صحابته -رضوان الله عليهم-" "مقدمة العلامة محمد جميل غازي -رحمه الله تعالى- للعواصم".
وهذا كله يبرهن على أن إعادة النظر في التاريخ الإسلامي قد غدا مطلبًا ملحًا، وواجبًا كفائيًّا يقع على عاتق من كان أهلاً للقيام به، ولا يسقط هذا الواجب؛ إلا إذا تحقق القيام به على أرض الواقع؛ إذ ليست الحاجة إلى التثبت من الأخبار وتوثيق النصوص التاريخية الإسلامية بأقل من الحاجة إلى باقي العلوم الإسلامية الأخرى: كالتفسير، والحديث، والفقه.
فالتوعية التاريخية ضرورة ملحة لاكتمال الرؤية السليمة من جهة، والاستفادة من دراسة التاريخ في مجال التربية والقدوة الحسنة من جهة أخرى، لاسيما إذا استحضرنا في أذهاننا هذه الحقيقة التي لا محيص عنها ولا مجال لإنكارها لدى كل منصف، وهي: أن تاريخ الإسلام في عصر الراشدين هو بحق العصر الذهبي في تاريخ الإسلام كله، والذي يمثل التاريخ التطبيقي الصحيح لتعاليمه الكاملة الشاملة عقيدة وشريعة وسلوكًا، وهو مما يوضح الصورة النموذجية والمثال الذي يجب على مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة أن تسعى للوصول إليه.
وإن مما يبعث الأمل في تحقيق هذه التوعية: تلك الدعوات التي تنبعث من هنا وهناك من أناس استشعروا خطورة الأمر وتوفرت فيهم الغيرة الصادقة، فنادوا بضرورة إعادة دراسة التاريخ الإسلامي وفق منهج المحدثين وطريقتهم في التوثيق وإثبات الحقائق، والتحقق من صحة الروايات ونقد الأخبار، مع الحرص على الأصل المتقدم، وهو: مراعاة منزلة الصحابة وعدالتهم، ومن ثمَّ إعادة كتابة التاريخ بناء على هذا الأصل.
يقول العلامة السلفي المحقق الشيخ محب الدين الخطيب -وهو من أول من نادى بذلك رحمه الله تعالى-: "وإذا بدأ المشتغلون بتاريخ الإسلام من أفاضل المسلمين في تمييز الأصيل عن الدخيل من سيرة هؤلاء الأفاضل العظماء؛ فإنهم ستأخذهم الدهشة لما اخترعه إخوان أبي لؤلؤة وتلاميذ عبد الله بن سبأ والمجوس الذين عجزوا عن مقاومة الإسلام وجهًا لوجه في قتال شريف، فادعوا الإسلام كذبًا، ودخلوا قلعته مع جنوده خلسة، وقاتلوهم بسلاح "التَّقِيَّة" بعد أن حولوا مدلولها إلى النفاق، فأدخلوا في الإسلام ما ليس منه، وألصقوا بسيرة رجاله ما لم يكن فيها ولا من سجية أهلها" اهـ من مقدمة "العواصم من القواصم".
إن الواجب هو التركيز على إبراز تاريخ الجيل الأول من السلف الصالح، والتركيز على مجهودهم الذي قاموا به في تحمل أمانة الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وأن نعرف لهم قدرهم وفضلهم، ونُعرِّف الناس بمواقفهم وأعمالهم؛ لنحبب إلى شبابنا التأسي والاقتداء بهم، والفخر والاعتزاز بالانتساب إليهم؛ ليرتبط حاضر الأمة بماضيها العريق ذي التاريخ المشرق من الجهاد والدعوة ونشر العلم والعدل بقيادة راشدة قادت الناس إلى مراقي الفلاح في الدنيا والآخرة.
وفي ظل الإجرام الرافضي في تشويه صورة الصحابة ونفث سموم الحقد على خيار الخلق بعد الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- تبرز الحاجة الملحة لمعرفة فضائلهم ومعرفة ما كانوا عليه من علو الهمة وسمو الأخلاق، ومن ثمَّ يحسن الاقتداء بهم.
إنَّ ما يجعل الباحث يشعر بالمرارة ما يراه من بون شاسع بين ما هو مستقر في الأذهان من عدالة الصحابة -رضي الله عنهم- وسلامة معتقدهم واستقامة سلوكهم وكريم أخلاقهم وإيثارهم ما عند الله -تعالى-، وبين ما تُصوِّره الروايات التي نقلها بعض الإخباريين والقصاصين والرواة على أنه الواقع التاريخي.
لقد حدث أن كانت هناك مراكز عداء وحقد ضد الصحابة تتلقف ما كان يحدث من أمور بينهم -رضي الله عنهم- ويضخمونها ويهولونها حتى تؤدي إلى تطاير شرر الفتنة، ولا يزالون وراءها حتى تشتعل، ومِن ثمَّ يعملون جاهدين على توسيعها، مصورين الصحابة وهم يحملون السيوف مطالبين بالدنيا ومتاعها غير آبهين لمبادئ الدين وحدوده.
والواجب علينا أن ندافع عن حماهم، ونذود عن حياضهم، ونصون لهم كرامتهم ومكانتهم -رضي الله عنهم أجمعين-.
ومن أمثلة التهم التي رَمى بها هؤلاء الأفاكون الصحابة -رضي الله عنهم-: ادعاؤهم أن منهم من أعان على مقتل عثمان -رضي الله عنه-، وقد كانت فتنة مقتل عثمان -رضي الله عنه- أعظم هذه الفتن وأولها في الإسلام، فقد ترتب عليها نتائج عقدية وعملية كثيرة حيث نشأت فرق وأفكار لا تزال آثارها السيئة ممتدة تفري في جسد الأمة حتى اليوم، وقد أدى ذلك إلى تباين المواقف والآراء بشأن هذه الفتنة، فأما الذين في قلوبهم مرض فاتبعوا المتشابه منه ابتغاء الفتنة والتضليل، وأما أهل السنة والجماعة فكانت مواقفهم واضحة لا غبش فيها منذ الصدر الأول، فقد بينوا الحق ودرسوا القضية من أوثق الطرق وأوفى المسالك، وحملوا الأمور على أحسن المحامل، في الوقت الذي حاد فيه الكائدون عن الجادة، واستمروا في ترسيخ العداء عبر القرون.
إنَّ من جملة ما شغب به المشغبون زعمهم أن عددًا من الصحابة تواطؤا على مقتل عثمان -رضي الله عنه-، فهل حقًا كان أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- قد مالأ عليه؟!
يأتينا الجواب من رجل عاصر الحادثة وهو شاهد عيان عليها كان عمره وقتها أربع عشرة سنة، وهو الحسن البصري -رحمه الله- عندما سُئِل: "أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟!". فقال: "لا! كانوا أعلاجًا من أهل مصر" "تاريخ خليفة 192/1 بسند صحيح". وكذلك الثابت الصحيح عن قيس بن أبي حازم أن الذين قتلوا عثمان ليس فيهم من الصحابة أحد. "كما أخرجه ابن عساكر في "تاريخه"، ترجمة عثمان ص 408".
لقد ثبت يقينًا أن أحدًا من الصحابة -رضي الله عنهم- لم يرضَ بما حلّ لعثمان فضلاً أن يكون قد أعان على قتله، وأن ما خالف ذلك من روايات فكلها مكذوبة.
قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: "ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة، وإنما قتله همج ورعاع من غوغاء القبائل، وسفلة الأطراف والأراذل". "شرح مسلم" للنووي كتاب "فضائل الصحابة".
وقال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "سلوك سبيل الحق أن أحدًا من الصحابة لم يسع عليه ولا قعد عنه... وأن الصحابة برآء من دمه بأجمعهم". "العواصم من القواصم 143" وما بعدها.
وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان -رضي الله عنه-، بل كلهم كرهه ومقته وسب من فعله... ". "البداية والنهاية" أحداث عام 35 هـ.
ولعل في هذه النقول عمن عاصر الأحداث، وعن أئمة الشأن كافية لمن أراد الحق.
وقد يقع عند البعض أن عَمْرًا بن الحمق كان فيمن شارك في مقتل عثمان -رضي الله عنه- وهذا الخبر لا يصح عنه -رضي الله عنه-، وفي الغالب أن من يقع في هذا الخطأ يكون قد اغتر بما يذكره كثير ممن تناول أحداث هذه الفتنة من المؤرخين القدامى لاسيما المعروفين بالعقيدة السلفية الصحيحة في الصحابة: كابن عساكر، وابن كثير، وابن الأثير، وغيرهم، فقد نص ابن عساكر على أن الثابت هو: أن أحدًا من الصحابة لم يشارك في مقتل عثمان، ثم بعدها بقليل ذكر خبر طعن عمرو ابن الحمق لعثمان تسع طعنات، وصنع مثله ابن كثير وابن الأثير وقبلهم شيخ المؤرخين ابن جرير الطبري، كلهم ينص على براءة الصحابة، ثم يورد خبر ابن الحمق مما يشعر القارئ أن عَمَْرًا بن الحمق ليس من الصحابة، ومن ثمَّ يمكن قبول ما نُسب إليه من طعنه لعثمان؛ إذ كيف يقرر المؤرخ الموثوق به أصلاً ثم يروي ما يناقض هذا الأصل بعده بقليل دون تعليق، حتى لو أسند الخبر؛ فإنه يلزم التعليق في مثل هذا منعًا لما يمكن حصوله من التوهم.
ونختم كلامنا بنقل كلام الأئمة لبيان أصول أهل السنة في مواقفهم من الصحابة وما جرى بينهم:
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-... ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيِّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون" "العقيدة الواسطية".
قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم -رضي الله عنهم أجمعين-، وما زال يمر بنا ذلك في: الدواوين، والكتب، والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب... فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه؛ لتصفو القلوب وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم... فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع بينهم وجهاد محّاء، وعبادة ممحصة".
قال الإمام أبو عثمان الصابوني -رحمه الله- في كتابه "عقيدة السلف وأصحاب الحديث": "ويَرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتطهير الألسنة من ذكر ما يتضمن عيبًا لهم ونقصًا فيهم، ويرون الترحم على جميعهم، والموالاة لكافتهم".
قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ومن الحجة البينة المعروفة: ذكر محاسن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلهم أجمعين، والكف عن ذكر مساوئهم والخلاف الذي شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أحدًا منهم أو تـَنقَّصه أو طعن عليهم، أو عرَّض بعيبهم أو عاب أحدًا منهم؛ فهو مبتدع رافضي خبيث مخالف، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة".
ورحم الله عمر بن عبد العزيز عندما قال: "تلك دماء طهر الله منها سيوفنا، فلا نخضب بها ألسنتنا".
وكذلك فإن التعرض لجانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، قال أبو المظفر السمعاني -رحمه الله تعالى-: "التعرض لجانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة".
وبهذا كله يتبين لنا أن الكف عما جرى بين الصحابة مع إحسان الظن بهم هو منهج أهل السنة والجماعة، وأصل من أصولهم العظيمة.
براءة الصحابة الكرام مما رماهم به اللئام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقبل البدء:
قال الإمام السيوطي -رحمه الله- في كتابه "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة" ص(5) -في معرض الرد على من قال: إنه لا يحتج بالسنة، إنما يحتج بالقرآن وحده-: "اعلموا -يرحمكم الله- أن من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تذكر إلا عند داعية الضرورة... وهذه آراء ما كنت أستحل حكايتها؛ لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد الذي كان الناس في راحة منه من أعصار".
أما بعد؛
فلقد كان لاتساع الفتوحات بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودخول كثير من الناس في دين الله أفواجًا من سائر الأمم والشعوب أن حدث أمران -كنتيجة طبيعية لهذا الاتساع-:
الأمر الأول: سعة الاجتهاد، والذي يتبعه -ولابد- سعة الاختلاف في الرأي.
الأمر الثاني: كثرة الحاقدين الكائدين للدين في شخص حامليه وحماته ورموزه.
وكان انطلاق هذا الكيد من فئتين اثنتين هما: اليهود والفرس، فأما حسد اليهود وحقدهم فإن ما بيَّنه الله في كتابه لا مزيد عليه لمستزيد. وأما الفرس فقد تعاظم عليهم أن يسلبهم العرب ملكهم بعد أن كانوا يعتبرون سائر الناس عبيدًا لهم، حيث كان سقوط دولتهم على أيدي العرب المسلمين دافعًا لهم على الكيد للإسلام والمسلمين. وأخطر ما في الأمر أن هؤلاء الحاقدين استخدموا الحيلة للكيد للإسلام، فأظهر قوم منهم الإسلام وأبطنوا الكفر، ووجدوا ضالتهم في أهل التشيع؛ فاستمالوهم بإظهار محبة أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستشناع ظلم علي -رضي الله عنه- على حد زعمهم وافترائهم.
وما زالوا يمدونهم في الغي حتى سلكوا بهم مسالك شتى كان من نتيجتها: تكفير أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأسقطوا الشرائع، وأحدثوا البدع والضلالات الكثيرة التي أخرجتهم من الإسلام.
حتى أنه لم يبق شيء يمت للإسلام بصلة إلا وتعرض للهدم والنقض والتشويه والتحريف من قِبَل أعداء الدين -قديمًا وحديثـًا- حقدًا وحسدًا من عند أنفسهم.
ولما كان التاريخ ميدانا خصبًا لحملات التشويه؛ كان له النصيب الأوفر من هذا التشويه، لاسيما تاريخ الصحابة -رضي الله عنهم-، وذلك من خلال العبث بالنصوص وإلصاق الأقوال ونسبتها زورًا إلى الصحابة -رضي الله عنهم-، ولا يخفى ما للروايات التاريخية الساقطة من خطورة في تشويه وجه الحقيقة.
وقد كان وراء هذا التشويه ثلاثة أهدف خبيثة:
أولها: تجريح شهادة الصحابة والطعن في عدالتهم، ومن ثمَّ التشكيك في الكتاب والسنة؛ إذ إن الصحابة هم نقلة هذين الأصلين الضابطين لدين الله وشرعه. وقد أشار إلى ذلك الإمام أبو زرعة الرازي -رحمه الله تعالى- بقوله: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة".
والثاني: هو محاولة من الأعداء لإثبات فكرة أساسية للانحلال من أحكام الشريعة، وهي أنه إذا كان الصحابة أنفسهم لم يلتزموا الإسلام ولم يتقيدوا به؛ فغيرهم من باب أولى ألا يلتزموا به في أنفسهم، وعند التأمل؛ تجد أنه هدف في غاية الخبث؛ لإظهار عجز الإسلام عن الصمود للتجربة والتطبيق، وإثبات عدم صلاحيته في هذا العصر، ذلك أنه إذا ثبت عجزه في تقويم أخلاق الصحابة وسلوكهم وإصلاح جماعتهم بعد أن فارقهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمدة يسيرة؛ فهو أعجز من أن يكون منهجًا للإصلاح في عصرنا هذا.
أما الثالث: فقد صرح به الإمام أبو بكر بن العربي -رحمه الله تعالى- قائلاً: "وذلك كله مصنوع؛ ليوغر قلوب المسلمين على السلف الماضين والخلفاء الراشدين". وأنى لخلف أن يقتدي بسلف وقلبه ساخط عليه؟!
وكان أن سار على درب هؤلاء المشوهين كل حاطب ليل على غير هدى أو منهج قويم، بل على هجين القول وسفه الرأي الذي يستوجب على أهل العلم رده وإنكاره وبيان الحق من الباطل، والصدق من المين.
ولا يخفى ما للصحابة الكرام من مكانة سامقة في تاريخ الإنسانية، فشأنهم ليس كشأن غيرهم، بل لم يسبقهم من أصحاب الرسل سابق، ولم يلحق بهم لاحق، فقد كانوا بحق معجزة الإسلام، وحججه القائمة على الدوام. فبهم أعز الله الدين، وبسط رحمته على العالمين، ومهما تطاولت الأيام، وتراكمت الأعوام ستبقى صفحتهم مضيئة ناصعة -إن شاء الله تعالى-.
"أما أبو بكر وعمر وسائر الخلفاء الأربعة الراشدين وإخوانهم من العشرة المبشرين بالجنة وطبقتهم من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، خصوصًا الذين لازموه وراقبوه وتمتعوا بجميل صحبته -من أنفق منهم من قبل الفتح وقاتل، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا- فإنهم جميعًا كانوا شموسًا طلعت في سماء الإنسانية" "مقدمة العلامة محب الدين الخطيب لكتاب "العواصم من القواصم 47".
وهم -رغم هذا كله- بَشر بكل ما في البشرية من أبعاد وبكل ما فيها من نوازع، ولن يتأتى لأحد أن يدعي لهم العصمة في القول أو العمل، أو يمنحهم صفات الملائكة المقربين الذين جُبلوا على الخير وحده، ولم يكن للشر إليهم سبيل، بل لقد عملوا فأخطأ بعضهم في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونزل القرآن يعاتبهم عتاب الأحبة، واجتهدوا؛ فأصابوا حينًا، وأخطئوا حينًا آخر.
ولا يخفى على كل متأمل أن معظم البدع التي لا زالت حية في الأمة إنما ترتكز على التزوير التاريخي والتدليس والكذب في رواية الأحداث لا سيما ما يتعلق بأحداث الصدر الأول من الإسلام.
"ولقد كان المجال التاريخي -ولا زال، وسيظل- مَعْبَرا للتصورات الباهتة، والروايات الموضوعة، التي تؤيد حزبًا ضد حزب، وتعين فريقًا على فريق. إن الرواية التاريخية أصبحت على لسان المحاربين كالسيف الذي في أيديهم يقتلون بها، ويثيرون القلاقل في صفوف أعدائهم. وإذا كانت "الحرب الباردة" تعتمد على الإشاعة والأكاذيب؛ فإن الإشاعة والأكاذيب تحولت إلى روايات تاريخية، بل إلى روايات حديثية يضعها الوضاعون، ثم يرفعونها بلا خوف ولا خجل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أو يوقفونها بلا حياء ولا استخزاء عند صحابته -رضوان الله عليهم-" "مقدمة العلامة محمد جميل غازي -رحمه الله تعالى- للعواصم".
وهذا كله يبرهن على أن إعادة النظر في التاريخ الإسلامي قد غدا مطلبًا ملحًا، وواجبًا كفائيًّا يقع على عاتق من كان أهلاً للقيام به، ولا يسقط هذا الواجب؛ إلا إذا تحقق القيام به على أرض الواقع؛ إذ ليست الحاجة إلى التثبت من الأخبار وتوثيق النصوص التاريخية الإسلامية بأقل من الحاجة إلى باقي العلوم الإسلامية الأخرى: كالتفسير، والحديث، والفقه.
فالتوعية التاريخية ضرورة ملحة لاكتمال الرؤية السليمة من جهة، والاستفادة من دراسة التاريخ في مجال التربية والقدوة الحسنة من جهة أخرى، لاسيما إذا استحضرنا في أذهاننا هذه الحقيقة التي لا محيص عنها ولا مجال لإنكارها لدى كل منصف، وهي: أن تاريخ الإسلام في عصر الراشدين هو بحق العصر الذهبي في تاريخ الإسلام كله، والذي يمثل التاريخ التطبيقي الصحيح لتعاليمه الكاملة الشاملة عقيدة وشريعة وسلوكًا، وهو مما يوضح الصورة النموذجية والمثال الذي يجب على مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة أن تسعى للوصول إليه.
وإن مما يبعث الأمل في تحقيق هذه التوعية: تلك الدعوات التي تنبعث من هنا وهناك من أناس استشعروا خطورة الأمر وتوفرت فيهم الغيرة الصادقة، فنادوا بضرورة إعادة دراسة التاريخ الإسلامي وفق منهج المحدثين وطريقتهم في التوثيق وإثبات الحقائق، والتحقق من صحة الروايات ونقد الأخبار، مع الحرص على الأصل المتقدم، وهو: مراعاة منزلة الصحابة وعدالتهم، ومن ثمَّ إعادة كتابة التاريخ بناء على هذا الأصل.
يقول العلامة السلفي المحقق الشيخ محب الدين الخطيب -وهو من أول من نادى بذلك رحمه الله تعالى-: "وإذا بدأ المشتغلون بتاريخ الإسلام من أفاضل المسلمين في تمييز الأصيل عن الدخيل من سيرة هؤلاء الأفاضل العظماء؛ فإنهم ستأخذهم الدهشة لما اخترعه إخوان أبي لؤلؤة وتلاميذ عبد الله بن سبأ والمجوس الذين عجزوا عن مقاومة الإسلام وجهًا لوجه في قتال شريف، فادعوا الإسلام كذبًا، ودخلوا قلعته مع جنوده خلسة، وقاتلوهم بسلاح "التَّقِيَّة" بعد أن حولوا مدلولها إلى النفاق، فأدخلوا في الإسلام ما ليس منه، وألصقوا بسيرة رجاله ما لم يكن فيها ولا من سجية أهلها" اهـ من مقدمة "العواصم من القواصم".
إن الواجب هو التركيز على إبراز تاريخ الجيل الأول من السلف الصالح، والتركيز على مجهودهم الذي قاموا به في تحمل أمانة الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وأن نعرف لهم قدرهم وفضلهم، ونُعرِّف الناس بمواقفهم وأعمالهم؛ لنحبب إلى شبابنا التأسي والاقتداء بهم، والفخر والاعتزاز بالانتساب إليهم؛ ليرتبط حاضر الأمة بماضيها العريق ذي التاريخ المشرق من الجهاد والدعوة ونشر العلم والعدل بقيادة راشدة قادت الناس إلى مراقي الفلاح في الدنيا والآخرة.
وفي ظل الإجرام الرافضي في تشويه صورة الصحابة ونفث سموم الحقد على خيار الخلق بعد الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- تبرز الحاجة الملحة لمعرفة فضائلهم ومعرفة ما كانوا عليه من علو الهمة وسمو الأخلاق، ومن ثمَّ يحسن الاقتداء بهم.
إنَّ ما يجعل الباحث يشعر بالمرارة ما يراه من بون شاسع بين ما هو مستقر في الأذهان من عدالة الصحابة -رضي الله عنهم- وسلامة معتقدهم واستقامة سلوكهم وكريم أخلاقهم وإيثارهم ما عند الله -تعالى-، وبين ما تُصوِّره الروايات التي نقلها بعض الإخباريين والقصاصين والرواة على أنه الواقع التاريخي.
لقد حدث أن كانت هناك مراكز عداء وحقد ضد الصحابة تتلقف ما كان يحدث من أمور بينهم -رضي الله عنهم- ويضخمونها ويهولونها حتى تؤدي إلى تطاير شرر الفتنة، ولا يزالون وراءها حتى تشتعل، ومِن ثمَّ يعملون جاهدين على توسيعها، مصورين الصحابة وهم يحملون السيوف مطالبين بالدنيا ومتاعها غير آبهين لمبادئ الدين وحدوده.
والواجب علينا أن ندافع عن حماهم، ونذود عن حياضهم، ونصون لهم كرامتهم ومكانتهم -رضي الله عنهم أجمعين-.
ومن أمثلة التهم التي رَمى بها هؤلاء الأفاكون الصحابة -رضي الله عنهم-: ادعاؤهم أن منهم من أعان على مقتل عثمان -رضي الله عنه-، وقد كانت فتنة مقتل عثمان -رضي الله عنه- أعظم هذه الفتن وأولها في الإسلام، فقد ترتب عليها نتائج عقدية وعملية كثيرة حيث نشأت فرق وأفكار لا تزال آثارها السيئة ممتدة تفري في جسد الأمة حتى اليوم، وقد أدى ذلك إلى تباين المواقف والآراء بشأن هذه الفتنة، فأما الذين في قلوبهم مرض فاتبعوا المتشابه منه ابتغاء الفتنة والتضليل، وأما أهل السنة والجماعة فكانت مواقفهم واضحة لا غبش فيها منذ الصدر الأول، فقد بينوا الحق ودرسوا القضية من أوثق الطرق وأوفى المسالك، وحملوا الأمور على أحسن المحامل، في الوقت الذي حاد فيه الكائدون عن الجادة، واستمروا في ترسيخ العداء عبر القرون.
إنَّ من جملة ما شغب به المشغبون زعمهم أن عددًا من الصحابة تواطؤا على مقتل عثمان -رضي الله عنه-، فهل حقًا كان أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- قد مالأ عليه؟!
يأتينا الجواب من رجل عاصر الحادثة وهو شاهد عيان عليها كان عمره وقتها أربع عشرة سنة، وهو الحسن البصري -رحمه الله- عندما سُئِل: "أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟!". فقال: "لا! كانوا أعلاجًا من أهل مصر" "تاريخ خليفة 192/1 بسند صحيح". وكذلك الثابت الصحيح عن قيس بن أبي حازم أن الذين قتلوا عثمان ليس فيهم من الصحابة أحد. "كما أخرجه ابن عساكر في "تاريخه"، ترجمة عثمان ص 408".
لقد ثبت يقينًا أن أحدًا من الصحابة -رضي الله عنهم- لم يرضَ بما حلّ لعثمان فضلاً أن يكون قد أعان على قتله، وأن ما خالف ذلك من روايات فكلها مكذوبة.
قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى-: "ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة، وإنما قتله همج ورعاع من غوغاء القبائل، وسفلة الأطراف والأراذل". "شرح مسلم" للنووي كتاب "فضائل الصحابة".
وقال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "سلوك سبيل الحق أن أحدًا من الصحابة لم يسع عليه ولا قعد عنه... وأن الصحابة برآء من دمه بأجمعهم". "العواصم من القواصم 143" وما بعدها.
وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان -رضي الله عنه-، بل كلهم كرهه ومقته وسب من فعله... ". "البداية والنهاية" أحداث عام 35 هـ.
ولعل في هذه النقول عمن عاصر الأحداث، وعن أئمة الشأن كافية لمن أراد الحق.
وقد يقع عند البعض أن عَمْرًا بن الحمق كان فيمن شارك في مقتل عثمان -رضي الله عنه- وهذا الخبر لا يصح عنه -رضي الله عنه-، وفي الغالب أن من يقع في هذا الخطأ يكون قد اغتر بما يذكره كثير ممن تناول أحداث هذه الفتنة من المؤرخين القدامى لاسيما المعروفين بالعقيدة السلفية الصحيحة في الصحابة: كابن عساكر، وابن كثير، وابن الأثير، وغيرهم، فقد نص ابن عساكر على أن الثابت هو: أن أحدًا من الصحابة لم يشارك في مقتل عثمان، ثم بعدها بقليل ذكر خبر طعن عمرو ابن الحمق لعثمان تسع طعنات، وصنع مثله ابن كثير وابن الأثير وقبلهم شيخ المؤرخين ابن جرير الطبري، كلهم ينص على براءة الصحابة، ثم يورد خبر ابن الحمق مما يشعر القارئ أن عَمَْرًا بن الحمق ليس من الصحابة، ومن ثمَّ يمكن قبول ما نُسب إليه من طعنه لعثمان؛ إذ كيف يقرر المؤرخ الموثوق به أصلاً ثم يروي ما يناقض هذا الأصل بعده بقليل دون تعليق، حتى لو أسند الخبر؛ فإنه يلزم التعليق في مثل هذا منعًا لما يمكن حصوله من التوهم.
ونختم كلامنا بنقل كلام الأئمة لبيان أصول أهل السنة في مواقفهم من الصحابة وما جرى بينهم:
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-... ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيِّر عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون" "العقيدة الواسطية".
قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم -رضي الله عنهم أجمعين-، وما زال يمر بنا ذلك في: الدواوين، والكتب، والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب... فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه؛ لتصفو القلوب وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم... فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع بينهم وجهاد محّاء، وعبادة ممحصة".
قال الإمام أبو عثمان الصابوني -رحمه الله- في كتابه "عقيدة السلف وأصحاب الحديث": "ويَرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتطهير الألسنة من ذكر ما يتضمن عيبًا لهم ونقصًا فيهم، ويرون الترحم على جميعهم، والموالاة لكافتهم".
قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "ومن الحجة البينة المعروفة: ذكر محاسن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلهم أجمعين، والكف عن ذكر مساوئهم والخلاف الذي شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أحدًا منهم أو تـَنقَّصه أو طعن عليهم، أو عرَّض بعيبهم أو عاب أحدًا منهم؛ فهو مبتدع رافضي خبيث مخالف، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة".
ورحم الله عمر بن عبد العزيز عندما قال: "تلك دماء طهر الله منها سيوفنا، فلا نخضب بها ألسنتنا".
وكذلك فإن التعرض لجانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، قال أبو المظفر السمعاني -رحمه الله تعالى-: "التعرض لجانب الصحابة علامة على خذلان فاعله، بل هو بدعة وضلالة".
وبهذا كله يتبين لنا أن الكف عما جرى بين الصحابة مع إحسان الظن بهم هو منهج أهل السنة والجماعة، وأصل من أصولهم العظيمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق