الأربعاء، 18 سبتمبر 2019

نزهة الأنفس في سيرة الشيخ عبد السلام بن برجس

إعداد / فريد المرادي:

مقدمة

(( الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، و يُبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيَوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، يَنفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجتمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله، و في الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتنة المضلِّين ))([1]).

و أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله، و صلى الله عليه و آله و صحبه أجمعين و من تبعه إلى يوم الدين، و بعد:

روى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، و لكن يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يُبقِ عالماً؛ اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا و أضلوا ))([2]).

(( هذا الحديث الشريف يدل على أهمية العلم، و على عظم شأن العلماء، و أن فقدهم و ذهابهم إنما هو قبض للعلم...وأن قبض العلماء كما قد جاء في كلام بعض أهل العلم: ( ثُلمة في الدين)، و أنه نقص للمسلمين حيث ذهب العلماء الذين يُرجع إليهم، و يُستفاد من علمهم، و يُدلونهم و يُبصرونهم، فإن ذلك نقص كبير على الناس ))([3]).

بل (( إن فقدهم خسارة فادحة، و موتهم مصيبة عظيمة، لأنهم نور البلاد، و هداة العباد، و منار السبيل، فقبضهم قبض للعلم، إذ إن ذهاب العلم يكون بذهاب رجاله و حملته و حفاظه ))([4]).

قال الإمام الآجري رحمه الله عن العلماء: (( حياتهم غنيمة، و موتهم مصيبة ))([5]).

و قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله: (( اعلم أخي أن الموت اليوم كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة، فإنا لله و إنا إليه راجعون، فإلى الله نشكو وحشتنا، و ذهاب الإخوان، و قلة الأعوان، و ظهور البدع، و إلى الله نشكو عظيم ما حل بهذه الأمّة من ذهاب العلماء، و أهل السنة، و ظهور البدع ))([6]).

هذا و إن من الفجائع المؤلمة، و المصائب الموجعة، و التي حدثت بالأمة الإسلامية قبل أشهر قليلة؛ وفاة الفقيه الفاضل، و العالم العامل؛ الشيخ عبد السلام بن برجس تغمده الله بواسع رحمته، و في الحقيقة لا أستطيع ـ لا بلساني و لا بقلمي ـ أن أصف حالتي حين اطلعت على خبر وفاته رحمه الله، و قد وجدتُ يقيناً ما قاله أحد أئمة سلفنا الصالح؛ و هو الإمام أيوب السختياني: (( إنه ليبلُغني موت الرجل من أهل السنة؛ فكأنما أفقد بعضاً من أعضائي )).

و أنا في حقيقة الأمر لم ألتق بالشيخ رحمه الله، و لا هو يعرفُني، لكني كنت قد استفدت كثيراً ـ كما استفاد الكثير ـ من رسائله و محاضراته التي تيسرت لي، فلهذا شعرت بأسى عميق لفقده رحمه الله؛ فالإنسان مجبول على محبة من يُحسن إليه، فكيف إذا كان الإحسان فيما فيه سعادة المرء في الدارين؟

و كيف لا يشعر بالحزن و الأسى كل مخلص و صادق؛ لموت طالب علم سني، بَلهَ عالم سلفي؟
لمثل هذا يموت القلب من كمد إن كان في القلب إسلام و إيمان

(( و إن ذهاب مثل هذا العالم هو في الحقيقة نقص على المسلمين و مصيبة، و نسأل الله عز و جل الذي هو سبحانه و تعالى له ما أخذ و له ما أعطى: أن يعوض المسلمين خيراً، و أن يوفق المسلمين لما فيه خيرهم و سعادتهم، و أن يُوفِّق طلبة العلم للعناية بتحصيله و طلبه و معرفته، إنه سبحانه و تعالى جواد كريم ))([7]).

ذكر الحافظ الذهبي رحمه الله في ’’سير أعلام النبلاء‘‘(9/504) عن أبي سعيد بن يونس قال: (مات([8]) في ثاني شهر ذي الحجة سنة أربع و مائتين)، ثم علَّق قائلاً: (( و فيها([9]) مات قبله الشافعي و أشهب بمصر، فمثل هؤلاء الثلاثة إذا خلت منهم مدينة في عام واحد فقد بان عليها النقص )).

و كيف لا يظهر النقص؟ و قد رُزئت الأمّة الإسلاميّة في هذه السنوات القليلة بفقد ثُلة طيبة من كبار العلماء و طلبة العلم، فإن لله.

و لا ريب أن الخير باق في هذه الأمّة إلى يوم القيامة، و مثل هذه المصائب يجب أن تكون حافزاً و باعثاً لهمة الشباب في طلب العلم، و الجد و الاجتهاد في تحصيله، قبل أن يذهب العلم بذهاب أهله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (( هل تدرون ما ذهاب العلم؟ قلنا: لا، قال: ذهاب العلماء ))، رواه الدارمي رحمه الله (رقم 249).

و قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (( عليكم بالعلم قبل أن يُقبض، و قبضه أن يُذهب بأصحابه ))، رواه الدارمي (رقم 145).

و قال علي رضي الله عنه: (( يموت العلم بموت حملته ))، رواه الخطيب في’’الفقيه و المتفقه‘‘(رقم 176).

و قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (( ما لي أرى علماءكم يذهبون، و جهالكم لا يتعلمون، تعلموا قبل أن يرفع العلم، فإن رفع العلم؛ ذهاب أهله))، رواه حافظ المغرب ابن عبد البر في ’’جامع بيان العلم و فضله‘‘ (رقم 1044).

و عن أبي وائل قال: (( قال حذيفة رضي الله عنه: أتدري كيف ينقص العلم؟ قال: قلت: كما ينقص الثوب، كما ينقص الدرهم، قال: لا، و إن ذلك لمَنِهُ قبض العلماء ))، رواه الدارمي (رقم 250).

فلما ذهب عني هول الصّدمة قمتُ بجمع كل ما وقفت عليه منشوراً على شبكات الإنترنت عن فضيلة الشّيخ ابن برجس رحمه الله، ثم ظهر لي أن أربط بينها و أُنسّق بين أطرافها، و مراجعة ما اتّفق لديّ من كتبٍ و أشرطةٍ للشّيخ رحمه الله، حتّى أجعل منه موضوعاً متكاملاً، و أكون بهذا قد أدّيت بعض ما للشّيخ رحمه الله عليّ من منّة، خاصة و قد قرأتُ بعض ما كتبه أحد أذناب الخوارج في موقع تكفيري ـ لا أعرفه و لا أحبّ أن أعرفه ـ، عن فضيلته رحمه الله، و قد نقله بعضهم إلى موقعٍ يجمع بين الغثّ و السّمين، فوالّذي نفسي بيده لقد دمعت عيني لبشاعة كلامه، و سوء قاله، و فيمن؟ في عالم فاضل قد شهد له القريب و البعيد بالعلم و الدِّين، و لكن هذا ما يفعل الهوى بأصحابه ،و عند الله تجتمع الخصوم.

قال ( المنصِف الكبير المربّي الفاضل العلاّمة الذهبي رحمه الله )([10]) في ’’سير أعلام النبلاء‘‘ (8/448): (( فمن الذي يسلم من ألسنة الناس، لكن إذا ثبتت إمامة الرجل وفضله لم يضرّه ما قيل فيه، و إنّما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل و الورع )).

فتأكّدت نيّتي في كتابة هذا البحث، عسى أن أُذكّر من خلاله ببعض بمآثر الشّيخ رحمه الله و سيرته العطرة، (( و إنَّ القلم ليعجز عن ذكر محاسنه، و عدّ مناقبه و مآثره، و لئن مات الشيخ فعلمه لم يمت، و قد نشره في كلِّ مكان، و لئن مات الشيخ فأعماله و مآثره لم تمت و قد سارت بها الركبان، و لئن مات الشيخ فهو حيّ بين الناس يذكرونه بالفضل و الإحسان.

قد مات قوم و ماتت مكارمهم و عاش قوم و هم في الناس أموات

و قال آخر:

و ما دام ذكر العبد بالفضل باقياً فذلك حي و هو في التّرب هالك ))([11]).

و مع هذا (( فليس القصد من الكتابة عن شخصٍ ما مدحه و إبرازه، و إنّما القصد هو الاستفادة من جهوده و الإقتداء بسيرته، و الانتفاع بخبرته ))([12]).

و في هذه المقدّمة أُشير إلى أنّي قد استفدت كثيراً من مقال للأخ هاني بن سالم الحسيني الحارثي وفّقه الله نشره في جريدة (الجزيرة) السعوديّة، و استفدت كذلك من عدد ممّن كتب في الموضوع، فجزاهم الله خيراً، و حالي في هذا الجمع كما قال الشّيخ العلاّمة بكر أبو زيد حفظه الله في كتابه ’’النّظائر‘‘(ص17): (( و جميع ما ذكرته ليس لي فيه من فضل سوى الجمع و التّرتيب، و بعد ديمومة النّقلة و التّرحال من كتاب إلى آخر، حتّى لو قلت لكلّ جملة منها: عودي إلى مكانِك لما بقيَ لي منها إلاّ النّزر اليسير )).

و مع هذا أقول أنّ النّقص حاصل، و الخطأ وارد، و النّصح منكم آكد، فمن كانت له زيادات أو تصحيحات أو توجيهات؛ فإنّا لها لمنتظرون، فهل من مشمّر؟([13])

و قد جعلت البحث ـ بعد هذه المقدّمة ـ على النّحو الآتي:

(1) اسمه و نسبه.
(2) مولده و نشأته و بداية طلبه للعلم.
(3) دراسته النظاميّة.
(4) مشايخه.
(5) عقيدته و منهجه.
(6) مناصبه و أعماله التي زاولها.
(7) تلاميذه.
(8) أخلاقه.
(9) مؤلّفاته وتحقيقاته و مقالاته و محاضراته المسجلّة.
(10) الشّيخ عبد السّلام شاعراً.
(11) وفاته رحمه الله.
(12) ثناء أهل العلم عليه و بعض ما قيل بعد وفاته.
(13) تأثّر النّاس بوفاته.
(14) بعض المراثي التي قيلت فيه.
(15) موقع الشيخ على شبكة الإنترنت.

(( هذا و أسأل الله الكريم أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، صواباً على النّهج القويم، و أن يجعله قربةً لي عنده مدّخرة ليوم الدّين، و أن ينفع به من يطّلع عليه من المسلمين، و أن يغفر لي ما اعتراه من خطأ أو زلل، و يوفّقني عاجلاً غير آجلٍ لإصلاحه؛ إنّ ربّي لطيفٌ لما يشاء إنّه هو العليم الحكيم.

ثمّ أتوجّه ـ برغبةٍ صادقةٍ ـ إلى من طالع بحثي هذا، أن يُتحفني بنصحه و توجيهه، و يرشدني لما يقف عليه من خطأ في عزوٍ، أو تصحيف لنقلٍ، أو استدراك لأمر، سائلاً الله التوفيق للجميع لما فيه الخير و الصلاح و السداد)) ([14]).

و صلّى الله و سلّم على نبيّنا محمّد و على آله و صحبه أجمعين، و تابعيهم بإحسان إلى يوم الدّين.

هناك تعليق واحد:

  1. ارسل الرابط تبعك حتى يتم التواصل معك عندي استدارك في عزو

    ردحذف

زياد علي

زياد علي محمد