الجمعة، 23 أغسطس 2019

معرفة الصحابة والتابعين

معرفة الصحابي:

هو من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به، ومات على الإسلام، ولو تخللت ذلك ردَّة على الأصح[1].



توضيح التعريف:

(من لقي النبي صلى الله عليه وسلم؛ سواء كان اللقاء من بصير، أو أعمى كابن أم مكتوم.



(مؤمنًا به): نُخرج منه: من لقيه واجتمع به وهو كافر، ثم أسلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يسمى صحابيًّا.



(ومات على الإسلام): نخرج من لقيه وآمن به، ثم ارتدَّ ومات على الكفر، فهذا لا يسمى صحابيًّا؛ كابن خطل، وعبيدالله بن جحش.



(ولو تخللت ذلك رِدَّة): والمقصود من لقيه وآمَن به، ثم ارتَّد، ثم رجع إلى الإسلام، وسواء رجع للإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو بعده، ثم مات على الإسلام، فإنه يسمى صحابيًّا؛ مثل: الأشعث بن قيس ارتدَّ، وأُسِر، وأسلم وقَبِل أبو بكر رضي الله عنه منه ذلك، وهو معدود من الصحابة.



فإن قيل: ما فائدة معرفة الصحابة بالنسبة لمصطلح الحديث ما دام أن الصحابة كلهم عدول؟

فالجواب: إن أهم فائدة تختص بذلك هي معرفة المتصل من المرسل، فما رفعه الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم فهو المتصل، وما رفعه التابعي للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو المرسل.



ويعرف الصحابي: تارة بالتواتر أنه صحابي، وتارة بشهادة صحابي آخر له، وتارة بروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أو مشاهدته مع المعاصرة، وتارة بإخباره عن نفسه، وتارة بإخبار تابعي ثقة.



أفضل الصحابة:

أفضلهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بإجماع أهل السنة، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم علي رضي الله عنه ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل أحد، ثم أهل بيعة الرضوان رضوان الله عليهم جميعًا.



أولهم إسلامًا:

من الرجال الأحرار: أبو بكر رضي الله عنه.

ومن الصبيان: علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ومن النساء: خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها.

ومن الموالي: زيد بن حارثة رضي الله عنه.

ومن الأرقاء: بلال بن رباح رضي الله عنه.



آخر الصحابة موتًا:

أبو الطفيل عامر بن واثلة اللَّيثي رضي الله عنه، مات سنة مائة بمكة المكرمة، وقيل مات سنة (110 هـ)، وصححه الذهبي، ثم آخرهم موتًا قبله أنس بن مالك رضي الله عنه مات سنة ثلاث وتسعين بالبصرة.



من هم العبادلة؟

يدخل فيها كل من اسمه: (عبدالله) من الصحابة، ويبلغ عددهم ثلاثمائة صحابي، لكن المراد بالعبادلة أربعة من الصحابة وهم: عبدالله بن عمر، وعبدالله بن العباس، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمرو بن العاص - رضوان الله عليهم جميعًا، وكلهم من أجلَّاء الصحابة وعلمائهم.



أكثر الصحابة روايةً للحديث:

أكثر الصحابة على التوالي: أبو هريرة، ثم ابن عمر، ثم أنس بن مالك، ثم عائشة، ثم ابن عباس، ثم جابر بن عبدالله، ثم أبوسعيد الخدري رضي الله عنهم جميعًا، وبلغ عدد ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه (5374) حديثًا، وروى عنه أكثر من (300) رجل.



قال السيوطي:

والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة، ويليه ابن عمر.

وأنس البحر؛ كالخدري، وجابر، وزوجة النبي.



من أشهر المصنفات في معرفة الصحابة:

(الإصابة في تميز الصحابة)؛ لابن حجر، و(أُسْدُ الغابة في معرفة الصحابة)؛ لابن الأثير، (والاستيعاب في أسماء الأصحاب)؛ لابن عبدالبر.



معرفة التابعي:

التابعي: هو من لقي صحابيًّا مسلمًا، ومات على الإسلام.



وفائدة معرفة التابعي: كما تقدم معرفة المرسل من المتصل.



أفضل التابعين:

اختُلف في ذلك على أقوال: فأهل المدينة يقولون سعيد بن المسيَّب رحمه الله.



وأهل البصرة: الحسن البصري رحمه الله، وأهل الكوفة: أويس القرني - رحمه الله - وهو الأظهر والله أعلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْس))؛ رواه مسلم.



المخضرمون من التابعين:

وهم الذين أسلموا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه، أوصلهم مسلم رحمه الله إلى عشرين شخصًا، وقيل أكثر من ذلك منهم: عمرو بن ميمون، وأبو عثمان النهدي، وأبو مسلم الخولاني رحمهم الله.



كبار علماء التابعين:

وهم الفقهاء السبعة، وكلهم من أهل المدينة وهم: سعيد بن المسيَّب، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وعُبيدالله بن عبدالله بن عتبة.



واختُلِفَ في السابع: قيل: سالم بن عبدالله، وقيل: أبو سلمة بن عبدالرحمن.



قال الناظم:

إذا قيل مَنْ في العلمِ سَبْعةُ ًأبْحُرٍ
روايتُهم ليست عن العلم خارجهْ؟
فقل هم: عُبيدالله، عروةُ، قاسمٌ،
سعيدٌ، أبو بكرٍ، سليمانُ، خارجَهْ 

سلمان منا آل البيت

سلمان منا آل البيت





سلمان منا آل البيت (حديث شريف)

" لعمرك ما الإنسان إلا ابن دينه
فلا تترك التقوى اتكالا على النسب
فقد رفع الإسلام سلمان فارس
وقد وضع الشرك الحسيب أبا لهب

نجائب النجاة مهيّأة للمراد, وأقدام المطرود موثوقة بالقيود..
هبّت عواصف الأقدار في بيداء الأكوان, فتقلب الوجود ونجم الخير, فلما ركدت الريح إذا أبو طالب غريق في لجة الهلاك, وسلمان على ساحل السلامة.
والوليد بن المغيرة يقدم قومه في التيه, وصهيب قد قدم بقافلة الروم, والنجاشي في أرض الحبشة يقول: لبيك اللهم لبيك, وبلال ينادي: الصلاة خير من النوم, وأبو جهل في رقدة المخلفة.
لما قضى في القدم بسابقة سلمان عرض به دليل التوفيق عن طريق آبائه في التمجس (المجوسية), فأقبل يناظر أباه في دين الشرك, فلما علاه بالحجة لم يكن له جواب إلا القيد.
وهذا جواب يتداوله أهل الباطل من يوم عرفوه،
وبه أجاب فرعون موسى:{لئن اتخذت إلها غيري} الشعراء 29,
وبه أجاب الجهمية : الإمام أحمد لما عرضوه على السياط،
وبه أجاب أهل البدع شيخ الإسلام حين استودعوه السجن -وها نحن على الأثر- فنزل به ضيف {لنبلونكم} جزء من الآية 155 سورة البقرة.
فنال بإكرامه مرتبة "سلمان منا أهل البيت", فسمع أن ركبا على نية السفر, فسرق نفسه من أبيه ولا قطع, فركب رحالة العزم يرجو إدراك مطلب السعادة , فغاص في بحر البحث ليقع بدرّة الوجود, فوقف نفسه على خدمة الأدلاء وقوف الأذلاء, فلما أحس الرهبان بانقراض دولتهم سلموا إليه أعلام الإعلام على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن زمانه قد أطل, فاحذر أن تضل, فرحل مع رفقة لم يرفقوا به {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} يوسف 20..
فابتاعه يهودي بالمدينة, فلما رأى الحرة تولد حرا شوقه, ولم يعلم رب المنزل بوجد النازل. فبينا هو يكابد ساعات الانتظار قدم البشير بقدوم البشير, وسلمان في رأس نخلة, وكاد القلق يلقيه لولا أن الحزم أمسكه كما جرى يوم:{إن كانت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} القصص 10..
فعجل النزول لتلقي ركب البشارة ولسان حاله يقول:
خليلي من نجد قفا بي على الربا
فقد هب من تلك الديار نسيم
فصاح به سيده: مالك؟ انصرف إلى شغلك.
فقال :
..................................
كيف انصرافي ولي في داركم شغل ؟!
ثم أخذ لسان حاله يترنم لو سمع الأطروش:
خليلي لا والله ما أنا منكما
إذا علم من آل ليلى بدا ليا
فلما لقى الرسول عارض نسخة الرهبان بكتاب الأصل فوافقه :
" يا محمد ! أنت تريد أبا طالب ونحن نريد سلمان " .
أبو طالب إذا سئل عن اسمه قال : عبد مناف, وإذا انتسب افتخر بالآباء , وإذا ذكرت الأموال عدّ الإبل.
وسلمان إذا سئل عن اسمه قال : عبد الله , وعن نسبه قال: ابن الإسلام, وعن ماله قال: الفقر , وعن حانوته قال : المسجد, وعن كسبه قال : الصبر, وعن لباسه قال: التقوى والتواضع, وعن وساده قال : السهر, وعن فخره قال : " سلمان منا " ، وعن قصده قال:{ يريدون وجهه} الأنعام 52, وعن سيره قال : إلى الجنة , وعن دليله في الطريق قال: إمام الخلق وهادي الأمة ". 

عظماء بداياتهم محرقة ونهاياتهم مشرقة

التاريخ الإسلامي حافل بالأمثلة العجيبة حقًّا في سير حياتها، ومن أعجب هذه الأمثلة بعض الكبار والعظماء والزعماء الذين كانت ظواهر حياتهم وغالب أحوالهم تحكي عن سوء خاتمتهم، فظلم وطغيان وجبروت وشهوات ومفاسد، حتى قطع لهم كثير من الناس بسوء الخاتمة جهنم وبئس المصير، ولأن الأمر كله لله -عز وجل-، ولأنه لا يعلم العواقب إلا الله، ولأن الجنة والنار بأمر الله وحده، فإن هؤلاء الكبراء أو العظماء أو الزعماء الذين كانت بداياتهم محرقة، كانت نهاياتهم مشرقة، وهذا طرف من أخبار بعضهم:


الصاحب بن عباد.. بيت التوبة:


الوزير الكبير والطاغية الشرير، الذي جمع بين التشيع والاعتزال، والشدة والصلف، والتقعر والكبر، ثم ترك ذلك كله وتاب إلى الله -عز وجل- توبة صارت مضربًا للأمثال.


هو إسماعيل بن عباد الطالقاني الملقب بالصاحب، كان وزيرًا لمؤيد الدولة البويهي الشيعي، وكان مشهورا بالحزم والكفاءة، حتى لقب بكافي الكفاة، وافتتح لمليكه خمسين قلعة في فارس بالصرامة والقسوة وحسن التدبير، وعمل في خدمة البويهيين قرابة العشرين سنة، فكان سيفهم المجرد على من خالفهم.


كان الصاحب بن عباد فاسد العقيدة، يجمع بين التشيع والاعتزال والابتداع، ذكر عنده البخاري يومًا فقال: ومن البخاري؟! حشوي لا يعول عليه -والحشوي هو الوصف الذي كان يطلقه المعتزلة والجهمية على أهل السنة الذين يثبتون الصفات-، وكان الصاحب متضلعًا في علوم اللغة، له فيها تصانيف مشهورة، ومع ذلك كان متقعرًا يتعانى، وحشي الألفاظ في خطابه، وإذا ناظره أحد اشتد غضبه، كما كان مشهورًا بالشراب والمنادمة، وله أشعار فائقة في وصف الخمر.


ثم ماذا حدث؟!


انقلاب شامل في حياة هذا الرجل، حيث ألقى الله -عز وجل- حب الحديث في قلبه، فعزم على رواية الحديث، فوجد نفسه ملطخًا بأوزار السلطان والوزارة والعقيدة الفاسدة، فتاب من ذلك كله وبنى لنفسه بيتًا سماه بيت التوبة، وجمع الفقهاء والعلماء والأمراء، وخرج عليهم من هذا البيت وقد لبس زي الفقهاء وترك زي الوزراء، وأشهدهم على نفسه بالتوبة والإنابة مما يعانيه من أمور السلطان، وعزم على أن لا يأكل إلا من إرث أبيه فقط، وكتب محضرًا بذلك أخذ عليه خطوط العلماء، ثم عقد مجلسًا عامرًا لرواية الحديث بأسانيد عالية عن مشايخ ثقات، وأعلن تخليه عن علوم الكلام والفلسفة والآراء البدعية، واتباعه لعقيدة السلف، ورغم ذلك كله لم يعزله مؤيد الدولة عن الوزارة، بل ازداد له حبًّا وبه تمسكًا، وأقره على عمله، حتى أصبح الصاحب بن عباد هو درة بني بويه وأفضل وزرائهم خلال عصرهم الذي جاوز مائة سنة.



السلطان الأشرف الأيوبي.. مدمن الخمر الذي طار مع الصالحين:


هو سلطان دمشق والشام الأشرف موسى بن العادل محمد الأيوبي، ولد سنة 576هـ في بيت عز وملك ورياسة، فأبوه السلطان العادل سلطان مصر والشام والحجاز، وعمه السلطان العظيم الناصر صلاح الدين الأيوبي، وجده الأمير نجم الدين أيوب، نشأ بالقدس، وكان من أحب أولاد العادل إلى قلبه، لذلك نشأ مترفًا منعمًا منغمسًا في الشهوات كعادة الشباب ذوي النعمة، فحاول أبوه أن يصحح مساره فولاه على مدن كثيرة بمنطقة الجزيرة الفراتية؛ منها: الرها وحران وخلاط، وقد اعتدل قليلاً، ولكنه كان مدمنًا للخمر لا يقوى على تركها، حتى اشتهر عنه ذلك الأمر وعلمه القريب والبعيد والكبير والصغير.


وكانت نقطة التحول في حياة الأشرف الأيوبي سنة 626هـ عندما أصبح سلطانًا على دمشق؛ إذ تاب هذا الرجل وأقلع عن سائر معاصيه، وقرب أهل العلم خاصة المحدثين، فبنى المدارس الفقهية وخرّب خان الزنخاري وكان وكرًا للفجور والفواحش، وبنى مكانه جامعًا أسماه جامع التوبة، وبنى الكثير من الجوامع في دمشق، وأمر مناديه في دمشق أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، وكل من اشتغل بالفلسفة والمنطق والكلام نفاه من البلد، وكان يشجع الناس والتجار الموسرين على بناء المساجد والجوامع والمدارس، ونشر الأمن والعدل في دمشق، وسجن أرباب الشرور والمفسدين وأهل الدعارة، وقمع شرورهم عن الناس، وأكثر من الصدقات والخيرات على الفقراء والمساكين، وألزم الناس بأحكام الشريعة، وبدأ بنفسه عندما قتل أحدُ خواصه المقربين منه واحدًا من العامة، وأصر أولياء المقتول على القصاص، وعرض عليهم دفع عشر ديات عوضًا عن المقتول، فأبوا إلا القصاص، فسلمه إليهم فقتلوه، فقال الأشرف كلمته الشهيرة: "لو طلبوا مني ملكي فداءً له لدفعته إليهم، ولكن استحيت من الله أن أعارض شرعه بحظ نفسي".


وكان السلطان الأشرف منذ أن تولى دمشق قد أصبح منشغلاً بقضايا المسلمين، ودخل الكثير من الحروب من أجل نجدة مسلمي الشام والجزيرة من عبث الجنود الخوارزمية الذين نهبوا الكثير من المدن مثل خلاط والرها، وأصلح ما أفسدوه.


ومن أعمال الأشرف الصالحة أنه حبس الشيخ علي الحريري بقلعة عزتا، وكان شيخًا فاسقًا ماجنًا منحرفًا مشهورًا بالتهتك والزندقة، وقد أفتى علماء الزمان مثل العز بن عبد السلام وابن الصلاح وابن الحاجب بقتله عدة مرات.


وقد ابتلي في أواخر عمره بداء عضال، حتى كان الطبيب يخرج العظام من رأسه وهو يسبح الله -عز وجل-، ثم اعتراه إسهال مفرط حتى خارت قوته، فشرع في التهيؤ للقاء الله -عز وجل-، فأعتق مائتي غلام وجارية، وتصدق بأموال جزيلة، وأوقف أملاكًا كثيرة، ثم تشهد ومات، وبعد وفاته بقليل رآه أحد الصالحين في المنام وعليه ثياب خضر وهو يطير مع جماعة من الصالحين، فقال له: ما هذا وقد كنت تعاني الشراب في الدنيا؟! فقال: ذاك البدن الذي كنا نفعل به ذاك عندكم، وهذه الروح التي نحب بها هؤلاء فهي معهم.



الأمير علي.. من الوثنية إلى الإسلام إلى الشهادة:


كانت منطقة القرن الإفريقي ميدانًا كبيرًا للصراع بين المسلمين والنصارى، وذلك من بداية ظهور الإسلام، وكانت أقاليم القرن الشرقية مثل إريتريا وهرر والأوجادين هي معدن الإسلام والمسلمين، في حين كانت منطقة الهضبة الحبشية في الوسط والغرب هي معدن النصرانية، حيث قبائل الأمهرة شديدة التمسك بالنصرانية، وظل الصراع مشتعلاً بين الطرفين حتى ظهر على الساحة طرف ثالث هو شعب الجالا وكان بدائيًا وثنيًا ويسكن في الجنوب، ومع تغير الظروف البيئية في الجنوب زحف هذا الشعب البدائي الوثني نحو الوسط والشرق، فدمر المناطق التي مر عليها ثم استقر جنوب (شوا)، فاحتك بالمسلمين وأخذ أبناؤه يدخلون في دين الله ولكن بصورة بطيئة، ومع ضغط القبائل الصومالية على هذا الشعب الوثني بدأت قبائل الجالا تزحف نحو الشمال وتستقر في الهضبة وهو معقل النصارى الأمهرة، في هذه الفترة أعلن أحد زعماء الجالا إسلامه وكان من قبل من أشد الوثنيين عداوة للإسلام والمسلمين، خاصة بعد أن أجبرت القبائل الصومالية المسلمة شعبه على الهجرة نحو الشمال، وتسمى بالأمير علي وتحول إلى خدمة الإسلام والرغبة في إيجاد قدم ثابتة في قلب الهضبة النصرانية، وهذا لم يعجب الأمير (كاسا) الملقب باسم (تيودور)، وكان زعيم الأمهرة، فجمع الجيوش النصرانية لوقف زحف شعب الجالا وزعيمه المسلم الأمير علي، وذلك سنة 1189هـ، وبعد قتال شرس وقع الأمير علي في الأسر، فأخذه (تيودور) وعرض عليه النصرانية أو الذبح، فأبى عليّ إلا أن ينطق لسانه بالشهادتين بأعلى صوته ليغيظ الكافرين، فحزوا رأسه بالسيف، فينتقل هذا الأمير المؤمن من الوثنية إلى الإسلام إلى الجهاد إلى الشهادة، فيا لها من بداية ويا لها من نهاية!!



السلطان ظهير الدين محمد بابر شاه.. الطريد الشريد الذي أسس دولة الإسلام في الهند:


السلطان الكبير ظهير الدين محمد بابر شاه، قضى معظم حياته في صراعات مع جيرانه حتى حاز لقب الطريد الشريد، ثم ختم حياته بأعظم نصر للإسلام في شبه القارة الهندية، وأقام للإسلام أعظم دول الإسلام في القرن العاشر الهجري هى دولة سلطنة مغول الهند، التي ظلت تحكم الهند طيلة أربعة قرون حتى استيلاء الإنجليز على البلاد.


وُلد ظهير الدين محمد بابر شاه لأبيه وهو لا يزال صغيرًا، وورث عنه حكم فرغانة، ونازعه أعمامه، حيث كانت مملكة فرغانة قد اتسعت حدودها حتى بلغت جبال الهندكوش، وكانت عاصمتها مدينة سمرقند العريقة، لذلك لاقى ظهير الدين متاعب جمة وأهوالاً كثيرة نتيجة المنافسة على الحكم، واصطدم مع محمد الشيباني زعيم الأوزبك وهزم أمامه، واضطر أن يترك سمرقند، وهام على وجهه سنة 908هـ، وكان معه من رجاله أقل من 300 رجل، واستقر رأيه على الهجرة إلى منغوليا، ولكنه اضطر إلى مغادرتها تحت ضغط أعدائه، واتجه نحو كابل وغزنة حيث كانت المنطقة في حالة فوضى واضطراب بسبب النزاع عليها بين الأوزبك والأفغان، فاستغل بابرشاه هذه الفوضى واستولى على كابل وغزنة وجمع حوله القبائل الهاربة من أمام الأوزبك، وذلك سنة 910هـ، وأخذ في تدعيم دولته الجديدة وتمكن من الاستيلاء على قندهار على الرغم من أن آل أرجون أصحابها قد ساعدوه في دخول كابل، إلا أنه في هذه الفترة لم يكن يهمه سوى توسيع دولته وتقويتها مهما يكن الثمن، بعد ذلك تطاولت طموحاته حتى ارتدى ثوب المهووس بالسلطة والجبروت، الذى لا يهمه إلا نفسه وسلطانه، فتحالف مع أشد أعداء الإسلام في المنطقة وهو الشاه إسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية الخبيثة الرافضية من أجل إستعادة ملكه السابق في فرغانة وخاصة سمرقند العريقة، وبالفعل تم له ذلك سنة 917هـ ولكن على حساب كراهية المسلمين له في بلاد ما وراء النهر وأفغانستان، الذين هبوا للدفاع عن بلادهم وعقيدتهم ضد ظهير الدين وحليفة الرافضي الخبيث الشاه إسماعيل الصفوي وهزموهما هزيمة شديدة سنة 920هـ، وأخرجوهما من بلادهم، واضطر ظهير الدين أن ينصرف عن بلاد ما وراء النهر ويعود إلى دولته في كابل، وكان هذا الانصراف من سوء حظ أهل هذا البلد الذين لم يستطيعوا الوقوف وحدهم ضد الاكتساح الروسي القيصري لبلادهم، ووقعوا فريسة الاحتلال، والقياصرة كانوا شديدي التعصب والقسوة على المسلمين.


في هذه الفترة كانت بلاد الهند تشهد اضطرابات شديدة بسبب سياسة السلطان إبراهيم اللودي سلطان شمال الهند الذي استعان بالهندوس ضد خصومه من الأمراء المسلمين، ما جعل الناس هناك يفكرون في الاتصال بظهير الدين بابر شاه يطلبون منه الحضور ومساعدتهم في التخلص من هذا الطاغية الذي أضعف دولة الإسلام في الهند، ووافقهم ظهير الدين وكان مازال يحلم بإمبراطورية يقيمها لنفسه، وجاء بجيش كبير محكم التنظيم، واصطدم مع جيش ضخم لإبراهيم اللودي وحلفائه الهندوس سنة 932هـ وانتصر عليهم ودخل دهلي وخطب له على منابرها، ثم دخلت في طاعته إمارات الهند الإسلامية الأربع وهى الكجرات والبنغال والأكن وملوة، وعندما تحالف بقايا أمراء البيت اللودي مع أمراء الراجبوت الذين كانوا يشكلون أكبر قوة هندوسية وسط الهند من أجل الإطاحة بظهير الدين الذى كان يشهد في هذه الفترة من حياته انقلابًا إيمانيًا؛ إذ لمس أوضاع المسلمين وما يعانونه من اضطهاد وتضييق، فبدأ تصحيح مساره بقطع علاقته مع الدولة الصفوية الخبيثة، وأعلن توبته عن المعاصي التي كان مشهورًا بها وعلى رأسها شرب الخمر حيث كان مدمنًا لها، ولما تحالف اللوديون والهندوس ضده استجاش العاطفة الدينية عند المسلمين، وأعلن الجهاد المقدس ضد الراجوت وكفرة الهندوس ومن يتعاونون معهم، فأطاعه الناس واقتدى به قادته، فأعلنوا توبتهم وطهروا أنفسهم من المعاصي، ولما استقام الصف خاض أكبر معركة في تاريخ الهند المسلمة سنة 933هـ، وحقق ظهير الدين انتصارًا هائلاً على الراجبوت، وقضى نهائيًا على سلطانهم وقوتهم في الهند، وبذلك سجل اسمه في سجل أعاظم الفاتحين المسلمين، وكانت أعماله بعد ذلك تصدر عن الحمية والحماس للإسلام، وهو ثالث العظماء من فاتحي الهند المسلمين، وأولهم محمود بن سبكتكين، وثانيهم شهاب الدين الغوري، وسبحان الله، من كانت بدايته طريدًا شريدًا يهيم على وجهة، لا يجد بلدًا ولا يأوي إليه، وكانت نهايته واحدًا من أعظم رجال الإسلام في الهند.



ضياء الحق.. وتطبيق الشريعة:


رجل باكستان القوي، والزعيم الذي أراد أن يصحح مساره ويعيد للشريعة مكانتها، فتآمر عليه كل أعداء الإسلام. ولد ضياء الحق في 22 محرم سنة 1343هـ - 12 أغسطس 1924م في إقليم البنجاب، وتعلم في مدينة دلهي عاصمة الهند في كلية سانت ستيفنـز العسكرية الإنجليزية، وخدم بالجيش الإنجليزي، وأصبح ضابطًا سنة 1364هـ في سلاح الفرسان، وبعد التقسيم أصبح ضابطًا في الجيش الباكستاني، ثم عمل مدرسًا في كلية الأركان سنة 1375هـ، واشترك في الحرب التي جرت بين الهند وباكستان، وعمل مستشارًا عسكريًا في سفارة باكستان بالأردن، واشترك في الأحداث الكبيرة التي شهدتها المنطقة وانتهت بتجزئة باكستان، بالجملة كان ضياء الحق رجل حرب وقتال وحياة عسكرية صارمة، وهذه الصفات القوية أهلته لأن يكون قائدًا للجيش الباكستاني سنة 1396هـ - 1976هـ، ولما حدثت فوضى واضطرابات عارمة في البلاد نتيجة السياسات السيئة للرئيس الباكستاني ذو الفقار علي بوتو، قاد ضياء الحق انقلابًا عنيفًا أطاح ببوتو ثم أعدمه، وفرض الأحكام العرفية وحل الجمعية الوطنية والمجالس التشريعية الإقليمية، وأقال حكام الأقاليم وشكل مجلسًا عسكريًا من قادة الأسلحة الثلاثة: البرية، البحرية، الجوية، واعتقل زعماء المعارضة بما فيهم قادة الجماعة الإسلامية، واستمر في الحكم العسكري ورفض كل الدعوات المنادية بعودة الحكم المدني للبلاد، تخبط ضياء الحق في سياسته، فسار في اتجاهين متضادين، إذ سار في فلك المعسكر الغربي خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وذلك لأهداف معينة وهي الحصول على السلاح، وإيجاد توازن إستراتيجي مع الهند صاحبة العلاقات المتينة مع الأمريكان، وكان الأهم من ذلك تأمين وضعه في الحكم، أما الاتجاه الآخر هو اتجاهه نحو الجماعات الإسلامية وإيجاد علاقات وثيقة مع كافة الأمصار الإسلامية، ولكنه سار في هذا الاتجاه ببطء مشوب بالحذر خوفًا من تهديدات الدول الكبرى التي تعادي أي توجه إسلامي، وأيضًا خوفًا من الأعداء في داخل باكستان من أصحاب الاتجاهات العلمانية والقومية.


وهذا التعارض في سياسة ضياء الحق جعلت الداخل والخارج لا يوافقه بل يعاديه ويعمل على إزاحته، وظل ضياء الحق يفكر طويلاً في كيفية الخلاص من هذا التعارض بسياسة توفيقية جديدة، فقرر دعم المجاهدين الأفغان في ملحمتهم الرائعة ضد الاحتلال السوفيتي لبلادهم، وألقى ضياء الحق بثقل باكستان كله خلف المجاهدين الأفغان، ودعمهم ماليًا وعسكريًا واجتماعيًا وعلى كل الأصعدة، وهذه السياسة أرضت الخارج، حيث كانت أمريكا تعادي الاتحاد السوفيتي، أما الداخل فأيده غالب الباكستانيين في حين عارضته بعض الأحزاب القومية والعلمانية الصغيرة، ولكن بعد الانتصارات الكبيرة التي حققها المجاهدون الأفغان على الروس أخذت أمريكا في معارضة ضياء الحق والضغط عليه لوقف تماديه في التوجه نحو الإسلام، وأجبرت أمريكا باكستان على توقيع اتفاقية مع حكومة أفغانستان في سنة 1408هـ - 1988م أضير منها المجاهدون الأفغان بشدة؛ إذ بقي بموجبها الحكم الشيوعي في بلادهم، وإن كانت روسيا قد خرجت منه عسكريًا وأظهرت أمريكا أنها لا تريد دعم المجاهدين أكثر من ذلك.


وعندها قرر ضياء الحق أن يخرج نفسه وعقله وقلبه من هذا التخطيط في السير ويوحد اتجاهه نحو دين الله -عز وجل- نحو الإسلام، وبدأ أول خطواته الفعلية بإقالة رئيس حكومته محمد خان جونيجو المعارض لدعم الأفغان والسائر في فلك الغرب، ثم عزل كل من اشترك في وضع شروط اتفاقية جنيف السالف ذكرها، وذلك في 14 شوال سنة 1408هـ - 30 مايو 1988م، ثم ألقى كلمة في وسائل الإعلام في غرة ذي القعدة سنة 1408هـ - 15 يونيو 1988م، وعد فيها يتغيير القوانيين في باكستان، وفي 11 ذي القعدة ألقى كلمته الأخيرة في وسائل الإعلام تساءل فيها وهو يبكي عما سيكون جوابه فيما إذا سئل يوم القيامة: لمَ لمْ يحكم الشريعة الإسلامية!


وبالفعل صدرت عدة قوانين مستمدة من الشريعة، فأقام الحدود، وألغى الربا في المصارف، وكأن ضياء الحق قد شعر بما سيدبر ضده فأسرع بتطبيق خطة نحو الشريعة، وفي يوم 5 محرم سنة 1409هـ - 17 أغسطس 1988م وأثناء جولة سرية بالطائرة الهيلكوبتر بصحبة كبار ضباط جيشه وأيضًا السفير الأمريكي في باكستان، انفجرت قنبلة وضعت تحت مقعد ضياء الحق لتودي بحياته وحياة كل من معه.


وقد توجهت أصابع الاتهام إلى أطراف عديدة، منها الروس والهنود والأفغان الشيوعيين ومنها إيران التي كانت تعادي باكستان بشدة، خاصة بعد مقتل عارف حسين الحسيني رئيس حركة تنفيذ الفقه الجعفري في باكستان، والذي كان يعد رجل إيران الأول في باكستان، ومنهم الباكستانيون من العلمانيين كحزب الشعب، وعلى رأس هؤلاء الأمريكان واليهود الذين ساءهم بشدة التوجه الإسلامي لضياء الحق ومشروع القنبلة الذرية التي نجحت باكستان في قطع شوط كبير في إنتاجها.


وبالجملة لا يستبعد أبدًا أن كل هؤلاء قد تآمروا على الرجل الذي صحح مسيرته وقرر العودة لدينه ورشده، وحسب الرجل أنه قد مضى إلى ربه على نية صالحة وسعي نحو الإسلام.

الإمامُ المبارك عبدُ الله بنُ المبارك (1/2) جامعُ الخيرات

وروى ابنُ عساكر, عن عبدِ الرَّحمن بن مهدي, قال: "ما رأيتُ مثل ابن المبارك, فقال له يحيى بن سعيد القطان: ولا سفيان, ولا شعبة؟ قال: ولا سفيان, ولا شعبة؛ كان ابن المبارك فقيهاً في علمه, حافظاً, زاهداً, عابداً غنياً حجَّاجاً, غزَّاءً, نحوياً, شاعراً, ما رأيت مثله!"



وعن عبد العزيز بن أبي رزمة, قال: لم تكن خصلةٌ من خصال الخير, إلا جُمِعت في عبدالله بن المبارك؛ حياءٌ, وتكرُّم, وحسنُ خلق, وحسنُ صحبة, وحسنُ مجالسة, والزُّهد, والورع, وكلُّ شيء.



اسمه ومولده وصفته



اسمه: عبدالله بن المبارك بن واضح الحنظليُّ التَّميميُّ, مولاهم؛ أبوعبدالله المروزيُّ, الإمام شيخ الإسلام, عالم زمانه, وأميرُ الأتقياء في وقته.



عن العباس بن مصعب، قال: "كانت أمُّ عبدالله بن المبارك خوارزية, وأبوه تركيٌّ, وكان عبداً لرجل من التجار, من همذان من بني حنظلةَ".



عن الحسن قال: "كانت أمُّ ابن المبارك تركيَّة, وكان الشَّبه لهم بيِّناً فيه, وكان ربما خلع قميصه؛ فلا أرى على صدره, وجسده كثير الشَّعر".



مولده: قال أحمد بن حنبل: "وُلد ابن المبارك سنة ثمان عشرة ومائة".



وقال خليفة: "وفيها –يعني ثمان عشرة ومائة– وُلد عبدالله بن المبارك.



وقال بشر بن أبي الأزهر: قال ابن المبارك: "ذاكرني عبدالله بن إدريس السنة؛ فقال: لابن كم أنتَ؟ فقال: إنَّ العجم لا يكادون يحفظون ذلك؛ ولكن أذكر أنِّي لبست السَّواد, وأنا صغير, عندما خرج أبو مسلم, قال: فقال لي: قد ابتُليت بلبس السَّواد, قلت: إنِّي كنت أصغرَ من ذلك, كان أبو مسلم أخذ الناس كلَّهم, بلبس السواد؛ الصِّغار والكبار".



موطنه: مرو؛ وهي من مدن خُراسان.



عن عبد العزيز بن أبي رزمة, قال: "قال لي شُعبة: من أين أنت؟ قال: قلت من أهل مرو, قال: تعرفُ عبدالله بن المبارك, قال: نعم, قال: ما قدِم علينا مثلُه". وفي روايةٍ: "ما قدم علينا من ناحيتكم مثله".



وعن أحمد بن سنان, قال: "بلغني أنَّ ابن المبارك أتى حماد بن زيد, في أول الأمر, قال له: من أين أنت؟ قال: من أهل خراسان, قال: من أيِّ خراسان؟ قال: من مرو, قال: تعرف رجلاً؛ يقال له عبدالله بن المبارك؟ قال: نعم, قال: ما فعل؟ قال: هو الَّذي يُخاطبك, قال: فسلَّم عليه, ورحَّب به".



اجتماعُ خصال الخير فيه



عن الحسن بن عيسى, قال: "اجتمع جماعةٌ من أصحاب ابن المبارك؛ مثل الفضل بن موسى, ومخلد بن حسين, ومحمد بن النَّضر, فقالوا: تعالَوا؛ حتى نعُدَّ خصال ابن المبارك من أبواب الخير؛ فقالوا: جمع العلمَ, والفقه, والأدبَ, والنَّحوَ, واللغةَ, والشعرَ, والفصاحةَ, والزهدَ, والورعَ, والإنصافَ, وقيامَ الليل, والعبادةَ, والحجَّ, والغزوَ, والشجاعةَ, والفروسيةَ, والشدَّة في بدنه, , وتركَ الكلام في ما لا يعنيه, وقلةَ الخلاف على أصحابه, وكان كثيراً ما يتمثَّل:

وإذا صاحبتَ فاصحبْ صاحباً ***  ذا حياءٍ وعفافٍ وكرمْ

قولُه للشيء لا إن قلــت لا *** وإذا قلت نعم قال نعم"



وقال ابن حبَّان: "كان فيه خصالُ الخير مجتمعةً؛ ولم تجتمع في أحدٍ من أهل العلم في زمانه, وفي الدُّنيا كلِّها".



وقال إسماعيل بن عيَّاش: "ما على وجه الأرض مثلُ عبدالله بن المبارك, ولا أعلم َّأن الله خلق خصلةً من خصال الخير, إلا وقد جعلها في عبدِالله بن المبارك, ولقد حدَّثني أصحابي؛ أنهم صحبوه من مصر إلى مكة, فكان يُطعمهم الخبيص, وهو الدَّهرَ صائم".



وروى ابنُ عساكر, عن عبدِ الرَّحمن بن مهدي, قال: "ما رأيتُ مثل ابن المبارك, فقال له يحيى بن سعيد القطان: ولا سفيان, ولا شعبة؟ قال: ولا سفيان, ولا شعبة؛ كان ابن المبارك فقيهاً في علمه, حافظاً, زاهداً, عابداً غنياً حجَّاجاً, غزَّاءً, نحوياً, شاعراً, ما رأيت مثله!"



وعن عبدالعزيز بن أبي رزمة, قال: "لم تكن خصلةٌ من حصال الخير, إلا جُمعت في عبدالله بن المبارك؛ حياءٌ, وتكرُّم, وحسنُ خلق, وحسنُ صحبة, وحسنُ مجالسة, والزُّهد, والورعُ, وكلُّ شيءٍ".



وقال النَّسائيُّ: "لا نعلم في عصر ابن المباركِ أجلَّ من ابن المبارك, ولا أعلى منه, ولا أجمعَ لكلِّ خصلةٍ محمودةٍ منه".



وقال الحافظ: "ثقة, ثبت, فقيه, عالم, جواد, مجاهد, جُمعت فيه خصال الخير".



طلبه للعلم



قال أحمد بن حنبل:



"لم يكن في زمان ابن المبارك أطلبَ للعمل منه؛ رحلَ إلى اليمن, وإلى مصرَ, وإلى الشامِ, والبصرةَ, والكوفة, وكان من رُواة العلم, وأهلُ ذلك. كتب عن الصِّغار والكبار؛ كتب عن عبدِالرحمن بن مهدي, وعن الفزاريّ, وجمع أمراً عظيماً, ما كان أحدٌ أقلَّ سقطاً من ابن المبارك, كان رجلاً يحدِّث من كتاب؛ ومن حَدَثَ من كتاب, لا يكاد يكون له سقط, وكان وكيعٌ يُحدِّث من حفظه, ولم يكن ينظرُ في كتاب, فكان يكونُ له سقط, كم يكونُ حفظُ الرجل؟".

                                                                                                                                                             

سأل أبو خراش بالمصيصة, عبدالله بن المبارك: "يا أبا عبد الله, إلى متى تطلبُ العلم؟ قال: "لعلَّ الكلمةَ التي فيها نجاتي, لم أسمعها بعد!".



عن محمد بن النَّضر بن مساور, قال: "قال أبي: قلتُ لعبد الله -يعني ابن المبارك-: يا أبا عبدِ الرَّحمن, هل تحفظُ الحديث؟ قال: فتغيَّر لونُه, وقال: ما تحفظتُ حديثاً قطُّ؛ إنَّما آخذ الكتابَ, فأنظر منه؛ فما أشتهيه عَلِقَ بقلبي".



وعن الحسين بن عيسى, قال: "أخبرني صخر –صديق ابن المبارك– قال: كنَّا غِلمان في الكُتَّاب, فمررتُ أنا وابن المبارك, ورجلٌ يخطب خطبةً طويلة, فلما فرغ, قال لي ابنُ المبارك: قد حفظتُها, فسمعه رجل من القوم, فقال: هاتها, فأعادها عليهم ابنُ المبارك, وقد حفظها".



وعن نُعيم بن حماد, قال: "سمعت عبدالله بن المبارك، قال: قال لي أبي: لئن وجدتَ كتبك لأحرقنَّها, قال: فقلت له: وما عليَّ من ذلك؛ وهي في صدري".



قال شقيقُ بن إبراهيم: "قيل لابن المبارك: إذا صليتَ معنا, لم تجلس معنا؟ قال: أذهبُ مع الصَّحابة, والتَّابعين, قلنا له: ومن أين الصَّحابة, والتابعون؟ قال: أذهبُ أنظر في علمي؛ فأدرك آثارهم وأعمالهم, ما أصنعُ معكم؛ أنتم تغتابون الناس".



وروى نُعيم بن حماد, قال: "كان عبدالله بن المبارك, يُكثر الجلوس في بيته, فقيل له: ألا تستوحش؟ قال: كيف أستوحش؛ وأنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-".



عباداته وخشيته



قال محمد بن الوزير؛ وصيُّ ابن المبارك: "كنت مع عبدالله في المحمل, فانتهينا إلى موضع بالليل, وكان ثمَّ خوف, قال: فنزل ابنُ المبارك, وركب دابَّته, حتى جاوزنا الموضع, فانتهينا إلى نهر, فنزل عن دابَّته, وأخذت أنا مقوده, واضطجعتُ, فجعل يتوضَّأ, ويُصلِّي, حتى طلع الفجر, وأنا أنظر إليه, فلمَّا طلع الفجر, ناداني, قال: قم فتوضَّأ, قال: قلت: إنِّي على وضوء, فركبه الحزن؛ حيثُ علمتُ أنا بقيامه, فلم يُكلِّمني حتى انتصف النَّهار, وبلغتُ المنزل معه.



وعن القاسم بن محمد, قال: "كنَّا نسافر مع ابن المبارك, فكثيراً مما كان يخطر ببالي؛ فأقول في نفسي: بأيِّ شيءٍ فضل هذا الرجلُ علينا؛ حتى اشتهر في النَّاس هذه الشهرة؛ إن كان يُصلي, إنَّا لنُصلِّي, ولئن كان يصوم, إنَّا لنصوم؛ وإن كان يغزو, فإنّا لنغزو, وإن كان يحجُّ, إنَّا لنحجُّ".



قال: "فكنا في بعض مسيرنا؛ في طريق الشَّام, ليلةً نتعشَّى في بيت, إذ طَفئ السراج, فقام بعضُنا, فأخذ السراج, وخرج يستصبحُ, فمكث هنيهة, ثم جاء بالسِّراج, فنظرتُ إلى وجه ابن المبارك, ولحيته قد ابتلَّت بالدموع, فقلت في نفسي: بهذه الخشية؛ فُضِّل هذا الرجل علينا, ولعلَّه حين فُقد السِّراج, فصار إلى الظُّلمة, ذكر القيامة".



قال المروزيُّ: "وسمعت أبا عبدالله؛ أحمد بن حنبل, قال: ما رفع اللهُ ابن المبارك إلا غيبةً كانت له".



قال الخليل أبو محمد: "كان ابن المبارك, إذا خرج إلى مكة؛ يقول:

بغضُ الحياة وخوفُ الله أخرجني *** وبيعُ نفسي بما ليست لـه ثمنـاً

إنِّي وزنتُ الَّذي يبـقى ليـَعدلَه *** ما ليس يبقى فلا واللـه ما اتَّزنا



وقال نُعيم بن حماد: "كان ابن المبارك , إذا قرأ كتاب "الرقاق" كأنه ثورٌ منحور, أو بقرةٌ منحورةٌ من البكاء, لا يجترىء أحدٌ منَّا, أن يدنوَ منه, أو يسأله عن شيء, إلا دفعه".



وقال أبو إسحاق؛ إبراهيم بن الأشعث: "مرض ابن المبارك مرضه؛ فجزع حتى رأوه جزعاًً, فقيل له: إنَّك ليس بك كلُّ ذلك, وأنت تجزعُ هذا الجزع, قال: مرضتُ, وأنا بحالٍ لا أرضاه".



قال أبو إسحاق: "وقال الفضيل يوماً –وذكر عبدالله-, فقال: أما إنِّي أُحبُّه لأنه يخشى الله".



قال أبو إسحاق: "قيل لابن المبارك: رجلان؛ أحدُهما أخوف, والآخر قُتل في سبيل الله, فقال: أحبّهما إليَّ أخوفُهما".



قال أبو خزيمة العابد: "دخلت على عبدالله, وهو مريض, فجعل يتقلَّبُ على فراشه من الغمِّ, فقلت له: يا أبا عبدالرحمن, ما هذا؟ فاصبر, قال: من يصبرُ في أخذ الله؛ (إنَّ أخذَهُ أليمٌ شديدٌ ) [هود: 102].



قال أبو روح: "قال ابنُ المبارك: إنَّ البُصراء لا يأمنون من أربع خصالٍ: ذنبٌ قد مضى؛ لا يدري ما يصنع الرَّبُّ فيه, وعمرٌ قد بقي؛ لا يدري ماذا فيه من المهلكات, وفضل قد أُعطي؛ لعلَّه مَكر, واستدراج, وضلالة قد زُيِّنت له؛ فيراها هدى, ومن زيغِ القلب ساعة أسرع من طرفة عين, قد يُسلب دينه, وهو لا يشعر".



وعن عبدالله بن عاصم الهرويِّ: "أنَّ شيخاً دخل على عبدالله بن المبارك فرآه على وسادة خشنةٍ مرتفعة, قال: فأردتُ أن أقول له, فرأيتُ به من الخشية؛ حتى رحمته, فإذا هو يقول: قال الله -عزَّ وجلَّ-: (قُلْ للمُؤمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أبصَارِهِمْ ) [النور: 30], قال: لم يرضَ الله أن يُنظر إلى محاسن المرأة؛ فكيفَ بمن يزني بها؟ وقال الله عزَّ وجلَّ: (وَيلٌ للمُطَفِّفيْنَ) [المطففين:1], في الكيل والوزن؛ فكيف بمن يأخذ المال كلَّه؟ وقال الله عزَّ وجلَّ: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً) [الحجرات: 12], ونحو هذا؛ فكيف بمن يقتُله؟ قال: فرحِمتُه, وما رأيتُه فيه, فلم أقل له شيئاً".



زهده وورعه



وأصلُ الزُّهد: "هو خلوُّ القلب من الدُّنيا, وليسَ خلوَّ اليد منها؛ فقد كان ابنُ المبارك تاجراً, ولكنه ينوي بذلك أن يستعينَ بالمال على مساعدة الأخوان, والحجِّ, والجهادِ, وغير ذلك من المكرمات".



عن عليِّ بن الفضيل, قال: "سمعتُ أبي؛ وهو يقولُ لابن المبارك: أنتَ تأمرُنا بالزُّهد, والتَّقلُّل, والبُلغة, ونراك تأتي بالبضائع من بلاد الخراسان, إلى البلد الحرام؛ كيف ذلك؟ فقال ابنُ المبارك: يا أبا عليٍّ, إنَّما أفعلُ ذلك؛ لأصونَ به وجهي, وأُكرِم به عِرضي, وأستعينَ به على طاعة ربِّي, لا أرى لله حقاً, إلا سارعتُ إليه؛ حتى أقوم به, فقال له الفضيل: يا ابنَ المبارك, ما أحسنَ ذا, إذا تمَّ ذا".



وسوف يظهرُ –إن شاء الله– في باب أدبه, وكرمه؛ كيف أنه كان يُنفق الأموال في طاعة الكبير المتعال, مما يدل على خلوِّ قلبه منها, وإنَّما المال؛ كما قال السَّلف: وسائلُ المكارم.



أما عن ورعه؛ فقد قال الحسن: "ورأيت في منزل ابن المبارك حماماً طيارة, فقال ابن المبارك: قد كنَّا ننتفع بفراخ هذا الحمام, فليس ننتفع بها اليوم, قلت: ولم ذلك؟ قال: اختلطت بها حمامٌ غيرها؛ فتزاوجت بها، و نحن نكره أن ننتفع بشيءٍ من أجل ذلك".



وعن الحسن بن عرفة, قال: "قال لي ابنُ المبارك: استعرتُ قلماً بأرض الشام فذهب, عليَّ أن أردَّه إلى صاحبه, فلمَّا قدمت مرو, نظرت, فإذا هو معي, فرجعتُ يا أبا عليٍّ, -الحسن بن عرفة- إلى أرض الشام, حتى رددته على صاحبه".



وعن عليِّ بن الحسن بن شقيق: قال: "سمعت عبدالله بن المبارك؛ يقول: لأن أردَّ درهماً من شُبهة, أحبُّ إليَّ من أن أتصدَّق بمائة ألف, ومائةِ ألف؛ حتى بلغ ستمائة ألف".



وعن عيَّاش بن عبدالله, قال: "قال عبدالله بن المبارك: لو أنَّ رجلاً اتَّقى مائةَ شيء, ولم يتقِ شيئاً واحداً؛ لم يكن من المتقين, ولو تورَّع عن مائة شيء, ولم يتورَّعْ عن شيء واحد, لم يكن ورعاً, ومن كان فيه خَلَّةٌ من الجهل؛ كان من الجاهلين؛ أما سمعتَ الله –تعالى– قال لنوح, لما قال: (إنَّ ابنيْ مِنْ أَهْلِيْ) [هود: 45], فقال الله تعالى: "إنِّيْ أعِظُكَ أنْ تَكُوْنَ مِنَ الجَاهِلِيْنَ) [هود: 46].



أدبه وكرمه



قال إسماعيلُ الخطبيُّ: "بلغني عن ابن المبارك؛ أنَّه حضر عند حماد بن زيد, فقال أصحابُ الحديث لحماد: سل أبا عبد الرحمن يُحدِّثنا, فقال: يا أبا عبد الرحمن, تُحدِّثهم؛ فإنَّهم قد سألوني، وقال: سبحان الله!! يا أبا إسماعيل, أُحدِّث, وأنت حاضر؟ فقال: أقسمتُ عليك, لتفعلنَّ, فقال: خذوا, حدَّثنا أبو إسماعيل حمَّاد بن زيد, فما حدَّث بحرفٍ إلا عن حماد".



وقال أبو العباس بن مسروق: "حدثنا ابن حميد, قال: عطس رجلٌ عند ابن المبارك, فقال له ابن المبارك: إيش يقولُ الرجلُ إذا عطس؟ قال: الحمد لله, فقال له: يرحمك الله, قال: فعجبنا كلُّنا من حُسن أدبه".



وكان -رحمه الله- يحُثُّ على تعليم الأدب, ويُبيِّن للناس خطره".



قال أبو نُعيم عبيد بن هشام: "سمعت ابن المبارك يقول لأصحاب الحديث: أنتم إلى قليل من الأدب, أحوجُ منكم إلى كثيرٍ من العلم".



قال يحيى بن يحيى الأندلسيُّ: "كنا في مجلس مالك, فاستُؤذِن لابن المبارك, فأذن, فرأينا مالكاً تزحزح له في مجلسه, ثم أقعده بلصقه, ولم أرهُ تزحزح لأحدٍ في مجلس غيره, فكان القارئ يقرأ على مالك, فربما مَرَّ بشيءٍ, فيسأله مالك: ما عندكم في هذا؟ فكان عبدُالله يُجيبه بالخفاء, ثم قام فخرج, فأُعجبَ مالكٌ بأدبه, ثم قال لنا: هذا ابنُ المبارك, فقيهُ خُراسان".



وكما كان كريمَ الخلق, حسنَ السَّجايا, كان كذلك من أسخى النَّاس يداً, وأكثرهم بذلاً, وإنفاقاً, وقصصه في ذلك كثيرة, ولكن نُشير إلى بعضها, فمن ذلك ما رواه الخطيبُ, بسنده عن حيَّان بن موسى, قال: عُوتب ابن المبارك, فيما يفرق المال في البلدان, ولا يفعلُ في أهل بلده, قال: إنِّي أعرف مكان قومٍ, لهم فضلٌ وصدق, وطلبوا الحديث, فأحسنوا الطلب للحديث, بحاجة الناس إليهم احتاجوا, فإن تركناهم, ضاع عليهم, وإن أعنَّاهم, بثُّوا العلم لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-, ولا أعلم بالنُّبُوَّة أفضلَ من بثِّ العلم".



وكان يقول: "طلبنا الأدب, حين فاتنا المؤدّبون".



عن عليِّ بن خشرم, قال: "حدَّثني سلمةُ بن سليمان, قال: جاء رجلٌ إلى ابن المبارك؛ فسأله أن يقضيَ ديناً عليه, فكتب له إلى وكيلٍ له, فلمَّا ورد عليه الكتاب, قال له الوكيل: كم الدينُ الذي سألته قضاءه؟ قال: سبعُ مائة درهم, وإذا عبدالله قد كتب له أن يُعطيه سبعة آلاف درهم, فراجعه الوكيل, وقال: إنَّ الغَلّات قد فَنيت, فكتب إليه عبدالله: إن كانت الغلاتُ قد فنيت؛ فإنَّ العمر أيضاً قد فني, فأجِزْ له ما سبق به قلمي".



وقال محمد بن عيسى: "كان ابنُ المبارك كثيرَ الاختلاف إلى طلب طرسوس, وكان ينزل الرّقةَ في خان, فكان شابٌّ يختلف إليه, ويقوم بحوائجه, ويسمع منه الحديث, فقدم عبدالله مرةً, فلم يره, فخرج في النَّفير مستعجلاً, فلمَّا رجع, سأل عن الشَّابِّ, فقيل له: محبوس على عشرة آلاف درهم, فاستدلَّ على الغريم, ووزن له عشرة آلاف, وحلَّفه ألا يخبر أحداً ما عاش, فأخرج الرجل, وسرى ابن المبارك, فلحقه الفتى على مرحلتين من الرَّقَّة, فقال له: يا فتى أين كنت؟ لم أرك, قال: يا أبا عبدالرحمن, كنت محبوساً بدين, قال: وكيف خلصتَ؟ قال: جاء رجلٌ, فقضى ديني و لم أدر, قال: فاحمد الله, ولم يعلم الرجل, إلا بعد موت عبدالله".



وعن عمرَ بن حفص الصوفيِّ بمنبج, قال: "خرج ابن المبارك من بغدادَ, يُريد المصيصة, فصحبه الصوفية, فقال لهم: أنتم لكم أنفس, تحتشمون أن يُنفق عليكم, يا غلامُ, هات الطِّست, فألقى عليه منديلاً, ثم قال: يُلقي كلُّ رجلٍ منكم, تحتَ المنديل ما معه, فجعل الرجلُ يلقي عشرة دراهم, والرجلُ يلقي عشرين, فأنفقَ عليهم إلى المصيصة, ثم قال: هذه بلادُ نفير, فنقسمُ ما بقي؛ فجعل يُعطي الرجل عشرين ديناراً؛ فيقول: يا أبا عبد الرحمن, إنما أعطيتُ عشرين درهماً, فيقول: وما تُنكر؟ أن يُبارك الله, للغازي في نفقته؟!".



وقال محمد بن عليِّ بن شقيق, عن أبيه: "كان ابن المبارك, إذا كان وقتُ الحجِّ, اجتمع إليه إخوانه, من أهل مرو, فيقولون: نصحبُك يا أبا عبدالرحمن, فيقول لهم: هاتوا نفقاتكم, فيأخذ نفقاتهم, فيجعلها في صندوق, ويُقفل عليها, ثم يَكتري لهم, ويُخرجهم من مرو إلى بغداد, ولا يزال ينفق عليهم, ويُطعمهم الطعام, وأطيبَ الحلوى, ثم يُخرجهم من بغداد, بأحسن زِيٍّ, وأكملِ مروَّة, حتى يَصلوا إلى مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فإذا صاروا إلى المدينة, قال لكلِّ رجل منهم: ما أمرَك عيالُك, أن تشتريَ لهم من المدينة, من طُرَفها؟ فيقول: كذا, ثم يخرجهم إلى مكة, فإذا وصلوا إلى مكة, وقضَوا حجَّهم من مكة, قال: ما أمرك عيالك, أن تشتري لهم متاعاً من مكة؟ فيقول: كذا وكذا, فيشتري لهم, ثم يُخرجهم من مكة؛ فلا يزال ينفق عليهم, إلى أن يَصيروا إلى مرو, فإذا صاروا إلى مرو, جصَّص أبوابهم ودورهم, فإذا كان بعدَ ثلاثة أيام, صنعَ لهم وليمة, وكساهم, فإذا أكلوا وشربوا, دعا بالصُّندوق, ففتحه, ودفع إلى كلِّ رجلٍ منهم صُرَّتَهُ, بعد أن كتب عليها اسمه".



تواضعه وفراره من الشُّهرة



ومع أنه رحمه الله اجتمعت فيه خصال الخير, وجمع الفضائل, فقد زينه الله تعالى بالتواضع؛ وما تواضع أحدٌ لله -عزَّ وجلَّ- إلا رفعه الله.



قال الحسن: "وبينما هو بالكوفة, يقرأ عليه كتاب "المناسك", انتهى إلى حديث؛ وفيه: قال عبدالله: وبه نأخذ, فقال: من كتب هذا من قولي؟ قلتُ: الكاتب الذي كتبه, فلم يزل يحُكُّه بيده, حتى درس, ثم قال: ومن أنا حتى يُكتب قولي".



وفي هذا أدبٌ حسن, للَّذين يُزاحمون العلماء, والأعلامَ, بأقوالهم, ويُوهمونهم, وهم بعدُ لم يُحصِّلوا القدرَ الواجب من العلوم الشرعيَّة.



قال الحسنُ: وزوَّجَ النضر بن محمد ولده, ودعا ابن المبارك, فلمَّا جاء, قام ابنُ المبارك ليخدُم الناس, فأبى النَّضرُ أن يدعه, وحلفَ عليه, حتى جلس.



وقال الحسنُ أيضاً: وكانت دار ابن المبارك بمرو, كبيرةَ صحن الدار, نحو خمسين ذراعاً في خمسين ذراعاً, فكنت لا تحبُّ أن ترى في داره صاحبَ علم, أو صاحبَ عبادة, أو رجلاً له مروءة وقدرٌ بمرو, إلا رأيته في داره, يجتمعون في كلِّ يومٍ حِلَقَاً, يتذاكرون, حتى إذا خرج ابنُ المبارك, انضمُّوا إليه, فلمَّا صار ابن المبارك بالكوفة, نزل في دار صغيرة, وكان يخرج إلى الصلاة؛ ثم يرجع إلى منزله, لا يكادُ يخرج منه, ولا يأتيه كثير أحد, فقلت له: يا أبا عبدالرحمن, ألا تستوحش هاهنا, مع الَّذي كنت فيه بمرو؟ فقال: إنَّما فررت من مرو؛ فقال إنما فررت من مرو، من الذي تُراك تُحبُّه وأحببتُ ما هاهنا للذي أراك تكرهُه لي، فكنت بمرو لا يكون أمرٌ إلا أتوني فيه ولا مسألةٌ إلا قالوا: اسألوا ابن المبارك، وأنا ها هنا في عافيةٍ من ذلك".



قال: "وكنتُ مع ابن المبارك يوماً، فأتينا على سقايةٍ, والناس يَشربون منها, فدنا منها ليشرب, ولم يعرفه الناس؛ فزحموه ودفعوه, فلمَّا خرج قال لي: ما العيشُ إلا هكذا؛ يعني من حيث لم نُعرف, ولم نُوقَّر".

هل تعلم من هو الصحابي الذي بلعته الارض حتى لا يقع في ايدي الكفار ؟

بليع الأرض ( خبيب بن عدي )

إنه الصحابي الجليل خبيب بن عدي -رضي الله عنه-، وأحد الأنصار الصادقين، من قبيلة الأوس، لازم النبي ( منذ أن هاجر إليهم، وكان عَذْبَ الروح، قوي الإيمان، وصفه شاعر الإسلام حسان بن ثابت فقال:
صقرًا توسَّط في الأنصار منصـبُه
سَمْحَ السَّجِيَّةَ مَحْضًا غير مُؤْتَشَب
شارك في غزوة بدر، فكان جنديًّا باسلاً، ومقاتلاً شجاعًا، قتل عددًا كبيرًا من المشركين من بينهم الحارث بن عامر بن نوفل.
وذات يوم أراد النبي ( أن يعرف نوايا قريش، ومدى استعدادها لغزو جديد، فاختار عشرة من أصحابه من بينهم خُبيب بن عدي، وجعل
عاصم بن ثابت أميرًا عليهم، وانطلق الركب ناحية مكة حتى اقتربوا منها، فوصل خبرهم إلى قوم من بني لحيان فأخذوا يتتبعونهم، وأحسَّ عاصم أنهم يطاردونهم، فدعا أصحابه إلى صعود قمة عالية على رأس جبل، فاقترب منهم مائة رجل من المشركين وحاصروهم، ودعوهم إلى تسليم أنفسهم بعد أن أعطوهم الأمان، فنظر الصحابة إلى أميرهم عاصم فإذا هو يقول: أما أنا فوالله لا أنزل في ذمة مشرك، اللهم أخبر عنا نبيك.
فلما رأى المشركون أن المسلمين لا يريدون الاستسلام؛ رموهم بالنبال، فاستشهد عاصم ومعه ستة آخرون، ولم يبق إلا خبيب واثنان معه، هما زيد بن الدثنة
ومرثد بن أبي مرثد، ولما رأى مرثد بداية الغدر حاول الهرب فقتله البغاة، ثم ربطوا خبيبًا وزيدًا وساروا بهما إلى مكة ؛ حيث باعوهما هناك.
وعندما سمع بنو حارث بوجود خبيب أسرعوا بشرائه ليأخذوا بثأر أبيهم
الذي قتله خبيب يوم بدر، وظل خبيب في بيت عقبة بن الحارث أسيرًا مقيدًا بالحديد.
وذات يوم دخلت عليه إحدى بنات الحارث فوجدت عنده شيئًا عجيبًا، فخرجت وهي تناديهم وتقول: والله لقد رأيته يحمل قطفًا (عنقودًا) كبيرًا من عنب يأكل منه، وإنه لموثق (مقيد) في الحديد، وما بمكة كلها ثمرة عنب واحدة، ما أظنه إلا رزقًا رزقه الله خبيبًا.ولما أجمع المشركون على قتل خبيب استعار موسيًا من إحدى بنات الحارث ليستحد بها (يزيل شعر العانة) فأعارته، وكان لهذه المرأة صبي صغير، غفلت عنه قليلا، فذهب الصبي إلى خبيب فوضعه على فخذه، وفي يده الموسى، فلما رأته المرأة فزعت وخافت على صبيها، فقال لها خبيب أَتَخْشِينَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ ما كنت لأفعل إن شاء الله، فقالت المرأة: ما رأيت أسيرًا خيرًا من خبيب.
وأراد المشركون أن يدخلوا الرعب في قلب خبيب، فحملوا إليه نبأ مقتل
زيد بن الدثِنَّة، وراحوا يساومونه على إيمانه، ويعدونه بالنجاة إن هو ترك دين محمد، وعاد إلى آلهتهم، ولكن خبيبًا ظل متمسكًا بدينه إلى آخر لحظة في حياته، فلما يئسوا منه أخرجوه إلى مكان يسمى التنعيم، وأرادوا صلبه (تعليقه)، فاستأذن منهم أن يصلي ركعتين، فأذنوا له، فصلى خبيب ركعتين في خشوع، ( فكان بذلك أول من سنَّ صلاة ركعتين عند القتل )
وبعد أن فرغ من صلاته نظر إليهم قائلاً: والله لولا أَنْ تَحْسَبُوا أَنَّ بي جزعًا (خوفًا) من الموت؛ لازْددت صلاة. ثم رفع يده إلى السماء ودعا عليهم: (اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبق منهم أحدًا)، ثم أنشد يقول:
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًــا
عَلَى أي جَنْبٍ كَانَ في اللهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ في ذَاتِ الإلهِ وإنْ يَشَـــأ
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شَلْوٍ ممَـــزَّعِ
ثم قاموا إلى صلبه، وقبل أن تقترب منه سيوفهم، قام إليه أحد زعماء قريش وقال له: أتحب أن محمدًا مكانك، وأنت سليم معافى في أهلك، فيصيح خبيب فيهم قائلاً:
والله ما أحب أني في أهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة.
إنها الكلمات التي قالها زيد بن الدثنة بالأمس يقولها خبيب اليوم، مما جعل أبا سفيان -ولم يكن قد أسلم- يضرب كفًا بكف ويقول: والله ما رأيت أحدًا يحب أحدًا كما يحب أصحاب محمدٍ محمدًا.
وما كاد خبيب ينتهي من كلماته هذه حتى تقدم إليه أحد المشركين، وضربه بسيفه، فسقط شهيدًا، وكانوا كلما جعلوا وجهه إلى غير القبلة يجدوه مستقبلها، فلما عجزوا تركوه وعادوا إلى مكة.
وبقى جثمان الشهيد على الخشب الذي صلب عليه حتى علم النبي ( بأمره، فأرسل الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو فأنزلاه، ثم حمله الزبير على فرسه، وهو رطب لم يتغير منه شيء، وسار به، فلما لحقهما المشركون قذفه الزبير، فابتلعته الأرض، فَسُمِّيَ بَلِيع الأرض.

الشيخ الطبيب أبو اليسر عابدين مفتي الشام

"كان علماء القرن الماضي والقرون المتأخرات قبله علماء رواية ونقل يفهمون ما تركه السلف، ولكن لا يزيدون عليه ولا يستطيعون أن يأتوا بمثله، ولذلك تقرؤون في ترجمة الواحد منهم، أنه قرأ كتاب كذا وكذا، فالشيخ أبو اليسر عابدين رحمه الله، كان نموذجاً لهؤلاء العلماء، ولكنه كان نموذجاً كاملاً، قرأ على أبيه الشيخ أبو الخير عابدين رحمهما الله، الحاشية بأجزائها الخمسة الكبـار ثلاث مرات، وأقـرأها من بعد أكثر من ثلاث عشـرة مرة وقرأ العشرات من الكتب، لاكما قرأت أنا قراءة سرد لأعرف ما فيها ولأرجع عند الحاجة إليها..."

كلمات للشيخ علي الطنطاوي

تلميذ الشيخ أبو اليسر عابدين رحمهما الله

فمن هو الشيخ الطبيب أبو اليسر عابدين الذي وصفه الشيخ علي بالنموذج الكامل لعلماء القرن الماضي؟؟



إخوتي

إن العلماء هم مشاعل نور تضيء للناس طريق الخير والصلاح والرقي، ويشع نورهم على امتداد الأجيال، فهم الموئل والمرجع في الأزمات والمشكلات، وهم المورد والمنبع للارتواء.

فالإنسان عمره محدود، مهما بلغ من الكبر عتياً، ولسوف يدركه الموت ولو بعد حين.

فكيف السبيل ؟؟

هناك بعض من الناس من تمتد حياتهم إلى ما بعد الموت، ليبقوا أحياء على مر العصور، فينتفع بهم الناس إلى ما شاء الله، فعلمهم فياض وهم في القبور مع الأجداث، تصديقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).

ومن هنا أدعوكم أخوتي الكرام، ومن خلال هذا المنبر الكريم، لقراءة سيرة العلامة الطبيب الشيخ أبو اليسر عابدين مفتي الشام في عصره رحمه الله.

لقد بلغت شهرته الآفاق، وانتشرت ما بين مشرق الأرض ومغربها، كعالم موسوعي من علماء أمتنا الإسلامية، والذي يجب أن نتوجه إلى دراسة سيرته باهتمام طلباً للإفادة، فلنقرأ الفاتحة إلى روحه الطاهرة.

لمحة عن عصره:

عاش شيخنا الجليل في القرن العشرين، وعاصر بدايات التآمر الاستعماري على الوطن العربي، فشهد أحداث هامة عصفت بالعالم الإسلامي، والأحداث هي:

أفول الحكم العثماني، وظهور الاستعمار الحديث وتقسيمه للوطن العربي، وظهور الكيان الصهيوني في فلسطين، وإقامته للدولة الصهيونية المغتصبة للأرض.

هذا وما زالت تعصف بالأمة الإسلامية، خطر المؤامرات وبأشكال شتى، وبعناوين براقة مختلفة، أتقن فنون حبكها العدو المتآمر، نسأل الله العظيم السلامة والعافية.

وهكذا فالعصر الذي عاصره الشيخ أبو اليسر رحمه الله، يكاد يشبه عصرنا الحالي، فما هو المطلوب منا تجاه ذلك؟

إن المطلع دوماً لقراءة تاريخنا الإسلامي، رغبة الوقوف عبرة وعظة، ومستفيداً بتجنب أخطاء من سبقونا في هذه الحياة، والتعلم للعمل من علماءنا الأفاضل والأولياء الأكابر، الذين جعلوا من منهج سلفنا الصالح منهجاً لهم يسيروا عليه، هذا القارئ المستفيد لهو جديرٌ بالاحترام والتقدير، لقوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).

أرجو الله عز وجل أن نكون من هؤلاء ويوفقنا لذلك، اللهم آمين.

 ولادته ونسبه:

ولد الشيخ أبو اليسر في بيتٍ جمع من الصفات قل ما تُجمع في أسرة واحدة، عُرف هذا المحضن الأسري لهذا الشيخ الجليل، بالكرم والجود والعلم والعمل وحب مجالسة العلماء والأولياء الصالحين، حيث كان لوالده الشيخ محمد أبو الخير عابدين رحمه الله مكانة ومنزلة في قلوب معاصريه، وأخذ الشيخ أبو الخير العلم عن والده أيضاً الشيخ أحمد كما أخذ العلم عن كبار علماء عصره، وأجيز بما قرأه على يد علماء عصره في الفقه والحديث واللغة وسائر العلوم الشرعية، وعُين مفتياً للشام - سورية ولبنان والأردن وفلسطين -، وقلدته الحكومة العثمانية أعلى المراتب العلمية "رتبة استنابول".

وحين دخول الأمير فيصل بن الحسين دمشق، بويع ليكون ملكاً على سورية، فبايعه الشيخ أبو الخير، وقال له: "أيها الأمير! إن لكل أمير بطانتان، بطانة تزين له الحق وتحضه عليه وبطانة تزين له الباطل وتحضه عليه، فعليك ببطانة الخير !!". وقد اعتبر ممن حضر أن هذا تعريض به، فحث الأمير فيصل، وأقصى الشيخ أبو الخير عن الإفتاء سنة 1919، وبعد انتهاء حكم الملك فيصل عُين الشيخ أبو الخير مميزاً للأحكام التي تصدر عن المحاكم رحمه الله.

في هذا البيت الفاضل والمعروف بالحسب والنسب ولد ونشأ وتربي شيخنا الشيخ أبو اليسر عابدين.

واسمه: محمد أبو اليسر بن محمد أبي الخير بن أحمد بن عبد الغني بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم بن نجم الدين بن محمد صلاح الدين الشهير بعابدين، وقد أطلق عليه هذا اللقب لصلاحه، ومعناه: الولي الصالح الجامع بين الشريعة والحقيقة، وميلاده 1189 - 1252ه، 1748 - 1836 م.

ومن هذه الأسرة والشجرة الكريمة المشهورة ببيت وآل عابدين، فقيه الحنفية وعالمهم بالشام، السيد محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم بن نجم الدين بن محمد صلاح الدين الشهير بـ "عابدين"، فيلتقي نسب محمد أمين مع الشيخ أبو اليسر عند عمر.

وقد عُرف محمد أمين بـ "ابن عابدين" وهي الشهرة تعود إلى جده السيد الشريف محمد صلاح الدين كما ذكرنا أعلاه، الذي أطلق عليه هذا اللقب لصلاحه.

تتلمذ ابن عابدين على يد الشيخ محمد شاكر العقاد، وكان شيخه يتفرس فيه الخير، وأحضره دروس أشياخه كالشيخ محمد كردي والشيخ أحمد العطار فأخذ ممن حضر درسه أجازة.

اصطحبه الشيخ العقاد مرة لزيارة الشيخ محمد عبد النبي الذي قدم من الهند زائراً فلما دخل عليه وجلس الشيخ العقاد، بقي ابن عابدين في العتبة واقفاً بين يدي شيخه حاملاً نعله بيده، كما هي عادته مع شيخه، فقال الشيخ عبد النبي للعقاد: مُرْ هذا الغلام فليجلس فإني لا أجلس حتى يجلس، ثم قال الشيخ: ستقبَّل يده ويُنتفع بفضله في سائر البلاد، وعليه نور أهل بيت النبوة.

وأشهر كتبه الكتاب المعروف باسم "حاشية ابن عابدين" وهو حاشية على "رد المختار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار" وهذا الكتاب عمدة المذهب الحنفي وأكثرها شهرة رحمه الله.

وقد أعقب محمد أمين ابناً هو محمد علاء الدين عابدين المولود في سنة 1244هـ حيث أخذ العلم عن والده، وكان للشيخ علاء الدين دور في تأسيس المكتبة الظاهرية، وبذلك حافظ من الضياع الكتب الموقوفة وجعلها متاحة للعموم للاستفادة منها. كما اشترك الشيخ علاء الدين في تأليف "مجلة الأحكام العدلية" التي صارت مرجع الحكام في أحكامهم كالقانون المدني، كما ألف كتاباً أسماه "الهدية العلائية" اختصر فيه أحكام العبادات والعقيدة، وساهم مع ابن عمه الشيخ أحمد عبد الغني عابدين في تأليف تكملة حاشية ابن عابدين.

هذا ويعود نسب الأسرة الشريفة إلى نسب الحسين رضي الله عنه. في ظل هذه الأسرة الشريفة وبين أحضانها ولد ونشأ الشيخ أبو اليسر عابدين، فكان خير خلفٍ لخير سلف، وسُطرت سيرته بماء الذهب، فقد أتقن فنون العلم الشرعي وبرع في العلم الدنيوي، فكان شيخاً ومدرساً وطبيباً ومفتي البلاد.

فأي روعة وأي جمال وجلال هي سيرته، هذا ما ينبغي أن ندركه نحن المسلمين وياللأسف، أن لا نفصل العلم الديني عن العلم الدنيوي، فمن أدرك وعمل ضمن هذا المفهوم، فقد فاز ونال فرصة المباهاة الحقيقية التي تناله من سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله الشريف: (تناكحوا تكاثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة).

نشأته العلمية والروحية:

فالشيخ أبو اليسر عابدين - رحمه الله - تعلم العلم الشرعي وأتقنه، ثم انصرف للعلم الدنيوي فدرس الطب، وكان مدرساً في كليتي الحقوق والشريعة، كان حريصاً في استغلال وقته وحياته، إما تلميذاً وطالب علم، أو مدرساً وطبيباً ومفتياً، جعل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم عنوناً لمسيرته، فكان يعشق النبي ويرجوا الله أن يباهي النبي به يوم القيامة.

هذا الفهم والإدراك المقدس العالي هو ما نحتاجه في بيوتنا، ولن نصل إلى هذا الإدراك إلا بتعظيم لشرع الله وحب الله، وتعظيم واحترام لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أراده الله عز وجل لنا في الأرض كقدوة لنا (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ).

ولد الشيخ أبو اليسر في حي سوق ساروجة بدمشق، في عام 1307هـ - 1889م. تعلم القراءة والكتابة في مدرسة جامع الشامية في حي ساروجة بدمشق، الذي كان يشرف عليه عمه الصلبي الشيخ راغب عابدين، ثم أخذ علوم الفقه والحديث واللغة والمعقول عن والده الشيخ أبي الخير وكبار علماء دمشق، منهم: الشيخ بدر الدين الحسني، والشيخ سليم سماره، والشيخ أمين سويد، وأجازه كل من أخذ عنه إجازة سماع ورواية إلى صاحب المذهب والكتب التي قرأها عليهم، وكان أكثر انتفاعاً ولده خاصة بالفقه والنحو.

ذكرنا ومر معنا أن الشيخ أبو اليسر رحمه الله كان حريصاً في المحافظة على صفة الطالب أو طالب العلم، فقد حفظ وأدرك وعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم). فقد شاهده أخوه القاضي مرشد عابدين، يحمل كتاب "المسايرة" لابن الهمام، فسأله إلى أين ؟ فقال الشيخ أبو اليسر: إلى الشيخ بدر الدين المغربي الحسني لأقرأ عليه قسماً من هذا الكتاب، لأبقى متصفاً بصفة طالب العلم، لأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم.

الله الله ما أروع وأجمل أن ينشأ أولادنا وهم يحملون في أرواحهم نسمات قدسية لمعاني هذه الأحاديث، ولا نكون من الذين يقرؤون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسطحية وغفلة عن فهم أسرار هذه المعاني الجليلة، ينبغي لكل أب مسلم أو أم مسلمة أن تذكُر هذه الأحاديث لأولادنا بحب مغلف بالصدق والتصديق لكلام النبي الكريم، راجين الله عز وجل أن يكرم أولادنا لفهم هذه المعاني السامية، فعندما يرتبط أبناؤنا بهذه المعاني سيعم الخير والصلاح والفلاح في جميع الأسر المسلمة، ومن ثم على المجتمع بأكمله. نسأل الله عز وجل أن يدركنا قبل فوات الأوان.

ومن تلاميذه:

أما الشيخ أبو اليسر الذي لم يفوت فرصة واحدة من عمره إلا واستغلها بعلم وعمل، فقد قرأ عليه علماء من دمشق، كالشيخ سعيد الأفغاني، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ إبراهيم اليعقوبي، والشيخ محمد كريم راجح، والشيخ أديب الكلاس، والشيخ نزار الخطيب، والشيخ بشير الباري، والشيخ عدنان الشماع، وولده الشيخ محمد عزيز عابدين، والحاجة إنعام الحمصي، والحاجة إلهام برنجكجي، وغيرهم من علماء الشام رحمهم الله.

فجزاك الله خيراً يا شيخنا الجليل وهنيئاً لك بما علمت وعملت ونفعت أمم بعد أن انتفعت في محضنك الأسري الإسلامي والموفق من الله تعالى. فكنت نعم الولد الصالح لأهلك ولغيرك ولوطنك، حفظت الجميل ورددته بإحسان أكبر وأجمل، لقوله تعالى: (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) رحمك الله تعالى.

إن في نشأت الشيخ أبو اليسر عابدين ورعايته من قبل والديه سرٌّ عظيم مفقود للأسف، أو يغفل عنه معظم الأسر المسلمة، رغم أن هذا الأمر والذي ندعوه بالسر العظيم، هو ضروري ضرورة الماء والهواء للإنسان، هل عرفتم ما هو ؟؟!

إنها تربية التقوى والمخافة من الله عز وجل بحب وعشق لله عز وجل، وليس مخافة زجر ونهيٍ بقسوة وغلظة، فإن من نال رعاية وتربية ضمن هذه المعاني، سيكون عاقبة ذلك الخير لنفسه ولغيره ولمجتمعه.

التصـــــــوف عند الشيخ:

والشيخ أبو اليسر ـ رحمه الله ـ دأب أهله منذ الصغر على تحصيله وإمتاعه بجلسات ذكر لله عز وجل، في خصوصية وقدسية تنالها هذه الجلسات، والتي يمكن أن نسميها بالتصوف أو العمل للوصول إلى مرتبة الإحسان، التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). هذه النشأة التي نشأ وترعرع وكبر عليه الشيخ، هي سر روعة شخصيته الشريفة.

فقد أخذ من والده الشيخ أبي الخير عابدين رحمه الله، الطريقة النقشبندية المتصل ذلك بصاحب الحاشية، حاشية ابن عابدين، والمتصل ذلك بصاحب الطريق شيخه الشيخ خالد النقشبندي رحمهم الله تعالى، كما جاء في كتاب عقود اللآلي.

بهذا السر المفقود اليوم بين الأسر المسلمة، تعلم وعمل الشيخ أبو اليسر، فبعد العلوم الشرعية، درس في المدارس النظامية، التي مهدت دخول الطب في الجامعة السورية، والتي كانت تسمى بمعهد الطب.

فعندما تخرج عام  1345هـ - 1926م، نال التعادل الكولكيوم / الفرنسية، وقد برع وأتقن اللغة الفرنسية والتركية، وتعلم الفارسية الفصحى، فحفظ من شعرها ما يقارب ألف بيت.

ما أروع هذه السطور التي تفيض بمعاني متنوعة من الرقي، المعنونة بأن يكون لأخر لحظة من حياته متعلماً وطالب علم.

وظائفه ومناصبه:

قبل المضي في الحديث عن مناصبه، لابد أن نذكر بعض من صفاته، فقد تمتع الشيخ أبو اليسر عابدين بقوة الشخصية والرأي، ورجاحة العقل، مع فصاحة الكلام، وتواضعاً بين الناس في خشية الله عز وجل عن حب وتعظيم، جعلته محبوباً ومقرباً من الناس، حيث غلبت على ملامح وجهه الود والحب والحنان والشفقة على العباد، متمثلاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الخلق كلهم عيال الله عز وجل ، فأحبهم إلى الله عز وجل أنفعهم لعياله).

وقد نال من بركة دعاء الصالحين من العلماء والوافدين إلى زيارة والده، أو برفقة والده لمجالس العلم في المساجد والبيوت. رحم الله والد هذا الشيخ، وجزاه الله الخير، كان لولده قدوة حسنة، ساهمت في بناء شخصية الشيخ أبو اليسر رحمه الله. هذه الوسيلة التربوية التي جعلها الله عز وجل بين أيدينا لنستغلها أفضل استغلال. فحب التقليد جعله الله عز وجل مفطورين ومجبولين عليه، ليكون وسيلة تربوية هامة. والقدوة: هي غريزة نابعة من النفس البشرية وهي كامنة ومخفية تظهر كرغبة ملحة للتقليد. وليحذر الآباء والأمهات في سلوكهم، وليكونوا قدوة خير للأولاد، ولهم من بعد ذلك الأجر والثواب من عند الله عز وجل، لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)

أمـا عن مناصبــــه:

مارس مهنة الطب ثلاثين عاماً بعد التخرج، وعُين مدرساً لمادة الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق عندما كان تلميذ يدرس الطب، وقد كلف بإلقاء محاضرات بالأحوال الشخصية، وأصول الفقه، ومحاضرات في كلية الشريعة، وأسهم في تأسيس الكلية الشريعة، في حي العمارة وكان عميدها عندما كان مديرها الشيخ حسن الشطي.

ثم انصرف للعلم والتعليم والإفتاء، فترك مهنة الطب عندما أصبح مفتياً  عاماً للجمهورية العربية السورية 7/ 4/1952م، ثم أنتخب فأصبح مفتياً أصيلاً بتاريخ 12/6/1954م، ثم انتهت خدمته بتاريخ 16/8/1961م، بعد الوحدة مع المصر، لرفضه إعطاء فتوى شرعية تؤيد جمال عبد الناصر للتأميم، وكان الإصرار من الرئيس في أخذ فتواه قائلاً: "أريدها من ابن عابدين"، فقال الشيخ: "ليس لك إلا هذه الفتوى، ووالله لا أبيع ديني بدنياي ولا بدنيا غيري". فسجل التاريخ للشيخ هذا الموقف الديني والوطني المشرف له أمام الله عز وجل.

ثم أعيد للإفتاء بمرسوم 121 بتاريخ 28/10/1961م، وبقي في منصبه هذا حتى عام 1963م، وعندما أحيل للتقاعد، لزم وظائفه الدينية من خطابة وتدريس في جامع برسباي المعروف بجامع الورد، فقد كان إمامه بعد وفاة والده، وبقي كذلك إلى حين وفاته، وكان يعقد حلقة تدريس في داره في يومي الثلاثاء والجمعة من كل أسبوع.






وقد ورث عن والده مكتبة كبيرة، أضاف إليها ما استطاع من نوادر الكتب المطبوعة والمخطوطة.

ومن أعماله الوطنية التي شهدت له وسجلها له التاريخ في سطور كتبت بماء الذهب، وضاءة لامعة، حيث تخبرنا:

أن الشيخ أبو اليسر عابدين رحمه الله قد شارك في شبابه بالثورة الســـورية الكبرى 1925م، وبماذا شارك؟شارك بماله ونفسه ورأيه...، حمل السلاح ليلاً إلى الثوار، لإجلاء الاستعمار الفرنسي عن البلاد. تبرع بدمه عند الحاجة إلى ذلك، شارك بحمل السلاح عند نكبة فلسطين عام 1948 م. كان رئيس لجنة التسلح أيام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، ورئيس جمعية الفقراء في حي ساروجة بالعمارة، إخوتي الأعزاء لابد أن هذا التنوع في مناصبه، ووظائفه وأعماله المشرفة، لم تكن وليدة الصدفة، أو على قول في متاهة التشتت والضياع اليقيني بقول الله عز وجل:( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

إذا تمعنا في سيرته الكريمة، نجد أن هذا التنوع المشرف، والذي سوف يُباهي به الرسول صلى الله عليه وسلم، قد كان ثمرة عوامل عدة:

أولها نية صادقة ومخلصة جمعت بين والدي الشيخ أبو اليسر رحمهم الله فمن أدرك الدرس الأول في الزواج والإنجاب، وهو مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الذرية، وإذا سألتم النبي صلى الله عليه وسلم، من أين لنا المنهج أو الطريقة في تربية الأبناء؟ يجيبنا نبينا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا). فليسأل كل منا بماذا تمسكنا في الزواج أم في الإنجاب...؟ وإذا وصلنا إلى مرحلة الاعتراف ومواجهة الذات والنفس الأمارة بالسوء، فلنبدأ بعودة مع نفوسنا، ونلومها ونتوب ثم نجتهد في إصلاح هذه النية التي بدأنا فيها عن جهل أو غفلة، ونجدد العهد مع الله عز وجل في كل فرض صلاة، وندعوه برجاء أو تذلل أن يوفقنا لذلك مع الدعاء المستمر في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً). هذا الكلام يوصلنا إلى أهمية المحضن الأسري وضرورة العمل مع الاجتهاد لتصحيح وتصويب أخطاء وقعت، ونسميه بالإصلاح التربوي. أما من قام بما يحب الله ورسوله سواء في زواجه أم بإنجابه، نسميه بالوقاية التربوية. أي عملية تحصين من براثن الشيطان وضلالاته. والأمر الآخر الذي مهد لهذا التنوع الجميل في شخصية شيخنا أبو اليسر عابدين رحمه الله كما مر معنا: مفتي، طبيب، مدرس، تلميذ، رئيس جمعية، عميد كلية، ..... رحمه الله هو: مجالسته للصالحين من العلماء والأولياء، بحب واحترام وتقدير، وبتواضع لهم، ولجميع الناس، حيث أشتهر بتواضعه بينهم في المأكل والملبس والحياة العامة. نال كثيراً من الدعاء، من خاصة العلماء، وعامة الناس رحمه الله. وهذه المحبة التي نالها وجعل الله عز وجل له القبول في الأرض، هي أيضاً ليست صدفة يا إخوتي... فالشيخ أبو اليسر عابدين - رحمه الله - حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم ومارسه سلوكاً وعملاً، فجعل الله عز وجل له قبول في الأرض أتعلمون ما هو هذا الحديث؟ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الخلق كلهم عيال الله عز وجل ، فأحبهم إلى الله عز وجل أنفعهم لعياله). وليس هذا الحديث فقط، هناك أحاديث: كثيرة تدلنا كيف ننال حب الله عز وجل، وحب نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد مارسها شيخنا سلوكاً وعملاً، فكانت أعماله وصفاته بين الناس تشهد له على ذلك رحمه الله.لقد فقه الدعاء التالي وهو: "اللهم اجعلني خير خلف لخير سلف". ومضى في حياته الدنيوية يتلمس الخير في كل قول وعمل، جاعلاً الدنيا خادمة لدينه... رحمه الله.ورزقنا الله عز وجل فهماً يليق بهذا الدعاء، اللهم اجعلنا خير خلف لخير سلف... اللهم آمين.

مؤلفات الشيخ أبو اليسر عابدين:

أما عن مؤلفاته المتنوعة أيضاً، وقد تركها لتكون محققة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). قد خط العديد من المؤلفات القيمة في الفقه واللغة والتاريخ والأدب والنحو والتفسير، تزيد على 30 مؤلفاً ضمتها عصارة فكره. فمن مؤلفاته الكثيرة والمتنوعة، تنوع ثقافته الرائعة والمواكبة لعصره، "أغاليط المؤرخين"، "لم سمي"، "رسالة في القراءة والقراءات"، "رسالة الأوراد"، "أصول الفقه"، "كتاب الفرائض"، "أحكام الوصايا" و"إرشادات الأنام إلى أحكام الصيام " و"أكاذيب مسيلمة الكذاب"، و"مختصر أحكام الزواج" و"الفوائد الجليه لأرباب النفوس العلية" و"الهداية السنية في حكايات الصوفية" و"عمدة المفتين في فتاوى ابن عابدين" و"محاضرات في علم الأحوال".

كما طبع له بعد وفاته عدة كتب جمعها وألفها في حياته، منها كتاب "آيات الإعجاز" وكتاب "قطوف دانية من شجرة الحكم العالية" وكتاب "الأعداد من القرآن والأحاديث للأخبار" و"الصيام بين الشريعة والطب" و"الخطب المنبرية" و"البداهة في النباهة " و"المعمرون" وغيرها من الكتب الكثيرة والفتاوى النادرة والتي لا تزال مخطوطة بدائرة الإفتاء بوزارة الأوقاف.

هذا وإن كتاب "الأوراد الدائمة" والذي يعرفه الكثير منا، والمطلع عليه سيجد شفافية وروحانية شيخنا الجليل بين سطور ذلك الكتاب - رحمه الله تعالى وجزاه عنا كل خير ـ.

 وفاته:

نأتي إلى نهاية كل سيرة وترجمة، ألا وهي الوفاة، وليس فينا أحد معصوم عن هذا المشهد الأخير في حياته، ولكن شتان بين نهاية ونهاية، نسأل الله حسن الختام.

بقي الشيخ رحمه الله في التدريس، والإمامة إلى أن أدركته الشيخوخة وهزل جسمه وضعف بصره، وتناولته الأوجاع، لزم بيته إلى يوم وفاته يوم الثلاثاء 8 رجب، 2 أيار،في عام1401 ھ، 1981م.حيث صُلي عليه بجامع الورد، ودفن بمقبرة الباب الصغير وفي قبر والده رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته، اللهم آمين آمين.

ماذا بعد يا إخوتي الأعزاء...؟لا زلنا على قيد الحياة ولم تطوى صحيفتنا بعد، ولنستغل حياتنا ووقتنا فيما ينفع ويفيد لأنفسنا ولغيرنا، ويكون هذا شغلنا الشاغل، أقوالاً وأعمالاً، ونلتزم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا : كتاب الله، وسنة نبيه).

ولنوقظ جوارحنا ونستصرخها للعمل مع المثابرة بالصبر والدعاء، رجاء أن ينالنا شرف القرب والرضى من الله ورسوله، اللهم آمين.

وهكذا فقد كان من سيرة الشيخ أبو اليسر عابدين ـ رحمه الله ـ فضل كبير علي، إذ أدخلني في محراب العبودية لله عز وجل دعاءً، وبمنهج نبيه تمسكاً، فجزاك الله خيراً كثيراً، يا شيخنا الفاضل، ولقد صدق ابن الوردي في لاميته المشهورة:

لا تقل أصلي وفصلي أبداً         إنما أصل الفتى ما قد حصل

العلامة محمد علي الدقر الحسيني الدمشقي

"الرجل الذي هز دمشق، من أربعين سنة، هزة لم تعرف مثلها من مئتي سنة، وصرخ في أرجائها صرخة الإيمان، فتجاوبت أصداؤها في أقطار الشام، واستجاب لها الناس، يعودون إلى دين الله أفواجاً، يبتدرون المساجد، ويستبقون إلى حلقاتها....

وهو علامة الشام، بل هو في الشام علم الأعلام، أعطي من التوفيق في العمل، والعمق في الأثر، مالم يعط مثله الشيخ بدر الدين ولا غيره، من مشايخ الشام "

كلمات من الشيخ  علي الطنطاوي

تلميذ الشيخ علي الدقر رحمهما الله



لمحة عن عصره:

عاصر الشيخ علي الدقر فترة عصيبة مرت على سورية، ما بين نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، شهد فيها أحداث عدة: سقوط الدولة العثمانية، وظهور الاستعمار الحديث، والصهيونية العالمية، والحرب العالمية  الأولى، ومن ثم تقسيم الوطن العربي.

فعايش في سورية فترة الانتداب الفرنسي فيها، وعاين معاناة الشعب السوري، وكان للشيخ الجليل دور بارز وكبير في إشعال لهيب الثورة السورية الكبرى 1925م.

فمن هو الشيخ علي الدقر ؟ 

نشأته:

ولد في دمشق عام 1877 – 1294 ه، لأسرة دمشقية عريقة النسب، يعمل والده في التجارة، وكان يعرف بأجود الناس وأكرمهم، وكذلك والدته عرفت بالصلاح والتقى والجود والكرم رحمهم الله جميعاً، هذا وبعد أن رزق هذين الأبوين بولدهما علي تعهداه بالرعاية و العناية، فأخذوا بالأسباب الدنيوية، وقاموا بتوجيهه نحو الاستقامة في الطريق، جلس في الكتّاب، ثم انتقل إلى مدرسة الشيخ عبد السفرجلاني، وتلقى العلوم الشرعية والعربية لسنوات، مع ملازمة الشيخ بدر الدين الحسني، ثم انتقل إلى مدرسة الشيخ محمد القاسمي، ثم محدث الشام بدر الدين الحسني، فكان أحب التلاميذ إليه، وقرأ عليه الكتب الخمسة: البخاري - مسلم - أبو داوود - الترمذي - النسائي.

ذكرت الكتب في سيرته أن الشيخ علي الدقر قد ورث من والده مزرعتين في المزة وداريا، يؤمهما الفقراء والمحتاجون، فيأخذ كل واحد منهم ما يحتاج دون استئذان، وأن الشيخ قد أذن لهم مسبقاً، وكان طلبة العلم الفقراء يزورونه في بيته، وعندما يخرجون يأخذون ما يحتاجون من أكياس: الحنطة، الدقيق، الزبيب، العدس، الأرز، الشاي، السمن، الزيت....وغير ذلك.

وعندما تمد الموائد يفرح بازدحام المساكين عليها، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب المساكين فقد روي عنه: (اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين) فالشيخ علي الدقر رحمه الله يتمثل بسلوكه سلوك النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المأثرة التي وردت عن الشيخ تشربها وتلقى نسائمها في محضنه الأول ألا وهي الأسرة، فمن خلال والديه الذين كانا له عوناً في تعليمه وإرشاده إلى طريق النجاة والسلامة في هذه الدنيا للآخرة عرفاه وأعلماه ثم عوداه على حب النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، تيمناً في قوله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ).

وبعد يا إخوتي ماذا أيضاً ؟

صفاته:

ما هي الصفات الجليلة التي تمتع بها الشيخ رحمه الله فكانت كأبخرة المسك والعود التي تفوح من بين السطور في ترجمة سيرته ؟؟؟

إن من أحب المساكين وجلس معهم، لهو دليل على خلق التواضع الذي كان يتصف به شيخنا، ومن تعلم وأحب العلم والتعليم وبسلوك التواضع، لسوف  يورث في القلب خشية وفي اللسان صدق وإخلاص لله تعالى في الوعظ والإرشاد، وهذا ما يفسره ازدحام الناس عليه، وقوله لهم عندما يرى هذا الازدحام والشعبية والتأثر "هذا نحن ما تغير فينا شي" رحمه الله. ولذلك قال تلميذه الطنطاوي رحمه الله: "لم يكن في الدرس علم غزير، ولكن فيه شيء لا يجده سامعه عند ذوي العلم الغزير، فيه الموعظة التي تخرج من القلب لتقع في القلب، فتحرك فيه خامد الشعور، وتثير فيه كامن الإيمان، فيه يملأ بالدموع...ويلين أفئدة كانت أشد من الصخر، ويستخلص من أيدي الشيطان نفوساً كان قد تحكم بهاو تملكها الشيطان".

هذا التوفيق الإلهي الذي يتحدث عنه الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، يوضح لنا مدى قوة سر من أسرار هذا التوفيق ألا وهو الدعاء فدعاء والديه رحمهما الله، ودعاؤه في جوف الليل، يجعل له التوفيق والقبول في الأرض.

ألا ليت الأسرة الإسلامية تصحو من سبات وغفلة باعدت بينها وبين القبلة للدعاء، وتركت هذه الأسرة المسلمة الأبناء والبنات للصدفة والجهل ولمجريات الحياة، تجري كما يحلو لها، وإلى أين أرادت...

نسأل الله عز وجل أن ينجينا من كارثة الغياب الذهني التربوي السليم لأولادنا.

هذا ولا ننسى يا إخوتي أن ندعو للشيخ علي الدقر والشيخ علي الطنطاوي رحمهما الله، فقد أضاؤوا في نفوسنا ومضات من السكينة والطمأنينة، من خلال هذه السطور العطرة في ترجمة الشيخ علي الدقر.

ومن عوّد أبناؤه من الصغر على حب الخير والتواضع للخلق ومحبة العلم والتعليم والجود والكرم للفقراء والمساكين وطلبة العلم وحب مجالسة الصالحين، فقد ضمن سعادة الدارين لأبنائه، لا بل ونال مرتبة الشرف عند الله ونبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

لا بد من توعية الثقافة التربوية الإسلامية، التي يحيا ويعيش عليها الأسرة الإسلامية، والذين بدلوا بالقيم والمفاهيم التربوية جعلوا وللأسف، حب الأنا والذات تطفو وتطغى في نفوس أبنائنا، بعناوين مختلفة: خذ حقك بيديك، لا تسمح لأحد بإهانتك، لا تعطي أحد من حصتك، وعناوين غيرها، مما هيأ لظهور مسلمين هوية، غير مسلمين سلوكاً والعياذ بالله، نسأل الله المغفرة والتوبة والفهم بعد العلم ثم العمل والعمل و العمل بصبر ودعاء لله تعالى بالتوفيق...

وبعد أما عن صفات أخرى تمتع بها شيخنا رحمه الله صفة الشجاعة والجرأة، فقد عاصر الشيخ علي الدقر أحداث الانتداب الفرنسي على سورية، وكان له دور هام لتوعية الناس للحذر من هذا العدو الغاشم، فكان للشيخ رحمه الله مع كثير من علماء تلك الفترة، كالشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله، أثر بالغ الأهمية في بذر البذور الأولى لثورة سورية الكبرى 1925م، فقد قام الشيخ علي مع الشيخ بدر الدين ولفيف من علماء برحلة طافوا فيها مدن سورية عام 1924م، للدعوة وبحماس شديد مع غيرة دينية لطرد العدو الفرنسي من سورية، فكان الشيخ علي رحمه الله يطرح على الناس سؤالاً بطريقة تحفيزية تلهب وتشعل العقل والفؤاد للعمل، قائلاً: "يا إخواننا اللص دخل الدار وهو يطلب منكم ثلاثة أشياء: دينكم، ومالكم، وعرضكم" ولما سئل الشيخ: من هو هذا اللص يا شيخنا ؟ أجاب: إنه فرنسا.

وبعد أن علم الفرنسيون المستعمرون بدور الشيخ، قاموا بحرق مقر الجمعية الغراء، وجامع تنكز معاً، قبل رحيلهم انتقاماً منه.

رحم الله الشيخ علي وتلاميذه الذين كانوا منارة للعلم والدين والعمل على نشر الإسلام، وهكذا يتجلى لنا أن الشيخ علي الدقر كان إلى جانب علمه وعمله مجاهداً في سبيل الله لا يخاف في الله لومة لائم رحمه الله .

أعماله: 

لا بد أن نتساءل عن سبب تسمية الشيخ علي الدقر بأنه صاحب النهضة العلمية التي بدأت في عصره، وأتت ثمارها في السنوات التي من بعدها، فقد أدرك الشيخ علي الدقر خطورة المستعمر الفرنسي وما يحمل من نوايا خبيثة تجاه سورية وشعب سورية، عمل مجاهداً في توعية العقول وتبصير الغافلين، وتوجيههم نحو تعلم العلوم الشرعية لمعرفة دينهم الإسلامي، فقام بعد الاستخارة والاستشارة لدى أهل العلم والثقة أمثال الشيخ بدر الدين الحسني وبتعاون مع الشيخ هاشم الخطيب، قام بإنشاء (جمعية الغراء لتعليم أولاد الفقراء) وأخذ يحشد الطلاب من سورية كافة بلا استثناء، فكان تاريخ تأسيسها 1443ه - 1924 م.

وأنشأت المدرسة في البداية داخل بناء المدرسة السمسياطية لمراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، وعندما ضاقت عليهم لجأ إلى مراكز إضافية في جامع العدس، التكية السليمانية، المدرسة الخيضرية، السباهية، وغيرها...

ثم قام ببناء مدارس أخرى: السعادة للذكور، وقاية للذكور، ومدرسة هداية وروضة الحياء وزهرة الحياء للإناث ابتدائي.

ثم تأسست مدارس ثانوية أخرى، معاهد للذكور والإناث منها: معهد العلوم الشرعية للذكور، ثانوية السعادة للذكور ومعهد العلوم الشرعية للإناث.

قال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: "لقد أثمرت الجمعية الغراء خيراً كثيراً، وخرجت علماء ودعاة، أحيا بها الله أرض حوران البلقاء، الأردن.."

وخرج منها علماء وخطباء ووعاظ منهم على سبيل السرد: الشيخ حسن حبنكة رحمه الله، الشيخ عبد الوهاب حافظ دبس وزيت، الشيخ عبد الكريم الرفاعي رحمه الله، والشيخ عبد الغني الدقر وأحمد الدقر رحمهما الله، وهما ولدي الشيخ علي رحمه الله وغيرهم.

الذين ملؤوا الأرض انتشاراً لدين الله عز وجل، ولا زالت الحسنات تسجل في صحيفة هذا الشيخ المبارك وصحيفة من شاركه في تأسيسها، إن كان بالمال أو العمل رحمهم الله وجزاهم خيراً، وجعلنا لهم قرة عين بالعلم والعمل الصالح اللهم آمين.

أما عن كرامات الشيخ رحمه الله نذكر منها:

 قال الشيخ عبد الكريم الرفاعي أنه ذهب إلى شيخه الشيخ بدر الدين الحسني من أجل الدروس، فقد درس علي يديه 17 سنة، فلما وصل إليه قال له: افتح كتاب كذا وافتح صفحة كذا وضع علامة ثم افتح كتاب كذا من صفحة كذا وضع علامة، وهكذا حتى اجتمعت بين يديه عدة كتب، أمره أن يذهب بهم إلى الشيخ علي الدقر، ذهب و فعل كما طلب منه ذلك، صار الشيخ علي الدقر يبكي، فسأله الشيخ عبد الكريم ما الأمر ؟ فقال له: قد جاءتني أسئلة من لبنان صعبة، فقلت في نفسي ليس لدي وقت للبحث عن الإجابة وأخرج له الأسئلة، ثم قال له: إن إجابتها كلها معلم عليها في الكتب التي أرسلها الشيخ بدر الدين. ما هو رأيكم أيها الإخوة...؟ أليس في الأمر سر تفوح منه رائحة صدق طلب القرب والرضى من الله وقوة الجهد في هذا الاتصال مع الله عز وجل، أي عبادة وأي قب وعى هذا الصدق وترجمه لسانه، أم أي حال وصلوا إليه لتكشف عنهم الحجب... وينالوا كرامات لهذا الحال...؟؟؟

أما الحكاية الثانية في عنوان الكرامات:

 فهي يرويها لنا الشيخ عبد الكريم الرفاعي، الذي يقول: أن والدته رضي الله عنها وأكثر من عدد فئاتها (اللهم آمين) قد أخذته إلى الشيخ علي الدقر ليتعلم عنده العلم الشرعي، فكان يمشي على عكازين، جلس عند مقعد الشيخ وأخذ يسأل الله الشفاء له، ولعل الله يشفيه ببركة هذا الشيخ، بقي ملازماً لكرسيه، وبعد أيام عاد لأمه بدون عكازين، فقد شفاه الله عز وجل الله الله...الله الله...لقد كانوا بصدق حبهم لله عز وجل ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأمانة عالية قد قاموا بأعمال وأعمال يباهى بها أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عرض النتائج وسرد العلامات والدرجات...فهيهات هيهات.. متى نفهم ونعمل بحق هذا الذي فهمناه، ولكن نحن نفهم ولا نريد هذا الفهم، نولي وجوهنا وعقولنا لاتجاه آخر، لذلك برزت الأعمال المخالفة والمغايرة...والعياذ بالله هذا من تعلقنا بهذه الدنيا وزينتها والتي تسلمنا من زينة إلى زينة.. نسأل الله عز وجل العصمة في الحركات والسكنات والخطرات...اللهم آمين آمين.. اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن... وجنينا مزالق الشيطان.. اللهم آمين...آمين.

أما عن أولاد الشيخ علي الدقر رحمه الله:

 فقد كان هل ولدان من علماء دمشق أيضاً، الشيخ عبد الغني الدقر صاحب "معجم النحو" والشيخ أحمد الدقر الذي يرأس الجمعية بعد والده رحمهم الله.

وفاته:

توفي الشيخ علي الدقر في دمشق يوم الثلاثاء 2 صفر سنة 1362ه - 1943م وصلي عليه في الأموي، ودفن في مقبرة الباب الصغير رحمه الله ورضي عنه، وجزاه الله عن أمة الإسلام خير الجزاء، وعوضنا الله بأمثال من هذا الشيخ الكريم اللهم آمين.

زياد علي

زياد علي محمد