الخطبة الأولى
أما بعد: فلا زال الحديث موصولاً بسابقه عن أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعن دعوته لقومه وعن أنواع المحن والابتلاءات التي اعترضته في سبيل الدعوة إلى الله والتي كان معها صابرًا محتسبًا لم يضطرب في إيمانه ودعوته ولم يتزعزع بل كان مثل الجبال الرواسخ الشوامخ، ولقد مرّ بنا كيفية دعوته لأبيه آزر وكيف كان مثالاً للابن البار بأبيه الذي لا يريد له إلا كل خير، وكيف كان أسلوبه في التخاطب مع أبيه وطريقة دعوته ومناصحته إياه، وطريقته في محاولة إقناعه لأبيه بأبسط وأيسر السبل التي تصل إلى قلبه بالحكمة والموعظة الحسنة.
والآن نحن مع موقفه عليه الصلاة والسلام مع الملك الطاغية، فقد نشأ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وسط بيئة فاسدة يحكمها ملك طاغية مستبدٌّ برأيه، قيل عن اسمه: النمرود، قبض على زمام الملك في بابل في أرض العراق، وكان أهلها ينعمون برغد العيش وظلال الأمن غير أنهم كانوا يتخبطون في ظلام دامس من الشرك والوثنية؛ ينحتون الأصنام بأيديهم ثم يجعلونها أربابًا من دون الله، ولما رأى النمرود نفسه حاكمًا مطلقًا بين البشر تحيط به قوة الملك والسلطان والقوم حوله يتخبطون في الجهالات أقام نفسه إلهًا ودعا الناس إلى عبادته؛ لأن عبادتهم للأصنام وجهلهم بصفات الإله سوّغت له هذه الدعوة الباطلة، فالأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تملك لهم نفعًا ولا ضرًا، فهو في نظره ونظرهم القاصر وأذهانهم المتبلّدة أحسن وأفضل من تلك الأصنام؛ لأنه ينطق ويفكّر ويدرك ويحسّ ويشعر ويعطيهم الأموال، فقالوا: لِمَ لا يكون إلهًا؟! إذًا هو أولى بالعبادة من تلك الأحجار التي عبدوها واتخذوها آلهة، ونشأ الجميع وشبُّوا وشابوا على تلك الضلالات، وعاشوا حياتهم المتبلدة التي أثّرت في أفكارهم وعقولهم ورسخت وسكنت سويداء قلوبهم ولم يرضوا عنها بديلاً مهما كان الإيضاح والبيان والحجة والبرهان.
نشأ إبراهيم عليه السلام في هذا المحيط الكافر وقد أعطاه الله الرشد والصواب وأعطاه من الحجة والبرهان ما يُسكت ويُخرس به أفواه الكفرة والمعاندين، فهو يحب مقابلة الحجة بالحجة واليقين، والشبهة بالدليل والبرهان، فابتدأ بذلك في نفسه ومع أبيه ومع الجبار المعاند النمرود ومع قومه أجمعين؛ لتقوم الحجة وتتضح مثل الشمس في رابعة النهار.
لقد بدا إبراهيم عليه السلام مفعم القلب بالإيمان بربه، ممتلئًا بالثقة واليقين بوعد الله بالنصر له، موقنًا بما أوحى الله تعالى إليه من أمر الغيب وأمر الإيمان، ويعلم أن الله تعالى هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ولكنه أراد الاطلاع على آيات الله البينات الواضحات على الإحياء والإماتة والبعث والنشور ليحاجّ قومه المعاندين المكابرين الكافرين بشيء رآه ببصره وأدركه بثاقب بصيرته واطمأن له قلبه، رأى ذلك عيانًا أمام ناظريه فازداد إيمانًا واطمئنانًا وقوة في الحجة والبرهان والبيان أمام أولئك القوم العتاة الجبابرة والكفرة. ولم يكن ذلك من قِبَلِ الشك منه في وحدانية الله عز وجل أو في قدرته على الإحياء والإماتة كما يفهمه من قلّ علمه عندما يفهم الآيات على ظاهرها، مع أنه ثبت في الحديث الصحيح عن رسولنا محمد البيان الشافي لهذا المفهوم الخاطئ حيث هضم من حقّ نفسه عليه الصلاة والسلام تواضعًا منه وإيضاحًا للحق في جهة أبينا إبراهيم عليه السلام لينتفي عنه الشك الوارد في مفهوم الآية القرآنية، وفيه أيضًا الإعلام بأن المسألة من إبراهيم عليه السلام لم تكن من جهة الشك في قدرة الله تعالى، ولكن من قَبِيلِ العلم بالعيان؛ لأن المعاينة تفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يكون في الاستدلال بغير الشيء الواضح للعيان. روى البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي الآية [البقرة: 260 ])).
ولقد أجاب الله عز وجل طلب وسؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فأدرك عليه السلام عجائب قدرة الله عز وجل وأبعد دقائق خلقه وتصويره، واطمأن قلبه وسكن فؤاده وازداد يقينه وإيمانه وخشيته وتقواه وخوفه من الله ذي العزة والجبروت مالك الملك العزيز الحكيم الفعال لما يريد، فأخذ أربعة من الطير كما أمره ربه تبارك وتعالى وضمّها إليه ليتعرف أجزاءها ويتأمل خلقها، ثم ذبحها وجعلها أجزاءً وفرقها أشلاء، وجعل على كل جبل منها جزءًا مختلطًا بغيره من الأجزاء الأخرى من الطيور الأربعة، وبعد ذلك دعاهن إليه كما أمره الله جل جلاله وتعالى سلطانه فأتته سعيًا بإذن الله، وصار كل جزء ينضّم إلى مثله ومكانه، وعادت الأشلاء المتناثرة كل في مكانه، وسرعان ما سرت فيها الحياة ودبت وجاءت إليه مسرعة بقدرة الله عز شأنه وتعالى سلطانه، وإبراهيم عليه السلام يرى آيات الله في الخلق والإبداع، فهو سبحانه إذا أراد أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ البقرة: 260].
لقد كانت المناظرة بين إبراهيم عليه السلام وبين النمرود مناظرةً مُفْحِمةً للنمرود ومن سار على دربه، مقنعةً لمن يريد طريق الإيمان، مسكتةً لأهل الكفر والطغيان. لقد سأل النمرودُ إبراهيمَ عليه السلام وقال له: من ربك؟ قال: رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي: إن الإحياء والإماتة مظهر من مظاهر قدرة الله تعالى لا يقدر عليها إلا هو سبحانه وتعالى، لكن الحماقة وبلادة الفكر جعلت الطاغية يدعي الإحياء والإماتة أنها بيده كما ورد ذلك في الآية الكريمة عن قوله: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، ودعا حاجبه وقال له: اذهب فأتني برجلين من السجن قد استوجبا القتل، أي: حكم عليهما بالإعدام والموت، فعندما أتى بهما الحاجب أمر الجلاّد أن يضرب عنق أحدهما ويقتله بالسيف، فقتله فمات، وقال النمرود: هذا أمتُّه، وأمر بإطلاق سراح الثاني فأطلق، وقال: هذا أحييته. وهكذا بمنتهى البلادة والغباء والسخافة والحماقة أراد أن يظهر مدّعيًا قدرته على الإحياء والإماتة، ولكن إبراهيم عليه السلام قصم ظهر المكابر المعاند وألجمه لجامًا لم يستطع بعده كلامًا إلا الدهشة والذهول، فقال عليه السلام: إن ربي الذي يحيي ويميت يأتي بالشمس كل يوم من المشرق فأت بها أنت من المغرب إن كنت تستطيع التغيير في نظام هذا الكون العجيب، فعندها انقطع جدل المجادل العنيد وبُهت وذُهِل وبقيت قصته عبرة وعظة للمتعظين.
وهكذا يخفت صوت الباطل ويضمحل ويبقى صوت الحق مدوّيًا شامخًا في الوقت نفسه على مر العصور والأزمان، روي عن زيد بن أسلم قوله: أرسل الله إلى ذلك الملك الجبار بعوضة سلطها عليه، فدخلت في منخره ورأسه وكان يُضرب رأسه بالمرازب والأحذية ليهدأ من شدة الألم، وبقي على تلك الحال حتى هلك، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 258].
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فلم أرغب الانتقال عن هذه الآية دون التعريج عليها وإعطائها جزءًا يسيرًا من الحديث حول معناها وما ورد فيها، ولا يُعْتبر ذلك خروجًا عن موضوع إبراهيم عليه السلام وما يتعلق به، بل هذه الآية واقعة بين تلك الآيتين مقرّرة ومرسخة عقيدة التوحيد في قلوب أهل الإيمان الذين أشار الله إليهم في الآية التي سبقت تلك الآيات وورد فيها أكمل البيان وذلك بالربط بين آي القرآن، ومن يتأمل ذلك ويتدبره إلا من أعطاهم الله صفاء الفكر والأذهان وذاقوا حلاوة الإيمان، نسأل الله تعالى من واسع فضله ورحمته أجزل العطاء، وفي الخطبة القادمة إن شاء الله يكون الكلام حول دعوته لقومه وزواجه وعمارة البيت العتيق وعن ابنه الذبيح إسماعيل عليهما السلام.
جاء قبل هذه الأمثلة الثلاثة عن ولاية الله تعالى لعباده المؤمنين وإخراجهم من الظلمات إلى النور وعن الكافرين وأن الطاغوت هو وليهم قوله عز وجل: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 257]. وسبق هذه الآية آية الكرسي أعظم آية في القرآن، وبعدها الآية الدالة على عدم الإكراه في الدين بعد أن تبين الرشد من الغي والكفر بالطاغوت والاستمساك بالعروة الوثقى كلمة التوحيد والإخلاص لكي يتحقق الإيمان.
وأعود لذكر شيء موجز عن الآية التي أعقبت تأييد الله وولايته لإبراهيم بالحجة القاطعة حيث نصره على النمرود، فهذه الآية عطف على الآية التي قبلها، وفيها من المشابهة مثل قول الطاغية، ولكن هذا الرجل كان غير الطاغية الذي ادعى الألوهية والربوبية والإحياء والإماتة والرزق وغيرها مما دار في ذهن وتفكير ذلك الذي مرّ على القرية الخاوية، فهذا مُستبعِدٌ مُستنكِرٌ كيفيةَ إحيائها بعد موت أهلها وتهدّم مبانيها غير مُدَّع لنفسه أي شيء، فعندما مرّ على قرية ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها وقف متفكرًا فيما آلَ أمرُها إليه بعد العمارة العظيمة وقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، فاعترف بوجود ووحدانية الله ولم يدّعِ ذلك لنفسه، ولكنه استبعد واستنكر واستغرب الكيفية لإحيائها مرة ثانية ولأهلها لما رأى من اندثارها وشدة خرابها وبُعْدِها عن الْعَوْدِ على ما كانت عليه، فأماته الله عز وجل مائة سنة ثم بعثه بعدما أحيا تلك القرية وأحيا ساكنيها وأراه الآية الكونية الدالة على قدرته عز وجل في حماره وفي نفسه وفي طعامه وشرابه، وجعله آية للناس وعبرة، وقيل بأن الله عز وجل لما بعثه بعد موته كان أول شيء أحياه فيه عينيه لينظر بهما إلى قدرة الله تبارك وتعالى فيه كيف يحيي بدنه، فلما استقل سويًا على قدميه قال الله له بواسطة الملك: كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قال ذلك لأنه مات أول النهار ثم بعثه الله آخره، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قال الله عز وجل: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ. وهذه آية ثانية في الطعام والشراب حيث كان معه العنب والتين وشراب العصير ولم يتغير من ذلك شيء أو يستحِل طوال تلك السنين العديدة، فلم يُنْتِن أو يَتَعَفَّن أو يخرب أو يستحل أو يتغير أو ينقص منه شيء كما هي العادة. والآية الثالثة حماره الذي أحياه الله عز وجل وهو ينظر إليه، حيث جمع الله عظامه المتناثرة وركّبها وأعادها كما كانت حيث كساها اللحم والعصب والعروق والجلد وبعث فيها الروح، والرجل ينظر قدرة الله عز وجل على الإحياء بعد الإماتة مشاهدة أمام عينيه وقلبه وفكره الذي عرف بها الحياة والموت له ولحماره وعدم تغير طعامه وشرابه، قال تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 259].
أما بعد: فلا زال الحديث موصولاً بسابقه عن أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعن دعوته لقومه وعن أنواع المحن والابتلاءات التي اعترضته في سبيل الدعوة إلى الله والتي كان معها صابرًا محتسبًا لم يضطرب في إيمانه ودعوته ولم يتزعزع بل كان مثل الجبال الرواسخ الشوامخ، ولقد مرّ بنا كيفية دعوته لأبيه آزر وكيف كان مثالاً للابن البار بأبيه الذي لا يريد له إلا كل خير، وكيف كان أسلوبه في التخاطب مع أبيه وطريقة دعوته ومناصحته إياه، وطريقته في محاولة إقناعه لأبيه بأبسط وأيسر السبل التي تصل إلى قلبه بالحكمة والموعظة الحسنة.
والآن نحن مع موقفه عليه الصلاة والسلام مع الملك الطاغية، فقد نشأ إبراهيم عليه الصلاة والسلام وسط بيئة فاسدة يحكمها ملك طاغية مستبدٌّ برأيه، قيل عن اسمه: النمرود، قبض على زمام الملك في بابل في أرض العراق، وكان أهلها ينعمون برغد العيش وظلال الأمن غير أنهم كانوا يتخبطون في ظلام دامس من الشرك والوثنية؛ ينحتون الأصنام بأيديهم ثم يجعلونها أربابًا من دون الله، ولما رأى النمرود نفسه حاكمًا مطلقًا بين البشر تحيط به قوة الملك والسلطان والقوم حوله يتخبطون في الجهالات أقام نفسه إلهًا ودعا الناس إلى عبادته؛ لأن عبادتهم للأصنام وجهلهم بصفات الإله سوّغت له هذه الدعوة الباطلة، فالأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تملك لهم نفعًا ولا ضرًا، فهو في نظره ونظرهم القاصر وأذهانهم المتبلّدة أحسن وأفضل من تلك الأصنام؛ لأنه ينطق ويفكّر ويدرك ويحسّ ويشعر ويعطيهم الأموال، فقالوا: لِمَ لا يكون إلهًا؟! إذًا هو أولى بالعبادة من تلك الأحجار التي عبدوها واتخذوها آلهة، ونشأ الجميع وشبُّوا وشابوا على تلك الضلالات، وعاشوا حياتهم المتبلدة التي أثّرت في أفكارهم وعقولهم ورسخت وسكنت سويداء قلوبهم ولم يرضوا عنها بديلاً مهما كان الإيضاح والبيان والحجة والبرهان.
نشأ إبراهيم عليه السلام في هذا المحيط الكافر وقد أعطاه الله الرشد والصواب وأعطاه من الحجة والبرهان ما يُسكت ويُخرس به أفواه الكفرة والمعاندين، فهو يحب مقابلة الحجة بالحجة واليقين، والشبهة بالدليل والبرهان، فابتدأ بذلك في نفسه ومع أبيه ومع الجبار المعاند النمرود ومع قومه أجمعين؛ لتقوم الحجة وتتضح مثل الشمس في رابعة النهار.
لقد بدا إبراهيم عليه السلام مفعم القلب بالإيمان بربه، ممتلئًا بالثقة واليقين بوعد الله بالنصر له، موقنًا بما أوحى الله تعالى إليه من أمر الغيب وأمر الإيمان، ويعلم أن الله تعالى هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ولكنه أراد الاطلاع على آيات الله البينات الواضحات على الإحياء والإماتة والبعث والنشور ليحاجّ قومه المعاندين المكابرين الكافرين بشيء رآه ببصره وأدركه بثاقب بصيرته واطمأن له قلبه، رأى ذلك عيانًا أمام ناظريه فازداد إيمانًا واطمئنانًا وقوة في الحجة والبرهان والبيان أمام أولئك القوم العتاة الجبابرة والكفرة. ولم يكن ذلك من قِبَلِ الشك منه في وحدانية الله عز وجل أو في قدرته على الإحياء والإماتة كما يفهمه من قلّ علمه عندما يفهم الآيات على ظاهرها، مع أنه ثبت في الحديث الصحيح عن رسولنا محمد البيان الشافي لهذا المفهوم الخاطئ حيث هضم من حقّ نفسه عليه الصلاة والسلام تواضعًا منه وإيضاحًا للحق في جهة أبينا إبراهيم عليه السلام لينتفي عنه الشك الوارد في مفهوم الآية القرآنية، وفيه أيضًا الإعلام بأن المسألة من إبراهيم عليه السلام لم تكن من جهة الشك في قدرة الله تعالى، ولكن من قَبِيلِ العلم بالعيان؛ لأن المعاينة تفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يكون في الاستدلال بغير الشيء الواضح للعيان. روى البخاري رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي الآية [البقرة: 260 ])).
ولقد أجاب الله عز وجل طلب وسؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فأدرك عليه السلام عجائب قدرة الله عز وجل وأبعد دقائق خلقه وتصويره، واطمأن قلبه وسكن فؤاده وازداد يقينه وإيمانه وخشيته وتقواه وخوفه من الله ذي العزة والجبروت مالك الملك العزيز الحكيم الفعال لما يريد، فأخذ أربعة من الطير كما أمره ربه تبارك وتعالى وضمّها إليه ليتعرف أجزاءها ويتأمل خلقها، ثم ذبحها وجعلها أجزاءً وفرقها أشلاء، وجعل على كل جبل منها جزءًا مختلطًا بغيره من الأجزاء الأخرى من الطيور الأربعة، وبعد ذلك دعاهن إليه كما أمره الله جل جلاله وتعالى سلطانه فأتته سعيًا بإذن الله، وصار كل جزء ينضّم إلى مثله ومكانه، وعادت الأشلاء المتناثرة كل في مكانه، وسرعان ما سرت فيها الحياة ودبت وجاءت إليه مسرعة بقدرة الله عز شأنه وتعالى سلطانه، وإبراهيم عليه السلام يرى آيات الله في الخلق والإبداع، فهو سبحانه إذا أراد أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ البقرة: 260].
لقد كانت المناظرة بين إبراهيم عليه السلام وبين النمرود مناظرةً مُفْحِمةً للنمرود ومن سار على دربه، مقنعةً لمن يريد طريق الإيمان، مسكتةً لأهل الكفر والطغيان. لقد سأل النمرودُ إبراهيمَ عليه السلام وقال له: من ربك؟ قال: رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ أي: إن الإحياء والإماتة مظهر من مظاهر قدرة الله تعالى لا يقدر عليها إلا هو سبحانه وتعالى، لكن الحماقة وبلادة الفكر جعلت الطاغية يدعي الإحياء والإماتة أنها بيده كما ورد ذلك في الآية الكريمة عن قوله: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، ودعا حاجبه وقال له: اذهب فأتني برجلين من السجن قد استوجبا القتل، أي: حكم عليهما بالإعدام والموت، فعندما أتى بهما الحاجب أمر الجلاّد أن يضرب عنق أحدهما ويقتله بالسيف، فقتله فمات، وقال النمرود: هذا أمتُّه، وأمر بإطلاق سراح الثاني فأطلق، وقال: هذا أحييته. وهكذا بمنتهى البلادة والغباء والسخافة والحماقة أراد أن يظهر مدّعيًا قدرته على الإحياء والإماتة، ولكن إبراهيم عليه السلام قصم ظهر المكابر المعاند وألجمه لجامًا لم يستطع بعده كلامًا إلا الدهشة والذهول، فقال عليه السلام: إن ربي الذي يحيي ويميت يأتي بالشمس كل يوم من المشرق فأت بها أنت من المغرب إن كنت تستطيع التغيير في نظام هذا الكون العجيب، فعندها انقطع جدل المجادل العنيد وبُهت وذُهِل وبقيت قصته عبرة وعظة للمتعظين.
وهكذا يخفت صوت الباطل ويضمحل ويبقى صوت الحق مدوّيًا شامخًا في الوقت نفسه على مر العصور والأزمان، روي عن زيد بن أسلم قوله: أرسل الله إلى ذلك الملك الجبار بعوضة سلطها عليه، فدخلت في منخره ورأسه وكان يُضرب رأسه بالمرازب والأحذية ليهدأ من شدة الألم، وبقي على تلك الحال حتى هلك، قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 258].
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فلم أرغب الانتقال عن هذه الآية دون التعريج عليها وإعطائها جزءًا يسيرًا من الحديث حول معناها وما ورد فيها، ولا يُعْتبر ذلك خروجًا عن موضوع إبراهيم عليه السلام وما يتعلق به، بل هذه الآية واقعة بين تلك الآيتين مقرّرة ومرسخة عقيدة التوحيد في قلوب أهل الإيمان الذين أشار الله إليهم في الآية التي سبقت تلك الآيات وورد فيها أكمل البيان وذلك بالربط بين آي القرآن، ومن يتأمل ذلك ويتدبره إلا من أعطاهم الله صفاء الفكر والأذهان وذاقوا حلاوة الإيمان، نسأل الله تعالى من واسع فضله ورحمته أجزل العطاء، وفي الخطبة القادمة إن شاء الله يكون الكلام حول دعوته لقومه وزواجه وعمارة البيت العتيق وعن ابنه الذبيح إسماعيل عليهما السلام.
جاء قبل هذه الأمثلة الثلاثة عن ولاية الله تعالى لعباده المؤمنين وإخراجهم من الظلمات إلى النور وعن الكافرين وأن الطاغوت هو وليهم قوله عز وجل: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 257]. وسبق هذه الآية آية الكرسي أعظم آية في القرآن، وبعدها الآية الدالة على عدم الإكراه في الدين بعد أن تبين الرشد من الغي والكفر بالطاغوت والاستمساك بالعروة الوثقى كلمة التوحيد والإخلاص لكي يتحقق الإيمان.
وأعود لذكر شيء موجز عن الآية التي أعقبت تأييد الله وولايته لإبراهيم بالحجة القاطعة حيث نصره على النمرود، فهذه الآية عطف على الآية التي قبلها، وفيها من المشابهة مثل قول الطاغية، ولكن هذا الرجل كان غير الطاغية الذي ادعى الألوهية والربوبية والإحياء والإماتة والرزق وغيرها مما دار في ذهن وتفكير ذلك الذي مرّ على القرية الخاوية، فهذا مُستبعِدٌ مُستنكِرٌ كيفيةَ إحيائها بعد موت أهلها وتهدّم مبانيها غير مُدَّع لنفسه أي شيء، فعندما مرّ على قرية ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها وقف متفكرًا فيما آلَ أمرُها إليه بعد العمارة العظيمة وقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، فاعترف بوجود ووحدانية الله ولم يدّعِ ذلك لنفسه، ولكنه استبعد واستنكر واستغرب الكيفية لإحيائها مرة ثانية ولأهلها لما رأى من اندثارها وشدة خرابها وبُعْدِها عن الْعَوْدِ على ما كانت عليه، فأماته الله عز وجل مائة سنة ثم بعثه بعدما أحيا تلك القرية وأحيا ساكنيها وأراه الآية الكونية الدالة على قدرته عز وجل في حماره وفي نفسه وفي طعامه وشرابه، وجعله آية للناس وعبرة، وقيل بأن الله عز وجل لما بعثه بعد موته كان أول شيء أحياه فيه عينيه لينظر بهما إلى قدرة الله تبارك وتعالى فيه كيف يحيي بدنه، فلما استقل سويًا على قدميه قال الله له بواسطة الملك: كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قال ذلك لأنه مات أول النهار ثم بعثه الله آخره، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قال الله عز وجل: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ. وهذه آية ثانية في الطعام والشراب حيث كان معه العنب والتين وشراب العصير ولم يتغير من ذلك شيء أو يستحِل طوال تلك السنين العديدة، فلم يُنْتِن أو يَتَعَفَّن أو يخرب أو يستحل أو يتغير أو ينقص منه شيء كما هي العادة. والآية الثالثة حماره الذي أحياه الله عز وجل وهو ينظر إليه، حيث جمع الله عظامه المتناثرة وركّبها وأعادها كما كانت حيث كساها اللحم والعصب والعروق والجلد وبعث فيها الروح، والرجل ينظر قدرة الله عز وجل على الإحياء بعد الإماتة مشاهدة أمام عينيه وقلبه وفكره الذي عرف بها الحياة والموت له ولحماره وعدم تغير طعامه وشرابه، قال تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 259].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق