"كان علماء القرن الماضي والقرون المتأخرات قبله علماء رواية ونقل يفهمون ما تركه السلف، ولكن لا يزيدون عليه ولا يستطيعون أن يأتوا بمثله، ولذلك تقرؤون في ترجمة الواحد منهم، أنه قرأ كتاب كذا وكذا، فالشيخ أبو اليسر عابدين رحمه الله، كان نموذجاً لهؤلاء العلماء، ولكنه كان نموذجاً كاملاً، قرأ على أبيه الشيخ أبو الخير عابدين رحمهما الله، الحاشية بأجزائها الخمسة الكبـار ثلاث مرات، وأقـرأها من بعد أكثر من ثلاث عشـرة مرة وقرأ العشرات من الكتب، لاكما قرأت أنا قراءة سرد لأعرف ما فيها ولأرجع عند الحاجة إليها..."
كلمات للشيخ علي الطنطاوي
تلميذ الشيخ أبو اليسر عابدين رحمهما الله
فمن هو الشيخ الطبيب أبو اليسر عابدين الذي وصفه الشيخ علي بالنموذج الكامل لعلماء القرن الماضي؟؟
إخوتي
إن العلماء هم مشاعل نور تضيء للناس طريق الخير والصلاح والرقي، ويشع نورهم على امتداد الأجيال، فهم الموئل والمرجع في الأزمات والمشكلات، وهم المورد والمنبع للارتواء.
فالإنسان عمره محدود، مهما بلغ من الكبر عتياً، ولسوف يدركه الموت ولو بعد حين.
فكيف السبيل ؟؟
هناك بعض من الناس من تمتد حياتهم إلى ما بعد الموت، ليبقوا أحياء على مر العصور، فينتفع بهم الناس إلى ما شاء الله، فعلمهم فياض وهم في القبور مع الأجداث، تصديقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
ومن هنا أدعوكم أخوتي الكرام، ومن خلال هذا المنبر الكريم، لقراءة سيرة العلامة الطبيب الشيخ أبو اليسر عابدين مفتي الشام في عصره رحمه الله.
لقد بلغت شهرته الآفاق، وانتشرت ما بين مشرق الأرض ومغربها، كعالم موسوعي من علماء أمتنا الإسلامية، والذي يجب أن نتوجه إلى دراسة سيرته باهتمام طلباً للإفادة، فلنقرأ الفاتحة إلى روحه الطاهرة.
لمحة عن عصره:
عاش شيخنا الجليل في القرن العشرين، وعاصر بدايات التآمر الاستعماري على الوطن العربي، فشهد أحداث هامة عصفت بالعالم الإسلامي، والأحداث هي:
أفول الحكم العثماني، وظهور الاستعمار الحديث وتقسيمه للوطن العربي، وظهور الكيان الصهيوني في فلسطين، وإقامته للدولة الصهيونية المغتصبة للأرض.
هذا وما زالت تعصف بالأمة الإسلامية، خطر المؤامرات وبأشكال شتى، وبعناوين براقة مختلفة، أتقن فنون حبكها العدو المتآمر، نسأل الله العظيم السلامة والعافية.
وهكذا فالعصر الذي عاصره الشيخ أبو اليسر رحمه الله، يكاد يشبه عصرنا الحالي، فما هو المطلوب منا تجاه ذلك؟
إن المطلع دوماً لقراءة تاريخنا الإسلامي، رغبة الوقوف عبرة وعظة، ومستفيداً بتجنب أخطاء من سبقونا في هذه الحياة، والتعلم للعمل من علماءنا الأفاضل والأولياء الأكابر، الذين جعلوا من منهج سلفنا الصالح منهجاً لهم يسيروا عليه، هذا القارئ المستفيد لهو جديرٌ بالاحترام والتقدير، لقوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).
أرجو الله عز وجل أن نكون من هؤلاء ويوفقنا لذلك، اللهم آمين.
ولادته ونسبه:
ولد الشيخ أبو اليسر في بيتٍ جمع من الصفات قل ما تُجمع في أسرة واحدة، عُرف هذا المحضن الأسري لهذا الشيخ الجليل، بالكرم والجود والعلم والعمل وحب مجالسة العلماء والأولياء الصالحين، حيث كان لوالده الشيخ محمد أبو الخير عابدين رحمه الله مكانة ومنزلة في قلوب معاصريه، وأخذ الشيخ أبو الخير العلم عن والده أيضاً الشيخ أحمد كما أخذ العلم عن كبار علماء عصره، وأجيز بما قرأه على يد علماء عصره في الفقه والحديث واللغة وسائر العلوم الشرعية، وعُين مفتياً للشام - سورية ولبنان والأردن وفلسطين -، وقلدته الحكومة العثمانية أعلى المراتب العلمية "رتبة استنابول".
وحين دخول الأمير فيصل بن الحسين دمشق، بويع ليكون ملكاً على سورية، فبايعه الشيخ أبو الخير، وقال له: "أيها الأمير! إن لكل أمير بطانتان، بطانة تزين له الحق وتحضه عليه وبطانة تزين له الباطل وتحضه عليه، فعليك ببطانة الخير !!". وقد اعتبر ممن حضر أن هذا تعريض به، فحث الأمير فيصل، وأقصى الشيخ أبو الخير عن الإفتاء سنة 1919، وبعد انتهاء حكم الملك فيصل عُين الشيخ أبو الخير مميزاً للأحكام التي تصدر عن المحاكم رحمه الله.
في هذا البيت الفاضل والمعروف بالحسب والنسب ولد ونشأ وتربي شيخنا الشيخ أبو اليسر عابدين.
واسمه: محمد أبو اليسر بن محمد أبي الخير بن أحمد بن عبد الغني بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم بن نجم الدين بن محمد صلاح الدين الشهير بعابدين، وقد أطلق عليه هذا اللقب لصلاحه، ومعناه: الولي الصالح الجامع بين الشريعة والحقيقة، وميلاده 1189 - 1252ه، 1748 - 1836 م.
ومن هذه الأسرة والشجرة الكريمة المشهورة ببيت وآل عابدين، فقيه الحنفية وعالمهم بالشام، السيد محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم بن نجم الدين بن محمد صلاح الدين الشهير بـ "عابدين"، فيلتقي نسب محمد أمين مع الشيخ أبو اليسر عند عمر.
وقد عُرف محمد أمين بـ "ابن عابدين" وهي الشهرة تعود إلى جده السيد الشريف محمد صلاح الدين كما ذكرنا أعلاه، الذي أطلق عليه هذا اللقب لصلاحه.
تتلمذ ابن عابدين على يد الشيخ محمد شاكر العقاد، وكان شيخه يتفرس فيه الخير، وأحضره دروس أشياخه كالشيخ محمد كردي والشيخ أحمد العطار فأخذ ممن حضر درسه أجازة.
اصطحبه الشيخ العقاد مرة لزيارة الشيخ محمد عبد النبي الذي قدم من الهند زائراً فلما دخل عليه وجلس الشيخ العقاد، بقي ابن عابدين في العتبة واقفاً بين يدي شيخه حاملاً نعله بيده، كما هي عادته مع شيخه، فقال الشيخ عبد النبي للعقاد: مُرْ هذا الغلام فليجلس فإني لا أجلس حتى يجلس، ثم قال الشيخ: ستقبَّل يده ويُنتفع بفضله في سائر البلاد، وعليه نور أهل بيت النبوة.
وأشهر كتبه الكتاب المعروف باسم "حاشية ابن عابدين" وهو حاشية على "رد المختار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار" وهذا الكتاب عمدة المذهب الحنفي وأكثرها شهرة رحمه الله.
وقد أعقب محمد أمين ابناً هو محمد علاء الدين عابدين المولود في سنة 1244هـ حيث أخذ العلم عن والده، وكان للشيخ علاء الدين دور في تأسيس المكتبة الظاهرية، وبذلك حافظ من الضياع الكتب الموقوفة وجعلها متاحة للعموم للاستفادة منها. كما اشترك الشيخ علاء الدين في تأليف "مجلة الأحكام العدلية" التي صارت مرجع الحكام في أحكامهم كالقانون المدني، كما ألف كتاباً أسماه "الهدية العلائية" اختصر فيه أحكام العبادات والعقيدة، وساهم مع ابن عمه الشيخ أحمد عبد الغني عابدين في تأليف تكملة حاشية ابن عابدين.
هذا ويعود نسب الأسرة الشريفة إلى نسب الحسين رضي الله عنه. في ظل هذه الأسرة الشريفة وبين أحضانها ولد ونشأ الشيخ أبو اليسر عابدين، فكان خير خلفٍ لخير سلف، وسُطرت سيرته بماء الذهب، فقد أتقن فنون العلم الشرعي وبرع في العلم الدنيوي، فكان شيخاً ومدرساً وطبيباً ومفتي البلاد.
فأي روعة وأي جمال وجلال هي سيرته، هذا ما ينبغي أن ندركه نحن المسلمين وياللأسف، أن لا نفصل العلم الديني عن العلم الدنيوي، فمن أدرك وعمل ضمن هذا المفهوم، فقد فاز ونال فرصة المباهاة الحقيقية التي تناله من سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله الشريف: (تناكحوا تكاثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة).
نشأته العلمية والروحية:
فالشيخ أبو اليسر عابدين - رحمه الله - تعلم العلم الشرعي وأتقنه، ثم انصرف للعلم الدنيوي فدرس الطب، وكان مدرساً في كليتي الحقوق والشريعة، كان حريصاً في استغلال وقته وحياته، إما تلميذاً وطالب علم، أو مدرساً وطبيباً ومفتياً، جعل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم عنوناً لمسيرته، فكان يعشق النبي ويرجوا الله أن يباهي النبي به يوم القيامة.
هذا الفهم والإدراك المقدس العالي هو ما نحتاجه في بيوتنا، ولن نصل إلى هذا الإدراك إلا بتعظيم لشرع الله وحب الله، وتعظيم واحترام لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أراده الله عز وجل لنا في الأرض كقدوة لنا (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ).
ولد الشيخ أبو اليسر في حي سوق ساروجة بدمشق، في عام 1307هـ - 1889م. تعلم القراءة والكتابة في مدرسة جامع الشامية في حي ساروجة بدمشق، الذي كان يشرف عليه عمه الصلبي الشيخ راغب عابدين، ثم أخذ علوم الفقه والحديث واللغة والمعقول عن والده الشيخ أبي الخير وكبار علماء دمشق، منهم: الشيخ بدر الدين الحسني، والشيخ سليم سماره، والشيخ أمين سويد، وأجازه كل من أخذ عنه إجازة سماع ورواية إلى صاحب المذهب والكتب التي قرأها عليهم، وكان أكثر انتفاعاً ولده خاصة بالفقه والنحو.
ذكرنا ومر معنا أن الشيخ أبو اليسر رحمه الله كان حريصاً في المحافظة على صفة الطالب أو طالب العلم، فقد حفظ وأدرك وعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم). فقد شاهده أخوه القاضي مرشد عابدين، يحمل كتاب "المسايرة" لابن الهمام، فسأله إلى أين ؟ فقال الشيخ أبو اليسر: إلى الشيخ بدر الدين المغربي الحسني لأقرأ عليه قسماً من هذا الكتاب، لأبقى متصفاً بصفة طالب العلم، لأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم.
الله الله ما أروع وأجمل أن ينشأ أولادنا وهم يحملون في أرواحهم نسمات قدسية لمعاني هذه الأحاديث، ولا نكون من الذين يقرؤون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسطحية وغفلة عن فهم أسرار هذه المعاني الجليلة، ينبغي لكل أب مسلم أو أم مسلمة أن تذكُر هذه الأحاديث لأولادنا بحب مغلف بالصدق والتصديق لكلام النبي الكريم، راجين الله عز وجل أن يكرم أولادنا لفهم هذه المعاني السامية، فعندما يرتبط أبناؤنا بهذه المعاني سيعم الخير والصلاح والفلاح في جميع الأسر المسلمة، ومن ثم على المجتمع بأكمله. نسأل الله عز وجل أن يدركنا قبل فوات الأوان.
ومن تلاميذه:
أما الشيخ أبو اليسر الذي لم يفوت فرصة واحدة من عمره إلا واستغلها بعلم وعمل، فقد قرأ عليه علماء من دمشق، كالشيخ سعيد الأفغاني، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ إبراهيم اليعقوبي، والشيخ محمد كريم راجح، والشيخ أديب الكلاس، والشيخ نزار الخطيب، والشيخ بشير الباري، والشيخ عدنان الشماع، وولده الشيخ محمد عزيز عابدين، والحاجة إنعام الحمصي، والحاجة إلهام برنجكجي، وغيرهم من علماء الشام رحمهم الله.
فجزاك الله خيراً يا شيخنا الجليل وهنيئاً لك بما علمت وعملت ونفعت أمم بعد أن انتفعت في محضنك الأسري الإسلامي والموفق من الله تعالى. فكنت نعم الولد الصالح لأهلك ولغيرك ولوطنك، حفظت الجميل ورددته بإحسان أكبر وأجمل، لقوله تعالى: (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) رحمك الله تعالى.
إن في نشأت الشيخ أبو اليسر عابدين ورعايته من قبل والديه سرٌّ عظيم مفقود للأسف، أو يغفل عنه معظم الأسر المسلمة، رغم أن هذا الأمر والذي ندعوه بالسر العظيم، هو ضروري ضرورة الماء والهواء للإنسان، هل عرفتم ما هو ؟؟!
إنها تربية التقوى والمخافة من الله عز وجل بحب وعشق لله عز وجل، وليس مخافة زجر ونهيٍ بقسوة وغلظة، فإن من نال رعاية وتربية ضمن هذه المعاني، سيكون عاقبة ذلك الخير لنفسه ولغيره ولمجتمعه.
التصـــــــوف عند الشيخ:
والشيخ أبو اليسر ـ رحمه الله ـ دأب أهله منذ الصغر على تحصيله وإمتاعه بجلسات ذكر لله عز وجل، في خصوصية وقدسية تنالها هذه الجلسات، والتي يمكن أن نسميها بالتصوف أو العمل للوصول إلى مرتبة الإحسان، التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). هذه النشأة التي نشأ وترعرع وكبر عليه الشيخ، هي سر روعة شخصيته الشريفة.
فقد أخذ من والده الشيخ أبي الخير عابدين رحمه الله، الطريقة النقشبندية المتصل ذلك بصاحب الحاشية، حاشية ابن عابدين، والمتصل ذلك بصاحب الطريق شيخه الشيخ خالد النقشبندي رحمهم الله تعالى، كما جاء في كتاب عقود اللآلي.
بهذا السر المفقود اليوم بين الأسر المسلمة، تعلم وعمل الشيخ أبو اليسر، فبعد العلوم الشرعية، درس في المدارس النظامية، التي مهدت دخول الطب في الجامعة السورية، والتي كانت تسمى بمعهد الطب.
فعندما تخرج عام 1345هـ - 1926م، نال التعادل الكولكيوم / الفرنسية، وقد برع وأتقن اللغة الفرنسية والتركية، وتعلم الفارسية الفصحى، فحفظ من شعرها ما يقارب ألف بيت.
ما أروع هذه السطور التي تفيض بمعاني متنوعة من الرقي، المعنونة بأن يكون لأخر لحظة من حياته متعلماً وطالب علم.
وظائفه ومناصبه:
قبل المضي في الحديث عن مناصبه، لابد أن نذكر بعض من صفاته، فقد تمتع الشيخ أبو اليسر عابدين بقوة الشخصية والرأي، ورجاحة العقل، مع فصاحة الكلام، وتواضعاً بين الناس في خشية الله عز وجل عن حب وتعظيم، جعلته محبوباً ومقرباً من الناس، حيث غلبت على ملامح وجهه الود والحب والحنان والشفقة على العباد، متمثلاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الخلق كلهم عيال الله عز وجل ، فأحبهم إلى الله عز وجل أنفعهم لعياله).
وقد نال من بركة دعاء الصالحين من العلماء والوافدين إلى زيارة والده، أو برفقة والده لمجالس العلم في المساجد والبيوت. رحم الله والد هذا الشيخ، وجزاه الله الخير، كان لولده قدوة حسنة، ساهمت في بناء شخصية الشيخ أبو اليسر رحمه الله. هذه الوسيلة التربوية التي جعلها الله عز وجل بين أيدينا لنستغلها أفضل استغلال. فحب التقليد جعله الله عز وجل مفطورين ومجبولين عليه، ليكون وسيلة تربوية هامة. والقدوة: هي غريزة نابعة من النفس البشرية وهي كامنة ومخفية تظهر كرغبة ملحة للتقليد. وليحذر الآباء والأمهات في سلوكهم، وليكونوا قدوة خير للأولاد، ولهم من بعد ذلك الأجر والثواب من عند الله عز وجل، لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)
أمـا عن مناصبــــه:
مارس مهنة الطب ثلاثين عاماً بعد التخرج، وعُين مدرساً لمادة الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق عندما كان تلميذ يدرس الطب، وقد كلف بإلقاء محاضرات بالأحوال الشخصية، وأصول الفقه، ومحاضرات في كلية الشريعة، وأسهم في تأسيس الكلية الشريعة، في حي العمارة وكان عميدها عندما كان مديرها الشيخ حسن الشطي.
ثم انصرف للعلم والتعليم والإفتاء، فترك مهنة الطب عندما أصبح مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية 7/ 4/1952م، ثم أنتخب فأصبح مفتياً أصيلاً بتاريخ 12/6/1954م، ثم انتهت خدمته بتاريخ 16/8/1961م، بعد الوحدة مع المصر، لرفضه إعطاء فتوى شرعية تؤيد جمال عبد الناصر للتأميم، وكان الإصرار من الرئيس في أخذ فتواه قائلاً: "أريدها من ابن عابدين"، فقال الشيخ: "ليس لك إلا هذه الفتوى، ووالله لا أبيع ديني بدنياي ولا بدنيا غيري". فسجل التاريخ للشيخ هذا الموقف الديني والوطني المشرف له أمام الله عز وجل.
ثم أعيد للإفتاء بمرسوم 121 بتاريخ 28/10/1961م، وبقي في منصبه هذا حتى عام 1963م، وعندما أحيل للتقاعد، لزم وظائفه الدينية من خطابة وتدريس في جامع برسباي المعروف بجامع الورد، فقد كان إمامه بعد وفاة والده، وبقي كذلك إلى حين وفاته، وكان يعقد حلقة تدريس في داره في يومي الثلاثاء والجمعة من كل أسبوع.
وقد ورث عن والده مكتبة كبيرة، أضاف إليها ما استطاع من نوادر الكتب المطبوعة والمخطوطة.
ومن أعماله الوطنية التي شهدت له وسجلها له التاريخ في سطور كتبت بماء الذهب، وضاءة لامعة، حيث تخبرنا:
أن الشيخ أبو اليسر عابدين رحمه الله قد شارك في شبابه بالثورة الســـورية الكبرى 1925م، وبماذا شارك؟شارك بماله ونفسه ورأيه...، حمل السلاح ليلاً إلى الثوار، لإجلاء الاستعمار الفرنسي عن البلاد. تبرع بدمه عند الحاجة إلى ذلك، شارك بحمل السلاح عند نكبة فلسطين عام 1948 م. كان رئيس لجنة التسلح أيام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، ورئيس جمعية الفقراء في حي ساروجة بالعمارة، إخوتي الأعزاء لابد أن هذا التنوع في مناصبه، ووظائفه وأعماله المشرفة، لم تكن وليدة الصدفة، أو على قول في متاهة التشتت والضياع اليقيني بقول الله عز وجل:( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
إذا تمعنا في سيرته الكريمة، نجد أن هذا التنوع المشرف، والذي سوف يُباهي به الرسول صلى الله عليه وسلم، قد كان ثمرة عوامل عدة:
أولها نية صادقة ومخلصة جمعت بين والدي الشيخ أبو اليسر رحمهم الله فمن أدرك الدرس الأول في الزواج والإنجاب، وهو مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الذرية، وإذا سألتم النبي صلى الله عليه وسلم، من أين لنا المنهج أو الطريقة في تربية الأبناء؟ يجيبنا نبينا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا). فليسأل كل منا بماذا تمسكنا في الزواج أم في الإنجاب...؟ وإذا وصلنا إلى مرحلة الاعتراف ومواجهة الذات والنفس الأمارة بالسوء، فلنبدأ بعودة مع نفوسنا، ونلومها ونتوب ثم نجتهد في إصلاح هذه النية التي بدأنا فيها عن جهل أو غفلة، ونجدد العهد مع الله عز وجل في كل فرض صلاة، وندعوه برجاء أو تذلل أن يوفقنا لذلك مع الدعاء المستمر في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً). هذا الكلام يوصلنا إلى أهمية المحضن الأسري وضرورة العمل مع الاجتهاد لتصحيح وتصويب أخطاء وقعت، ونسميه بالإصلاح التربوي. أما من قام بما يحب الله ورسوله سواء في زواجه أم بإنجابه، نسميه بالوقاية التربوية. أي عملية تحصين من براثن الشيطان وضلالاته. والأمر الآخر الذي مهد لهذا التنوع الجميل في شخصية شيخنا أبو اليسر عابدين رحمه الله كما مر معنا: مفتي، طبيب، مدرس، تلميذ، رئيس جمعية، عميد كلية، ..... رحمه الله هو: مجالسته للصالحين من العلماء والأولياء، بحب واحترام وتقدير، وبتواضع لهم، ولجميع الناس، حيث أشتهر بتواضعه بينهم في المأكل والملبس والحياة العامة. نال كثيراً من الدعاء، من خاصة العلماء، وعامة الناس رحمه الله. وهذه المحبة التي نالها وجعل الله عز وجل له القبول في الأرض، هي أيضاً ليست صدفة يا إخوتي... فالشيخ أبو اليسر عابدين - رحمه الله - حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم ومارسه سلوكاً وعملاً، فجعل الله عز وجل له قبول في الأرض أتعلمون ما هو هذا الحديث؟ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الخلق كلهم عيال الله عز وجل ، فأحبهم إلى الله عز وجل أنفعهم لعياله). وليس هذا الحديث فقط، هناك أحاديث: كثيرة تدلنا كيف ننال حب الله عز وجل، وحب نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد مارسها شيخنا سلوكاً وعملاً، فكانت أعماله وصفاته بين الناس تشهد له على ذلك رحمه الله.لقد فقه الدعاء التالي وهو: "اللهم اجعلني خير خلف لخير سلف". ومضى في حياته الدنيوية يتلمس الخير في كل قول وعمل، جاعلاً الدنيا خادمة لدينه... رحمه الله.ورزقنا الله عز وجل فهماً يليق بهذا الدعاء، اللهم اجعلنا خير خلف لخير سلف... اللهم آمين.
مؤلفات الشيخ أبو اليسر عابدين:
أما عن مؤلفاته المتنوعة أيضاً، وقد تركها لتكون محققة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). قد خط العديد من المؤلفات القيمة في الفقه واللغة والتاريخ والأدب والنحو والتفسير، تزيد على 30 مؤلفاً ضمتها عصارة فكره. فمن مؤلفاته الكثيرة والمتنوعة، تنوع ثقافته الرائعة والمواكبة لعصره، "أغاليط المؤرخين"، "لم سمي"، "رسالة في القراءة والقراءات"، "رسالة الأوراد"، "أصول الفقه"، "كتاب الفرائض"، "أحكام الوصايا" و"إرشادات الأنام إلى أحكام الصيام " و"أكاذيب مسيلمة الكذاب"، و"مختصر أحكام الزواج" و"الفوائد الجليه لأرباب النفوس العلية" و"الهداية السنية في حكايات الصوفية" و"عمدة المفتين في فتاوى ابن عابدين" و"محاضرات في علم الأحوال".
كما طبع له بعد وفاته عدة كتب جمعها وألفها في حياته، منها كتاب "آيات الإعجاز" وكتاب "قطوف دانية من شجرة الحكم العالية" وكتاب "الأعداد من القرآن والأحاديث للأخبار" و"الصيام بين الشريعة والطب" و"الخطب المنبرية" و"البداهة في النباهة " و"المعمرون" وغيرها من الكتب الكثيرة والفتاوى النادرة والتي لا تزال مخطوطة بدائرة الإفتاء بوزارة الأوقاف.
هذا وإن كتاب "الأوراد الدائمة" والذي يعرفه الكثير منا، والمطلع عليه سيجد شفافية وروحانية شيخنا الجليل بين سطور ذلك الكتاب - رحمه الله تعالى وجزاه عنا كل خير ـ.
وفاته:
نأتي إلى نهاية كل سيرة وترجمة، ألا وهي الوفاة، وليس فينا أحد معصوم عن هذا المشهد الأخير في حياته، ولكن شتان بين نهاية ونهاية، نسأل الله حسن الختام.
بقي الشيخ رحمه الله في التدريس، والإمامة إلى أن أدركته الشيخوخة وهزل جسمه وضعف بصره، وتناولته الأوجاع، لزم بيته إلى يوم وفاته يوم الثلاثاء 8 رجب، 2 أيار،في عام1401 ھ، 1981م.حيث صُلي عليه بجامع الورد، ودفن بمقبرة الباب الصغير وفي قبر والده رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته، اللهم آمين آمين.
ماذا بعد يا إخوتي الأعزاء...؟لا زلنا على قيد الحياة ولم تطوى صحيفتنا بعد، ولنستغل حياتنا ووقتنا فيما ينفع ويفيد لأنفسنا ولغيرنا، ويكون هذا شغلنا الشاغل، أقوالاً وأعمالاً، ونلتزم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا : كتاب الله، وسنة نبيه).
ولنوقظ جوارحنا ونستصرخها للعمل مع المثابرة بالصبر والدعاء، رجاء أن ينالنا شرف القرب والرضى من الله ورسوله، اللهم آمين.
وهكذا فقد كان من سيرة الشيخ أبو اليسر عابدين ـ رحمه الله ـ فضل كبير علي، إذ أدخلني في محراب العبودية لله عز وجل دعاءً، وبمنهج نبيه تمسكاً، فجزاك الله خيراً كثيراً، يا شيخنا الفاضل، ولقد صدق ابن الوردي في لاميته المشهورة:
لا تقل أصلي وفصلي أبداً إنما أصل الفتى ما قد حصل
كلمات للشيخ علي الطنطاوي
تلميذ الشيخ أبو اليسر عابدين رحمهما الله
فمن هو الشيخ الطبيب أبو اليسر عابدين الذي وصفه الشيخ علي بالنموذج الكامل لعلماء القرن الماضي؟؟
إخوتي
إن العلماء هم مشاعل نور تضيء للناس طريق الخير والصلاح والرقي، ويشع نورهم على امتداد الأجيال، فهم الموئل والمرجع في الأزمات والمشكلات، وهم المورد والمنبع للارتواء.
فالإنسان عمره محدود، مهما بلغ من الكبر عتياً، ولسوف يدركه الموت ولو بعد حين.
فكيف السبيل ؟؟
هناك بعض من الناس من تمتد حياتهم إلى ما بعد الموت، ليبقوا أحياء على مر العصور، فينتفع بهم الناس إلى ما شاء الله، فعلمهم فياض وهم في القبور مع الأجداث، تصديقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
ومن هنا أدعوكم أخوتي الكرام، ومن خلال هذا المنبر الكريم، لقراءة سيرة العلامة الطبيب الشيخ أبو اليسر عابدين مفتي الشام في عصره رحمه الله.
لقد بلغت شهرته الآفاق، وانتشرت ما بين مشرق الأرض ومغربها، كعالم موسوعي من علماء أمتنا الإسلامية، والذي يجب أن نتوجه إلى دراسة سيرته باهتمام طلباً للإفادة، فلنقرأ الفاتحة إلى روحه الطاهرة.
لمحة عن عصره:
عاش شيخنا الجليل في القرن العشرين، وعاصر بدايات التآمر الاستعماري على الوطن العربي، فشهد أحداث هامة عصفت بالعالم الإسلامي، والأحداث هي:
أفول الحكم العثماني، وظهور الاستعمار الحديث وتقسيمه للوطن العربي، وظهور الكيان الصهيوني في فلسطين، وإقامته للدولة الصهيونية المغتصبة للأرض.
هذا وما زالت تعصف بالأمة الإسلامية، خطر المؤامرات وبأشكال شتى، وبعناوين براقة مختلفة، أتقن فنون حبكها العدو المتآمر، نسأل الله العظيم السلامة والعافية.
وهكذا فالعصر الذي عاصره الشيخ أبو اليسر رحمه الله، يكاد يشبه عصرنا الحالي، فما هو المطلوب منا تجاه ذلك؟
إن المطلع دوماً لقراءة تاريخنا الإسلامي، رغبة الوقوف عبرة وعظة، ومستفيداً بتجنب أخطاء من سبقونا في هذه الحياة، والتعلم للعمل من علماءنا الأفاضل والأولياء الأكابر، الذين جعلوا من منهج سلفنا الصالح منهجاً لهم يسيروا عليه، هذا القارئ المستفيد لهو جديرٌ بالاحترام والتقدير، لقوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).
أرجو الله عز وجل أن نكون من هؤلاء ويوفقنا لذلك، اللهم آمين.
ولادته ونسبه:
ولد الشيخ أبو اليسر في بيتٍ جمع من الصفات قل ما تُجمع في أسرة واحدة، عُرف هذا المحضن الأسري لهذا الشيخ الجليل، بالكرم والجود والعلم والعمل وحب مجالسة العلماء والأولياء الصالحين، حيث كان لوالده الشيخ محمد أبو الخير عابدين رحمه الله مكانة ومنزلة في قلوب معاصريه، وأخذ الشيخ أبو الخير العلم عن والده أيضاً الشيخ أحمد كما أخذ العلم عن كبار علماء عصره، وأجيز بما قرأه على يد علماء عصره في الفقه والحديث واللغة وسائر العلوم الشرعية، وعُين مفتياً للشام - سورية ولبنان والأردن وفلسطين -، وقلدته الحكومة العثمانية أعلى المراتب العلمية "رتبة استنابول".
وحين دخول الأمير فيصل بن الحسين دمشق، بويع ليكون ملكاً على سورية، فبايعه الشيخ أبو الخير، وقال له: "أيها الأمير! إن لكل أمير بطانتان، بطانة تزين له الحق وتحضه عليه وبطانة تزين له الباطل وتحضه عليه، فعليك ببطانة الخير !!". وقد اعتبر ممن حضر أن هذا تعريض به، فحث الأمير فيصل، وأقصى الشيخ أبو الخير عن الإفتاء سنة 1919، وبعد انتهاء حكم الملك فيصل عُين الشيخ أبو الخير مميزاً للأحكام التي تصدر عن المحاكم رحمه الله.
في هذا البيت الفاضل والمعروف بالحسب والنسب ولد ونشأ وتربي شيخنا الشيخ أبو اليسر عابدين.
واسمه: محمد أبو اليسر بن محمد أبي الخير بن أحمد بن عبد الغني بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم بن نجم الدين بن محمد صلاح الدين الشهير بعابدين، وقد أطلق عليه هذا اللقب لصلاحه، ومعناه: الولي الصالح الجامع بين الشريعة والحقيقة، وميلاده 1189 - 1252ه، 1748 - 1836 م.
ومن هذه الأسرة والشجرة الكريمة المشهورة ببيت وآل عابدين، فقيه الحنفية وعالمهم بالشام، السيد محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم بن نجم الدين بن محمد صلاح الدين الشهير بـ "عابدين"، فيلتقي نسب محمد أمين مع الشيخ أبو اليسر عند عمر.
وقد عُرف محمد أمين بـ "ابن عابدين" وهي الشهرة تعود إلى جده السيد الشريف محمد صلاح الدين كما ذكرنا أعلاه، الذي أطلق عليه هذا اللقب لصلاحه.
تتلمذ ابن عابدين على يد الشيخ محمد شاكر العقاد، وكان شيخه يتفرس فيه الخير، وأحضره دروس أشياخه كالشيخ محمد كردي والشيخ أحمد العطار فأخذ ممن حضر درسه أجازة.
اصطحبه الشيخ العقاد مرة لزيارة الشيخ محمد عبد النبي الذي قدم من الهند زائراً فلما دخل عليه وجلس الشيخ العقاد، بقي ابن عابدين في العتبة واقفاً بين يدي شيخه حاملاً نعله بيده، كما هي عادته مع شيخه، فقال الشيخ عبد النبي للعقاد: مُرْ هذا الغلام فليجلس فإني لا أجلس حتى يجلس، ثم قال الشيخ: ستقبَّل يده ويُنتفع بفضله في سائر البلاد، وعليه نور أهل بيت النبوة.
وأشهر كتبه الكتاب المعروف باسم "حاشية ابن عابدين" وهو حاشية على "رد المختار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار" وهذا الكتاب عمدة المذهب الحنفي وأكثرها شهرة رحمه الله.
وقد أعقب محمد أمين ابناً هو محمد علاء الدين عابدين المولود في سنة 1244هـ حيث أخذ العلم عن والده، وكان للشيخ علاء الدين دور في تأسيس المكتبة الظاهرية، وبذلك حافظ من الضياع الكتب الموقوفة وجعلها متاحة للعموم للاستفادة منها. كما اشترك الشيخ علاء الدين في تأليف "مجلة الأحكام العدلية" التي صارت مرجع الحكام في أحكامهم كالقانون المدني، كما ألف كتاباً أسماه "الهدية العلائية" اختصر فيه أحكام العبادات والعقيدة، وساهم مع ابن عمه الشيخ أحمد عبد الغني عابدين في تأليف تكملة حاشية ابن عابدين.
هذا ويعود نسب الأسرة الشريفة إلى نسب الحسين رضي الله عنه. في ظل هذه الأسرة الشريفة وبين أحضانها ولد ونشأ الشيخ أبو اليسر عابدين، فكان خير خلفٍ لخير سلف، وسُطرت سيرته بماء الذهب، فقد أتقن فنون العلم الشرعي وبرع في العلم الدنيوي، فكان شيخاً ومدرساً وطبيباً ومفتي البلاد.
فأي روعة وأي جمال وجلال هي سيرته، هذا ما ينبغي أن ندركه نحن المسلمين وياللأسف، أن لا نفصل العلم الديني عن العلم الدنيوي، فمن أدرك وعمل ضمن هذا المفهوم، فقد فاز ونال فرصة المباهاة الحقيقية التي تناله من سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله الشريف: (تناكحوا تكاثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة).
نشأته العلمية والروحية:
فالشيخ أبو اليسر عابدين - رحمه الله - تعلم العلم الشرعي وأتقنه، ثم انصرف للعلم الدنيوي فدرس الطب، وكان مدرساً في كليتي الحقوق والشريعة، كان حريصاً في استغلال وقته وحياته، إما تلميذاً وطالب علم، أو مدرساً وطبيباً ومفتياً، جعل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم عنوناً لمسيرته، فكان يعشق النبي ويرجوا الله أن يباهي النبي به يوم القيامة.
هذا الفهم والإدراك المقدس العالي هو ما نحتاجه في بيوتنا، ولن نصل إلى هذا الإدراك إلا بتعظيم لشرع الله وحب الله، وتعظيم واحترام لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أراده الله عز وجل لنا في الأرض كقدوة لنا (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ).
ولد الشيخ أبو اليسر في حي سوق ساروجة بدمشق، في عام 1307هـ - 1889م. تعلم القراءة والكتابة في مدرسة جامع الشامية في حي ساروجة بدمشق، الذي كان يشرف عليه عمه الصلبي الشيخ راغب عابدين، ثم أخذ علوم الفقه والحديث واللغة والمعقول عن والده الشيخ أبي الخير وكبار علماء دمشق، منهم: الشيخ بدر الدين الحسني، والشيخ سليم سماره، والشيخ أمين سويد، وأجازه كل من أخذ عنه إجازة سماع ورواية إلى صاحب المذهب والكتب التي قرأها عليهم، وكان أكثر انتفاعاً ولده خاصة بالفقه والنحو.
ذكرنا ومر معنا أن الشيخ أبو اليسر رحمه الله كان حريصاً في المحافظة على صفة الطالب أو طالب العلم، فقد حفظ وأدرك وعمل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم). فقد شاهده أخوه القاضي مرشد عابدين، يحمل كتاب "المسايرة" لابن الهمام، فسأله إلى أين ؟ فقال الشيخ أبو اليسر: إلى الشيخ بدر الدين المغربي الحسني لأقرأ عليه قسماً من هذا الكتاب، لأبقى متصفاً بصفة طالب العلم، لأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم.
الله الله ما أروع وأجمل أن ينشأ أولادنا وهم يحملون في أرواحهم نسمات قدسية لمعاني هذه الأحاديث، ولا نكون من الذين يقرؤون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسطحية وغفلة عن فهم أسرار هذه المعاني الجليلة، ينبغي لكل أب مسلم أو أم مسلمة أن تذكُر هذه الأحاديث لأولادنا بحب مغلف بالصدق والتصديق لكلام النبي الكريم، راجين الله عز وجل أن يكرم أولادنا لفهم هذه المعاني السامية، فعندما يرتبط أبناؤنا بهذه المعاني سيعم الخير والصلاح والفلاح في جميع الأسر المسلمة، ومن ثم على المجتمع بأكمله. نسأل الله عز وجل أن يدركنا قبل فوات الأوان.
ومن تلاميذه:
أما الشيخ أبو اليسر الذي لم يفوت فرصة واحدة من عمره إلا واستغلها بعلم وعمل، فقد قرأ عليه علماء من دمشق، كالشيخ سعيد الأفغاني، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ إبراهيم اليعقوبي، والشيخ محمد كريم راجح، والشيخ أديب الكلاس، والشيخ نزار الخطيب، والشيخ بشير الباري، والشيخ عدنان الشماع، وولده الشيخ محمد عزيز عابدين، والحاجة إنعام الحمصي، والحاجة إلهام برنجكجي، وغيرهم من علماء الشام رحمهم الله.
فجزاك الله خيراً يا شيخنا الجليل وهنيئاً لك بما علمت وعملت ونفعت أمم بعد أن انتفعت في محضنك الأسري الإسلامي والموفق من الله تعالى. فكنت نعم الولد الصالح لأهلك ولغيرك ولوطنك، حفظت الجميل ورددته بإحسان أكبر وأجمل، لقوله تعالى: (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) رحمك الله تعالى.
إن في نشأت الشيخ أبو اليسر عابدين ورعايته من قبل والديه سرٌّ عظيم مفقود للأسف، أو يغفل عنه معظم الأسر المسلمة، رغم أن هذا الأمر والذي ندعوه بالسر العظيم، هو ضروري ضرورة الماء والهواء للإنسان، هل عرفتم ما هو ؟؟!
إنها تربية التقوى والمخافة من الله عز وجل بحب وعشق لله عز وجل، وليس مخافة زجر ونهيٍ بقسوة وغلظة، فإن من نال رعاية وتربية ضمن هذه المعاني، سيكون عاقبة ذلك الخير لنفسه ولغيره ولمجتمعه.
التصـــــــوف عند الشيخ:
والشيخ أبو اليسر ـ رحمه الله ـ دأب أهله منذ الصغر على تحصيله وإمتاعه بجلسات ذكر لله عز وجل، في خصوصية وقدسية تنالها هذه الجلسات، والتي يمكن أن نسميها بالتصوف أو العمل للوصول إلى مرتبة الإحسان، التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). هذه النشأة التي نشأ وترعرع وكبر عليه الشيخ، هي سر روعة شخصيته الشريفة.
فقد أخذ من والده الشيخ أبي الخير عابدين رحمه الله، الطريقة النقشبندية المتصل ذلك بصاحب الحاشية، حاشية ابن عابدين، والمتصل ذلك بصاحب الطريق شيخه الشيخ خالد النقشبندي رحمهم الله تعالى، كما جاء في كتاب عقود اللآلي.
بهذا السر المفقود اليوم بين الأسر المسلمة، تعلم وعمل الشيخ أبو اليسر، فبعد العلوم الشرعية، درس في المدارس النظامية، التي مهدت دخول الطب في الجامعة السورية، والتي كانت تسمى بمعهد الطب.
فعندما تخرج عام 1345هـ - 1926م، نال التعادل الكولكيوم / الفرنسية، وقد برع وأتقن اللغة الفرنسية والتركية، وتعلم الفارسية الفصحى، فحفظ من شعرها ما يقارب ألف بيت.
ما أروع هذه السطور التي تفيض بمعاني متنوعة من الرقي، المعنونة بأن يكون لأخر لحظة من حياته متعلماً وطالب علم.
وظائفه ومناصبه:
قبل المضي في الحديث عن مناصبه، لابد أن نذكر بعض من صفاته، فقد تمتع الشيخ أبو اليسر عابدين بقوة الشخصية والرأي، ورجاحة العقل، مع فصاحة الكلام، وتواضعاً بين الناس في خشية الله عز وجل عن حب وتعظيم، جعلته محبوباً ومقرباً من الناس، حيث غلبت على ملامح وجهه الود والحب والحنان والشفقة على العباد، متمثلاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الخلق كلهم عيال الله عز وجل ، فأحبهم إلى الله عز وجل أنفعهم لعياله).
وقد نال من بركة دعاء الصالحين من العلماء والوافدين إلى زيارة والده، أو برفقة والده لمجالس العلم في المساجد والبيوت. رحم الله والد هذا الشيخ، وجزاه الله الخير، كان لولده قدوة حسنة، ساهمت في بناء شخصية الشيخ أبو اليسر رحمه الله. هذه الوسيلة التربوية التي جعلها الله عز وجل بين أيدينا لنستغلها أفضل استغلال. فحب التقليد جعله الله عز وجل مفطورين ومجبولين عليه، ليكون وسيلة تربوية هامة. والقدوة: هي غريزة نابعة من النفس البشرية وهي كامنة ومخفية تظهر كرغبة ملحة للتقليد. وليحذر الآباء والأمهات في سلوكهم، وليكونوا قدوة خير للأولاد، ولهم من بعد ذلك الأجر والثواب من عند الله عز وجل، لقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)
أمـا عن مناصبــــه:
مارس مهنة الطب ثلاثين عاماً بعد التخرج، وعُين مدرساً لمادة الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق عندما كان تلميذ يدرس الطب، وقد كلف بإلقاء محاضرات بالأحوال الشخصية، وأصول الفقه، ومحاضرات في كلية الشريعة، وأسهم في تأسيس الكلية الشريعة، في حي العمارة وكان عميدها عندما كان مديرها الشيخ حسن الشطي.
ثم انصرف للعلم والتعليم والإفتاء، فترك مهنة الطب عندما أصبح مفتياً عاماً للجمهورية العربية السورية 7/ 4/1952م، ثم أنتخب فأصبح مفتياً أصيلاً بتاريخ 12/6/1954م، ثم انتهت خدمته بتاريخ 16/8/1961م، بعد الوحدة مع المصر، لرفضه إعطاء فتوى شرعية تؤيد جمال عبد الناصر للتأميم، وكان الإصرار من الرئيس في أخذ فتواه قائلاً: "أريدها من ابن عابدين"، فقال الشيخ: "ليس لك إلا هذه الفتوى، ووالله لا أبيع ديني بدنياي ولا بدنيا غيري". فسجل التاريخ للشيخ هذا الموقف الديني والوطني المشرف له أمام الله عز وجل.
ثم أعيد للإفتاء بمرسوم 121 بتاريخ 28/10/1961م، وبقي في منصبه هذا حتى عام 1963م، وعندما أحيل للتقاعد، لزم وظائفه الدينية من خطابة وتدريس في جامع برسباي المعروف بجامع الورد، فقد كان إمامه بعد وفاة والده، وبقي كذلك إلى حين وفاته، وكان يعقد حلقة تدريس في داره في يومي الثلاثاء والجمعة من كل أسبوع.
وقد ورث عن والده مكتبة كبيرة، أضاف إليها ما استطاع من نوادر الكتب المطبوعة والمخطوطة.
ومن أعماله الوطنية التي شهدت له وسجلها له التاريخ في سطور كتبت بماء الذهب، وضاءة لامعة، حيث تخبرنا:
أن الشيخ أبو اليسر عابدين رحمه الله قد شارك في شبابه بالثورة الســـورية الكبرى 1925م، وبماذا شارك؟شارك بماله ونفسه ورأيه...، حمل السلاح ليلاً إلى الثوار، لإجلاء الاستعمار الفرنسي عن البلاد. تبرع بدمه عند الحاجة إلى ذلك، شارك بحمل السلاح عند نكبة فلسطين عام 1948 م. كان رئيس لجنة التسلح أيام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، ورئيس جمعية الفقراء في حي ساروجة بالعمارة، إخوتي الأعزاء لابد أن هذا التنوع في مناصبه، ووظائفه وأعماله المشرفة، لم تكن وليدة الصدفة، أو على قول في متاهة التشتت والضياع اليقيني بقول الله عز وجل:( وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
إذا تمعنا في سيرته الكريمة، نجد أن هذا التنوع المشرف، والذي سوف يُباهي به الرسول صلى الله عليه وسلم، قد كان ثمرة عوامل عدة:
أولها نية صادقة ومخلصة جمعت بين والدي الشيخ أبو اليسر رحمهم الله فمن أدرك الدرس الأول في الزواج والإنجاب، وهو مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الذرية، وإذا سألتم النبي صلى الله عليه وسلم، من أين لنا المنهج أو الطريقة في تربية الأبناء؟ يجيبنا نبينا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا). فليسأل كل منا بماذا تمسكنا في الزواج أم في الإنجاب...؟ وإذا وصلنا إلى مرحلة الاعتراف ومواجهة الذات والنفس الأمارة بالسوء، فلنبدأ بعودة مع نفوسنا، ونلومها ونتوب ثم نجتهد في إصلاح هذه النية التي بدأنا فيها عن جهل أو غفلة، ونجدد العهد مع الله عز وجل في كل فرض صلاة، وندعوه برجاء أو تذلل أن يوفقنا لذلك مع الدعاء المستمر في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً). هذا الكلام يوصلنا إلى أهمية المحضن الأسري وضرورة العمل مع الاجتهاد لتصحيح وتصويب أخطاء وقعت، ونسميه بالإصلاح التربوي. أما من قام بما يحب الله ورسوله سواء في زواجه أم بإنجابه، نسميه بالوقاية التربوية. أي عملية تحصين من براثن الشيطان وضلالاته. والأمر الآخر الذي مهد لهذا التنوع الجميل في شخصية شيخنا أبو اليسر عابدين رحمه الله كما مر معنا: مفتي، طبيب، مدرس، تلميذ، رئيس جمعية، عميد كلية، ..... رحمه الله هو: مجالسته للصالحين من العلماء والأولياء، بحب واحترام وتقدير، وبتواضع لهم، ولجميع الناس، حيث أشتهر بتواضعه بينهم في المأكل والملبس والحياة العامة. نال كثيراً من الدعاء، من خاصة العلماء، وعامة الناس رحمه الله. وهذه المحبة التي نالها وجعل الله عز وجل له القبول في الأرض، هي أيضاً ليست صدفة يا إخوتي... فالشيخ أبو اليسر عابدين - رحمه الله - حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم ومارسه سلوكاً وعملاً، فجعل الله عز وجل له قبول في الأرض أتعلمون ما هو هذا الحديث؟ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الخلق كلهم عيال الله عز وجل ، فأحبهم إلى الله عز وجل أنفعهم لعياله). وليس هذا الحديث فقط، هناك أحاديث: كثيرة تدلنا كيف ننال حب الله عز وجل، وحب نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد مارسها شيخنا سلوكاً وعملاً، فكانت أعماله وصفاته بين الناس تشهد له على ذلك رحمه الله.لقد فقه الدعاء التالي وهو: "اللهم اجعلني خير خلف لخير سلف". ومضى في حياته الدنيوية يتلمس الخير في كل قول وعمل، جاعلاً الدنيا خادمة لدينه... رحمه الله.ورزقنا الله عز وجل فهماً يليق بهذا الدعاء، اللهم اجعلنا خير خلف لخير سلف... اللهم آمين.
مؤلفات الشيخ أبو اليسر عابدين:
أما عن مؤلفاته المتنوعة أيضاً، وقد تركها لتكون محققة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). قد خط العديد من المؤلفات القيمة في الفقه واللغة والتاريخ والأدب والنحو والتفسير، تزيد على 30 مؤلفاً ضمتها عصارة فكره. فمن مؤلفاته الكثيرة والمتنوعة، تنوع ثقافته الرائعة والمواكبة لعصره، "أغاليط المؤرخين"، "لم سمي"، "رسالة في القراءة والقراءات"، "رسالة الأوراد"، "أصول الفقه"، "كتاب الفرائض"، "أحكام الوصايا" و"إرشادات الأنام إلى أحكام الصيام " و"أكاذيب مسيلمة الكذاب"، و"مختصر أحكام الزواج" و"الفوائد الجليه لأرباب النفوس العلية" و"الهداية السنية في حكايات الصوفية" و"عمدة المفتين في فتاوى ابن عابدين" و"محاضرات في علم الأحوال".
كما طبع له بعد وفاته عدة كتب جمعها وألفها في حياته، منها كتاب "آيات الإعجاز" وكتاب "قطوف دانية من شجرة الحكم العالية" وكتاب "الأعداد من القرآن والأحاديث للأخبار" و"الصيام بين الشريعة والطب" و"الخطب المنبرية" و"البداهة في النباهة " و"المعمرون" وغيرها من الكتب الكثيرة والفتاوى النادرة والتي لا تزال مخطوطة بدائرة الإفتاء بوزارة الأوقاف.
هذا وإن كتاب "الأوراد الدائمة" والذي يعرفه الكثير منا، والمطلع عليه سيجد شفافية وروحانية شيخنا الجليل بين سطور ذلك الكتاب - رحمه الله تعالى وجزاه عنا كل خير ـ.
وفاته:
نأتي إلى نهاية كل سيرة وترجمة، ألا وهي الوفاة، وليس فينا أحد معصوم عن هذا المشهد الأخير في حياته، ولكن شتان بين نهاية ونهاية، نسأل الله حسن الختام.
بقي الشيخ رحمه الله في التدريس، والإمامة إلى أن أدركته الشيخوخة وهزل جسمه وضعف بصره، وتناولته الأوجاع، لزم بيته إلى يوم وفاته يوم الثلاثاء 8 رجب، 2 أيار،في عام1401 ھ، 1981م.حيث صُلي عليه بجامع الورد، ودفن بمقبرة الباب الصغير وفي قبر والده رحمهما الله وأسكنهما فسيح جناته، اللهم آمين آمين.
ماذا بعد يا إخوتي الأعزاء...؟لا زلنا على قيد الحياة ولم تطوى صحيفتنا بعد، ولنستغل حياتنا ووقتنا فيما ينفع ويفيد لأنفسنا ولغيرنا، ويكون هذا شغلنا الشاغل، أقوالاً وأعمالاً، ونلتزم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا : كتاب الله، وسنة نبيه).
ولنوقظ جوارحنا ونستصرخها للعمل مع المثابرة بالصبر والدعاء، رجاء أن ينالنا شرف القرب والرضى من الله ورسوله، اللهم آمين.
وهكذا فقد كان من سيرة الشيخ أبو اليسر عابدين ـ رحمه الله ـ فضل كبير علي، إذ أدخلني في محراب العبودية لله عز وجل دعاءً، وبمنهج نبيه تمسكاً، فجزاك الله خيراً كثيراً، يا شيخنا الفاضل، ولقد صدق ابن الوردي في لاميته المشهورة:
لا تقل أصلي وفصلي أبداً إنما أصل الفتى ما قد حصل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق