التاريخ الإسلامي حافل بالأمثلة العجيبة حقًّا في سير حياتها، ومن أعجب هذه الأمثلة بعض الكبار والعظماء والزعماء الذين كانت ظواهر حياتهم وغالب أحوالهم تحكي عن سوء خاتمتهم، فظلم وطغيان وجبروت وشهوات ومفاسد، حتى قطع لهم كثير من الناس بسوء الخاتمة جهنم وبئس المصير، ولأن الأمر كله لله -عز وجل-، ولأنه لا يعلم العواقب إلا الله، ولأن الجنة والنار بأمر الله وحده، فإن هؤلاء الكبراء أو العظماء أو الزعماء الذين كانت بداياتهم محرقة، كانت نهاياتهم مشرقة، وهذا طرف من أخبار بعضهم:
الصاحب بن عباد.. بيت التوبة:
الوزير الكبير والطاغية الشرير، الذي جمع بين التشيع والاعتزال، والشدة والصلف، والتقعر والكبر، ثم ترك ذلك كله وتاب إلى الله -عز وجل- توبة صارت مضربًا للأمثال.
هو إسماعيل بن عباد الطالقاني الملقب بالصاحب، كان وزيرًا لمؤيد الدولة البويهي الشيعي، وكان مشهورا بالحزم والكفاءة، حتى لقب بكافي الكفاة، وافتتح لمليكه خمسين قلعة في فارس بالصرامة والقسوة وحسن التدبير، وعمل في خدمة البويهيين قرابة العشرين سنة، فكان سيفهم المجرد على من خالفهم.
كان الصاحب بن عباد فاسد العقيدة، يجمع بين التشيع والاعتزال والابتداع، ذكر عنده البخاري يومًا فقال: ومن البخاري؟! حشوي لا يعول عليه -والحشوي هو الوصف الذي كان يطلقه المعتزلة والجهمية على أهل السنة الذين يثبتون الصفات-، وكان الصاحب متضلعًا في علوم اللغة، له فيها تصانيف مشهورة، ومع ذلك كان متقعرًا يتعانى، وحشي الألفاظ في خطابه، وإذا ناظره أحد اشتد غضبه، كما كان مشهورًا بالشراب والمنادمة، وله أشعار فائقة في وصف الخمر.
ثم ماذا حدث؟!
انقلاب شامل في حياة هذا الرجل، حيث ألقى الله -عز وجل- حب الحديث في قلبه، فعزم على رواية الحديث، فوجد نفسه ملطخًا بأوزار السلطان والوزارة والعقيدة الفاسدة، فتاب من ذلك كله وبنى لنفسه بيتًا سماه بيت التوبة، وجمع الفقهاء والعلماء والأمراء، وخرج عليهم من هذا البيت وقد لبس زي الفقهاء وترك زي الوزراء، وأشهدهم على نفسه بالتوبة والإنابة مما يعانيه من أمور السلطان، وعزم على أن لا يأكل إلا من إرث أبيه فقط، وكتب محضرًا بذلك أخذ عليه خطوط العلماء، ثم عقد مجلسًا عامرًا لرواية الحديث بأسانيد عالية عن مشايخ ثقات، وأعلن تخليه عن علوم الكلام والفلسفة والآراء البدعية، واتباعه لعقيدة السلف، ورغم ذلك كله لم يعزله مؤيد الدولة عن الوزارة، بل ازداد له حبًّا وبه تمسكًا، وأقره على عمله، حتى أصبح الصاحب بن عباد هو درة بني بويه وأفضل وزرائهم خلال عصرهم الذي جاوز مائة سنة.
السلطان الأشرف الأيوبي.. مدمن الخمر الذي طار مع الصالحين:
هو سلطان دمشق والشام الأشرف موسى بن العادل محمد الأيوبي، ولد سنة 576هـ في بيت عز وملك ورياسة، فأبوه السلطان العادل سلطان مصر والشام والحجاز، وعمه السلطان العظيم الناصر صلاح الدين الأيوبي، وجده الأمير نجم الدين أيوب، نشأ بالقدس، وكان من أحب أولاد العادل إلى قلبه، لذلك نشأ مترفًا منعمًا منغمسًا في الشهوات كعادة الشباب ذوي النعمة، فحاول أبوه أن يصحح مساره فولاه على مدن كثيرة بمنطقة الجزيرة الفراتية؛ منها: الرها وحران وخلاط، وقد اعتدل قليلاً، ولكنه كان مدمنًا للخمر لا يقوى على تركها، حتى اشتهر عنه ذلك الأمر وعلمه القريب والبعيد والكبير والصغير.
وكانت نقطة التحول في حياة الأشرف الأيوبي سنة 626هـ عندما أصبح سلطانًا على دمشق؛ إذ تاب هذا الرجل وأقلع عن سائر معاصيه، وقرب أهل العلم خاصة المحدثين، فبنى المدارس الفقهية وخرّب خان الزنخاري وكان وكرًا للفجور والفواحش، وبنى مكانه جامعًا أسماه جامع التوبة، وبنى الكثير من الجوامع في دمشق، وأمر مناديه في دمشق أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، وكل من اشتغل بالفلسفة والمنطق والكلام نفاه من البلد، وكان يشجع الناس والتجار الموسرين على بناء المساجد والجوامع والمدارس، ونشر الأمن والعدل في دمشق، وسجن أرباب الشرور والمفسدين وأهل الدعارة، وقمع شرورهم عن الناس، وأكثر من الصدقات والخيرات على الفقراء والمساكين، وألزم الناس بأحكام الشريعة، وبدأ بنفسه عندما قتل أحدُ خواصه المقربين منه واحدًا من العامة، وأصر أولياء المقتول على القصاص، وعرض عليهم دفع عشر ديات عوضًا عن المقتول، فأبوا إلا القصاص، فسلمه إليهم فقتلوه، فقال الأشرف كلمته الشهيرة: "لو طلبوا مني ملكي فداءً له لدفعته إليهم، ولكن استحيت من الله أن أعارض شرعه بحظ نفسي".
وكان السلطان الأشرف منذ أن تولى دمشق قد أصبح منشغلاً بقضايا المسلمين، ودخل الكثير من الحروب من أجل نجدة مسلمي الشام والجزيرة من عبث الجنود الخوارزمية الذين نهبوا الكثير من المدن مثل خلاط والرها، وأصلح ما أفسدوه.
ومن أعمال الأشرف الصالحة أنه حبس الشيخ علي الحريري بقلعة عزتا، وكان شيخًا فاسقًا ماجنًا منحرفًا مشهورًا بالتهتك والزندقة، وقد أفتى علماء الزمان مثل العز بن عبد السلام وابن الصلاح وابن الحاجب بقتله عدة مرات.
وقد ابتلي في أواخر عمره بداء عضال، حتى كان الطبيب يخرج العظام من رأسه وهو يسبح الله -عز وجل-، ثم اعتراه إسهال مفرط حتى خارت قوته، فشرع في التهيؤ للقاء الله -عز وجل-، فأعتق مائتي غلام وجارية، وتصدق بأموال جزيلة، وأوقف أملاكًا كثيرة، ثم تشهد ومات، وبعد وفاته بقليل رآه أحد الصالحين في المنام وعليه ثياب خضر وهو يطير مع جماعة من الصالحين، فقال له: ما هذا وقد كنت تعاني الشراب في الدنيا؟! فقال: ذاك البدن الذي كنا نفعل به ذاك عندكم، وهذه الروح التي نحب بها هؤلاء فهي معهم.
الأمير علي.. من الوثنية إلى الإسلام إلى الشهادة:
كانت منطقة القرن الإفريقي ميدانًا كبيرًا للصراع بين المسلمين والنصارى، وذلك من بداية ظهور الإسلام، وكانت أقاليم القرن الشرقية مثل إريتريا وهرر والأوجادين هي معدن الإسلام والمسلمين، في حين كانت منطقة الهضبة الحبشية في الوسط والغرب هي معدن النصرانية، حيث قبائل الأمهرة شديدة التمسك بالنصرانية، وظل الصراع مشتعلاً بين الطرفين حتى ظهر على الساحة طرف ثالث هو شعب الجالا وكان بدائيًا وثنيًا ويسكن في الجنوب، ومع تغير الظروف البيئية في الجنوب زحف هذا الشعب البدائي الوثني نحو الوسط والشرق، فدمر المناطق التي مر عليها ثم استقر جنوب (شوا)، فاحتك بالمسلمين وأخذ أبناؤه يدخلون في دين الله ولكن بصورة بطيئة، ومع ضغط القبائل الصومالية على هذا الشعب الوثني بدأت قبائل الجالا تزحف نحو الشمال وتستقر في الهضبة وهو معقل النصارى الأمهرة، في هذه الفترة أعلن أحد زعماء الجالا إسلامه وكان من قبل من أشد الوثنيين عداوة للإسلام والمسلمين، خاصة بعد أن أجبرت القبائل الصومالية المسلمة شعبه على الهجرة نحو الشمال، وتسمى بالأمير علي وتحول إلى خدمة الإسلام والرغبة في إيجاد قدم ثابتة في قلب الهضبة النصرانية، وهذا لم يعجب الأمير (كاسا) الملقب باسم (تيودور)، وكان زعيم الأمهرة، فجمع الجيوش النصرانية لوقف زحف شعب الجالا وزعيمه المسلم الأمير علي، وذلك سنة 1189هـ، وبعد قتال شرس وقع الأمير علي في الأسر، فأخذه (تيودور) وعرض عليه النصرانية أو الذبح، فأبى عليّ إلا أن ينطق لسانه بالشهادتين بأعلى صوته ليغيظ الكافرين، فحزوا رأسه بالسيف، فينتقل هذا الأمير المؤمن من الوثنية إلى الإسلام إلى الجهاد إلى الشهادة، فيا لها من بداية ويا لها من نهاية!!
السلطان ظهير الدين محمد بابر شاه.. الطريد الشريد الذي أسس دولة الإسلام في الهند:
السلطان الكبير ظهير الدين محمد بابر شاه، قضى معظم حياته في صراعات مع جيرانه حتى حاز لقب الطريد الشريد، ثم ختم حياته بأعظم نصر للإسلام في شبه القارة الهندية، وأقام للإسلام أعظم دول الإسلام في القرن العاشر الهجري هى دولة سلطنة مغول الهند، التي ظلت تحكم الهند طيلة أربعة قرون حتى استيلاء الإنجليز على البلاد.
وُلد ظهير الدين محمد بابر شاه لأبيه وهو لا يزال صغيرًا، وورث عنه حكم فرغانة، ونازعه أعمامه، حيث كانت مملكة فرغانة قد اتسعت حدودها حتى بلغت جبال الهندكوش، وكانت عاصمتها مدينة سمرقند العريقة، لذلك لاقى ظهير الدين متاعب جمة وأهوالاً كثيرة نتيجة المنافسة على الحكم، واصطدم مع محمد الشيباني زعيم الأوزبك وهزم أمامه، واضطر أن يترك سمرقند، وهام على وجهه سنة 908هـ، وكان معه من رجاله أقل من 300 رجل، واستقر رأيه على الهجرة إلى منغوليا، ولكنه اضطر إلى مغادرتها تحت ضغط أعدائه، واتجه نحو كابل وغزنة حيث كانت المنطقة في حالة فوضى واضطراب بسبب النزاع عليها بين الأوزبك والأفغان، فاستغل بابرشاه هذه الفوضى واستولى على كابل وغزنة وجمع حوله القبائل الهاربة من أمام الأوزبك، وذلك سنة 910هـ، وأخذ في تدعيم دولته الجديدة وتمكن من الاستيلاء على قندهار على الرغم من أن آل أرجون أصحابها قد ساعدوه في دخول كابل، إلا أنه في هذه الفترة لم يكن يهمه سوى توسيع دولته وتقويتها مهما يكن الثمن، بعد ذلك تطاولت طموحاته حتى ارتدى ثوب المهووس بالسلطة والجبروت، الذى لا يهمه إلا نفسه وسلطانه، فتحالف مع أشد أعداء الإسلام في المنطقة وهو الشاه إسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية الخبيثة الرافضية من أجل إستعادة ملكه السابق في فرغانة وخاصة سمرقند العريقة، وبالفعل تم له ذلك سنة 917هـ ولكن على حساب كراهية المسلمين له في بلاد ما وراء النهر وأفغانستان، الذين هبوا للدفاع عن بلادهم وعقيدتهم ضد ظهير الدين وحليفة الرافضي الخبيث الشاه إسماعيل الصفوي وهزموهما هزيمة شديدة سنة 920هـ، وأخرجوهما من بلادهم، واضطر ظهير الدين أن ينصرف عن بلاد ما وراء النهر ويعود إلى دولته في كابل، وكان هذا الانصراف من سوء حظ أهل هذا البلد الذين لم يستطيعوا الوقوف وحدهم ضد الاكتساح الروسي القيصري لبلادهم، ووقعوا فريسة الاحتلال، والقياصرة كانوا شديدي التعصب والقسوة على المسلمين.
في هذه الفترة كانت بلاد الهند تشهد اضطرابات شديدة بسبب سياسة السلطان إبراهيم اللودي سلطان شمال الهند الذي استعان بالهندوس ضد خصومه من الأمراء المسلمين، ما جعل الناس هناك يفكرون في الاتصال بظهير الدين بابر شاه يطلبون منه الحضور ومساعدتهم في التخلص من هذا الطاغية الذي أضعف دولة الإسلام في الهند، ووافقهم ظهير الدين وكان مازال يحلم بإمبراطورية يقيمها لنفسه، وجاء بجيش كبير محكم التنظيم، واصطدم مع جيش ضخم لإبراهيم اللودي وحلفائه الهندوس سنة 932هـ وانتصر عليهم ودخل دهلي وخطب له على منابرها، ثم دخلت في طاعته إمارات الهند الإسلامية الأربع وهى الكجرات والبنغال والأكن وملوة، وعندما تحالف بقايا أمراء البيت اللودي مع أمراء الراجبوت الذين كانوا يشكلون أكبر قوة هندوسية وسط الهند من أجل الإطاحة بظهير الدين الذى كان يشهد في هذه الفترة من حياته انقلابًا إيمانيًا؛ إذ لمس أوضاع المسلمين وما يعانونه من اضطهاد وتضييق، فبدأ تصحيح مساره بقطع علاقته مع الدولة الصفوية الخبيثة، وأعلن توبته عن المعاصي التي كان مشهورًا بها وعلى رأسها شرب الخمر حيث كان مدمنًا لها، ولما تحالف اللوديون والهندوس ضده استجاش العاطفة الدينية عند المسلمين، وأعلن الجهاد المقدس ضد الراجوت وكفرة الهندوس ومن يتعاونون معهم، فأطاعه الناس واقتدى به قادته، فأعلنوا توبتهم وطهروا أنفسهم من المعاصي، ولما استقام الصف خاض أكبر معركة في تاريخ الهند المسلمة سنة 933هـ، وحقق ظهير الدين انتصارًا هائلاً على الراجبوت، وقضى نهائيًا على سلطانهم وقوتهم في الهند، وبذلك سجل اسمه في سجل أعاظم الفاتحين المسلمين، وكانت أعماله بعد ذلك تصدر عن الحمية والحماس للإسلام، وهو ثالث العظماء من فاتحي الهند المسلمين، وأولهم محمود بن سبكتكين، وثانيهم شهاب الدين الغوري، وسبحان الله، من كانت بدايته طريدًا شريدًا يهيم على وجهة، لا يجد بلدًا ولا يأوي إليه، وكانت نهايته واحدًا من أعظم رجال الإسلام في الهند.
ضياء الحق.. وتطبيق الشريعة:
رجل باكستان القوي، والزعيم الذي أراد أن يصحح مساره ويعيد للشريعة مكانتها، فتآمر عليه كل أعداء الإسلام. ولد ضياء الحق في 22 محرم سنة 1343هـ - 12 أغسطس 1924م في إقليم البنجاب، وتعلم في مدينة دلهي عاصمة الهند في كلية سانت ستيفنـز العسكرية الإنجليزية، وخدم بالجيش الإنجليزي، وأصبح ضابطًا سنة 1364هـ في سلاح الفرسان، وبعد التقسيم أصبح ضابطًا في الجيش الباكستاني، ثم عمل مدرسًا في كلية الأركان سنة 1375هـ، واشترك في الحرب التي جرت بين الهند وباكستان، وعمل مستشارًا عسكريًا في سفارة باكستان بالأردن، واشترك في الأحداث الكبيرة التي شهدتها المنطقة وانتهت بتجزئة باكستان، بالجملة كان ضياء الحق رجل حرب وقتال وحياة عسكرية صارمة، وهذه الصفات القوية أهلته لأن يكون قائدًا للجيش الباكستاني سنة 1396هـ - 1976هـ، ولما حدثت فوضى واضطرابات عارمة في البلاد نتيجة السياسات السيئة للرئيس الباكستاني ذو الفقار علي بوتو، قاد ضياء الحق انقلابًا عنيفًا أطاح ببوتو ثم أعدمه، وفرض الأحكام العرفية وحل الجمعية الوطنية والمجالس التشريعية الإقليمية، وأقال حكام الأقاليم وشكل مجلسًا عسكريًا من قادة الأسلحة الثلاثة: البرية، البحرية، الجوية، واعتقل زعماء المعارضة بما فيهم قادة الجماعة الإسلامية، واستمر في الحكم العسكري ورفض كل الدعوات المنادية بعودة الحكم المدني للبلاد، تخبط ضياء الحق في سياسته، فسار في اتجاهين متضادين، إذ سار في فلك المعسكر الغربي خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وذلك لأهداف معينة وهي الحصول على السلاح، وإيجاد توازن إستراتيجي مع الهند صاحبة العلاقات المتينة مع الأمريكان، وكان الأهم من ذلك تأمين وضعه في الحكم، أما الاتجاه الآخر هو اتجاهه نحو الجماعات الإسلامية وإيجاد علاقات وثيقة مع كافة الأمصار الإسلامية، ولكنه سار في هذا الاتجاه ببطء مشوب بالحذر خوفًا من تهديدات الدول الكبرى التي تعادي أي توجه إسلامي، وأيضًا خوفًا من الأعداء في داخل باكستان من أصحاب الاتجاهات العلمانية والقومية.
وهذا التعارض في سياسة ضياء الحق جعلت الداخل والخارج لا يوافقه بل يعاديه ويعمل على إزاحته، وظل ضياء الحق يفكر طويلاً في كيفية الخلاص من هذا التعارض بسياسة توفيقية جديدة، فقرر دعم المجاهدين الأفغان في ملحمتهم الرائعة ضد الاحتلال السوفيتي لبلادهم، وألقى ضياء الحق بثقل باكستان كله خلف المجاهدين الأفغان، ودعمهم ماليًا وعسكريًا واجتماعيًا وعلى كل الأصعدة، وهذه السياسة أرضت الخارج، حيث كانت أمريكا تعادي الاتحاد السوفيتي، أما الداخل فأيده غالب الباكستانيين في حين عارضته بعض الأحزاب القومية والعلمانية الصغيرة، ولكن بعد الانتصارات الكبيرة التي حققها المجاهدون الأفغان على الروس أخذت أمريكا في معارضة ضياء الحق والضغط عليه لوقف تماديه في التوجه نحو الإسلام، وأجبرت أمريكا باكستان على توقيع اتفاقية مع حكومة أفغانستان في سنة 1408هـ - 1988م أضير منها المجاهدون الأفغان بشدة؛ إذ بقي بموجبها الحكم الشيوعي في بلادهم، وإن كانت روسيا قد خرجت منه عسكريًا وأظهرت أمريكا أنها لا تريد دعم المجاهدين أكثر من ذلك.
وعندها قرر ضياء الحق أن يخرج نفسه وعقله وقلبه من هذا التخطيط في السير ويوحد اتجاهه نحو دين الله -عز وجل- نحو الإسلام، وبدأ أول خطواته الفعلية بإقالة رئيس حكومته محمد خان جونيجو المعارض لدعم الأفغان والسائر في فلك الغرب، ثم عزل كل من اشترك في وضع شروط اتفاقية جنيف السالف ذكرها، وذلك في 14 شوال سنة 1408هـ - 30 مايو 1988م، ثم ألقى كلمة في وسائل الإعلام في غرة ذي القعدة سنة 1408هـ - 15 يونيو 1988م، وعد فيها يتغيير القوانيين في باكستان، وفي 11 ذي القعدة ألقى كلمته الأخيرة في وسائل الإعلام تساءل فيها وهو يبكي عما سيكون جوابه فيما إذا سئل يوم القيامة: لمَ لمْ يحكم الشريعة الإسلامية!
وبالفعل صدرت عدة قوانين مستمدة من الشريعة، فأقام الحدود، وألغى الربا في المصارف، وكأن ضياء الحق قد شعر بما سيدبر ضده فأسرع بتطبيق خطة نحو الشريعة، وفي يوم 5 محرم سنة 1409هـ - 17 أغسطس 1988م وأثناء جولة سرية بالطائرة الهيلكوبتر بصحبة كبار ضباط جيشه وأيضًا السفير الأمريكي في باكستان، انفجرت قنبلة وضعت تحت مقعد ضياء الحق لتودي بحياته وحياة كل من معه.
وقد توجهت أصابع الاتهام إلى أطراف عديدة، منها الروس والهنود والأفغان الشيوعيين ومنها إيران التي كانت تعادي باكستان بشدة، خاصة بعد مقتل عارف حسين الحسيني رئيس حركة تنفيذ الفقه الجعفري في باكستان، والذي كان يعد رجل إيران الأول في باكستان، ومنهم الباكستانيون من العلمانيين كحزب الشعب، وعلى رأس هؤلاء الأمريكان واليهود الذين ساءهم بشدة التوجه الإسلامي لضياء الحق ومشروع القنبلة الذرية التي نجحت باكستان في قطع شوط كبير في إنتاجها.
وبالجملة لا يستبعد أبدًا أن كل هؤلاء قد تآمروا على الرجل الذي صحح مسيرته وقرر العودة لدينه ورشده، وحسب الرجل أنه قد مضى إلى ربه على نية صالحة وسعي نحو الإسلام.
الصاحب بن عباد.. بيت التوبة:
الوزير الكبير والطاغية الشرير، الذي جمع بين التشيع والاعتزال، والشدة والصلف، والتقعر والكبر، ثم ترك ذلك كله وتاب إلى الله -عز وجل- توبة صارت مضربًا للأمثال.
هو إسماعيل بن عباد الطالقاني الملقب بالصاحب، كان وزيرًا لمؤيد الدولة البويهي الشيعي، وكان مشهورا بالحزم والكفاءة، حتى لقب بكافي الكفاة، وافتتح لمليكه خمسين قلعة في فارس بالصرامة والقسوة وحسن التدبير، وعمل في خدمة البويهيين قرابة العشرين سنة، فكان سيفهم المجرد على من خالفهم.
كان الصاحب بن عباد فاسد العقيدة، يجمع بين التشيع والاعتزال والابتداع، ذكر عنده البخاري يومًا فقال: ومن البخاري؟! حشوي لا يعول عليه -والحشوي هو الوصف الذي كان يطلقه المعتزلة والجهمية على أهل السنة الذين يثبتون الصفات-، وكان الصاحب متضلعًا في علوم اللغة، له فيها تصانيف مشهورة، ومع ذلك كان متقعرًا يتعانى، وحشي الألفاظ في خطابه، وإذا ناظره أحد اشتد غضبه، كما كان مشهورًا بالشراب والمنادمة، وله أشعار فائقة في وصف الخمر.
ثم ماذا حدث؟!
انقلاب شامل في حياة هذا الرجل، حيث ألقى الله -عز وجل- حب الحديث في قلبه، فعزم على رواية الحديث، فوجد نفسه ملطخًا بأوزار السلطان والوزارة والعقيدة الفاسدة، فتاب من ذلك كله وبنى لنفسه بيتًا سماه بيت التوبة، وجمع الفقهاء والعلماء والأمراء، وخرج عليهم من هذا البيت وقد لبس زي الفقهاء وترك زي الوزراء، وأشهدهم على نفسه بالتوبة والإنابة مما يعانيه من أمور السلطان، وعزم على أن لا يأكل إلا من إرث أبيه فقط، وكتب محضرًا بذلك أخذ عليه خطوط العلماء، ثم عقد مجلسًا عامرًا لرواية الحديث بأسانيد عالية عن مشايخ ثقات، وأعلن تخليه عن علوم الكلام والفلسفة والآراء البدعية، واتباعه لعقيدة السلف، ورغم ذلك كله لم يعزله مؤيد الدولة عن الوزارة، بل ازداد له حبًّا وبه تمسكًا، وأقره على عمله، حتى أصبح الصاحب بن عباد هو درة بني بويه وأفضل وزرائهم خلال عصرهم الذي جاوز مائة سنة.
السلطان الأشرف الأيوبي.. مدمن الخمر الذي طار مع الصالحين:
هو سلطان دمشق والشام الأشرف موسى بن العادل محمد الأيوبي، ولد سنة 576هـ في بيت عز وملك ورياسة، فأبوه السلطان العادل سلطان مصر والشام والحجاز، وعمه السلطان العظيم الناصر صلاح الدين الأيوبي، وجده الأمير نجم الدين أيوب، نشأ بالقدس، وكان من أحب أولاد العادل إلى قلبه، لذلك نشأ مترفًا منعمًا منغمسًا في الشهوات كعادة الشباب ذوي النعمة، فحاول أبوه أن يصحح مساره فولاه على مدن كثيرة بمنطقة الجزيرة الفراتية؛ منها: الرها وحران وخلاط، وقد اعتدل قليلاً، ولكنه كان مدمنًا للخمر لا يقوى على تركها، حتى اشتهر عنه ذلك الأمر وعلمه القريب والبعيد والكبير والصغير.
وكانت نقطة التحول في حياة الأشرف الأيوبي سنة 626هـ عندما أصبح سلطانًا على دمشق؛ إذ تاب هذا الرجل وأقلع عن سائر معاصيه، وقرب أهل العلم خاصة المحدثين، فبنى المدارس الفقهية وخرّب خان الزنخاري وكان وكرًا للفجور والفواحش، وبنى مكانه جامعًا أسماه جامع التوبة، وبنى الكثير من الجوامع في دمشق، وأمر مناديه في دمشق أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، وكل من اشتغل بالفلسفة والمنطق والكلام نفاه من البلد، وكان يشجع الناس والتجار الموسرين على بناء المساجد والجوامع والمدارس، ونشر الأمن والعدل في دمشق، وسجن أرباب الشرور والمفسدين وأهل الدعارة، وقمع شرورهم عن الناس، وأكثر من الصدقات والخيرات على الفقراء والمساكين، وألزم الناس بأحكام الشريعة، وبدأ بنفسه عندما قتل أحدُ خواصه المقربين منه واحدًا من العامة، وأصر أولياء المقتول على القصاص، وعرض عليهم دفع عشر ديات عوضًا عن المقتول، فأبوا إلا القصاص، فسلمه إليهم فقتلوه، فقال الأشرف كلمته الشهيرة: "لو طلبوا مني ملكي فداءً له لدفعته إليهم، ولكن استحيت من الله أن أعارض شرعه بحظ نفسي".
وكان السلطان الأشرف منذ أن تولى دمشق قد أصبح منشغلاً بقضايا المسلمين، ودخل الكثير من الحروب من أجل نجدة مسلمي الشام والجزيرة من عبث الجنود الخوارزمية الذين نهبوا الكثير من المدن مثل خلاط والرها، وأصلح ما أفسدوه.
ومن أعمال الأشرف الصالحة أنه حبس الشيخ علي الحريري بقلعة عزتا، وكان شيخًا فاسقًا ماجنًا منحرفًا مشهورًا بالتهتك والزندقة، وقد أفتى علماء الزمان مثل العز بن عبد السلام وابن الصلاح وابن الحاجب بقتله عدة مرات.
وقد ابتلي في أواخر عمره بداء عضال، حتى كان الطبيب يخرج العظام من رأسه وهو يسبح الله -عز وجل-، ثم اعتراه إسهال مفرط حتى خارت قوته، فشرع في التهيؤ للقاء الله -عز وجل-، فأعتق مائتي غلام وجارية، وتصدق بأموال جزيلة، وأوقف أملاكًا كثيرة، ثم تشهد ومات، وبعد وفاته بقليل رآه أحد الصالحين في المنام وعليه ثياب خضر وهو يطير مع جماعة من الصالحين، فقال له: ما هذا وقد كنت تعاني الشراب في الدنيا؟! فقال: ذاك البدن الذي كنا نفعل به ذاك عندكم، وهذه الروح التي نحب بها هؤلاء فهي معهم.
الأمير علي.. من الوثنية إلى الإسلام إلى الشهادة:
كانت منطقة القرن الإفريقي ميدانًا كبيرًا للصراع بين المسلمين والنصارى، وذلك من بداية ظهور الإسلام، وكانت أقاليم القرن الشرقية مثل إريتريا وهرر والأوجادين هي معدن الإسلام والمسلمين، في حين كانت منطقة الهضبة الحبشية في الوسط والغرب هي معدن النصرانية، حيث قبائل الأمهرة شديدة التمسك بالنصرانية، وظل الصراع مشتعلاً بين الطرفين حتى ظهر على الساحة طرف ثالث هو شعب الجالا وكان بدائيًا وثنيًا ويسكن في الجنوب، ومع تغير الظروف البيئية في الجنوب زحف هذا الشعب البدائي الوثني نحو الوسط والشرق، فدمر المناطق التي مر عليها ثم استقر جنوب (شوا)، فاحتك بالمسلمين وأخذ أبناؤه يدخلون في دين الله ولكن بصورة بطيئة، ومع ضغط القبائل الصومالية على هذا الشعب الوثني بدأت قبائل الجالا تزحف نحو الشمال وتستقر في الهضبة وهو معقل النصارى الأمهرة، في هذه الفترة أعلن أحد زعماء الجالا إسلامه وكان من قبل من أشد الوثنيين عداوة للإسلام والمسلمين، خاصة بعد أن أجبرت القبائل الصومالية المسلمة شعبه على الهجرة نحو الشمال، وتسمى بالأمير علي وتحول إلى خدمة الإسلام والرغبة في إيجاد قدم ثابتة في قلب الهضبة النصرانية، وهذا لم يعجب الأمير (كاسا) الملقب باسم (تيودور)، وكان زعيم الأمهرة، فجمع الجيوش النصرانية لوقف زحف شعب الجالا وزعيمه المسلم الأمير علي، وذلك سنة 1189هـ، وبعد قتال شرس وقع الأمير علي في الأسر، فأخذه (تيودور) وعرض عليه النصرانية أو الذبح، فأبى عليّ إلا أن ينطق لسانه بالشهادتين بأعلى صوته ليغيظ الكافرين، فحزوا رأسه بالسيف، فينتقل هذا الأمير المؤمن من الوثنية إلى الإسلام إلى الجهاد إلى الشهادة، فيا لها من بداية ويا لها من نهاية!!
السلطان ظهير الدين محمد بابر شاه.. الطريد الشريد الذي أسس دولة الإسلام في الهند:
السلطان الكبير ظهير الدين محمد بابر شاه، قضى معظم حياته في صراعات مع جيرانه حتى حاز لقب الطريد الشريد، ثم ختم حياته بأعظم نصر للإسلام في شبه القارة الهندية، وأقام للإسلام أعظم دول الإسلام في القرن العاشر الهجري هى دولة سلطنة مغول الهند، التي ظلت تحكم الهند طيلة أربعة قرون حتى استيلاء الإنجليز على البلاد.
وُلد ظهير الدين محمد بابر شاه لأبيه وهو لا يزال صغيرًا، وورث عنه حكم فرغانة، ونازعه أعمامه، حيث كانت مملكة فرغانة قد اتسعت حدودها حتى بلغت جبال الهندكوش، وكانت عاصمتها مدينة سمرقند العريقة، لذلك لاقى ظهير الدين متاعب جمة وأهوالاً كثيرة نتيجة المنافسة على الحكم، واصطدم مع محمد الشيباني زعيم الأوزبك وهزم أمامه، واضطر أن يترك سمرقند، وهام على وجهه سنة 908هـ، وكان معه من رجاله أقل من 300 رجل، واستقر رأيه على الهجرة إلى منغوليا، ولكنه اضطر إلى مغادرتها تحت ضغط أعدائه، واتجه نحو كابل وغزنة حيث كانت المنطقة في حالة فوضى واضطراب بسبب النزاع عليها بين الأوزبك والأفغان، فاستغل بابرشاه هذه الفوضى واستولى على كابل وغزنة وجمع حوله القبائل الهاربة من أمام الأوزبك، وذلك سنة 910هـ، وأخذ في تدعيم دولته الجديدة وتمكن من الاستيلاء على قندهار على الرغم من أن آل أرجون أصحابها قد ساعدوه في دخول كابل، إلا أنه في هذه الفترة لم يكن يهمه سوى توسيع دولته وتقويتها مهما يكن الثمن، بعد ذلك تطاولت طموحاته حتى ارتدى ثوب المهووس بالسلطة والجبروت، الذى لا يهمه إلا نفسه وسلطانه، فتحالف مع أشد أعداء الإسلام في المنطقة وهو الشاه إسماعيل الصفوي مؤسس الدولة الصفوية الخبيثة الرافضية من أجل إستعادة ملكه السابق في فرغانة وخاصة سمرقند العريقة، وبالفعل تم له ذلك سنة 917هـ ولكن على حساب كراهية المسلمين له في بلاد ما وراء النهر وأفغانستان، الذين هبوا للدفاع عن بلادهم وعقيدتهم ضد ظهير الدين وحليفة الرافضي الخبيث الشاه إسماعيل الصفوي وهزموهما هزيمة شديدة سنة 920هـ، وأخرجوهما من بلادهم، واضطر ظهير الدين أن ينصرف عن بلاد ما وراء النهر ويعود إلى دولته في كابل، وكان هذا الانصراف من سوء حظ أهل هذا البلد الذين لم يستطيعوا الوقوف وحدهم ضد الاكتساح الروسي القيصري لبلادهم، ووقعوا فريسة الاحتلال، والقياصرة كانوا شديدي التعصب والقسوة على المسلمين.
في هذه الفترة كانت بلاد الهند تشهد اضطرابات شديدة بسبب سياسة السلطان إبراهيم اللودي سلطان شمال الهند الذي استعان بالهندوس ضد خصومه من الأمراء المسلمين، ما جعل الناس هناك يفكرون في الاتصال بظهير الدين بابر شاه يطلبون منه الحضور ومساعدتهم في التخلص من هذا الطاغية الذي أضعف دولة الإسلام في الهند، ووافقهم ظهير الدين وكان مازال يحلم بإمبراطورية يقيمها لنفسه، وجاء بجيش كبير محكم التنظيم، واصطدم مع جيش ضخم لإبراهيم اللودي وحلفائه الهندوس سنة 932هـ وانتصر عليهم ودخل دهلي وخطب له على منابرها، ثم دخلت في طاعته إمارات الهند الإسلامية الأربع وهى الكجرات والبنغال والأكن وملوة، وعندما تحالف بقايا أمراء البيت اللودي مع أمراء الراجبوت الذين كانوا يشكلون أكبر قوة هندوسية وسط الهند من أجل الإطاحة بظهير الدين الذى كان يشهد في هذه الفترة من حياته انقلابًا إيمانيًا؛ إذ لمس أوضاع المسلمين وما يعانونه من اضطهاد وتضييق، فبدأ تصحيح مساره بقطع علاقته مع الدولة الصفوية الخبيثة، وأعلن توبته عن المعاصي التي كان مشهورًا بها وعلى رأسها شرب الخمر حيث كان مدمنًا لها، ولما تحالف اللوديون والهندوس ضده استجاش العاطفة الدينية عند المسلمين، وأعلن الجهاد المقدس ضد الراجوت وكفرة الهندوس ومن يتعاونون معهم، فأطاعه الناس واقتدى به قادته، فأعلنوا توبتهم وطهروا أنفسهم من المعاصي، ولما استقام الصف خاض أكبر معركة في تاريخ الهند المسلمة سنة 933هـ، وحقق ظهير الدين انتصارًا هائلاً على الراجبوت، وقضى نهائيًا على سلطانهم وقوتهم في الهند، وبذلك سجل اسمه في سجل أعاظم الفاتحين المسلمين، وكانت أعماله بعد ذلك تصدر عن الحمية والحماس للإسلام، وهو ثالث العظماء من فاتحي الهند المسلمين، وأولهم محمود بن سبكتكين، وثانيهم شهاب الدين الغوري، وسبحان الله، من كانت بدايته طريدًا شريدًا يهيم على وجهة، لا يجد بلدًا ولا يأوي إليه، وكانت نهايته واحدًا من أعظم رجال الإسلام في الهند.
ضياء الحق.. وتطبيق الشريعة:
رجل باكستان القوي، والزعيم الذي أراد أن يصحح مساره ويعيد للشريعة مكانتها، فتآمر عليه كل أعداء الإسلام. ولد ضياء الحق في 22 محرم سنة 1343هـ - 12 أغسطس 1924م في إقليم البنجاب، وتعلم في مدينة دلهي عاصمة الهند في كلية سانت ستيفنـز العسكرية الإنجليزية، وخدم بالجيش الإنجليزي، وأصبح ضابطًا سنة 1364هـ في سلاح الفرسان، وبعد التقسيم أصبح ضابطًا في الجيش الباكستاني، ثم عمل مدرسًا في كلية الأركان سنة 1375هـ، واشترك في الحرب التي جرت بين الهند وباكستان، وعمل مستشارًا عسكريًا في سفارة باكستان بالأردن، واشترك في الأحداث الكبيرة التي شهدتها المنطقة وانتهت بتجزئة باكستان، بالجملة كان ضياء الحق رجل حرب وقتال وحياة عسكرية صارمة، وهذه الصفات القوية أهلته لأن يكون قائدًا للجيش الباكستاني سنة 1396هـ - 1976هـ، ولما حدثت فوضى واضطرابات عارمة في البلاد نتيجة السياسات السيئة للرئيس الباكستاني ذو الفقار علي بوتو، قاد ضياء الحق انقلابًا عنيفًا أطاح ببوتو ثم أعدمه، وفرض الأحكام العرفية وحل الجمعية الوطنية والمجالس التشريعية الإقليمية، وأقال حكام الأقاليم وشكل مجلسًا عسكريًا من قادة الأسلحة الثلاثة: البرية، البحرية، الجوية، واعتقل زعماء المعارضة بما فيهم قادة الجماعة الإسلامية، واستمر في الحكم العسكري ورفض كل الدعوات المنادية بعودة الحكم المدني للبلاد، تخبط ضياء الحق في سياسته، فسار في اتجاهين متضادين، إذ سار في فلك المعسكر الغربي خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وذلك لأهداف معينة وهي الحصول على السلاح، وإيجاد توازن إستراتيجي مع الهند صاحبة العلاقات المتينة مع الأمريكان، وكان الأهم من ذلك تأمين وضعه في الحكم، أما الاتجاه الآخر هو اتجاهه نحو الجماعات الإسلامية وإيجاد علاقات وثيقة مع كافة الأمصار الإسلامية، ولكنه سار في هذا الاتجاه ببطء مشوب بالحذر خوفًا من تهديدات الدول الكبرى التي تعادي أي توجه إسلامي، وأيضًا خوفًا من الأعداء في داخل باكستان من أصحاب الاتجاهات العلمانية والقومية.
وهذا التعارض في سياسة ضياء الحق جعلت الداخل والخارج لا يوافقه بل يعاديه ويعمل على إزاحته، وظل ضياء الحق يفكر طويلاً في كيفية الخلاص من هذا التعارض بسياسة توفيقية جديدة، فقرر دعم المجاهدين الأفغان في ملحمتهم الرائعة ضد الاحتلال السوفيتي لبلادهم، وألقى ضياء الحق بثقل باكستان كله خلف المجاهدين الأفغان، ودعمهم ماليًا وعسكريًا واجتماعيًا وعلى كل الأصعدة، وهذه السياسة أرضت الخارج، حيث كانت أمريكا تعادي الاتحاد السوفيتي، أما الداخل فأيده غالب الباكستانيين في حين عارضته بعض الأحزاب القومية والعلمانية الصغيرة، ولكن بعد الانتصارات الكبيرة التي حققها المجاهدون الأفغان على الروس أخذت أمريكا في معارضة ضياء الحق والضغط عليه لوقف تماديه في التوجه نحو الإسلام، وأجبرت أمريكا باكستان على توقيع اتفاقية مع حكومة أفغانستان في سنة 1408هـ - 1988م أضير منها المجاهدون الأفغان بشدة؛ إذ بقي بموجبها الحكم الشيوعي في بلادهم، وإن كانت روسيا قد خرجت منه عسكريًا وأظهرت أمريكا أنها لا تريد دعم المجاهدين أكثر من ذلك.
وعندها قرر ضياء الحق أن يخرج نفسه وعقله وقلبه من هذا التخطيط في السير ويوحد اتجاهه نحو دين الله -عز وجل- نحو الإسلام، وبدأ أول خطواته الفعلية بإقالة رئيس حكومته محمد خان جونيجو المعارض لدعم الأفغان والسائر في فلك الغرب، ثم عزل كل من اشترك في وضع شروط اتفاقية جنيف السالف ذكرها، وذلك في 14 شوال سنة 1408هـ - 30 مايو 1988م، ثم ألقى كلمة في وسائل الإعلام في غرة ذي القعدة سنة 1408هـ - 15 يونيو 1988م، وعد فيها يتغيير القوانيين في باكستان، وفي 11 ذي القعدة ألقى كلمته الأخيرة في وسائل الإعلام تساءل فيها وهو يبكي عما سيكون جوابه فيما إذا سئل يوم القيامة: لمَ لمْ يحكم الشريعة الإسلامية!
وبالفعل صدرت عدة قوانين مستمدة من الشريعة، فأقام الحدود، وألغى الربا في المصارف، وكأن ضياء الحق قد شعر بما سيدبر ضده فأسرع بتطبيق خطة نحو الشريعة، وفي يوم 5 محرم سنة 1409هـ - 17 أغسطس 1988م وأثناء جولة سرية بالطائرة الهيلكوبتر بصحبة كبار ضباط جيشه وأيضًا السفير الأمريكي في باكستان، انفجرت قنبلة وضعت تحت مقعد ضياء الحق لتودي بحياته وحياة كل من معه.
وقد توجهت أصابع الاتهام إلى أطراف عديدة، منها الروس والهنود والأفغان الشيوعيين ومنها إيران التي كانت تعادي باكستان بشدة، خاصة بعد مقتل عارف حسين الحسيني رئيس حركة تنفيذ الفقه الجعفري في باكستان، والذي كان يعد رجل إيران الأول في باكستان، ومنهم الباكستانيون من العلمانيين كحزب الشعب، وعلى رأس هؤلاء الأمريكان واليهود الذين ساءهم بشدة التوجه الإسلامي لضياء الحق ومشروع القنبلة الذرية التي نجحت باكستان في قطع شوط كبير في إنتاجها.
وبالجملة لا يستبعد أبدًا أن كل هؤلاء قد تآمروا على الرجل الذي صحح مسيرته وقرر العودة لدينه ورشده، وحسب الرجل أنه قد مضى إلى ربه على نية صالحة وسعي نحو الإسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق