السبت، 22 فبراير 2020

المدينة المنورة

المدينة المنورة يلقبها المسلمون "طيبة الطيبة" أول عاصمة في تاريخ الإسلام، وثاني أقدس الأماكن لدى المسلمين بعد مكة. هي عاصمة منطقة المدينة المنورة الواقعة على أرض الحجاز التاريخية، غرب دولة السعودية (حاليًا)، تبعد المدينة المنورة حوالي 400 كم عن مكة المكرمة في الاتجاه الشمالي الشرقي، وعلى بعد حوالي 150 كم شرق البحر الأحمر، وأقرب الموانئ لها هو ميناء ينبع والذي يقع في الجهة الغربية الجنوبية منها ويبعد عنها 220 كم، تبلغ مساحة المدينة المنورة حوالي 589 كم²  منها 99 كم² تشغلها المنطقة العمرانية، أما باقي المساحة فهي خارج المنطقة العمرانية، وتتكون من جبال ووديان ومنحدرات سيول وأراض صحراوية وأخرى زراعية ومقابر وأجزاء من شبكة الطرق السريعة.

أُسست المدينة المنورة قبل الهجرة النبوية بأكثر من 1500 عام، وعُرفت قبل ظهور الإسلام باسم "يثرب"، وقد ورد هذا الاسم في القرآن: ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ وورد في الحديث الصحيح أن النبي محمد بن عبد الله غيّر اسمها من يثرب إلى المدينة، ونهى عن استخدام اسمها القديم فقال: «من قال للمدينة "يثرب" فليستغفر الله...»، والمدينة المنورة محرم دخولها على غير المسلمين، فقد قال النبي محمد: «اللهم إني أحرم ما بين لابتيها مثل ما حرم إبراهيم مكة، اللهم بارك في مُدِّهم وصاعهم».

تضم المدينة المنورة ثلاثة من أقدم المساجد في العالم، ومن أهمها عند المسلمين، ألا وهي: المسجد النبوي، ومسجد قباء، ومسجد القبلتين. تستمد المدينة المنورة أهميتها عند المسلمين من هجرة النبي محمد إليها وإقامته فيها طيلة حياته الباقية، فالمدينة هي أحد أبرز وأهم الأماكن ويسمي المسلمون السور القرآنية التي نزلت هناك بالسور المدنية، ومفردها "سورة مدنية".

يبلغ عدد سكان المدينة حوالي 1,152,991 نسمة، وتضم المدينة بين أحضانها الكثير من المعالم والآثار، ولعل أبرزها المسجد النبوي والذي يُعد ثاني أقدس المساجد بالنسبة للمسلمين بعد المسجد الحرام في مكة المكرمة، بالإضافة إلى مقبرة البقيع والتي تعد المقبرة الرئيسية لأهل المدينة، والتي دُفن فيها الكثير من الصحابة، ومسجد قباء أول مسجد بني في الإسلام، ومسجد القبلتين، وجبل أحد، والكثير من الوديان والآبار والشوارع والحارات والأزقة القديمة.
يرجع تاريخ تأسيس يثرب إلى حوالي 1600 سنة قبل الهجرة النبوية، اعتماداً على أن قبيلة عربية تسمى "عبيل" قد تكلمت بالعربية، وأن اللغة العربية وُجدت في ذلك التاريخ. أقدم النصوص التاريخية التي أشارت إلى المدينة هي النصوص الآشورية العائدة للقرن السادس قبل الميلاد، وبالتحديد في نقوش نبونعید، التي أشارت إلى المدينة باسم "لاثريبو"، كذلك فقد وجدت فيه كلمة "يثرب" في الكتابات التاريخية عند الأغريق، فقد أشار كلاوديوس بطليموس إلى واحة تقع في بلاد الحجاز بشبه الجزيرة العربية، تحمل اسم "لاثريبا". كما ورد هذا الاسم في الكتابات عند مملكة معين وذُكرت بين المدن التي سكنتها جاليات معينية، ومن المعروف أن المملكة المعينية قامت في جزء من اليمن في الفترة ما بين 1300 و600 ق.م، وامتد نفوذها في فترة ازدهارها إلى الحجاز وفلسطين، وعندما ضعف سلطانها كونت مجموعة مستوطنات لحماية طريق التجارة إلى الشمال وكان هذا الطريق يمر بيثرب، ويتفق هذا التاريخ التقريبي أيضًا مع تاريخ وجود العماليق وحروبهم مع بني إسرائيل في شمال الجزيرة العربية وسيناء.

الموجات السكّانية الأولى
تعاقب السكان على يثرب منذ إنشائها، فقد سكنها العماليق، ومن بعدهم قبائل المعينيين من اليمن ومن ثم اليهود. وصل اليهود إلى يثرب لأول مرة خلال القرن الثاني الميلادي خلال الحروب الرومانية اليهودية في فلسطين، التي كان من نتيجتها نزوح عدّة قبائل يهودية إلى الأقاليم المجاورة. أبرز تلك القبائل التي وصلت المدينة وسكنتها كانت قبائل بني قينقاع، وبني قريظة، وبني النضير، وقد استمروا يقطنونها حتى القرن السابع الميلادي. يذكر ابن خرداذبة أن بني قريظة عملوا في خدمة الفرس كجباة للضرائب خلال عهد السيطرة الفارسية على الحجاز.
حسب كتابات التراث العربي، فإنه وعلى إثر انهيار سد مأرب، نزحت عدّة قبائل عربية من مملكة سبأ في اليمن شمالاً، ومن هذه القبائل قبيلتا الأوس والخزرج وعندما وصلت القبيلتان إلى يثرب أعجبتا بما فيها من أرض خصبة وينابيع كثيرة فاستقروا فيها مع وجود قبيلتين من اليهود آنذاك، هما قبيلة بنو قريظة وقبيلة بنو قينقاع، وبعد ذلك عُقد حلف ومعاهدة بين اليهود والقبيلتان تلتزمان فيها بالسلام والتعايش والدفاع عن يثرب ضد الغزاة، فتحالفوا على ذلك والتزموا به مدة من الزمن ازداد خلالها عدد الأوس والخزرج ونمت ثرواتهم. إلا أن هناك شواهد أثرية تعود إلى تاريخ اليمن القديم وعدد من النصوص الآشورية، ترجح أن تواجد قبائل سبئية على حدود فلسطين قديم وجزء من سياسة سبئية للسيطرة على الطريق التجارية ولا علاقة له بتصدعات أصابت سد مأرب  عدا أنه لا يوجد دليل أن الأوس كانوا سبئيين فالنصوص السبئية وصفتهم بأنهم من أبناء الإله ود وهو أكبر آلهة مملكة معين وليس سبأ.

حسب كتابات ابن إسحاق، فإن نزاعًا وقع بين آخر ملوك الحميريين وسكنة يثرب، فيقول أنه عندما كان ذاك الملك يعبر المدينة، تعرّض له بعض السكّان وقتلوا ابنه، فهدد الملك بإبادة الناس عن بكرة أبيهم وقطع نخيلهم|نخل، وكان أن يفعل ذلك لولا أن تدخل اثنين من رجال الدين اليهود، وأقنعوا الملك بالعدول عن فكرته، لأن هذه المدينة هي مكان "سيهاجر إليه نبي من قريش في الزمن الآتي، وسيقيم فيها، ويُدفن فيها". بناءً على هذا امتَنَعْ الملك عن تدمير المدينة، واعتنق اليهودية، وصحب الحاخامان معه إلى اليمن، وفي الطريق مروا بمكة حيث عرفا الكعبة على أنها ذاك البيت الذي شاده إبراهيم، فنصحا الملك أن يفعل ما يفعله أهل مكة: أن يطوف بالبيت، ويبجله ويوقره، وأن يحلق رأسه ويحرم حتى يُتم الحج. يفيد ابن إسحق أنه عند وصول الجمع إلى اليمن، قام الحاخامان بمعجزة اعتنق أهل البلاد اليهودية على أثرها، وذلك بأن سارا في النار دون أن يحترقا.

تحول الأوس والخزرج إلى عدوين لدودين بعد سنوات من وصولهم ليثرب، وتنص المصادر بأن اليهود خافوا من اتساع سلطة ونفوذ القبيلتين، فقاموا بالتفريق والإيقاع بينهم، ونجحوا في خططهم واشتعلت الحروب الطاحنة بين الأوس والخزرج، واستمرت قرابة مائة وعشرين عامًا، ولم تنته هذه الحرب إلا عند هجرة النبي محمد إلى يثرب.

الهجرة النبوية ووصول الإسلام
في القرن السابع الميلادي ظهر الإسلام في مكة على يد النبي محمد بن عبد الله، الذي بدأ في دعوة الناس إلى الدين الجديد، وكانت تلك الدعوة سبباً في إغضاب سادة قريش الذين كانوا يسكنون مكة، فأعد المشركون كافة الأساليب لإحباط هذه الدعوة، فلم يجد النبي محمد وسيلة إلا بالهجرة إلى يثرب، وذلك بعدما اتفق مع وفد قبيلتي الأوس والخزرج على نصرته وحمايته، وبالفعل هاجر النبي إلى يثرب ومعه صاحبه أبو بكر الصديق، وقبل دخوله ليثرب عرج على قباء لأداء الصلاة وبنى هناك مسجداً كان أول مسجد في الإسلام. دخل محمد يثرب يوم الجمعة 12 ربيع الأول، سنة 1 هـ الموافق 27 سبتمبر سنة 622م، ثم قام بعد ذلك ببناء المسجد النبوي نواة الدولة الإسلامية الجديدة، وآخى بين المهاجرين والأنصار بعد قدومه بخمسة أشهر، في دار أنس بن مالك، وكانوا 90 رجلًا، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار، حتى لم يبقَ من المهاجرين أحد إلا آخي بينه وبين أنصاري. قال محمد لهم «تآخوا في الله أخوين أخوين»، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب وقال «هذا أخي»، فكان الأنصار يقتسمون أموالهم وبيوتهم مع المهاجرين، وكانوا يتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين غزوة بدر، فرد التوارث إلى ذوي الرحم وبقيت الأخوّة. وذكر البلاذري أن محمد قد آخى بين المهاجرين أنفسهم في مكة قبل الهجرة، وأيّد حدوثها الشيعة، بينما رجح ابن القيم وابن كثير من أهل السنة عدم وقوعها.
ثم نظّم محمد العلاقات بين سكان المدينة، وكتب في ذلك كتابًا اصطلح عليه باسم دستور المدينة أو الصحيفة، واستهدف هذا الكتاب توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة من مهاجرين وأنصار ويهود، وتحديد الحقوق والواجبات، كما نص على تحالف القبائل المختلفة في حال حدوث هجوم على المدينة. وعاهد فيها اليهود ووادعهم وأقرّهم على دينهم وأموالهم. وقام بتغيير اسمها من يثرب إلى المدينة، ونهى الناس عن استخدام اسمها القديم. يقول بعض الباحثين أن اسم "المدينة" قد يكون مشتقًا من الكلمة الآرامية "مدينتا"، التي يُحتمل أن يكون اليهود قد استخدموها كاسم آخر إلى جانب "يثرب". احتوت الوثيقة 52 بندًا، 25 منها خاصة بأمور المسلمين و27 مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولا سيما اليهود وعبدة الأوثان، لذلك رجح بعض المؤرخين أن تكون في الأصل وثيقتان وليست وثيقة واحدة، كُتبت الأولى (معاهدة اليهود) في سنة 1 هـ قبل غزوة بدر، والثانية (بين المهاجرين والأنصار خاصة) بعد بدر سنة 2 هـ.

غزوة بدر الكبرى
انطلقت من المدينة جميع غزوات الرسول، وكانت غزوة بدر أولها ومن أهمها. ففي صيف سنة 624 بلغ محمدًا أن قافلة تجارية يقودها أبو سفيان بن حرب يرافقه ما بين ثلاثين وأربعين رجل، تتجه من الشام عائدة إلى مكة. فجمع محمد جيشًا قوامه حوالي 313 رجلاً ليقطع الطريق عليهم، وتنص الكثير من المصادر الإسلامية الأولى، أن المسلمين لم يكونوا يتوقعون حصول معركة كبيرة. ومع اقتراب القافلة من المدينة، بلغت مسامع أبو سفيان ما يخططه المسلمون، فأرسل رسولاً إلى مكة ليُحذر قريش ويطلب الإمدادات، فأرسل القرشيون جيشَا تراوح عدد جنوده ما بين 900 و1,000 رجل، والتقى الجمعان عند آبار بدر حيث دارت معركة طاحنة انتصر فيها المسلمون على قلة عددهم.

معركة أحد
في عام 625، حشد القرشيون جيشًا جديدًا للثأر لهزيمة بدر وساروا لملاقاة المسلمين، فتواجهوا بالقرب من المدينة مقابل جبل أحد، حيث وضع النبي محمد خطة حربية كانت تقضي أن يجعل المدينة المنورة في وجهه ويضع خلفه جبل أحد ويحمى ظهر الجيش بخمسين من الرماة المهرة وضعهم على هضبة عالية مشرفة على أرض المعركة، وجعل قائدهم عبد الله بن جبير وأمرهم النبي أن يبقوا في أماكنهم وأن لا يتركوها حتى يأذن لهم فيرموا جيش قريش بالسهام ولا يسمحوا لهم بالالتفاف خلف قطعات جيش المسلمين.

كان النصر في بداية الأمر إلى جانب المسلمين ، ولكن حصلت حادثة غيرت من مسار نهاية المعركة، عندما ترك الكثير من الرماة مكانه ظنا أن المعركة قد حسم أمرها وأنه لم يبق أثر للمشركين، ونزلوا ليأخذوا من الغنائم، وبقي أقل من عشرة رماة أبوا أن يلحقوا بهم فنظر خالد بن الوليد وكان ما زال مشركا في جيش قريش إلى من بقي من الرماة فاستثمر الحدث وتوجه بمجموعة من المشركين، وتسللوا خلف جبل الرماة ففاجأوا الرماة القليلين من الخلف وقتلوهم بما فيهم قائدهم عبد الله بن جبير. عندها وجد المسلمون أنفسهم بأنهم قد أصبحوا محاصرين، فقتل من قتل منهم واشتد الأمر عليهم، عندها عاد من هرب من المشركين وهجموا على المسلمين هجمة شرسة، ورفعوا عن الأرض رايتهم المتسخة. وقد قتل في المعركة خلق كثير من المسلمين منهم عم النبي Mohamed peace be upon him.svg حمزة بن عبد المطلب.

غزوة بني النضير
في وقت لاحق في شهر ربيع الأول سنة 4 هـ، حدثت غزوة بني النضير بعد أن همّ يهود بنو النضير بالغدر وقتل محمد، فنقضوا بذلك الصحيفة، فأمهلهم محمد 10 أيام ليغادروا المدينة، فرفضوا وتحصنوا بحصن لهم، فحاصرهم محمد 15 يومًا، وقيل 6 ليال، ثم أجلاهم عن المدينة وحملوا النساء والصبيان وتحملوا على 600 بعير، فلحقوا بخيبر، وغنم من أموالهم ما تركوه وراءهم.

غزوة الخندق ونهاية بني قريظة
لما أُجلي بنو النضير، وساروا إلى خيبر، خرج نفر من وجهائهم فحرّضوا قريشًا وكنانة وغطفان ودعوهم إلى حرب محمد وعاهدوهم على قتاله، فوافقوهم. وتجهزت قريش وكنانة فجمعوا 4000 شخص، ومعهم 300 فرس. وانضم إليهم أعدادًا من بني سليم وبني أسد، وفزارة، وغطفان، وبني مرة. فكان جميعهم 10,000 سُمّوا بالأحزاب، وكان قائدهم أبو سفيان، فكانت ما عُرف باسم غزوة الخندق أو غزوة الأحزاب، وكانت في شوال سنة 5 هـ وقيل في ذي القعدة. فلما سمع بهم محمد، عسكر بثلاثة آلاف من المسلمين إلى سفح جبل سلع، وكان شعارهم «حَم، لَا يُنْصَرُونَ»، وجعل النساء والأطفال في آطام (حصون)، ثم حفر الخندق على المدينة بمشورة سلمان الفارسي، وكان يعمل فيه بيده، فانتهوا منه بعد 6 أيام.
ولما انتهوا من الخندق، أقبلت قريش ومن معهم من الأحزاب وحاصروا المدينة حصارًا شديدًا، وفي أثناء ذلك وافق يهود بني قريظة على أن يسمحوا للأحزاب بدخول المدينة من الجهة التي يقطنوها بعد أن فاوضهم حيي بن الأخطب القادم مع الأحزاب، لكن ذلك لم يتم بسبب حيلة استخدمها الصحابي "نعيم بن مسعود الغطفاني" للإيقاع والتفريق ما بين بني قريظة والأحزاب. واشتد الحصار على المسلمين ودبّ فيهم الخوف والرعب، فكانت آيات من سورة الأحزاب تصف ما حدث Ra bracket.png يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا Aya-9.png إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا Aya-10.png La bracket.png. وأقام المسلمون والأحزاب 24 ليلة لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصار. حتى جاءت ريح شديدة لمعسكر الأحزاب، فارتحلوا على إثراها. كان من نتيجة هذا الحصار أن قُتل 8 من المسلمين، و4 من الأحزاب. ولما انصرف الأحزاب عن المدينة، قال محمد لأصحابه: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم»، فلم تغزهم قريش بعد ذلك، وكان هو الذي يغزوها، وذلك حتى فتح مكة.

بعد انتهاء المعركة، رجعت بنو قريظة فتحصنوا بحصونهم، ووضع محمد السلاح. فجاءه جبريل في صورة دحية الكلبي فقال: «أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟» قال «نعم» فقال جبريل «فما وضعت الملائكة السلاح بعد وما رجعت الآن إلا من طلب القوم. إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإنّي عامد إليهم فمزلزل بهم» فأمر محمد أصحابه بالرحيل إليهم 7 ذو القعدة 5 هـ، فكانت غزوة بني قريظة، فحاصرهم المسلمون وهم يومئذ 3000، 25 ليلة حتى أتعبهم الحصار. فأعلن بنو قريظة استسلامهم، فقام محمد بتحكيم سعد بن معاذ فيهم فحكم بقتلهم وتفريق نسائهم وأبنائهم عبيدًا بين المسلمين، فقال محمد «لقد حكمتَ فيهم بحكم الله». فأمر محمد بتنفيذ الحكم وتم إعدام ما بين 700 إلى 900 شخص.

عاصمة الدولة الإسلامية
بعد حوالي ثمانية سنوات من الهجرة، استطاع المسلمون العودة إلى مكة فاتحين. لكن على الرغم من الانتصار ودخول مكة في ظل الدولة الإسلامية، فإن محمدًا اتخذ المدينة مقرًا، فأصبحت عاصمة الدولة الإسلامية الفتيّة. وبقي النبي في المدينة حتى توفي في شهر ربيع الأول سنة 11 هـ.

المدينة في عصور الخلافة
بعد وفاة النبي محمد عاشت المدينة المنورة أزهى عصورها في عهد الخلفاء الراشدين، منذ تولي أبو بكر الصديق الذي قضى على المرتدين عن الإسلام في حروب الردة، ومروراً بعمر بن الخطاب حيث فُتحت بلاد الشام ومصر وبلاد فارس، وعهد عثمان بن عفان الذي شهد المزيد من الفتوحات ودخول سلاح البحرية إلى الجيش الإسلامي وحدوث الفتنة بين المسلمين، وصولاً إلى عهد علي بن أبي طالب وباستشهاده عام 661 ازدادت الفتنة بين المسلمين وبعضهم، حتى قامت الخلافة الأموية عام 661، بعد أن تنازل الحسن بن علي عن الخلافة، ونُقلت عاصمة المسلمين من المدينة المنورة إلى دمشق. ومنذ نهاية عصر الخلافة الأموية حتى بداية العهد السعودي مرت المدينة المنورة بعصور مختلفة بداية من الخلافة العباسية مروراً بالخلافة الفاطمية ثم الدولة الأيوبية ثم السلطنة المملوكية ثم الدولة العثمانية وصولاً إلى العصر السعودي الحديث. ومن أبرز ما حدث خلال تلك العهود: قيام الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بتوسيع المسجد النبوي خلال عهده، حتى أضحى قبر النبي محمد جزءًا لا يتجزأ منه، كما أصيب مسجد قباء بصاعقة قرابة عام 850 أدّت إلى تدميره، ولم يُعاد بناءه إلا سنة 892، واستمر قائمًا على ما هو عليه حتى سنة 1257 عندما تدمر مجددًا بفعل حريق كبير، فأعيد بناءه على الفور، ثم السلطان قايتباي المملوكي بتجديد بناه سنة 1487.

حصار سنة 1916
شهدت المدينة المنورة في بداية القرن العشرين، وخلال الحرب العالمية الأولى، أطول حصار في تاريخها. فقد كانت المدينة حتى ذلك الحين تتبع الدولة العثمانية، ويقيم فيها حاكمٌ عثماني، كان في تلك الفترة المدعو فخري باشا. وعندما أعلن الشريف حسين بن علي، شريف مكة، الثورة على الحكم العثماني باسم العرب، سار بقواته وضرب حصارًا على المدينة المنورة تمهيدًا لطرد العثمانيين منها. تمكن فخري باشا من صد قوات الشريف حسين من سنة 1916 حتى سنة 1919، لكنه اضطر للاستسلام في نهاية المطاف في العاشر من يناير من نفس العام، فدخلت قوات الشريف حسين المدينة، حيث بويع الأخير ملكًا على الحجاز وبلاد العرب، غير أن القوى العظمى وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا لم تعترف به ملكاً على كل الدول العربية المستقلة حديثًا، بل كملك على الحجاز فقط، وتقاسمت ما تبقى من تركة الدولة العثمانية فيما بينها.

تاريخ المدينة الحديث
دخلت المدينة المنورة في ظل الدولة السعودية في يوم 19 جمادى الأولى عام 1344 للهجرة، وذلك عندما سلمها القادة الهاشميون بناء على اتفاق خاص مع الملك عبد العزيز آل سعود، وقد شهدت المدينة المنورة في العصر السعودي الحديث أزهى عصورها من حيث أعمال التوسعة والعمران، وشهدت تقدماً في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث وفرت الدولة السعودية الأمان لسكان المدينة بعد أن كان مفقوداً بسبب غارات القبائل، ولعل أبرز ما قامت به الحكومة السعودية للمدينة المنورة هي توسعة المسجد النبوي، حيث وضع الملك فهد بن عبد العزيز حجر الأساس للتوسعة الضخمة للمسجد النبوي، وذلك في 2 نوفمبر 1984، حيث تمت إضافة مساحة 82000 م² لحرم المسجد، وتم عمل ساحات واسعة تحيط بجهات المسجد الأربع يبلغ إجمالي مساحتها حوالي 235000 م²، وزيدت الطاقة الاستيعابية للمصلين بشكل كبير داخل المسجد، فبعد أن كان المسجد النبوي يستوعب حوالي 58000 مصلٍ (دون مساحة الساحات المحيطة بالمسجد)، فقد أصبح يستوعب حوالي 650000 منهم.
تقع معظم المدينة في تجويف رباعي يمتد نحو الجنوب، وتحده صخور البازلت من الشرق والغرب والجنوب، وتوجد عدة تكوينات جيولوجية أخرى حول التجويف الرباعي تعود إلى عصر ما قبل الكمبري، وأحياناً تختلط هذه الصخور مع صخور بركانية وأحجار مسامية من الرماد البركاني وأحجار الشظايا الأفقية المتلاحمة.

يتألف التكوين الرباعي من الرمل والطمي والغِرْين والصلصال، والذي نشأ أساساً من تفتت الصخور المنقولة إلى الوديان من التكوينات البركانية القديمة وتكوينات ما قبل الكمبري. تُوجد في غرب المدينة المنورة مجموعة من الصدوع على هيئة أنصاف دوائر، ويكون اتجاه وانحدار هذه الصدوع نحو الشرق والجنوب الشرقي، كما يوجد في شمال المدينة عدد من الأراضي ذات ملوحة عالية ليست ملائمة للزراعة مباشرة.

توجد في أقصى جنوب المدينة تكوينات ثلاثية ورباعية من صخور البازلت والأندسايت وتنتشر هذه التكوينات في المنطقة التي يُطلق عليها اسم "حرة رهاط" مع امتدادات نحو الشمال على شكل أذرع تطوق التجويف الرباعي نحو الشرق والغرب، ويمكن ملاحظة أن الذراع الغربي، "الحرة الغربية"، أضيق من الذراع الشرقي، "الحرة الشرقية"، والذي يمتد بشكل أكبر نحو الشرق موازياً للسهل الشمالي. ويُعتقد بأن أحدث المسكوبات البركانية في المدينة المنورة حدثت في القرن السابع الهجري، وتوجد هذه المسكوبات على هيئة طبقات فقاعية من خبث البراكين المختلطة بالصلصال الأصفر والأبيض، وتوجد هناك أيضاً طبقات سميكة من البازلت يصل عمقها إلى 200 متر في بعض المناطق في جنوب المدينة، كما يوجد الغرين شبه البازلتي في مناطق كثيرة ما عدا القمم القاعدية.
بلغ عدد سكان المدينة المنورة في آخر فترة قبل الإسلام ما بين 12 و15 ألف نسمة، ولما هاجر المسلمون الأوائل من مكة إلى المدينة تغيرت المعادلة السكانية، ومرت بمراحل مد وجزر، إذ وفدت إليها مجموعات قبلية، وأفراد من مكة والبادية، وكان النبي محمد قد أجلى عنها من بقي من اليهود، وقد بلغ عدد سكانها أيام وفاة النبي حوالي ثلاثين ألف نسمة.

وخلال عهد الخلفاء الراشدين خرجت مجموعات كبيرة إلى حروب الردة والفتوحات الإسلامية، استشهد كثيرون منهم، وأقام آخرون في المجتمعات الإسلامية الجديدة في بلاد الشام والعراق ومصر، مما أنقص عدد السكان عدة آلاف، وفي العهد العباسي بدأ عدد السكان يتناقص تدريجياً، إذ قُدّر عدد السكان وقتها بثلاثة آلاف تقريباً، كما يُستدل من السور الذي بني حول المدينة في منتصف القرن الثالث الهجري، وكان ذلك التناقص نتيجة كثرة الفتن، واضطراب الأحوال الأمنية، وسوء الأحوال الاقتصادية يومها، وفي القرن السادس الهجري ازداد عدد السكان، ولم تعد تتسع لهم المنطقة المحصورة داخل السور، وبنى لهم نور الدين زنكي سوراً ثانياً بلغ طوله أكثر من ضعف السور الأول، مما يدل على أن عدد السكان قد زاد عن ستة آلاف نسمة.

ومع بداية العهد العثماني ازداد عدد سكان المدينة ووصل في القرن الثالث عشر الهجري إلى عشرين ألف نسمة تقريباً، وفي القرن الرابع عشر الهجري ازداد عدد سكان المدينة عند وصلها بسكة حديد الحجاز، ووصل إلى ثمانين ألفاً، لكنه عاد وانخفض انخفاضاً حاداً عندما قامت الحرب العالمية الأولى، وأجبر معظم أهل المدينة على الخروج منها فيما عرف باسم سفر برلك، حتى لم يعد فيها من أهلها إلا العشرات بسبب الصراع بين العثمانيين والهاشميين، ومع انتهاء الحرب العالمية الأولى وخروج العثمانيين؛ عاد إلى المدينة عدد من أهلها، واستقر الباقون في الأماكن التي هاجروا إليها.

سكان المدينة المنورة حديثًا
شهدت المدينة المنورة في العقود الثلاثة الأخيرة تضاعفا كبيرا في عدد سكانها، فبلغ حسب إحصاءات عام 1999 حوالي 856 ألف نسمة ينتمون إلى قبائل وأعراق مختلفة، بعضهم من أهل المدينة المقيمين فيها منذ قرون طويلة، وبعضهم من الوافدين إليها من أنحاء المملكة العربية السعودية ومن مختلف دول العالم للاستيطان بها، وبعضهم من القادمين من البلاد العربية والإسلامية للعمل، ويتوزع السكان في ثلاث دوائر عمرانية مركزها المسجد النبوي، ومحيطها الأخير خلف جبل أحد شمالاً وذي الحليفة (أبيار علي) غرباً ووادي بطحان جنوباً والعاقول شرقاً.

يُقدر عدد سكان المدينة المنورة حالياً بحوالي 1,152,991 نسمة، وكنتيجة للتطورات العمرانية توزع السكان على أحياء المدينة وتغيرت الكثافة السكانية فيها، فتضاعف عددهم في الأحياء الداخلية حول المسجد النبوي بسبب إعادة عمران المنطقة، والتوجه نحو تأمين مناطق سكنية وتجارية تخدم الزوار فيها، وازدادت في المناطق التالية: قربان، قباء، الحرة الشرقية، الحرة الغربية، وفي أطراف المدينة مثل أبيار علي، ومنطقة العاقول، ومنطقة سيد الشهداء. وإضافة إلى المقيمين الدائمين في المدينة يفد إليها أعداد كبيرة من الزوار في المواسم الدينية، وخاصة في شهر رمضان وموسم الحج، ويبلغ عددهم قرابة المليون، يمكثون فيها على دفعات متتالية، أياماً وأسابيع قليلة ثم يعودون إلى بلادهم.

التكافل الاجتماعي
دار الأيتام في المدينة المنورة

"تعد دار التربية في المدينة المنورة أول دار تنشأ في المملكة العربية السعودية لرعاية الأيتام، وتعود أسباب نشأة هذه الدار إلى عام (1351هـ) عندما ساءت الأحوال الاقتصادية في المدينة المنورة وما حولها من البواديجراء انقطاع المطر وجفاف الأعشاب وهلاك الماشية ، فهاجر العديد من أبناء البادية قاصدين المدينة المنورة، وشملت الهجرة الصغار والكبار، ومن هنا فكر الشبيخ عبد الغني دادا -يرحمه الله- وهو أحد تجار المدينة المنورة بمساعدتهم، وقام بتقديم الطعام والشراب لهم، وبزغت فكرة وجود دار لإيواءؤ أبناء البادية ومن مات أبوه منهم، وكتب الشيخ دادا إلى الملك عبد العزيز يطلب الإذن بفتح الدار، ولقد وصل رد الملك عبد العزيز سريعا بالموافقة على ذلك، وشكر الشيخ على عاطفته النبيلة.

ولقد افتتحت الدار في محرم من عام (1352هـ) وسميت (دار أيتام الحرومين الشريفين والصنائع الوطنية)"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

زياد علي

زياد علي محمد