الجمعة، 23 أغسطس 2019

الإمامُ المبارك عبدُ الله بنُ المبارك (1/2) جامعُ الخيرات

وروى ابنُ عساكر, عن عبدِ الرَّحمن بن مهدي, قال: "ما رأيتُ مثل ابن المبارك, فقال له يحيى بن سعيد القطان: ولا سفيان, ولا شعبة؟ قال: ولا سفيان, ولا شعبة؛ كان ابن المبارك فقيهاً في علمه, حافظاً, زاهداً, عابداً غنياً حجَّاجاً, غزَّاءً, نحوياً, شاعراً, ما رأيت مثله!"



وعن عبد العزيز بن أبي رزمة, قال: لم تكن خصلةٌ من خصال الخير, إلا جُمِعت في عبدالله بن المبارك؛ حياءٌ, وتكرُّم, وحسنُ خلق, وحسنُ صحبة, وحسنُ مجالسة, والزُّهد, والورع, وكلُّ شيء.



اسمه ومولده وصفته



اسمه: عبدالله بن المبارك بن واضح الحنظليُّ التَّميميُّ, مولاهم؛ أبوعبدالله المروزيُّ, الإمام شيخ الإسلام, عالم زمانه, وأميرُ الأتقياء في وقته.



عن العباس بن مصعب، قال: "كانت أمُّ عبدالله بن المبارك خوارزية, وأبوه تركيٌّ, وكان عبداً لرجل من التجار, من همذان من بني حنظلةَ".



عن الحسن قال: "كانت أمُّ ابن المبارك تركيَّة, وكان الشَّبه لهم بيِّناً فيه, وكان ربما خلع قميصه؛ فلا أرى على صدره, وجسده كثير الشَّعر".



مولده: قال أحمد بن حنبل: "وُلد ابن المبارك سنة ثمان عشرة ومائة".



وقال خليفة: "وفيها –يعني ثمان عشرة ومائة– وُلد عبدالله بن المبارك.



وقال بشر بن أبي الأزهر: قال ابن المبارك: "ذاكرني عبدالله بن إدريس السنة؛ فقال: لابن كم أنتَ؟ فقال: إنَّ العجم لا يكادون يحفظون ذلك؛ ولكن أذكر أنِّي لبست السَّواد, وأنا صغير, عندما خرج أبو مسلم, قال: فقال لي: قد ابتُليت بلبس السَّواد, قلت: إنِّي كنت أصغرَ من ذلك, كان أبو مسلم أخذ الناس كلَّهم, بلبس السواد؛ الصِّغار والكبار".



موطنه: مرو؛ وهي من مدن خُراسان.



عن عبد العزيز بن أبي رزمة, قال: "قال لي شُعبة: من أين أنت؟ قال: قلت من أهل مرو, قال: تعرفُ عبدالله بن المبارك, قال: نعم, قال: ما قدِم علينا مثلُه". وفي روايةٍ: "ما قدم علينا من ناحيتكم مثله".



وعن أحمد بن سنان, قال: "بلغني أنَّ ابن المبارك أتى حماد بن زيد, في أول الأمر, قال له: من أين أنت؟ قال: من أهل خراسان, قال: من أيِّ خراسان؟ قال: من مرو, قال: تعرف رجلاً؛ يقال له عبدالله بن المبارك؟ قال: نعم, قال: ما فعل؟ قال: هو الَّذي يُخاطبك, قال: فسلَّم عليه, ورحَّب به".



اجتماعُ خصال الخير فيه



عن الحسن بن عيسى, قال: "اجتمع جماعةٌ من أصحاب ابن المبارك؛ مثل الفضل بن موسى, ومخلد بن حسين, ومحمد بن النَّضر, فقالوا: تعالَوا؛ حتى نعُدَّ خصال ابن المبارك من أبواب الخير؛ فقالوا: جمع العلمَ, والفقه, والأدبَ, والنَّحوَ, واللغةَ, والشعرَ, والفصاحةَ, والزهدَ, والورعَ, والإنصافَ, وقيامَ الليل, والعبادةَ, والحجَّ, والغزوَ, والشجاعةَ, والفروسيةَ, والشدَّة في بدنه, , وتركَ الكلام في ما لا يعنيه, وقلةَ الخلاف على أصحابه, وكان كثيراً ما يتمثَّل:

وإذا صاحبتَ فاصحبْ صاحباً ***  ذا حياءٍ وعفافٍ وكرمْ

قولُه للشيء لا إن قلــت لا *** وإذا قلت نعم قال نعم"



وقال ابن حبَّان: "كان فيه خصالُ الخير مجتمعةً؛ ولم تجتمع في أحدٍ من أهل العلم في زمانه, وفي الدُّنيا كلِّها".



وقال إسماعيل بن عيَّاش: "ما على وجه الأرض مثلُ عبدالله بن المبارك, ولا أعلم َّأن الله خلق خصلةً من خصال الخير, إلا وقد جعلها في عبدِالله بن المبارك, ولقد حدَّثني أصحابي؛ أنهم صحبوه من مصر إلى مكة, فكان يُطعمهم الخبيص, وهو الدَّهرَ صائم".



وروى ابنُ عساكر, عن عبدِ الرَّحمن بن مهدي, قال: "ما رأيتُ مثل ابن المبارك, فقال له يحيى بن سعيد القطان: ولا سفيان, ولا شعبة؟ قال: ولا سفيان, ولا شعبة؛ كان ابن المبارك فقيهاً في علمه, حافظاً, زاهداً, عابداً غنياً حجَّاجاً, غزَّاءً, نحوياً, شاعراً, ما رأيت مثله!"



وعن عبدالعزيز بن أبي رزمة, قال: "لم تكن خصلةٌ من حصال الخير, إلا جُمعت في عبدالله بن المبارك؛ حياءٌ, وتكرُّم, وحسنُ خلق, وحسنُ صحبة, وحسنُ مجالسة, والزُّهد, والورعُ, وكلُّ شيءٍ".



وقال النَّسائيُّ: "لا نعلم في عصر ابن المباركِ أجلَّ من ابن المبارك, ولا أعلى منه, ولا أجمعَ لكلِّ خصلةٍ محمودةٍ منه".



وقال الحافظ: "ثقة, ثبت, فقيه, عالم, جواد, مجاهد, جُمعت فيه خصال الخير".



طلبه للعلم



قال أحمد بن حنبل:



"لم يكن في زمان ابن المبارك أطلبَ للعمل منه؛ رحلَ إلى اليمن, وإلى مصرَ, وإلى الشامِ, والبصرةَ, والكوفة, وكان من رُواة العلم, وأهلُ ذلك. كتب عن الصِّغار والكبار؛ كتب عن عبدِالرحمن بن مهدي, وعن الفزاريّ, وجمع أمراً عظيماً, ما كان أحدٌ أقلَّ سقطاً من ابن المبارك, كان رجلاً يحدِّث من كتاب؛ ومن حَدَثَ من كتاب, لا يكاد يكون له سقط, وكان وكيعٌ يُحدِّث من حفظه, ولم يكن ينظرُ في كتاب, فكان يكونُ له سقط, كم يكونُ حفظُ الرجل؟".

                                                                                                                                                             

سأل أبو خراش بالمصيصة, عبدالله بن المبارك: "يا أبا عبد الله, إلى متى تطلبُ العلم؟ قال: "لعلَّ الكلمةَ التي فيها نجاتي, لم أسمعها بعد!".



عن محمد بن النَّضر بن مساور, قال: "قال أبي: قلتُ لعبد الله -يعني ابن المبارك-: يا أبا عبدِ الرَّحمن, هل تحفظُ الحديث؟ قال: فتغيَّر لونُه, وقال: ما تحفظتُ حديثاً قطُّ؛ إنَّما آخذ الكتابَ, فأنظر منه؛ فما أشتهيه عَلِقَ بقلبي".



وعن الحسين بن عيسى, قال: "أخبرني صخر –صديق ابن المبارك– قال: كنَّا غِلمان في الكُتَّاب, فمررتُ أنا وابن المبارك, ورجلٌ يخطب خطبةً طويلة, فلما فرغ, قال لي ابنُ المبارك: قد حفظتُها, فسمعه رجل من القوم, فقال: هاتها, فأعادها عليهم ابنُ المبارك, وقد حفظها".



وعن نُعيم بن حماد, قال: "سمعت عبدالله بن المبارك، قال: قال لي أبي: لئن وجدتَ كتبك لأحرقنَّها, قال: فقلت له: وما عليَّ من ذلك؛ وهي في صدري".



قال شقيقُ بن إبراهيم: "قيل لابن المبارك: إذا صليتَ معنا, لم تجلس معنا؟ قال: أذهبُ مع الصَّحابة, والتَّابعين, قلنا له: ومن أين الصَّحابة, والتابعون؟ قال: أذهبُ أنظر في علمي؛ فأدرك آثارهم وأعمالهم, ما أصنعُ معكم؛ أنتم تغتابون الناس".



وروى نُعيم بن حماد, قال: "كان عبدالله بن المبارك, يُكثر الجلوس في بيته, فقيل له: ألا تستوحش؟ قال: كيف أستوحش؛ وأنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-".



عباداته وخشيته



قال محمد بن الوزير؛ وصيُّ ابن المبارك: "كنت مع عبدالله في المحمل, فانتهينا إلى موضع بالليل, وكان ثمَّ خوف, قال: فنزل ابنُ المبارك, وركب دابَّته, حتى جاوزنا الموضع, فانتهينا إلى نهر, فنزل عن دابَّته, وأخذت أنا مقوده, واضطجعتُ, فجعل يتوضَّأ, ويُصلِّي, حتى طلع الفجر, وأنا أنظر إليه, فلمَّا طلع الفجر, ناداني, قال: قم فتوضَّأ, قال: قلت: إنِّي على وضوء, فركبه الحزن؛ حيثُ علمتُ أنا بقيامه, فلم يُكلِّمني حتى انتصف النَّهار, وبلغتُ المنزل معه.



وعن القاسم بن محمد, قال: "كنَّا نسافر مع ابن المبارك, فكثيراً مما كان يخطر ببالي؛ فأقول في نفسي: بأيِّ شيءٍ فضل هذا الرجلُ علينا؛ حتى اشتهر في النَّاس هذه الشهرة؛ إن كان يُصلي, إنَّا لنُصلِّي, ولئن كان يصوم, إنَّا لنصوم؛ وإن كان يغزو, فإنّا لنغزو, وإن كان يحجُّ, إنَّا لنحجُّ".



قال: "فكنا في بعض مسيرنا؛ في طريق الشَّام, ليلةً نتعشَّى في بيت, إذ طَفئ السراج, فقام بعضُنا, فأخذ السراج, وخرج يستصبحُ, فمكث هنيهة, ثم جاء بالسِّراج, فنظرتُ إلى وجه ابن المبارك, ولحيته قد ابتلَّت بالدموع, فقلت في نفسي: بهذه الخشية؛ فُضِّل هذا الرجل علينا, ولعلَّه حين فُقد السِّراج, فصار إلى الظُّلمة, ذكر القيامة".



قال المروزيُّ: "وسمعت أبا عبدالله؛ أحمد بن حنبل, قال: ما رفع اللهُ ابن المبارك إلا غيبةً كانت له".



قال الخليل أبو محمد: "كان ابن المبارك, إذا خرج إلى مكة؛ يقول:

بغضُ الحياة وخوفُ الله أخرجني *** وبيعُ نفسي بما ليست لـه ثمنـاً

إنِّي وزنتُ الَّذي يبـقى ليـَعدلَه *** ما ليس يبقى فلا واللـه ما اتَّزنا



وقال نُعيم بن حماد: "كان ابن المبارك , إذا قرأ كتاب "الرقاق" كأنه ثورٌ منحور, أو بقرةٌ منحورةٌ من البكاء, لا يجترىء أحدٌ منَّا, أن يدنوَ منه, أو يسأله عن شيء, إلا دفعه".



وقال أبو إسحاق؛ إبراهيم بن الأشعث: "مرض ابن المبارك مرضه؛ فجزع حتى رأوه جزعاًً, فقيل له: إنَّك ليس بك كلُّ ذلك, وأنت تجزعُ هذا الجزع, قال: مرضتُ, وأنا بحالٍ لا أرضاه".



قال أبو إسحاق: "وقال الفضيل يوماً –وذكر عبدالله-, فقال: أما إنِّي أُحبُّه لأنه يخشى الله".



قال أبو إسحاق: "قيل لابن المبارك: رجلان؛ أحدُهما أخوف, والآخر قُتل في سبيل الله, فقال: أحبّهما إليَّ أخوفُهما".



قال أبو خزيمة العابد: "دخلت على عبدالله, وهو مريض, فجعل يتقلَّبُ على فراشه من الغمِّ, فقلت له: يا أبا عبدالرحمن, ما هذا؟ فاصبر, قال: من يصبرُ في أخذ الله؛ (إنَّ أخذَهُ أليمٌ شديدٌ ) [هود: 102].



قال أبو روح: "قال ابنُ المبارك: إنَّ البُصراء لا يأمنون من أربع خصالٍ: ذنبٌ قد مضى؛ لا يدري ما يصنع الرَّبُّ فيه, وعمرٌ قد بقي؛ لا يدري ماذا فيه من المهلكات, وفضل قد أُعطي؛ لعلَّه مَكر, واستدراج, وضلالة قد زُيِّنت له؛ فيراها هدى, ومن زيغِ القلب ساعة أسرع من طرفة عين, قد يُسلب دينه, وهو لا يشعر".



وعن عبدالله بن عاصم الهرويِّ: "أنَّ شيخاً دخل على عبدالله بن المبارك فرآه على وسادة خشنةٍ مرتفعة, قال: فأردتُ أن أقول له, فرأيتُ به من الخشية؛ حتى رحمته, فإذا هو يقول: قال الله -عزَّ وجلَّ-: (قُلْ للمُؤمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أبصَارِهِمْ ) [النور: 30], قال: لم يرضَ الله أن يُنظر إلى محاسن المرأة؛ فكيفَ بمن يزني بها؟ وقال الله عزَّ وجلَّ: (وَيلٌ للمُطَفِّفيْنَ) [المطففين:1], في الكيل والوزن؛ فكيف بمن يأخذ المال كلَّه؟ وقال الله عزَّ وجلَّ: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً) [الحجرات: 12], ونحو هذا؛ فكيف بمن يقتُله؟ قال: فرحِمتُه, وما رأيتُه فيه, فلم أقل له شيئاً".



زهده وورعه



وأصلُ الزُّهد: "هو خلوُّ القلب من الدُّنيا, وليسَ خلوَّ اليد منها؛ فقد كان ابنُ المبارك تاجراً, ولكنه ينوي بذلك أن يستعينَ بالمال على مساعدة الأخوان, والحجِّ, والجهادِ, وغير ذلك من المكرمات".



عن عليِّ بن الفضيل, قال: "سمعتُ أبي؛ وهو يقولُ لابن المبارك: أنتَ تأمرُنا بالزُّهد, والتَّقلُّل, والبُلغة, ونراك تأتي بالبضائع من بلاد الخراسان, إلى البلد الحرام؛ كيف ذلك؟ فقال ابنُ المبارك: يا أبا عليٍّ, إنَّما أفعلُ ذلك؛ لأصونَ به وجهي, وأُكرِم به عِرضي, وأستعينَ به على طاعة ربِّي, لا أرى لله حقاً, إلا سارعتُ إليه؛ حتى أقوم به, فقال له الفضيل: يا ابنَ المبارك, ما أحسنَ ذا, إذا تمَّ ذا".



وسوف يظهرُ –إن شاء الله– في باب أدبه, وكرمه؛ كيف أنه كان يُنفق الأموال في طاعة الكبير المتعال, مما يدل على خلوِّ قلبه منها, وإنَّما المال؛ كما قال السَّلف: وسائلُ المكارم.



أما عن ورعه؛ فقد قال الحسن: "ورأيت في منزل ابن المبارك حماماً طيارة, فقال ابن المبارك: قد كنَّا ننتفع بفراخ هذا الحمام, فليس ننتفع بها اليوم, قلت: ولم ذلك؟ قال: اختلطت بها حمامٌ غيرها؛ فتزاوجت بها، و نحن نكره أن ننتفع بشيءٍ من أجل ذلك".



وعن الحسن بن عرفة, قال: "قال لي ابنُ المبارك: استعرتُ قلماً بأرض الشام فذهب, عليَّ أن أردَّه إلى صاحبه, فلمَّا قدمت مرو, نظرت, فإذا هو معي, فرجعتُ يا أبا عليٍّ, -الحسن بن عرفة- إلى أرض الشام, حتى رددته على صاحبه".



وعن عليِّ بن الحسن بن شقيق: قال: "سمعت عبدالله بن المبارك؛ يقول: لأن أردَّ درهماً من شُبهة, أحبُّ إليَّ من أن أتصدَّق بمائة ألف, ومائةِ ألف؛ حتى بلغ ستمائة ألف".



وعن عيَّاش بن عبدالله, قال: "قال عبدالله بن المبارك: لو أنَّ رجلاً اتَّقى مائةَ شيء, ولم يتقِ شيئاً واحداً؛ لم يكن من المتقين, ولو تورَّع عن مائة شيء, ولم يتورَّعْ عن شيء واحد, لم يكن ورعاً, ومن كان فيه خَلَّةٌ من الجهل؛ كان من الجاهلين؛ أما سمعتَ الله –تعالى– قال لنوح, لما قال: (إنَّ ابنيْ مِنْ أَهْلِيْ) [هود: 45], فقال الله تعالى: "إنِّيْ أعِظُكَ أنْ تَكُوْنَ مِنَ الجَاهِلِيْنَ) [هود: 46].



أدبه وكرمه



قال إسماعيلُ الخطبيُّ: "بلغني عن ابن المبارك؛ أنَّه حضر عند حماد بن زيد, فقال أصحابُ الحديث لحماد: سل أبا عبد الرحمن يُحدِّثنا, فقال: يا أبا عبد الرحمن, تُحدِّثهم؛ فإنَّهم قد سألوني، وقال: سبحان الله!! يا أبا إسماعيل, أُحدِّث, وأنت حاضر؟ فقال: أقسمتُ عليك, لتفعلنَّ, فقال: خذوا, حدَّثنا أبو إسماعيل حمَّاد بن زيد, فما حدَّث بحرفٍ إلا عن حماد".



وقال أبو العباس بن مسروق: "حدثنا ابن حميد, قال: عطس رجلٌ عند ابن المبارك, فقال له ابن المبارك: إيش يقولُ الرجلُ إذا عطس؟ قال: الحمد لله, فقال له: يرحمك الله, قال: فعجبنا كلُّنا من حُسن أدبه".



وكان -رحمه الله- يحُثُّ على تعليم الأدب, ويُبيِّن للناس خطره".



قال أبو نُعيم عبيد بن هشام: "سمعت ابن المبارك يقول لأصحاب الحديث: أنتم إلى قليل من الأدب, أحوجُ منكم إلى كثيرٍ من العلم".



قال يحيى بن يحيى الأندلسيُّ: "كنا في مجلس مالك, فاستُؤذِن لابن المبارك, فأذن, فرأينا مالكاً تزحزح له في مجلسه, ثم أقعده بلصقه, ولم أرهُ تزحزح لأحدٍ في مجلس غيره, فكان القارئ يقرأ على مالك, فربما مَرَّ بشيءٍ, فيسأله مالك: ما عندكم في هذا؟ فكان عبدُالله يُجيبه بالخفاء, ثم قام فخرج, فأُعجبَ مالكٌ بأدبه, ثم قال لنا: هذا ابنُ المبارك, فقيهُ خُراسان".



وكما كان كريمَ الخلق, حسنَ السَّجايا, كان كذلك من أسخى النَّاس يداً, وأكثرهم بذلاً, وإنفاقاً, وقصصه في ذلك كثيرة, ولكن نُشير إلى بعضها, فمن ذلك ما رواه الخطيبُ, بسنده عن حيَّان بن موسى, قال: عُوتب ابن المبارك, فيما يفرق المال في البلدان, ولا يفعلُ في أهل بلده, قال: إنِّي أعرف مكان قومٍ, لهم فضلٌ وصدق, وطلبوا الحديث, فأحسنوا الطلب للحديث, بحاجة الناس إليهم احتاجوا, فإن تركناهم, ضاع عليهم, وإن أعنَّاهم, بثُّوا العلم لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-, ولا أعلم بالنُّبُوَّة أفضلَ من بثِّ العلم".



وكان يقول: "طلبنا الأدب, حين فاتنا المؤدّبون".



عن عليِّ بن خشرم, قال: "حدَّثني سلمةُ بن سليمان, قال: جاء رجلٌ إلى ابن المبارك؛ فسأله أن يقضيَ ديناً عليه, فكتب له إلى وكيلٍ له, فلمَّا ورد عليه الكتاب, قال له الوكيل: كم الدينُ الذي سألته قضاءه؟ قال: سبعُ مائة درهم, وإذا عبدالله قد كتب له أن يُعطيه سبعة آلاف درهم, فراجعه الوكيل, وقال: إنَّ الغَلّات قد فَنيت, فكتب إليه عبدالله: إن كانت الغلاتُ قد فنيت؛ فإنَّ العمر أيضاً قد فني, فأجِزْ له ما سبق به قلمي".



وقال محمد بن عيسى: "كان ابنُ المبارك كثيرَ الاختلاف إلى طلب طرسوس, وكان ينزل الرّقةَ في خان, فكان شابٌّ يختلف إليه, ويقوم بحوائجه, ويسمع منه الحديث, فقدم عبدالله مرةً, فلم يره, فخرج في النَّفير مستعجلاً, فلمَّا رجع, سأل عن الشَّابِّ, فقيل له: محبوس على عشرة آلاف درهم, فاستدلَّ على الغريم, ووزن له عشرة آلاف, وحلَّفه ألا يخبر أحداً ما عاش, فأخرج الرجل, وسرى ابن المبارك, فلحقه الفتى على مرحلتين من الرَّقَّة, فقال له: يا فتى أين كنت؟ لم أرك, قال: يا أبا عبدالرحمن, كنت محبوساً بدين, قال: وكيف خلصتَ؟ قال: جاء رجلٌ, فقضى ديني و لم أدر, قال: فاحمد الله, ولم يعلم الرجل, إلا بعد موت عبدالله".



وعن عمرَ بن حفص الصوفيِّ بمنبج, قال: "خرج ابن المبارك من بغدادَ, يُريد المصيصة, فصحبه الصوفية, فقال لهم: أنتم لكم أنفس, تحتشمون أن يُنفق عليكم, يا غلامُ, هات الطِّست, فألقى عليه منديلاً, ثم قال: يُلقي كلُّ رجلٍ منكم, تحتَ المنديل ما معه, فجعل الرجلُ يلقي عشرة دراهم, والرجلُ يلقي عشرين, فأنفقَ عليهم إلى المصيصة, ثم قال: هذه بلادُ نفير, فنقسمُ ما بقي؛ فجعل يُعطي الرجل عشرين ديناراً؛ فيقول: يا أبا عبد الرحمن, إنما أعطيتُ عشرين درهماً, فيقول: وما تُنكر؟ أن يُبارك الله, للغازي في نفقته؟!".



وقال محمد بن عليِّ بن شقيق, عن أبيه: "كان ابن المبارك, إذا كان وقتُ الحجِّ, اجتمع إليه إخوانه, من أهل مرو, فيقولون: نصحبُك يا أبا عبدالرحمن, فيقول لهم: هاتوا نفقاتكم, فيأخذ نفقاتهم, فيجعلها في صندوق, ويُقفل عليها, ثم يَكتري لهم, ويُخرجهم من مرو إلى بغداد, ولا يزال ينفق عليهم, ويُطعمهم الطعام, وأطيبَ الحلوى, ثم يُخرجهم من بغداد, بأحسن زِيٍّ, وأكملِ مروَّة, حتى يَصلوا إلى مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فإذا صاروا إلى المدينة, قال لكلِّ رجل منهم: ما أمرَك عيالُك, أن تشتريَ لهم من المدينة, من طُرَفها؟ فيقول: كذا, ثم يخرجهم إلى مكة, فإذا وصلوا إلى مكة, وقضَوا حجَّهم من مكة, قال: ما أمرك عيالك, أن تشتري لهم متاعاً من مكة؟ فيقول: كذا وكذا, فيشتري لهم, ثم يُخرجهم من مكة؛ فلا يزال ينفق عليهم, إلى أن يَصيروا إلى مرو, فإذا صاروا إلى مرو, جصَّص أبوابهم ودورهم, فإذا كان بعدَ ثلاثة أيام, صنعَ لهم وليمة, وكساهم, فإذا أكلوا وشربوا, دعا بالصُّندوق, ففتحه, ودفع إلى كلِّ رجلٍ منهم صُرَّتَهُ, بعد أن كتب عليها اسمه".



تواضعه وفراره من الشُّهرة



ومع أنه رحمه الله اجتمعت فيه خصال الخير, وجمع الفضائل, فقد زينه الله تعالى بالتواضع؛ وما تواضع أحدٌ لله -عزَّ وجلَّ- إلا رفعه الله.



قال الحسن: "وبينما هو بالكوفة, يقرأ عليه كتاب "المناسك", انتهى إلى حديث؛ وفيه: قال عبدالله: وبه نأخذ, فقال: من كتب هذا من قولي؟ قلتُ: الكاتب الذي كتبه, فلم يزل يحُكُّه بيده, حتى درس, ثم قال: ومن أنا حتى يُكتب قولي".



وفي هذا أدبٌ حسن, للَّذين يُزاحمون العلماء, والأعلامَ, بأقوالهم, ويُوهمونهم, وهم بعدُ لم يُحصِّلوا القدرَ الواجب من العلوم الشرعيَّة.



قال الحسنُ: وزوَّجَ النضر بن محمد ولده, ودعا ابن المبارك, فلمَّا جاء, قام ابنُ المبارك ليخدُم الناس, فأبى النَّضرُ أن يدعه, وحلفَ عليه, حتى جلس.



وقال الحسنُ أيضاً: وكانت دار ابن المبارك بمرو, كبيرةَ صحن الدار, نحو خمسين ذراعاً في خمسين ذراعاً, فكنت لا تحبُّ أن ترى في داره صاحبَ علم, أو صاحبَ عبادة, أو رجلاً له مروءة وقدرٌ بمرو, إلا رأيته في داره, يجتمعون في كلِّ يومٍ حِلَقَاً, يتذاكرون, حتى إذا خرج ابنُ المبارك, انضمُّوا إليه, فلمَّا صار ابن المبارك بالكوفة, نزل في دار صغيرة, وكان يخرج إلى الصلاة؛ ثم يرجع إلى منزله, لا يكادُ يخرج منه, ولا يأتيه كثير أحد, فقلت له: يا أبا عبدالرحمن, ألا تستوحش هاهنا, مع الَّذي كنت فيه بمرو؟ فقال: إنَّما فررت من مرو؛ فقال إنما فررت من مرو، من الذي تُراك تُحبُّه وأحببتُ ما هاهنا للذي أراك تكرهُه لي، فكنت بمرو لا يكون أمرٌ إلا أتوني فيه ولا مسألةٌ إلا قالوا: اسألوا ابن المبارك، وأنا ها هنا في عافيةٍ من ذلك".



قال: "وكنتُ مع ابن المبارك يوماً، فأتينا على سقايةٍ, والناس يَشربون منها, فدنا منها ليشرب, ولم يعرفه الناس؛ فزحموه ودفعوه, فلمَّا خرج قال لي: ما العيشُ إلا هكذا؛ يعني من حيث لم نُعرف, ولم نُوقَّر".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

زياد علي

زياد علي محمد