بِـسْـمِ اللَّهِ الـرَّحْـمَـنِ الـرَّحِـيـمِ
الـسَّـلَامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبـَرَكَـاتُـهُ
الحَمْدُ للهِ الحَمِيدِ المَجِيدِ؛ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَمُعَافَاتِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى حُكْمِهِ وَمُجَازَاتِهِ،
يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ سَيِّئَةً مِثْلَهَا، وَيُضَاعِفُ الحَسَنَةَ إِلَى عَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛
هَدَى قُلُوبَ أُنَاسٍ فَشَرَوُا الآخِرَةِ بِالدُّنْيَا، وَضَلَّ عَنِ هِدَايَتِهِ أَقْوَامٌ فَخَلَدُوا إِلَى الفَانِيَةِ وَضَيَّعُوا البَاقِيَةَ؛
[مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا] {الكهف:17}،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَعَا إِلَى الهُدَى فَاتَّبَعَهُ ثُلَّةٌ مِنَ السَّابِقِينَ فَدَوْهُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ،
وَانْخَلَعُوا مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَعَادَوا عَشَائِرَهُمْ وَقَبَائِلَهُمْ؛ فَسَخَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى نُصْرَةً لِنَبِيِّهِ، وَاخْتَارَهُمْ حَمَلَةً لِدِينِهِ،
صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَعَلَى الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا دِينَكُمْ، وَتَعَاهَدُوا إِيمَانَكُمْ،
وَتَفَقَّدُوا قُلُوبَكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَجْسَامِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ،
[يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] {الشعراء:88-89}.
ترجمة الإمام عاصم - رحمه الله -
قال الإمام الداني في الأرجوزة المنبهة:
وعاصمٌ إمام أهلِ الكوفة
أخباره رفيعة شريفة
مسطورةٌ في الكُتب عند الناسِ
مشهورةٌ من غير ما التباس
وعلمه بالنحو والقرآنِ
قد انتهى وسار في البلدانِ
هو الإمام ابن أبي النَّجودِ
يُعزَى إلى الشُّمِّ الكرامِ الصِّيدِ
قد بذَّ أهل المِصر في الفصاحة
والعلم بالحظر وبالإباحة
وقال الشاطبي في الحرز:
فأما أبو بكرٍ وعاصمٌ اسمه
فشعبةُ راويه المبرز أفضَلا
وقال ابن الجزري - رحمه الله - في الطيِّبة:
ثلاثةٌ من كوفةٍ فعاصمُ
فعنه شعبةُ وحفصٌ قائمُ
• عاصم: هو أبو بكر، عاصم بن أبي النَّجود بن بهدلة الأسدي مولاهم الكوفي الحناط، شيخ الإقراء بالكوفة، وأحد القرَّاء السبعة.
• والنَّجود بفتح النون وضم الجيم، وقد غلط من ضم النون، ويقال: أبو النجود اسم أبيه، لا يُعرف له اسم غير ذلك، ويقال: بهدلة اسم أمه،
وهذا لا يصح، بل هو اسم أبيه؛ فقد قال الذهبي في السير عن كون بهدلة اسم أمه: "وليس بشيء، بل هو أبوه"، وقيل: اسم أبي النجود: عبدالله.
مولده:
وُلِد الإمام عاصم - رحمه الله - في إمرة الصحابي الجليل/ معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه وأرضاه -
وأخذ القراءة عرضًا على زِرِّ بن حُبَيش، وأبي عبدالرحمن السُّلَمي، وأبي عمرو الشيباني، وقرأ هؤلاء الثلاثة على عبدالله بن مسعود،
وقرأ السُّلَمي وزِرٌّ على عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وقرأ السلمي أيضًا على أُبَي بن كعب وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم جميعًا -
وقرأ ابن مسعود، وعثمان وأُبَي، وزيد - رضي الله عنهم - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وانتهت إلى الإمام عاصم - رحمه الله - رئاسةُ الإقراء بالكوفة بعد أبي عبدالرحمن السُّلَمِي، وجلس موضعه، ورحل الناس إليه للقراءة، وجمع
- رحمه الله - بين الفصاحة والإتقان والتحرير، وكان أحسن الناس صوتًا بالقرآن، وكان يراعي الابتداء، ويقف حيث تم الكلام.
شهادات الأئمة فيه:
قال أبو بكر بن عياش: لما هَلَك أبو عبدالرحمن جلس عاصم يُقرِئ الناس، وكان عاصم أحسنَ الناس صوتًا بالقراءة.
وقال سَلَمة بن عاصم: كان عاصم بن أبي النَّجُود ذا نُسُك، وأدب، وفصاحة، وحسن صوت.
وقال أبو بكر بن عياش: لا أُحصِي ما سمعت أبا إسحاق السَّبِيعي يقول: ما رأيتُ أحدًا أقرأ من عاصم بن أبي النجود.
وقال يحيى بن آدم: حدثنا حسن بن صالح قال: ما رأيتُ أحدًا قط كان أفصح من عاصم، إذا تكلَّم كاد يدخله خيلاء.
وقال شريك: كان عاصم صاحب همز ومد، وقراءة سديدة، وكان صاحب سنة، ورأسًا في القرآن، وكان - رحمه الله -
ذا نسك وأدب، وكان نَحْويًّا، فصيحًا إذا تكلم.
وقال عنه الإمام الذهبي: كان عاصمٌ ثبتًا في القراءة، صدوقًا في الحديث، وكان إذا كان في حاجة له ومر بمسجد يقول لصاحبه: مِلْ بنا؛
فإن الحاجة لا تفوت، ويصلِّي، وقال عاصم عن نفسه: ما قدمت على أبي وائل من سفر إلا قبَّل كفِّي.
صفته وخُلقه:
كان الإمام عاصم - رحمه الله - ذا خلق رفيع، دَمِثًا، لا يثور إذا استُثِير، أو تسبب أحد في إصابته.
قال أبو بكر بن عياش: كان عاصم نَحْويًّا، فصيحًا إذا تكلم، مشهور الكلام، وكان الأعمش وعاصم وأبو حصين كلهم لا يبصرون،
جاء رجل يومًا يقود عاصمًا، فوقع وقعة شديدة، فما كَهَره - نَهَره - ولا قال له شيئًا! فرحمه الله ورضي عنه.
فصاحته:
مرَّ معنا أنه - رحمه الله - كان فصيحًا حتى إنه إذا تكلَّم كاد يدخله خيلاء، وكان نَحْويًّا، بحرًا في أوجه النحو، وداعية إلى التبحُّر فيه.
قال أبو بكر بن عيَّاش: قال لي عاصم: "مَن لم يُحسن العربية إلا وجهًا واحدًا لم يُحسن شيئًا"، وقال أيضًا: قال لي عاصم:
ما أقرأني أحدٌ حرفًا إلا أبو عبدالرحمن، فكنت أرجع من عنده، فأعرض على زِر،
وكان زِرٌّ قد قرأ على عبدالله - رضي الله عنه - فقلتُ لعاصم: لقد استوثقتَ.
عقيدته:
كان - رحمه الله - صاحب سنة، متبعًا، متمسكًا بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقد قال أحمد بن عبدالله العجلي: عاصم بن بهدلة صاحب سنة وقراءة،
كان رأسًا في القرآن، قَدِم البصرة فأقرأهم، قرأ عليه سلام أبو المنذر وكان عثمانيًّا.
وقال الإمام عبدالله بن الإمام أحمد: سألتُ أبي عن عاصم بن بهدلة فقال: رجل صالح خيِّر ثقة،
فسألته: أي القراءة أحبُّ إليك؟ فقال: قراءة أهل المدينة، فإن لم يكن، فقراءة عاصم.
شدة إتقانه وقوة انفعاله بالقرآن:
بلغ من شدة إتقانه - رحمه الله - لحفظ القرآن، ما رواه أبو بكر بن عياش قال: قال لي عاصم: مرضتُ سنتين،
فلما قمت قرأت القرآن، فما أخطأت حرفًا!
وبلغ من قوة انفعاله بالقرآن أنه كان يعد آي القرآن بأصابع يده؛ فقد قال عماد الدين بن سلمة: رأيت حبيب بن الشهيد يعقد الآي في الصلاة،
ورأيت عاصم بن بهدلة يعقد ويصنع مثل صنيع عبدالله بن حبيب.
وقال حفص: كان عاصم إذا قُرِئ عليه أخرج يده فعدَّ.
ورعه وتقواه:
قال أبو بكر بن عياش: كان عاصمٌ إذا صلَّى ينتصب كأنه عود، وكان عاصم يوم الجمعة في المسجد إلى العصر، وكان عابدًا خَيِّرًا، أبدًا يُصلي،
ربما أتى حاجة فإذا رأى مسجدًا قال: مِلْ بنا؛ فإن حاجتنا لا تفوت، فرحمه الله ورضي عنه.
وكان - رحمه الله - من التابعين: فقد روى عن أبي رِمْثَةَ رفاعة بن يثربي التميمي، والحارث بن حسان البكري، وكانت لهما صحبة.
قال ابن الجزري في غاية النهاية (1/347): "أما حديثه عن أبي رِمْثَةَ فهو في مسند أحمد بن حنبل، وأما حديثه عن أبي الحارث،
فهو في كتاب أبي القاسم بن سلام".
توثيق أهل الحديث له:
قال ابن حجر في التقريب (2/165): "صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في الصحيحين مقرون".
قال المعلقون على كلام ابن حجر: "بل ثقة يهم؛ فهو حسن الحديث، وقوله: (صدوق له أوهام) ليس بجيد؛ فقد وثَّقه يحيى بن معين،
وأحمد بن حنبل، وأبو زرعة الرازي، ويعقوب بن سفيان، وابن حبان، وجعله ابن مَعِين من نظراء الأعمش -
وإن فضَّل هو وأحمد الأعمش عليه -
وكل هؤلاء وثَّقوه مع معرفتهم ببعض أوهامه اليسيرة؛ وانظر لذلك: تحرير تقريب التهذيب (2/165).
وقال أبو حاتم: محله الصدق، وحديثه مخرَّج في الكتب الستة، وممن وثقه أيضًا: شعبة، والحمدان، والسفيانان، وأبو زرعة، وجماعة.
وأذكر من أحاديثه - رحمه الله - ما رواه الطبراني في المعجم الكبير بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال لقريش: ((يا معشر قريش، لا خير في أحدٍ يُعبَد من دون الله))، فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبيًّا وكان عبدًا صالحًا،
إن كنت صادقًا إنه لكآلهتِهم، فأنزل الله - تعالى -: ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾ يضجون
﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ﴾ [الزخرف: 57 - 61]، خروج عيسى قبل يوم القيامة - والحديث صحيح، وهو جزء من حديث رواه أحمد في المسند بلفظ:
"فإن آلهتهم لكما تقولون"، وكذا رواه ابن أبي حاتم، وذكره ابن كثير في تفسيره عند تفسير هذه الآية.
وروى عبدالرزاق في مصنَّفه عن مَعْمَر قال: سمعتُ أيوب يسأل عاصم بن أبي النَّجُود: ما سمعتَ في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم؟
قال: أخبرني أبو وائل أنه سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يفتتح: "الحمد لله رب العالمين".
ومن أحاديثه أيضًا حديث في صحيح ابن خزيمة بسنده عن صفوان بن عسال قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: ((ما من خارج يخرجُ من بيته ليطلبَ العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاءً بما يصنع))،
وهو جزء من حديث رواه أحمد في المسند،
والبيهقي في السنن الكبرى، والدارقطني في سننه، وصحَّحه الشيخ الألباني.
مَن أخذ القراءة عنه:
تلقَّى القراءة عن الإمام عاصم - رحمه الله - خلقٌ كثير، وقد أشار ابن الجزري والشاطبي إلى أشهر رواته، وهما شعبة وحفص،
وستأتي ترجمتهما بعد قليل - إن شاء الله - كما روى القراءة غير هذين الشهيرين عددٌ كثي، منهم:
1- أبان بن تغلب الربعي، أبو سعيد - ويقال: أبو أميمة - الكوفي النحوي، مقرئ جليل، قرأ على عاصم، وأبي عمرو الشيباني،
وطلحة بن مصرف، والأعمش، وهو أحد الذين ختموا عليه، أخذ القراءة عنه عرضًا: محمد بن صالح بن زيد الكوفي..
وأخذ الحروف عن محمد: القاسم بن بشار الأنباري، وتوفِّي أبان سنة إحدى وأربعين ومائة (141هـ).
2- هارون بن موسى الأعور، أبو عبدالله العتكي البصري الأزدي، مولاهم، علاَّمة صدوق نبيل، له قراءة معروفة،
روى القراءة عن عاصم الجحدري، وعاصم بن أبي النجود، وعبدالله بن كثير وغيرهم، وروى القراءة عنه علي بن نصر،
ويونس بن محمد المؤدب، وشهاب بن شرنقة، ووهيب بن عمرو، وحجاج بن محمد، وغيرهم، وقال أبو حاتم: كان أول مَن سمع بالبصرة
وجوهَ القراءات، وألفها، وتتبع الشاذَّ منها، توفِّي سنة (146هـ).
3- سليمان بن مهران الأعمش، أبو محمد الأسدي الكاهلي، مولاهم الكوفي، الإمام الجليل، ولد سنة (60 هـ)،
أخذ القراءة عرضًا عن إبراهيم النخعي، وزر بن حبيش، وزيد بن وهب، وعاصم بن أبي النجود، وغيرهم،
وروى القراءة عنه عرضًا وسماعًا: حمزة الزيَّات، ومحمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، وجرير بن عبدالحميد، وزائدة بن قدامة،
وغيرهم، وقال هشام: ما رأيت بالكوفة أحدًا أقرأ لكتاب الله - عز وجل - من الأعمش، وقال - رحمه الله -: إن الله زيَّن بالقرآن أقوامًا،
وإني ممَّن زيَّنه الله بالقرآن، ولولا ذلك لكان على عنقي دَين أطوف به في سكك الكوفة، توفِّي - رحمه الله - سنة ثمان وأربعين ومائة (148 هـ).
وغير هؤلاء كثير، منهم: أبان بن يزيد العطار - إسماعيل بن مجالد - الحسن بن صالح - حماد بن زيد - حماد بن أبي زياد -
نعيم بن ميسرة - سهل بن شعيب - حماد بن عمرو - الضحاك بن ميمون.
وروى عنه حروفًا من القرآن: أبو عمرو بن العلاء - الخليل بن أحمد - الحارث بن نبهان - حمزة الزيات - المغيرة الضَبِّي -
محمد بن عبدالله العزرمي - وغيرهم خلق كثير، فرَضِي الله عنه، ورحمه رحمة واسعة.
وفاته:
قال أبو بكر بن عياش: دخلتُ على عاصم وقد احتُضِر، فجعلتُ أَسمعُه
يردِّد هذه الآية يحقِّقها حتى كأنه يصلِّي: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى الله مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ﴾ [الأنعام: 62].
وتُوُفِّي الإمام عاصم - رحمه الله - آخر سنة سبع وعشرين ومائة (127هـ)،
وقيل: سنة ثمان وعشرين ومائة (128هـ)، ولا اعتبار بقول مَن قال غير ذلك.
وتُوُفِّي - رحمه الله - بالكوفة على الصحيح، وانظر: غاية النهاية (1/147)، والنشر (1/155)، فرحمه الله ورضي عنه، وأسكنه فسيح جناته.
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلَهم إن التشبُّه بالكرامِ فلاحُ
الـسَّـلَامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبـَرَكَـاتُـهُ
الحَمْدُ للهِ الحَمِيدِ المَجِيدِ؛ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَمُعَافَاتِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى حُكْمِهِ وَمُجَازَاتِهِ،
يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ سَيِّئَةً مِثْلَهَا، وَيُضَاعِفُ الحَسَنَةَ إِلَى عَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛
هَدَى قُلُوبَ أُنَاسٍ فَشَرَوُا الآخِرَةِ بِالدُّنْيَا، وَضَلَّ عَنِ هِدَايَتِهِ أَقْوَامٌ فَخَلَدُوا إِلَى الفَانِيَةِ وَضَيَّعُوا البَاقِيَةَ؛
[مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا] {الكهف:17}،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ دَعَا إِلَى الهُدَى فَاتَّبَعَهُ ثُلَّةٌ مِنَ السَّابِقِينَ فَدَوْهُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ،
وَانْخَلَعُوا مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَعَادَوا عَشَائِرَهُمْ وَقَبَائِلَهُمْ؛ فَسَخَّرَهُمُ اللهُ تَعَالَى نُصْرَةً لِنَبِيِّهِ، وَاخْتَارَهُمْ حَمَلَةً لِدِينِهِ،
صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَعَلَى الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا دِينَكُمْ، وَتَعَاهَدُوا إِيمَانَكُمْ،
وَتَفَقَّدُوا قُلُوبَكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَجْسَامِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ،
[يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ] {الشعراء:88-89}.
ترجمة الإمام عاصم - رحمه الله -
قال الإمام الداني في الأرجوزة المنبهة:
وعاصمٌ إمام أهلِ الكوفة
أخباره رفيعة شريفة
مسطورةٌ في الكُتب عند الناسِ
مشهورةٌ من غير ما التباس
وعلمه بالنحو والقرآنِ
قد انتهى وسار في البلدانِ
هو الإمام ابن أبي النَّجودِ
يُعزَى إلى الشُّمِّ الكرامِ الصِّيدِ
قد بذَّ أهل المِصر في الفصاحة
والعلم بالحظر وبالإباحة
وقال الشاطبي في الحرز:
فأما أبو بكرٍ وعاصمٌ اسمه
فشعبةُ راويه المبرز أفضَلا
وقال ابن الجزري - رحمه الله - في الطيِّبة:
ثلاثةٌ من كوفةٍ فعاصمُ
فعنه شعبةُ وحفصٌ قائمُ
• عاصم: هو أبو بكر، عاصم بن أبي النَّجود بن بهدلة الأسدي مولاهم الكوفي الحناط، شيخ الإقراء بالكوفة، وأحد القرَّاء السبعة.
• والنَّجود بفتح النون وضم الجيم، وقد غلط من ضم النون، ويقال: أبو النجود اسم أبيه، لا يُعرف له اسم غير ذلك، ويقال: بهدلة اسم أمه،
وهذا لا يصح، بل هو اسم أبيه؛ فقد قال الذهبي في السير عن كون بهدلة اسم أمه: "وليس بشيء، بل هو أبوه"، وقيل: اسم أبي النجود: عبدالله.
مولده:
وُلِد الإمام عاصم - رحمه الله - في إمرة الصحابي الجليل/ معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه وأرضاه -
وأخذ القراءة عرضًا على زِرِّ بن حُبَيش، وأبي عبدالرحمن السُّلَمي، وأبي عمرو الشيباني، وقرأ هؤلاء الثلاثة على عبدالله بن مسعود،
وقرأ السُّلَمي وزِرٌّ على عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وقرأ السلمي أيضًا على أُبَي بن كعب وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم جميعًا -
وقرأ ابن مسعود، وعثمان وأُبَي، وزيد - رضي الله عنهم - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وانتهت إلى الإمام عاصم - رحمه الله - رئاسةُ الإقراء بالكوفة بعد أبي عبدالرحمن السُّلَمِي، وجلس موضعه، ورحل الناس إليه للقراءة، وجمع
- رحمه الله - بين الفصاحة والإتقان والتحرير، وكان أحسن الناس صوتًا بالقرآن، وكان يراعي الابتداء، ويقف حيث تم الكلام.
شهادات الأئمة فيه:
قال أبو بكر بن عياش: لما هَلَك أبو عبدالرحمن جلس عاصم يُقرِئ الناس، وكان عاصم أحسنَ الناس صوتًا بالقراءة.
وقال سَلَمة بن عاصم: كان عاصم بن أبي النَّجُود ذا نُسُك، وأدب، وفصاحة، وحسن صوت.
وقال أبو بكر بن عياش: لا أُحصِي ما سمعت أبا إسحاق السَّبِيعي يقول: ما رأيتُ أحدًا أقرأ من عاصم بن أبي النجود.
وقال يحيى بن آدم: حدثنا حسن بن صالح قال: ما رأيتُ أحدًا قط كان أفصح من عاصم، إذا تكلَّم كاد يدخله خيلاء.
وقال شريك: كان عاصم صاحب همز ومد، وقراءة سديدة، وكان صاحب سنة، ورأسًا في القرآن، وكان - رحمه الله -
ذا نسك وأدب، وكان نَحْويًّا، فصيحًا إذا تكلم.
وقال عنه الإمام الذهبي: كان عاصمٌ ثبتًا في القراءة، صدوقًا في الحديث، وكان إذا كان في حاجة له ومر بمسجد يقول لصاحبه: مِلْ بنا؛
فإن الحاجة لا تفوت، ويصلِّي، وقال عاصم عن نفسه: ما قدمت على أبي وائل من سفر إلا قبَّل كفِّي.
صفته وخُلقه:
كان الإمام عاصم - رحمه الله - ذا خلق رفيع، دَمِثًا، لا يثور إذا استُثِير، أو تسبب أحد في إصابته.
قال أبو بكر بن عياش: كان عاصم نَحْويًّا، فصيحًا إذا تكلم، مشهور الكلام، وكان الأعمش وعاصم وأبو حصين كلهم لا يبصرون،
جاء رجل يومًا يقود عاصمًا، فوقع وقعة شديدة، فما كَهَره - نَهَره - ولا قال له شيئًا! فرحمه الله ورضي عنه.
فصاحته:
مرَّ معنا أنه - رحمه الله - كان فصيحًا حتى إنه إذا تكلَّم كاد يدخله خيلاء، وكان نَحْويًّا، بحرًا في أوجه النحو، وداعية إلى التبحُّر فيه.
قال أبو بكر بن عيَّاش: قال لي عاصم: "مَن لم يُحسن العربية إلا وجهًا واحدًا لم يُحسن شيئًا"، وقال أيضًا: قال لي عاصم:
ما أقرأني أحدٌ حرفًا إلا أبو عبدالرحمن، فكنت أرجع من عنده، فأعرض على زِر،
وكان زِرٌّ قد قرأ على عبدالله - رضي الله عنه - فقلتُ لعاصم: لقد استوثقتَ.
عقيدته:
كان - رحمه الله - صاحب سنة، متبعًا، متمسكًا بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقد قال أحمد بن عبدالله العجلي: عاصم بن بهدلة صاحب سنة وقراءة،
كان رأسًا في القرآن، قَدِم البصرة فأقرأهم، قرأ عليه سلام أبو المنذر وكان عثمانيًّا.
وقال الإمام عبدالله بن الإمام أحمد: سألتُ أبي عن عاصم بن بهدلة فقال: رجل صالح خيِّر ثقة،
فسألته: أي القراءة أحبُّ إليك؟ فقال: قراءة أهل المدينة، فإن لم يكن، فقراءة عاصم.
شدة إتقانه وقوة انفعاله بالقرآن:
بلغ من شدة إتقانه - رحمه الله - لحفظ القرآن، ما رواه أبو بكر بن عياش قال: قال لي عاصم: مرضتُ سنتين،
فلما قمت قرأت القرآن، فما أخطأت حرفًا!
وبلغ من قوة انفعاله بالقرآن أنه كان يعد آي القرآن بأصابع يده؛ فقد قال عماد الدين بن سلمة: رأيت حبيب بن الشهيد يعقد الآي في الصلاة،
ورأيت عاصم بن بهدلة يعقد ويصنع مثل صنيع عبدالله بن حبيب.
وقال حفص: كان عاصم إذا قُرِئ عليه أخرج يده فعدَّ.
ورعه وتقواه:
قال أبو بكر بن عياش: كان عاصمٌ إذا صلَّى ينتصب كأنه عود، وكان عاصم يوم الجمعة في المسجد إلى العصر، وكان عابدًا خَيِّرًا، أبدًا يُصلي،
ربما أتى حاجة فإذا رأى مسجدًا قال: مِلْ بنا؛ فإن حاجتنا لا تفوت، فرحمه الله ورضي عنه.
وكان - رحمه الله - من التابعين: فقد روى عن أبي رِمْثَةَ رفاعة بن يثربي التميمي، والحارث بن حسان البكري، وكانت لهما صحبة.
قال ابن الجزري في غاية النهاية (1/347): "أما حديثه عن أبي رِمْثَةَ فهو في مسند أحمد بن حنبل، وأما حديثه عن أبي الحارث،
فهو في كتاب أبي القاسم بن سلام".
توثيق أهل الحديث له:
قال ابن حجر في التقريب (2/165): "صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في الصحيحين مقرون".
قال المعلقون على كلام ابن حجر: "بل ثقة يهم؛ فهو حسن الحديث، وقوله: (صدوق له أوهام) ليس بجيد؛ فقد وثَّقه يحيى بن معين،
وأحمد بن حنبل، وأبو زرعة الرازي، ويعقوب بن سفيان، وابن حبان، وجعله ابن مَعِين من نظراء الأعمش -
وإن فضَّل هو وأحمد الأعمش عليه -
وكل هؤلاء وثَّقوه مع معرفتهم ببعض أوهامه اليسيرة؛ وانظر لذلك: تحرير تقريب التهذيب (2/165).
وقال أبو حاتم: محله الصدق، وحديثه مخرَّج في الكتب الستة، وممن وثقه أيضًا: شعبة، والحمدان، والسفيانان، وأبو زرعة، وجماعة.
وأذكر من أحاديثه - رحمه الله - ما رواه الطبراني في المعجم الكبير بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال لقريش: ((يا معشر قريش، لا خير في أحدٍ يُعبَد من دون الله))، فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبيًّا وكان عبدًا صالحًا،
إن كنت صادقًا إنه لكآلهتِهم، فأنزل الله - تعالى -: ﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ﴾ يضجون
﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ﴾ [الزخرف: 57 - 61]، خروج عيسى قبل يوم القيامة - والحديث صحيح، وهو جزء من حديث رواه أحمد في المسند بلفظ:
"فإن آلهتهم لكما تقولون"، وكذا رواه ابن أبي حاتم، وذكره ابن كثير في تفسيره عند تفسير هذه الآية.
وروى عبدالرزاق في مصنَّفه عن مَعْمَر قال: سمعتُ أيوب يسأل عاصم بن أبي النَّجُود: ما سمعتَ في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم؟
قال: أخبرني أبو وائل أنه سمع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يفتتح: "الحمد لله رب العالمين".
ومن أحاديثه أيضًا حديث في صحيح ابن خزيمة بسنده عن صفوان بن عسال قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: ((ما من خارج يخرجُ من بيته ليطلبَ العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضاءً بما يصنع))،
وهو جزء من حديث رواه أحمد في المسند،
والبيهقي في السنن الكبرى، والدارقطني في سننه، وصحَّحه الشيخ الألباني.
مَن أخذ القراءة عنه:
تلقَّى القراءة عن الإمام عاصم - رحمه الله - خلقٌ كثير، وقد أشار ابن الجزري والشاطبي إلى أشهر رواته، وهما شعبة وحفص،
وستأتي ترجمتهما بعد قليل - إن شاء الله - كما روى القراءة غير هذين الشهيرين عددٌ كثي، منهم:
1- أبان بن تغلب الربعي، أبو سعيد - ويقال: أبو أميمة - الكوفي النحوي، مقرئ جليل، قرأ على عاصم، وأبي عمرو الشيباني،
وطلحة بن مصرف، والأعمش، وهو أحد الذين ختموا عليه، أخذ القراءة عنه عرضًا: محمد بن صالح بن زيد الكوفي..
وأخذ الحروف عن محمد: القاسم بن بشار الأنباري، وتوفِّي أبان سنة إحدى وأربعين ومائة (141هـ).
2- هارون بن موسى الأعور، أبو عبدالله العتكي البصري الأزدي، مولاهم، علاَّمة صدوق نبيل، له قراءة معروفة،
روى القراءة عن عاصم الجحدري، وعاصم بن أبي النجود، وعبدالله بن كثير وغيرهم، وروى القراءة عنه علي بن نصر،
ويونس بن محمد المؤدب، وشهاب بن شرنقة، ووهيب بن عمرو، وحجاج بن محمد، وغيرهم، وقال أبو حاتم: كان أول مَن سمع بالبصرة
وجوهَ القراءات، وألفها، وتتبع الشاذَّ منها، توفِّي سنة (146هـ).
3- سليمان بن مهران الأعمش، أبو محمد الأسدي الكاهلي، مولاهم الكوفي، الإمام الجليل، ولد سنة (60 هـ)،
أخذ القراءة عرضًا عن إبراهيم النخعي، وزر بن حبيش، وزيد بن وهب، وعاصم بن أبي النجود، وغيرهم،
وروى القراءة عنه عرضًا وسماعًا: حمزة الزيَّات، ومحمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى، وجرير بن عبدالحميد، وزائدة بن قدامة،
وغيرهم، وقال هشام: ما رأيت بالكوفة أحدًا أقرأ لكتاب الله - عز وجل - من الأعمش، وقال - رحمه الله -: إن الله زيَّن بالقرآن أقوامًا،
وإني ممَّن زيَّنه الله بالقرآن، ولولا ذلك لكان على عنقي دَين أطوف به في سكك الكوفة، توفِّي - رحمه الله - سنة ثمان وأربعين ومائة (148 هـ).
وغير هؤلاء كثير، منهم: أبان بن يزيد العطار - إسماعيل بن مجالد - الحسن بن صالح - حماد بن زيد - حماد بن أبي زياد -
نعيم بن ميسرة - سهل بن شعيب - حماد بن عمرو - الضحاك بن ميمون.
وروى عنه حروفًا من القرآن: أبو عمرو بن العلاء - الخليل بن أحمد - الحارث بن نبهان - حمزة الزيات - المغيرة الضَبِّي -
محمد بن عبدالله العزرمي - وغيرهم خلق كثير، فرَضِي الله عنه، ورحمه رحمة واسعة.
وفاته:
قال أبو بكر بن عياش: دخلتُ على عاصم وقد احتُضِر، فجعلتُ أَسمعُه
يردِّد هذه الآية يحقِّقها حتى كأنه يصلِّي: ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى الله مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ﴾ [الأنعام: 62].
وتُوُفِّي الإمام عاصم - رحمه الله - آخر سنة سبع وعشرين ومائة (127هـ)،
وقيل: سنة ثمان وعشرين ومائة (128هـ)، ولا اعتبار بقول مَن قال غير ذلك.
وتُوُفِّي - رحمه الله - بالكوفة على الصحيح، وانظر: غاية النهاية (1/147)، والنشر (1/155)، فرحمه الله ورضي عنه، وأسكنه فسيح جناته.
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلَهم إن التشبُّه بالكرامِ فلاحُ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق