أَبُو المُلُوك السُّلطان الغازي فخرُ الدين قره عُثمان خان الأوَّل بن أرطُغرُل بن سُليمان شاه القايوي التُركماني (بالتُركيَّة العُثمانيَّة: أبو المُلوك غازى سُلطان عُثمان خان أول بن ارطُغرُل؛ وبالتُركيَّة المُعاصرة: Sultan Osman Gazi Han ben Ertuğrul)، ويُعرف كذلك باسم عُثمان بك (بالتُركيَّة المُعاصرة: Osman Bey) وقره عُثمان (بالتُركيَّة المُعاصرة: Kara Osman)؛ هو زعيم عشيرة قايى التُركيَّة وعامل سلاجقة الروم على إحدى إمارات الثُغور الأناضوليَّة ومُؤسس السُلالة العُثمانيَّة التي حكمت البلقان والأناضول والمشرق العربي وشمال أفريقيا طيلة 600 عام إلى أن انقضى أجلها مع إعلان قيام الجُمهوريَّة التُركيَّة سنة 1922م.
وُلد عُثمان الأوَّل سنة 656هـ المُوافقة لِسنة 1258م، للأمير أرطُغرُل الغازي، عامل سلاجقة الروم على إحدى الثُغور المُطلَّة على بحر مرمرة، وحليمة خاتون. وصُودف أن يُولد في ذات اليوم الذي غزا خلاله المغول مدينة بغداد عاصمة الدولة العبَّاسيَّة وحاضرة الخِلافة الإسلاميَّة، الأمر الذي جعل المُؤرخين العُثمانيين اللاحقين يربطون بين الحدثين بِطريقةٍ دراماتيكيَّة. تولّى عُثمان شؤون الإمارة وزعامة العشيرة بعد وفاة والده، فأخلص الولاء للسلطنة السُلجوقيَّة الروميَّة على الرُغم مما كانت تتخبَّط فيه من اضطراب وما كان يتهدَّدها من أخطار. وفي سنة 1295م شرع عُثمان بمُهاجمة الثُغور البيزنطيَّة باسم السُلطان السُلجوقي والخليفة العبَّاسي، ففتح عدَّة حُصون وقاد عشيرته إلى سواحل بحر مرمرة والبحر الأسود. وحين تغلَّب المغول على سلاجقة الروم وقضوا على دولتهم، سارع عُثمان إلى إعلان استقلاله عن السلاجقة، فكان بذلك المُؤسس الحقيقي لِدولةٍ تُركيَّةٍ كُبرى نُسبت إليه فيما بعد، فعُرفت «بالعُثمانيَّة». وظلَّ عُثمان يحكم الدولة الجديدة بصفته سُلطانًا مُستقلًّا حتَّى سنة 1326م. وفي هذه السنة فتح ابنه أورخان مدينة بورصة الواقعة على مقرُبة من بحر مرمرة، وكان عُثمان في هذه الفترة قد مرُض مرض الموت، وما لبث أن تُوفي، فنُقل جُثمانه إلى بورصة ودُفن فيها، الأمر الذي جعل للمدينة رمزيَّة كبيرة عند العُثمانيين لاحقًا. أمَّا خُلفائه وذُريَّته فقد تابعوا الحملات التي بدأ فيها حتَّى أواسط القرن السَّابع عشر الميلاديّ، مُحولين الإمارة التي وضع أُسسها إلى إمبراطوريَّة عالميَّة.
رُغم شُيوع لقب «السُلطان» أو «الپاديشاه» والتصاقه بعُثمان الأوَّل إلَّا أنَّه لم يكن سُلطانًا فعليًّا في زمانه، وإنما لُقب بذلك لاحقًا لاعتباره مُؤسس سُلالة السلاطين العُثمانيين. اشتهر عُثمان الأوَّل ببساطة العيش والملبس لِتأثره بِمُعتقدات الدراويش الصوفيَّة، وكان بعيدًا عن الترف والبذخ، فحافظ على نمط حياته كشيخٍ لِعشيرة قايى، وحافظ على التقاليد التُركيَّة القديمة التي تحكم العلاقة بين الشيخ وأفراد العشيرة، وهي تقاليد سابقة على الإسلام لم يهجرها التُرك لِعدم تعارضها مع تعاليم الشريعة الإسلاميَّة.
تُشيرُ أغلب الدراسات إلى أنَّ التُرك العُثمانيين ينتسبون إلى عشيرة قايى التُركيَّة الغُزيَّة (الأوغوزيَّة) التي دفعها تقدُّم المغول في أوائل القرن الثالث عشر الميلاديّ إلى الهرب غربًا صوب الأناضول حيثُ سكنت في منطقة تابعة لِسلطنة سلاجقة الروم. بينما تُشيرُ دراساتٍ أُخرى إلى أنَّ عشيرة قايى انتقلت قبل نحو قرنين من هذا التاريخ مع بني سُلجوق من ما وراء النهر إلى خُراسان نحو سنة 1040م وسكنت بجوار مدينة مرّو، ثُمَّ ارتحلت مُجددًا إلى الأناضول الشرقيَّة بعد سنة 1071م. انخرطت تلك العشيرة وغيرها من العشائر التُركيَّة المُرتحلة في جيش السُلطان علاءُ الدين كيقباد الثاني وواجهت معه الهُجومات الخوارزميَّة والمغوليَّة والبيزنطيَّة التي تعرَّضت لها دولته، وكانت عشيرة قايى بِزعامة قائدها أرطُغرُل بن سُليمان شاه في مُقدمة الجُيوش السُلجوقيَّة على الدوام، وقد تمَّ النصر بفضلها عدَّة مرَّات، الأمر الذي دفع السُلطان علاء الدين إلى تلقيبها بِمُقدمة السُلطان، وكافأ أرطُغرُل بأن أقطع عشيرتهُ بعض الأراضي الخصبة قُرب أنقرة، وصار لا يعتمد في حُروبه مع مُجاوريه إلَّا عليه وعلى رجاله. وكان عقب كُل انتصار يُقطعهُ أراضي جديدة ويمنحهُ أموالًا جزيلة. وظلَّ أرطُغرُل حليفًا للسلاجقة حتَّى أقطعهُ السُلطان السُلجوقي منطقة في أقصى الشمال الغربي من الأناضول على الحُدود البيزنطيَّة، في المنطقة المعروفة باسم «سُكود» حول إسكي شهر، حيثُ بدأت العشيرة هُناك حياةً جديدة. ويبدو أنَّ السُلطان السُلجوقي رغب في استغلال مواهب العشيرة العسكريَّة والكفائة القتاليَّة العالية لِأبنائها لِحراسة الحُدود مع الروم، لِذلك منح العشيرة تلك الأراضي لِصد أي هُجوم بيزنطي على بلاده وبلاد المُسلمين. وظفر أرطُغرُل بِلقب «أوچ بكي»، أي «مُحافظ الحُدود»، وكان منح هذا اللقب يتماشى مع التقاليد التي درجت عليها الحُكومة السُلجوقيَّة، وهو منح أي رئيس عشيرة، يعظم أمره ويلحق به عدد من العشائر الصغيرة، لقب مُحافظ الحُدود. غير أنَّ أرطُغرُل كان ذا أطماعٍ سياسيَّة بعيدة، فلم يقنع بِهذه المنطقة التي أقطعهُ إيَّاها السُلطان السُلجوقي، ولا باللقب الذي ظفر به، ولا بِمُهمَّة حِراسة الحُدود والمُحافظة عليها؛ بل شرع يُهاجم باسم السُلطان مُمتلكات البيزنطيين في الأناضول، فانتزع منهم عدد من القُرى والبلدات، واستطاع أن يُوسِّع أراضيه خِلال مُدَّة نصف قرن قضاها كأمير على مُقاطعة حُدوديَّة، وتُوفي في سنة 680هـ المُوافقة لِسنة 1281م، عن عُمرٍ يُناهزُ تسعين سنة.
بداياته
وُلد عُثمان الأوَّل يوم 8 صَفَر 656هـ المُوافق فيه 13 شُباط (فبراير) 1258م، وهو اليوم ذاته الذي اجتاحت فيه جحافل المغول مدينة بغداد وأمعنت تقتيلًا بأهلها ودكَّت معالم العُمران والحضارة فيها. ولا يتوافر الكثير من المصادر عن حياته الأولى، إلَّا أنَّ القلَّة المُتوافرة أغلبها يُشير إلى ولادته في مدينة سُكود التي اتخذها والده عاصمةً لِإمارته. وسبب قلَّة المعلومات المُتوافرة حول هذه المرحلة من حياته يرجع إلى أنَّ أقدم مصدر معروف عنها كُتب بعد حوالي مائة سنة من وفاته. ومن تلك المصادر: «دستان وتواريخ مُلوك آل عُثمان» تأليف شاعر وحكيم البلاط العُثماني زمن السُلطان بايزيد الأوَّل أحمد بن خِضر تاج الدين الشهير بِلقب «أحمدي» (1334- 1413م)، و«بهجةُ التواريخ» تأليف المُؤرِّخ شُكر الله (ت. 1464م)، و«تاريخ آل عُثمان» تأليف المؤرخ درويش أحمد عاشق باشا زاده (1400 - 1484م). وفي الواقع فإنَّ هذه المصادر المذكورة الباقية ليست هي نفسها النسخ الأصليَّة، بل نُسخٌ عنها أُعيدت كتابتها مرارًا بعد سنوات، لذا يُحتمل أن تكون بعض المعلومات قد سقطت منها، على أنَّ بعض المُؤرخين يقول بأنها نُسخت كما هي وبالتالي فلا فرق بينها وبين النص الأصلي. وفي الحقيقة كذلك فإنَّ المصادر العُثمانيَّة والأوروپيَّة والبيزنطيَّة لا يُمكن الاعتماد عليها كثيرًا حول أُصول عُثمان الأوَّل وبالتالي أصل عشيرته. فالسجلَّات العُثمانيَّة الأصليَّة المكتوبة والتي لا تزال باقية تعود كُلها للفترة اللاحقة على فتح القُسطنطينيَّة. كما أنَّ البيزنطيين لا يُشيرون في كتاباتهم إلى أصل العُثمانيين. أمَّا المُؤرخون الأوروپيّون الأوائل، فلم يهتموا بهذا الشعب التُركي وأُصوله إلَّا مُنذ أن بدأ يُشكِّلُ خطرًا على أوروپَّا، أي بعد وفاة عُثمان بحوالي 100 سنة أو أكثر.
يذكر الإمام أحمد بن سُليمان بن كمال باشا الحنفي (ت. 940هـ \ 1534م) مؤلِّف كتاب «تأريخ آل عُثمان» أنَّ عُثمان كان أصغر أولاد أرطُغرُل سنًا، وأنَّ ولادته كانت ببلدة سُكود التي وُلّي عليها والده، إلَّا أنه قال بأنَّ ولادته كانت سنة 652هـ، وقد حدثت في ليلةٍ بدراء (ظهر فيها البدر)، كما ذكر أنَّ والدته هي حليمة خاتون (على أنَّ البعض يُشير إلى أنها جدَّته). ويذكرُ ابن كمال أيضًا أنَّ عُثمان نشأ نشأة فتيان قبائل التُرك المُرتحلة، فتعلَّم المُصارعة والمُبارزة بالسيف في صغره، كما تعلَّم رُكوب الخيل والرمي بالنبال والصيد بالعُقبان، فكان أمهر إخوته في هذا المجال. كما تعلَّم مبادئ الدين الإسلامي، وتقرَّب من مشايخ الصُوفيَّة وتأثر بهم، وفي مُقدمتهم مُعلِّمه الشيخ «إده بالي»، فانعكس ذلك على شخصيَّته وأُسلوب حياته.
أمَّا من حيثُ النسب، فإنَّ الرواية الكلاسيكيَّة الأكثر شُيوعًا وانتشارًا تُفيد بأنَّ عُثمان هو حفيد «سُليمان شاه» الذي قضى نحبه غرقًا أثناء عُبوره نهر الفُرات بِحصانه، على أنَّ المُؤرخ التُركي يلماز أوزتونا يعتبر بأنَّ الروايات التي تنص على ذلك رواياتٌ ضعيفة، وأنَّ جد عُثمان ووالد أرطُغرُل يُدعى «گندز ألب». ويُضيف أنَّ الأرجح أن سُليمان شاه هو ذكرى باقية من اسم فاتح الأناضول سُلیمان شاه بن قُتلمش الذي أسس سُلالة سلاجقة الروم، وأنَّ الادعاء بهذا الاسم رُبما نشأ بدافع الربط بين بني عُثمان وبني سُلجوق، خاصَّةً أنَّ بني عُثمان قد ظهروا على مسرح التاريخ مُدعين أنهم الخُلفاء الشرعيّون لِبني سُلجوق. وبناءً على هذا، فإنَّ شجرة نسب عُثمان الافتراضيَّة تكون كالتالي: عُثمان بن أرطُغرُل بن گندز ألب بن قايا ألب بن گوك ألب بن صارقوق ألب بن قايى ألب، فهؤلاء كُلهم بكوات (أُمراء) عشيرة قايى المذكورين في المصادر العُثمانيَّة. ومن حيثُ شجرة الأنساب العُثمانيَّة الرسميَّة، فإنَّ عُثمان الأوَّل هو حفيد «مته» الذي يُطلق عليه التُرك اسم «أوغوز خان» (ت. 174 ق.م) في البطن السَّادس والأربعين. ومن جهةٍ أُخرى تُشير بعض المصادر العُثمانيَّة إلى نسبٍ أبعد لِعُثمان ومعلوماتٍ عن أُصول التُرك الغز هي أقرب إلى الأساطير من الحقيقة، فتقول بأنَّهم من نسل يافث بن نوح، وبأنَّ لِعُثمان شجرة أنساب تضم 52 سلفًا أو أكثر وتنتهي عند النبي نوح. وتضم هذه الشجرة گوك ألب وأوغوز خان (التي تقول بأنَّه والد گوك ألب) والغُز التُركمان، ومنهم السلاجقة الذين سيطروا على فارس والأناضول وأوقعوا بالروم هزيمةً فادحة في وقعة ملاذكرد. وبهذا تبدو ملامح بعض ما أشار إليه يلماز أوزتونا في فرضيَّته، بأنَّ بني عُثمان كانوا يُحاولون على الدوام ربط أنفسهم بالسلاجقة، والظُهور بمظهر ورثتهم. هذا ويتحدَّث المُؤرِّخ ابن إيَّاس في مُؤلَّفه حامل عنوان «بدائع الزُهُور في وقائع الدُهُور» عن أُصُول مُختلفة تمامًا لِعُثمان، يرفضها المُؤرخون المُعاصرون، ووفق هذه الرواية فإنَّ عُثمان وُلد سنة 658هـ، استنادًا إلى ما قاله بعض المُؤرخين من الذين سبقوه، وأنَّ أُصوله عربيَّة من الحجاز، وأنه كان يقطن وادي الصفراء بِالقُرب من المدينة المُنوَّرة. فلمَّا وقع الغلاء بِالمدينة خرج منها عُثمان فارًا إلى بلاد بني قرمان، فنزل بِقونية وتزيَّا بِزي أهلها وأخذ عنهم عاداتهم وتقاليدهم، ثُمَّ التحق بِخدمة الأمير علاء الدين علي بن خليل القرماني، فعظم أمره عنده ومشى على طريقتهم وتكلَّم بِالتُركيَّة، وصار لهُ أتباع كثيرة وأعوان.
اسمه
تُشيرُ جميع المصادر التاريخيَّة أنَّ أرطُغرُل أطلق على ولده الأصغر اسم «عُثمان» تيمُنًا بالخليفة الراشد الثالث عُثمان بن عفَّان، أحد الصحابة المُقربين من الرسول مُحمَّد ومن العشرة المُبشرين بالجنَّة وفق المُعتقد الإسلامي السُني تحديدًا. إلَّا أنَّ أحد المُؤرخين المُعاصرين المُتخصصين بالدراسات البيزنطيَّة، وهو الدكتور «لاوند قياپينار» يقول بأنَّ الاسم الأصلي لِمُؤسسة السُلالة العُثمانيَّة كان في الواقع «أتومان» أو «أتمان»، مُستندًا في ذلك إلى كتابات المُؤرخ الرومي جرجس پاخيمرس (1242 – ح. 1310م) الذي عاصر عهد عُثمان الأوَّل، ولم يذكر بداية اسمه بِحُروفٍ تُماثل العين العربيَّة، وأورده باللاتينيَّة على أنهُ «Ottomanus» وباليونانيَّة «Асман»، ومن تبريراته الأُخرى أنَّ والد عُثمان وإخوته وأعمامه لم يحمل أيًّا منهم أسماء عربيَّة إسلاميَّة، فلماذا يكون هو فريدًا بين أقاربه هؤلاء جميعًا؟ وقد تمَّ الرد على هذا بأنَّ هذا الادعاء غير دقيق، فجد عُثمان إن كان فعلًا يُدعى «سُليمان شاه» يُمثِّلُ أكبر دليلٍ على أنَّ التسميات العربيَّة والإسلاميَّة كانت شائعة في قبيلة قايى قبل ولادة عُثمان بزمن، كما أنَّ عُثمان نفسه أطلق على أولاده أسماءً عربيَّة إسلاميَّة وأُخرى تُركيَّة، فابنهُ البكر دُعي «علاءُ الدين» بينما دُعي ابنه الأصغر «أورخان»، مما يُفيد بأنَّهُ كان مُسلمًا ووُلد مُسلمًا. ويُضيف يلماز أوزتونا بأنَّ القصَّة التي يتداولها البعض حول أن أوَّل من اعتنق الإسلام من العشيرة هو أرطُغرُل وابنه عُثمان، هي قصَّة مُلفقة وُضعت رُبما لِإعلاء شأن العائلة.
قيام الإمارة العُثمانيَّة
خلف عُثمان أباه أرطُغرُل بعد وفاته، وتولّى زعامة الإمارة العتيدة وعشيرة قايى وهو في سن الرابعة والعشرين على الأرجح، ووفقًا لما اتفق عليه عددٌ من المُؤرخين فقد كان تولّي عُثمان للإمارة لا سلمي، فقيل أنه دخل في معركةٍ على العرش مع أقاربه لِيُزيحهم من دربه أولًا. أما ماهيَّة هذه المعركة ومع من كانت وكيف تطوَّرت فأمورٌ مُثيرةٌ للجدل ووُجدت حولها حكاياتٌ تاريخيَّةٌ اختلفت باختلاف المُؤرخين. وقد نصت أغلب الروايات على أنَّ أحد أطراف تلك المعركة كان عم عُثمان وهو «دوندار غازي»، إذ اعتبرته سائر العشائر أحق بالإمارة من ابن أخيه، فيما دعم المُحاربون والفُرسان عُثمانًا. ولا يُعرف على وجه التحديد كيف اشتعلت نيران هذه المعركة ولا كيف استمرت أو أي شكلٍ اتخذت. إلَّا أنَّ عُثمان انتصر فيها وقتل عمه العجوز برمية سهم.
ويروي السيِّد مُحمَّد بن إبراهيم الخُراساني الشهير باسم «الحاج بكطاش ولي» روايةً أُخرى في مُؤلَّفه حامل عنوان «ولايت نامه»، فقال أنَّ من تولّى إمارة القبيلة بعد وفاة أرطُغرُل كان عم عُثمان الأصغر المُسمَّى «گندز ألب»، وفي تلك الفترة كان عُثمان وفرسان القبيلة قد بدؤا بِتنظيم هجمات على الأراضي البيزنطيَّة في المناطق المجاورة لِسُكود مثل ياري حصار وبيله جك وإینهگول وإزنيق. وردًا على تلك الهجمات أرسل «تكفور»، وهو عامل الروم على بورصة، أرسل الرُسل إلى السُلطان السُلجوقي علاء الدين كيقباد الثالث ليشتكي من الهجمات. فردَّ السُلطان بأن أمر گندز ألب بإحضار ابن أخيه الشاب لِيمثل أمامه، فقبض عليه وأرسله إلى قونية. ووفقًا لِهذه الرواية فإنَّ السُلطان كان مُعجبًا بعُثمان وشجاعته وإقدامه، فأرسلهُ إلى الحاج بكطاش ولي الذي استقبله بحفاوة، وأمر بإطلاقه قائلًا: «أنا أنتظر مثله مُنذُ سنوات»، ولفَّ رأسه بقماشه مشايخ الصوفيَّة وصار كأنه أُلبس تاجًا، وأرسل معه إلى قونية رسالة إلى السُلطان يمتدحهُ فيها ويطلب منه إقراره على زعامة قبيلة قايى، وبعد قراءة السُلطان السُلجوقي للرسالة أقرَّ عُثمان على إمارة أبيه. ولم يرد في كتاب الحاج بكطاش أي ذكر لِعلاقة عُثمان بِگندز ألب بعد ذلك.
أهميَّة موقع الإمارة العُثمانيَّة
تحدَّد خلال عهد عُثمان الأوَّل الوضع العسكري والسياسي للتُرك العُثمانيين، وكان وضعهم الديني قد تحدَّد قبل ذلك بِفعل تأثُرهم بالدين الإسلامي الذي كان مُنتشرًا في البيئات التُركيَّة في آسيا الوُسطى والغربيَّة. إلَّا أنَّ ما ميزهم عن العديد من السُلالات الإسلاميَّة المُجاورة كان توفيقهم بين أكبر مذهبين إسلاميين، فعلى الرُغم من اعتناقهم المذهب السُني الحنفي، إلَّا أنهم أظهروا تأثُرًا ببعض جوانب المذهب الشيعي الجعفري، لأنَّ المُعتقدات السُنيَّة والشيعيَّة الاثنا عشريَّة كانتا قد كوَّنتا مزيجًا واحدًا إسلاميًّا لدى قبائل التُركمان التي ارتحلت من آسيا الوُسطى إلى الأناضول، وفي مُقدمتها سلاجقة الروم التي عمل آل عُثمان في خدمتها
أمَّا من الناحية العسكريَّة، كان لِموقع مركز عُثمان أثرٌ كبيرٌ في نجاحه. فمدينة سُكود تقع على مُرتفعٍ يسهل الدفاع عنه من جهة، وعلى الطريق الرئيسي المُمتد من القُسطنطينيَّة إلى قونية من جهةٍ أُخرى، وتكمن أهميَّة هذا المركز بِفعل التجزئة السياسيَّة لِلمنطقة التي أعطت الوحدات الصغيرة أهميَّة أكثر من ذي قبل. وأتاحت مُجاورته لِأراضي الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة توجيه نشاطه نحو الحرب والجهاد لاستكمال رسالة السلطنة السُلجوقيَّة الروميَّة بِفتح الأراضي الروميَّة كافَّة، وإدخالها ضمن الأراضي الإسلاميَّة والخلافة العبَّاسيَّة، وشجَّعهُ على ذلك حال الضعف الذي دبَّ في جسم الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة وأجهزتها، حيثُ أتاح لهُ ذلك سُهولة التوسُّع باتجاه غربيّ الأناضول، وفي عُبور مضيق الدردنيل إلى أوروپَّا الشرقيَّة الجنوبيَّة، أكثر ممَّا أتاح لهُ الالتفات نحو جيرانه المُسلمين، بالإضافة إلى انهماك البيزنطيين بالحُروب في أوروپَّا. إلَّا أنَّهُ على الرُغم من ذلك لا يُمكن المُبالغة في تراجع القُوَّة البيزنطيَّة في هذه المنطقة، إذ قام البيزنطيّون خلال عهد كُلٌ من ميخائيل الثامن وأندرونيقوس الثاني (681 - 728هـ \ 1282 - 1328م) بِتحصين حُدود منطقة بيثينيا لِصدِّ الغزوات الإسلاميَّة التي كان عليها أن تقطع نهر صقارية إلى مُدن هذه المُقاطعة، لكنَّ هذه التحصينات كانت عديمة الفائدة أمام التحرُّك العُثماني على طول مجرى النهر، من الجنوب إلى الشمال والغرب. يُضاف إلى ذلك، فقد وصلت كُلٌّ من السلطنة السُلجوقيَّة والإمبراطوريَّة البيزنطيَّة إلى حال إعياءٍ شديد نتيجة الصراع الطويل بينهما، وتعرُّض الدولة الأولى لِلغزو المغولي، والدولة الثانية لِلغزو اللاتيني خلال الحملة الصليبيَّة الرابعة، ما أحدث فراغًا سياسيًّا وعسكريًّا في الأناضول هيَّأ لِظُهور دولة تملأ هذا الفراغ على أنقاض الدولتين المُتداعيتين.
ومن الناحية السياسيَّة، فقد أظهر عُثمان مقدرةً فائقة في وضع النُظم الإداريَّة لِإمارته، بحيثُ قطع العُثمانيون في عهده شوطًا بعيدًا على طريق التحوُّل من نظام القبيلة المُتنقلة إلى نظام الإدارة المُستقرَّة، ما ساعدها على توطيد مركزها وتطوُّرها سريعًا إلى دولةٍ كُبرى، ثُمَّ أنَّ مركز الإمارة في الشمال الغربي للأناضول، بِجوار العالم المسيحي، قد فرض على العُثمانيين سياسة عسكريَّة مُعيَّنة بِوصفها إمارة حُدوديَّة، والمعروف في تاريخ الأناضول أنَّ الإمارات التي نشأت على الحُدود كانت أوفر حظًا في عوامل النُمو والتطوُّر من إمارات الداخل. وتبدو أهميَّة موقع الإمارة العُثمانيَّة من ناحية بُعدها عن مناطق الغزو المغولي وعن نُفوذ الإمارات التُركمانيَّة القويَّة في جنوبي الأناضول وجنوبه الغربي، ووُقوعها بالقُرب من طريق الحرير الذي يربط المناطق الروميَّة في الغرب بالمناطق التي يُسيطر عليها المغول في الشرق، الأمر الذي جعل لها خصائص استراتيجيَّة واقتصاديَّة بارزة. أضف إلى ذلك، شكَّلت الإمارة الرباط الوحيد الذي يُواجه المناطق البيزنطيَّة التي لم تُفتح بعد، فجلب إليها هذا الوضع الخاص أعدادًا كثيرة من التُركمان الطامعين في الغزو والجهاد، والدراويش الباحثين عن المُريدين، والمُزارعين الفارين من وجه المغول، وقد وجدوا في أراضيها الخصبة مكانًا مُلائمًا لِمُمارسة نشاطهم الزراعي.
حُلم عُثمان
تنص المصادر العُثمانيَّة على قصَّةٍ حدثت في بداية عهد عُثمان، علَّق عليها المُؤرخون المُسلمون قديمًا (وخُصوصًا الأتراك) الكثير من الأهميَّة لِرمزيَّتها. على أنَّ المُؤرخين المُعاصرين يتفقون على أنَّ هذه القصة ليست أكثر من وسيلة لِتعليل ظُهور وتقدُّم الدولة العُثمانيَّة وإحاطة هذا بهالةٍ روحانيَّة، لا سيَّما وأنَّ خُلفاء عُثمان حققوا الكثير من المُنجزات الهامَّة، فتمكنوا من توحيد البلاد الإسلاميَّة بعد قُرونٍ من تمزّقها، وأعادوا إحياء الخلافة الفعليَّة بعد أن أصبحت خلافة صُوريَّة تحت حماية سلاطين المماليك بِمصر مُنذ أن قتل المغول المستعصم بالله آخر خُلفاء بني العبَّاس في بغداد، وحققوا ما لم تقدر عليه أيَّة سُلالة إسلاميَّة أُخرى، ألا وهو فتح القُسطنطينيَّة وتخطوها إلى أوروپَّا الشرقيَّة. أضف إلى ذلك المُصادفة حيثُ تختصر تلك القصة أحداث قرنين من حياة الدولة العُثمانيَّة قبل أن تقع.
أمَّا تفاصيل هذه القصة، فتُفيد أنَّ عُثمان كان يبيتُ في تكيَّة مُعلِّمه الشيخ «إده بالي»، كما اعتاد أن يفعل مُنذ صغره، ليتقرّب من الشيخ سالِف الذِكر وينتفع بعلمه. وفي إحدى المرَّات رأى مُصادفةً «مال خاتون» ابنة الشيخ المذكور، فتعلَّق بها ورغب أن يتزوَّجها، ولكنَّ والدها أبى أن يُزوجها له. فحزن عُثمان لِذلك وأظهر الصبر والجَلَد ولم يرغب الاقتران بغيرها حتَّى قبل أبوها بعد أن قصَّ عليه عُثمان منامًا رآه ذات ليلة، وهو أنَّهُ رأى الهلال صعد من صدر هذا الشيخ وبعد أن صار بدرًا نزل في صدره (أي في صدر عُثمان)، ثُمَّ خرجت من صُلبه شجرة كالسراي نمت في الحال حتَّى غطَّت العالم بِظلِّها، واستقرَّت جبالٌ ثلاثة تحتها، وخرجت أنهارُ النيل ودجلة والفُرات والطونة (الدانوب) من جذعها، ورأى ورق هذه الشجرة كالسُيوف والرماح يُحوِّلُها الريح نحو مدينة القُسطنطينيَّة. وتحت الأغصان وقف صبيانٌ نصارى شُقر وعلى رؤوسهم تُل أبيض ينشدون الشهادة يتبعها عهد الولاء للسُطان. وكان الخلق من حول هؤلاء الصبيان بلا عدد على شُطوط الأنهار وفي خلجانها، يشربون ويزرعون ويصطنعون الفساقي. وكانوا يتوالدون والخير يورف في ديارهم، دونما يكف الصبيان عن الاستظلال بغصون الشجرة والإنشاد. فتفائل الشيخ من هذا المنام وأظهر سُروره الكبير وقبل تزويج ابنته إلى عُثمان، وبشَّره بأن أسرته ونسله سوف يحكمون العالم، وقال له واصفًا ما يكون عليه الحاكم الصالح:
عثمان الأول أيَ بُني! الآن أصبحت ملكًا! من الآن فصاعدًا، نحنُ نغتاظ؛ وأنت تُسعد! لنا الشَّقاء؛ وعليك الهناء! لنا الاتهام؛ وعليك الاحتمال! نحنُ العاجزون الخطَّاؤون؛ وأنت الصبور! نحنُ المُتقاتلون؛ وأنتم العادلون! نحنُ الحاسدون النمَّامون المُفترون؛ وأنتم المُتسامحون! أيَ بُني! من الآن فصاعدًا، نحنُ نُشرذم؛ وأنت تُوحِّد! نحنُ نتكاسل؛ وأنت تُنذر وتدفع! أيَ بُني! الصَّبر الصَّبر، فالزهرة لا تتفتح قبل أوانها. إيَّاك والنسيان: إرعى شعبك، وستزدهر دولتك! أيَ بُني! حملُك ثقيل، وشأنك عسير، وسُلطتك مُعلقة بِشعرة! أعانك ربُّ العالمين! عثمان الأول
وبحسب الرواية البكطاشيَّة، التي لا يُمكن الحُكم على دقَّتها كونها لم ترد إلَّا في المصادر البكطاشيَّة، ولم تُؤكَّد عبر مصدرٍ مُستقل، ولم تتمتَّع بِتأييدٍ كبيرٍ من غالبيَّة الباحثين؛ فإنَّ زوجة أبي عُثمان كانت تعيش مع الحاج بكطاش وليّ الذي كان في الوقت نفسه من دراويش الطريقة الوفائيَّة، وتحديدًا من مُريدي الشيخ بابا إلياس الخُراساني، وهو شيخ الطريقة البابائيَّة، ولمَّا تُوفي إلياس المذكور أصبح الحاج بكطاش وليّ والشيخ إده بالي خلفتين من خُلفاء بابا إلياس الستون، وكانا يُنظمان جماعات الآخية الفتيان المُحاربة والعاملة في الصناعة والزراعة، والذين كان لهم نُفُوذٌ كبير في أوساط الناس، فلمَّا تزوَّج عُثمان بنت الشيخ إده بالي، استطاع عن طريق تلك المُصاهرة تأمين وضعه بِالسيطرة على الآخيات وجعلها تابعةً له. نتيجة تلك المُصاهرة، دخل مشايخ الآخيات تحت رئاسة العُثمانيين، مما يُحتمل أن يكون قد لعب دورًا كبيرًا في تأسيس الإمارة العُثمانيَّة وتطوُّرها بعد وفاة عُثمان إلى دولةٍ في زمن ابنه أورخان.
العلاقات السياسيَّة في بداية عهد عُثمان
جرى ربط ظُهور عُثمان على الساحة السياسيَّة، واكتسابه لِوصف زعيم الجهاد بالعلاقة التي ربطته بالشيخ «إده بالي» التي تُوِّجت بالمُصاهرة كما سلف. ويميلُ بعض المُؤرخين إلى اعتبار زواج عُثمان بإبنة هذا الشيخ أوَّل خُطوةٍ سياسيَّةٍ بارعةٍ منه، إذ أنَّ هذا الشيخ كان قائدًا لِلفرقة البابائيَّة المنسوبة إلى بابا إسحٰق الذي قاد ثورةً ضدَّ سلاجقة الروم مُنذ حوالي سنة 1239م إلى أن قُبض عليه وشُنق سنة 1241م. وتُفسِّر علاقة المُصاهرة بين العُثمانيين والشيخ القائد لِهذه الجماعة، علاقة العداء التي قامت بين العُثمانيين وبين إمارة كرميان. فالمعروف أنَّ أُسرة كرميان قد كوفئت من قِبل السلاجقة بِسبب خدماتها في إخضاع الثورة البابائيَّة. أظهر عُثمان، في بداية عهده، براعةً سياسيَّةً في علاقاته مع جيرانه، حيثُ التحالفات تتجاوز الخُطوط القبليَّة والإثنيَّة والدينيَّة، ورُبما تبع في ذلك غريزته ومُتطلبات تطلُّعاته السياسيَّة، إلَّا أنهُ لم يُخطئ في تقدير النتائج المُستقبليَّة لِلعلاقات العائليَّة التي أقامها لِنفسه وضمنها لابنه من بعده. فأعاد تشكيل الثقافة السياسيَّة لِسلاجقة الروم بما يتوافق مع حاجات إمارته، فكان أكثر إبداعًا من جيرانه التُركمان في عمليَّات الدمج بين التقاليد التُركيَّة والإسلاميَّة والبيزنطيَّة. وتعاون عُثمان مع جيرانه البيزنطيين من قادة المُدن والقُرى الروميَّة، فكانت عشيرته حين تنتقل بين مناطق الرعي في الصيف تترك حاجيَّاتها في قلعة «بيله جك» البيزنطيَّة، وعند عودتها كانت تُهدي مسؤولي هذه القلعة عربون تقدير لِخدماتهم، من الجبن وزُبدة الحليب المحفوظة في جُلود الحيوانات، والسجَّاد الجيِّد، الأمر الذي يعكس علاقة التعايش بين الرُعاة والمُزارعين أو ساكني المُدن. وشكَّلت علاقة الصداقة بين عُثمان و«كوسه ميخائيل» حاكم قرية هرمنكايا ذُروة هذا التعايش والامتزاج بين المُسلمين والروم. أمَّا علاقاته بِخُصومه من الجماعات الإثنيَّة الأُخرى كالمغول، الذين انتقل مُعظمهم إلى مناطق الأطراف في غربيّ الأناضول، والكرميانيين؛ فقد كانت عدائيَّة لأنَّ التُرك بِعامَّة كانوا في حال عداء مع المغول، ثُمَّ أنَّ الكرميانيين كانوا من غير الغُز (الأوغوز) على الأرجح، فقد اصطدم مع «جغدار»، أحد قادة المغول في أرض كرميان، والواضح أنَّ الصراع مع المغول والكرميانيين كان أشد في أوائل عهد الإمارة.
وتحالف عُثمان مع الآخية الفتيان، وهؤلاء هم الجماعات المُنظمة التي كان أعضائها يعملون في حرفةٍ واحدة وقد جعلوا واجبهم حفظ العدل ومنع الظلم وإيقاف الظالم عند حده واتباع الشريعة الإسلاميَّة وما تُمليه الأخلاق الحميدة وتنفيذ واجبات عسكرية إن دعت الحاجة للدفاع عن حقوقهم وحُقوق المُسلمين. كما تحالف مع القبائل التُركمانيَّة القادمة إلى الأناضول، والتي شكَّلت القلب النابض لِهذه المُقاطعات الحُدوديَّة بشكلٍ عام، والإمارة العُثمانيَّة بِشكلٍ خاص، لأنَّهم كانوا أكثر نشاطًا وفعاليَّةً من التُرك المُستقرِّين في المُدن، كما أغرى الكثير من التُركمان القاطنين في منطقة المياندر وبفلاغونية على الانضمام إلى قُوَّاته. وكان هؤلاء التُركمان مُحاربين جيدين، يتلهفون إلى الجهاد والغزو، وانتسب كُلٌّ منهم إلى أحد شُيوخ الطُرق وإلى إحدى التكايا، حيثُ تعلَّموا معنى الجهاد في سبيل الله إلى جانب الكثير من المبادئ الشرعيَّة الإسلاميَّة. إلَّا أنَّ قسمًا آخر من هؤلاء التُركمان لم تكن لديهم روابط وثيقة بالدين الإسلامي لِأسبابٍ مُختلفة، فعهد عُثمان إلى الشُيوخ والدراويش أن يقوموا بِتربية هؤلاء تربيةً إسلاميَّة ويُشبعونهم بالقِيم التي تتمثل في تعظيم فتح الأقطار لاكتساب أراضٍ جديدة لِتوسيع رقعة دار الإسلام. والواقع أنَّ هؤلاء الشُيوخ والدراويش كانوا شديدي التحمُّس لِترويج طُرق «أولياء خُراسان»، فأقبلوا على تعليم النازحين الجُدد بشراهةٍ واضحة. أمَّا من حيث التراتُبيَّة الرئاسيَّة، فقد كان عُثمان تابعًا في البداية لِأمير بنو شيان في قسطموني، ثُمَّ للسُلطان السُلجوقي من خلال أمير كرميان في كوتاهية، الذي كان تابعًا بدوره إلى الإلخان المغولي في تبريز. وفي الحقيقة كان السُلطان السُلجوقي قد فقد في هذه الفترة القُدرة الفعليَّة على تسيير الأُمور، وكان الإلخان يُسيِّر أعماله بِواسطة الوُلاة العاملين الذين هُم في الوقت ذاته قادة عامّون يُعينهم في الأناضول، وكان على الأُمراء الحُدوديين - ومن بينهم عُثمان - أن يُرسلوا الجُند في حالة طلب الإلخان ذلك. وبطبيعة الحال، فإنَّ أئمة المساجد كانوا يُذكرون على المنابر أولًا اسم الخليفة العبَّاسي في مصر، ثُمَّ الإلخان المُقيم في تبريز، ثُمَّ السُلطان السُلجوقي في قونية، وأخيرًا اسم الأمير المحلّي.
تمدُّد الإمارة العُثمانيَّة
الغزوات الأولى وفتح قلعة قراجة حصار
وُلد عُثمان الأوَّل سنة 656هـ المُوافقة لِسنة 1258م، للأمير أرطُغرُل الغازي، عامل سلاجقة الروم على إحدى الثُغور المُطلَّة على بحر مرمرة، وحليمة خاتون. وصُودف أن يُولد في ذات اليوم الذي غزا خلاله المغول مدينة بغداد عاصمة الدولة العبَّاسيَّة وحاضرة الخِلافة الإسلاميَّة، الأمر الذي جعل المُؤرخين العُثمانيين اللاحقين يربطون بين الحدثين بِطريقةٍ دراماتيكيَّة. تولّى عُثمان شؤون الإمارة وزعامة العشيرة بعد وفاة والده، فأخلص الولاء للسلطنة السُلجوقيَّة الروميَّة على الرُغم مما كانت تتخبَّط فيه من اضطراب وما كان يتهدَّدها من أخطار. وفي سنة 1295م شرع عُثمان بمُهاجمة الثُغور البيزنطيَّة باسم السُلطان السُلجوقي والخليفة العبَّاسي، ففتح عدَّة حُصون وقاد عشيرته إلى سواحل بحر مرمرة والبحر الأسود. وحين تغلَّب المغول على سلاجقة الروم وقضوا على دولتهم، سارع عُثمان إلى إعلان استقلاله عن السلاجقة، فكان بذلك المُؤسس الحقيقي لِدولةٍ تُركيَّةٍ كُبرى نُسبت إليه فيما بعد، فعُرفت «بالعُثمانيَّة». وظلَّ عُثمان يحكم الدولة الجديدة بصفته سُلطانًا مُستقلًّا حتَّى سنة 1326م. وفي هذه السنة فتح ابنه أورخان مدينة بورصة الواقعة على مقرُبة من بحر مرمرة، وكان عُثمان في هذه الفترة قد مرُض مرض الموت، وما لبث أن تُوفي، فنُقل جُثمانه إلى بورصة ودُفن فيها، الأمر الذي جعل للمدينة رمزيَّة كبيرة عند العُثمانيين لاحقًا. أمَّا خُلفائه وذُريَّته فقد تابعوا الحملات التي بدأ فيها حتَّى أواسط القرن السَّابع عشر الميلاديّ، مُحولين الإمارة التي وضع أُسسها إلى إمبراطوريَّة عالميَّة.
رُغم شُيوع لقب «السُلطان» أو «الپاديشاه» والتصاقه بعُثمان الأوَّل إلَّا أنَّه لم يكن سُلطانًا فعليًّا في زمانه، وإنما لُقب بذلك لاحقًا لاعتباره مُؤسس سُلالة السلاطين العُثمانيين. اشتهر عُثمان الأوَّل ببساطة العيش والملبس لِتأثره بِمُعتقدات الدراويش الصوفيَّة، وكان بعيدًا عن الترف والبذخ، فحافظ على نمط حياته كشيخٍ لِعشيرة قايى، وحافظ على التقاليد التُركيَّة القديمة التي تحكم العلاقة بين الشيخ وأفراد العشيرة، وهي تقاليد سابقة على الإسلام لم يهجرها التُرك لِعدم تعارضها مع تعاليم الشريعة الإسلاميَّة.
تُشيرُ أغلب الدراسات إلى أنَّ التُرك العُثمانيين ينتسبون إلى عشيرة قايى التُركيَّة الغُزيَّة (الأوغوزيَّة) التي دفعها تقدُّم المغول في أوائل القرن الثالث عشر الميلاديّ إلى الهرب غربًا صوب الأناضول حيثُ سكنت في منطقة تابعة لِسلطنة سلاجقة الروم. بينما تُشيرُ دراساتٍ أُخرى إلى أنَّ عشيرة قايى انتقلت قبل نحو قرنين من هذا التاريخ مع بني سُلجوق من ما وراء النهر إلى خُراسان نحو سنة 1040م وسكنت بجوار مدينة مرّو، ثُمَّ ارتحلت مُجددًا إلى الأناضول الشرقيَّة بعد سنة 1071م. انخرطت تلك العشيرة وغيرها من العشائر التُركيَّة المُرتحلة في جيش السُلطان علاءُ الدين كيقباد الثاني وواجهت معه الهُجومات الخوارزميَّة والمغوليَّة والبيزنطيَّة التي تعرَّضت لها دولته، وكانت عشيرة قايى بِزعامة قائدها أرطُغرُل بن سُليمان شاه في مُقدمة الجُيوش السُلجوقيَّة على الدوام، وقد تمَّ النصر بفضلها عدَّة مرَّات، الأمر الذي دفع السُلطان علاء الدين إلى تلقيبها بِمُقدمة السُلطان، وكافأ أرطُغرُل بأن أقطع عشيرتهُ بعض الأراضي الخصبة قُرب أنقرة، وصار لا يعتمد في حُروبه مع مُجاوريه إلَّا عليه وعلى رجاله. وكان عقب كُل انتصار يُقطعهُ أراضي جديدة ويمنحهُ أموالًا جزيلة. وظلَّ أرطُغرُل حليفًا للسلاجقة حتَّى أقطعهُ السُلطان السُلجوقي منطقة في أقصى الشمال الغربي من الأناضول على الحُدود البيزنطيَّة، في المنطقة المعروفة باسم «سُكود» حول إسكي شهر، حيثُ بدأت العشيرة هُناك حياةً جديدة. ويبدو أنَّ السُلطان السُلجوقي رغب في استغلال مواهب العشيرة العسكريَّة والكفائة القتاليَّة العالية لِأبنائها لِحراسة الحُدود مع الروم، لِذلك منح العشيرة تلك الأراضي لِصد أي هُجوم بيزنطي على بلاده وبلاد المُسلمين. وظفر أرطُغرُل بِلقب «أوچ بكي»، أي «مُحافظ الحُدود»، وكان منح هذا اللقب يتماشى مع التقاليد التي درجت عليها الحُكومة السُلجوقيَّة، وهو منح أي رئيس عشيرة، يعظم أمره ويلحق به عدد من العشائر الصغيرة، لقب مُحافظ الحُدود. غير أنَّ أرطُغرُل كان ذا أطماعٍ سياسيَّة بعيدة، فلم يقنع بِهذه المنطقة التي أقطعهُ إيَّاها السُلطان السُلجوقي، ولا باللقب الذي ظفر به، ولا بِمُهمَّة حِراسة الحُدود والمُحافظة عليها؛ بل شرع يُهاجم باسم السُلطان مُمتلكات البيزنطيين في الأناضول، فانتزع منهم عدد من القُرى والبلدات، واستطاع أن يُوسِّع أراضيه خِلال مُدَّة نصف قرن قضاها كأمير على مُقاطعة حُدوديَّة، وتُوفي في سنة 680هـ المُوافقة لِسنة 1281م، عن عُمرٍ يُناهزُ تسعين سنة.
بداياته
وُلد عُثمان الأوَّل يوم 8 صَفَر 656هـ المُوافق فيه 13 شُباط (فبراير) 1258م، وهو اليوم ذاته الذي اجتاحت فيه جحافل المغول مدينة بغداد وأمعنت تقتيلًا بأهلها ودكَّت معالم العُمران والحضارة فيها. ولا يتوافر الكثير من المصادر عن حياته الأولى، إلَّا أنَّ القلَّة المُتوافرة أغلبها يُشير إلى ولادته في مدينة سُكود التي اتخذها والده عاصمةً لِإمارته. وسبب قلَّة المعلومات المُتوافرة حول هذه المرحلة من حياته يرجع إلى أنَّ أقدم مصدر معروف عنها كُتب بعد حوالي مائة سنة من وفاته. ومن تلك المصادر: «دستان وتواريخ مُلوك آل عُثمان» تأليف شاعر وحكيم البلاط العُثماني زمن السُلطان بايزيد الأوَّل أحمد بن خِضر تاج الدين الشهير بِلقب «أحمدي» (1334- 1413م)، و«بهجةُ التواريخ» تأليف المُؤرِّخ شُكر الله (ت. 1464م)، و«تاريخ آل عُثمان» تأليف المؤرخ درويش أحمد عاشق باشا زاده (1400 - 1484م). وفي الواقع فإنَّ هذه المصادر المذكورة الباقية ليست هي نفسها النسخ الأصليَّة، بل نُسخٌ عنها أُعيدت كتابتها مرارًا بعد سنوات، لذا يُحتمل أن تكون بعض المعلومات قد سقطت منها، على أنَّ بعض المُؤرخين يقول بأنها نُسخت كما هي وبالتالي فلا فرق بينها وبين النص الأصلي. وفي الحقيقة كذلك فإنَّ المصادر العُثمانيَّة والأوروپيَّة والبيزنطيَّة لا يُمكن الاعتماد عليها كثيرًا حول أُصول عُثمان الأوَّل وبالتالي أصل عشيرته. فالسجلَّات العُثمانيَّة الأصليَّة المكتوبة والتي لا تزال باقية تعود كُلها للفترة اللاحقة على فتح القُسطنطينيَّة. كما أنَّ البيزنطيين لا يُشيرون في كتاباتهم إلى أصل العُثمانيين. أمَّا المُؤرخون الأوروپيّون الأوائل، فلم يهتموا بهذا الشعب التُركي وأُصوله إلَّا مُنذ أن بدأ يُشكِّلُ خطرًا على أوروپَّا، أي بعد وفاة عُثمان بحوالي 100 سنة أو أكثر.
يذكر الإمام أحمد بن سُليمان بن كمال باشا الحنفي (ت. 940هـ \ 1534م) مؤلِّف كتاب «تأريخ آل عُثمان» أنَّ عُثمان كان أصغر أولاد أرطُغرُل سنًا، وأنَّ ولادته كانت ببلدة سُكود التي وُلّي عليها والده، إلَّا أنه قال بأنَّ ولادته كانت سنة 652هـ، وقد حدثت في ليلةٍ بدراء (ظهر فيها البدر)، كما ذكر أنَّ والدته هي حليمة خاتون (على أنَّ البعض يُشير إلى أنها جدَّته). ويذكرُ ابن كمال أيضًا أنَّ عُثمان نشأ نشأة فتيان قبائل التُرك المُرتحلة، فتعلَّم المُصارعة والمُبارزة بالسيف في صغره، كما تعلَّم رُكوب الخيل والرمي بالنبال والصيد بالعُقبان، فكان أمهر إخوته في هذا المجال. كما تعلَّم مبادئ الدين الإسلامي، وتقرَّب من مشايخ الصُوفيَّة وتأثر بهم، وفي مُقدمتهم مُعلِّمه الشيخ «إده بالي»، فانعكس ذلك على شخصيَّته وأُسلوب حياته.
أمَّا من حيثُ النسب، فإنَّ الرواية الكلاسيكيَّة الأكثر شُيوعًا وانتشارًا تُفيد بأنَّ عُثمان هو حفيد «سُليمان شاه» الذي قضى نحبه غرقًا أثناء عُبوره نهر الفُرات بِحصانه، على أنَّ المُؤرخ التُركي يلماز أوزتونا يعتبر بأنَّ الروايات التي تنص على ذلك رواياتٌ ضعيفة، وأنَّ جد عُثمان ووالد أرطُغرُل يُدعى «گندز ألب». ويُضيف أنَّ الأرجح أن سُليمان شاه هو ذكرى باقية من اسم فاتح الأناضول سُلیمان شاه بن قُتلمش الذي أسس سُلالة سلاجقة الروم، وأنَّ الادعاء بهذا الاسم رُبما نشأ بدافع الربط بين بني عُثمان وبني سُلجوق، خاصَّةً أنَّ بني عُثمان قد ظهروا على مسرح التاريخ مُدعين أنهم الخُلفاء الشرعيّون لِبني سُلجوق. وبناءً على هذا، فإنَّ شجرة نسب عُثمان الافتراضيَّة تكون كالتالي: عُثمان بن أرطُغرُل بن گندز ألب بن قايا ألب بن گوك ألب بن صارقوق ألب بن قايى ألب، فهؤلاء كُلهم بكوات (أُمراء) عشيرة قايى المذكورين في المصادر العُثمانيَّة. ومن حيثُ شجرة الأنساب العُثمانيَّة الرسميَّة، فإنَّ عُثمان الأوَّل هو حفيد «مته» الذي يُطلق عليه التُرك اسم «أوغوز خان» (ت. 174 ق.م) في البطن السَّادس والأربعين. ومن جهةٍ أُخرى تُشير بعض المصادر العُثمانيَّة إلى نسبٍ أبعد لِعُثمان ومعلوماتٍ عن أُصول التُرك الغز هي أقرب إلى الأساطير من الحقيقة، فتقول بأنَّهم من نسل يافث بن نوح، وبأنَّ لِعُثمان شجرة أنساب تضم 52 سلفًا أو أكثر وتنتهي عند النبي نوح. وتضم هذه الشجرة گوك ألب وأوغوز خان (التي تقول بأنَّه والد گوك ألب) والغُز التُركمان، ومنهم السلاجقة الذين سيطروا على فارس والأناضول وأوقعوا بالروم هزيمةً فادحة في وقعة ملاذكرد. وبهذا تبدو ملامح بعض ما أشار إليه يلماز أوزتونا في فرضيَّته، بأنَّ بني عُثمان كانوا يُحاولون على الدوام ربط أنفسهم بالسلاجقة، والظُهور بمظهر ورثتهم. هذا ويتحدَّث المُؤرِّخ ابن إيَّاس في مُؤلَّفه حامل عنوان «بدائع الزُهُور في وقائع الدُهُور» عن أُصُول مُختلفة تمامًا لِعُثمان، يرفضها المُؤرخون المُعاصرون، ووفق هذه الرواية فإنَّ عُثمان وُلد سنة 658هـ، استنادًا إلى ما قاله بعض المُؤرخين من الذين سبقوه، وأنَّ أُصوله عربيَّة من الحجاز، وأنه كان يقطن وادي الصفراء بِالقُرب من المدينة المُنوَّرة. فلمَّا وقع الغلاء بِالمدينة خرج منها عُثمان فارًا إلى بلاد بني قرمان، فنزل بِقونية وتزيَّا بِزي أهلها وأخذ عنهم عاداتهم وتقاليدهم، ثُمَّ التحق بِخدمة الأمير علاء الدين علي بن خليل القرماني، فعظم أمره عنده ومشى على طريقتهم وتكلَّم بِالتُركيَّة، وصار لهُ أتباع كثيرة وأعوان.
اسمه
تُشيرُ جميع المصادر التاريخيَّة أنَّ أرطُغرُل أطلق على ولده الأصغر اسم «عُثمان» تيمُنًا بالخليفة الراشد الثالث عُثمان بن عفَّان، أحد الصحابة المُقربين من الرسول مُحمَّد ومن العشرة المُبشرين بالجنَّة وفق المُعتقد الإسلامي السُني تحديدًا. إلَّا أنَّ أحد المُؤرخين المُعاصرين المُتخصصين بالدراسات البيزنطيَّة، وهو الدكتور «لاوند قياپينار» يقول بأنَّ الاسم الأصلي لِمُؤسسة السُلالة العُثمانيَّة كان في الواقع «أتومان» أو «أتمان»، مُستندًا في ذلك إلى كتابات المُؤرخ الرومي جرجس پاخيمرس (1242 – ح. 1310م) الذي عاصر عهد عُثمان الأوَّل، ولم يذكر بداية اسمه بِحُروفٍ تُماثل العين العربيَّة، وأورده باللاتينيَّة على أنهُ «Ottomanus» وباليونانيَّة «Асман»، ومن تبريراته الأُخرى أنَّ والد عُثمان وإخوته وأعمامه لم يحمل أيًّا منهم أسماء عربيَّة إسلاميَّة، فلماذا يكون هو فريدًا بين أقاربه هؤلاء جميعًا؟ وقد تمَّ الرد على هذا بأنَّ هذا الادعاء غير دقيق، فجد عُثمان إن كان فعلًا يُدعى «سُليمان شاه» يُمثِّلُ أكبر دليلٍ على أنَّ التسميات العربيَّة والإسلاميَّة كانت شائعة في قبيلة قايى قبل ولادة عُثمان بزمن، كما أنَّ عُثمان نفسه أطلق على أولاده أسماءً عربيَّة إسلاميَّة وأُخرى تُركيَّة، فابنهُ البكر دُعي «علاءُ الدين» بينما دُعي ابنه الأصغر «أورخان»، مما يُفيد بأنَّهُ كان مُسلمًا ووُلد مُسلمًا. ويُضيف يلماز أوزتونا بأنَّ القصَّة التي يتداولها البعض حول أن أوَّل من اعتنق الإسلام من العشيرة هو أرطُغرُل وابنه عُثمان، هي قصَّة مُلفقة وُضعت رُبما لِإعلاء شأن العائلة.
قيام الإمارة العُثمانيَّة
خلف عُثمان أباه أرطُغرُل بعد وفاته، وتولّى زعامة الإمارة العتيدة وعشيرة قايى وهو في سن الرابعة والعشرين على الأرجح، ووفقًا لما اتفق عليه عددٌ من المُؤرخين فقد كان تولّي عُثمان للإمارة لا سلمي، فقيل أنه دخل في معركةٍ على العرش مع أقاربه لِيُزيحهم من دربه أولًا. أما ماهيَّة هذه المعركة ومع من كانت وكيف تطوَّرت فأمورٌ مُثيرةٌ للجدل ووُجدت حولها حكاياتٌ تاريخيَّةٌ اختلفت باختلاف المُؤرخين. وقد نصت أغلب الروايات على أنَّ أحد أطراف تلك المعركة كان عم عُثمان وهو «دوندار غازي»، إذ اعتبرته سائر العشائر أحق بالإمارة من ابن أخيه، فيما دعم المُحاربون والفُرسان عُثمانًا. ولا يُعرف على وجه التحديد كيف اشتعلت نيران هذه المعركة ولا كيف استمرت أو أي شكلٍ اتخذت. إلَّا أنَّ عُثمان انتصر فيها وقتل عمه العجوز برمية سهم.
ويروي السيِّد مُحمَّد بن إبراهيم الخُراساني الشهير باسم «الحاج بكطاش ولي» روايةً أُخرى في مُؤلَّفه حامل عنوان «ولايت نامه»، فقال أنَّ من تولّى إمارة القبيلة بعد وفاة أرطُغرُل كان عم عُثمان الأصغر المُسمَّى «گندز ألب»، وفي تلك الفترة كان عُثمان وفرسان القبيلة قد بدؤا بِتنظيم هجمات على الأراضي البيزنطيَّة في المناطق المجاورة لِسُكود مثل ياري حصار وبيله جك وإینهگول وإزنيق. وردًا على تلك الهجمات أرسل «تكفور»، وهو عامل الروم على بورصة، أرسل الرُسل إلى السُلطان السُلجوقي علاء الدين كيقباد الثالث ليشتكي من الهجمات. فردَّ السُلطان بأن أمر گندز ألب بإحضار ابن أخيه الشاب لِيمثل أمامه، فقبض عليه وأرسله إلى قونية. ووفقًا لِهذه الرواية فإنَّ السُلطان كان مُعجبًا بعُثمان وشجاعته وإقدامه، فأرسلهُ إلى الحاج بكطاش ولي الذي استقبله بحفاوة، وأمر بإطلاقه قائلًا: «أنا أنتظر مثله مُنذُ سنوات»، ولفَّ رأسه بقماشه مشايخ الصوفيَّة وصار كأنه أُلبس تاجًا، وأرسل معه إلى قونية رسالة إلى السُلطان يمتدحهُ فيها ويطلب منه إقراره على زعامة قبيلة قايى، وبعد قراءة السُلطان السُلجوقي للرسالة أقرَّ عُثمان على إمارة أبيه. ولم يرد في كتاب الحاج بكطاش أي ذكر لِعلاقة عُثمان بِگندز ألب بعد ذلك.
أهميَّة موقع الإمارة العُثمانيَّة
تحدَّد خلال عهد عُثمان الأوَّل الوضع العسكري والسياسي للتُرك العُثمانيين، وكان وضعهم الديني قد تحدَّد قبل ذلك بِفعل تأثُرهم بالدين الإسلامي الذي كان مُنتشرًا في البيئات التُركيَّة في آسيا الوُسطى والغربيَّة. إلَّا أنَّ ما ميزهم عن العديد من السُلالات الإسلاميَّة المُجاورة كان توفيقهم بين أكبر مذهبين إسلاميين، فعلى الرُغم من اعتناقهم المذهب السُني الحنفي، إلَّا أنهم أظهروا تأثُرًا ببعض جوانب المذهب الشيعي الجعفري، لأنَّ المُعتقدات السُنيَّة والشيعيَّة الاثنا عشريَّة كانتا قد كوَّنتا مزيجًا واحدًا إسلاميًّا لدى قبائل التُركمان التي ارتحلت من آسيا الوُسطى إلى الأناضول، وفي مُقدمتها سلاجقة الروم التي عمل آل عُثمان في خدمتها
أمَّا من الناحية العسكريَّة، كان لِموقع مركز عُثمان أثرٌ كبيرٌ في نجاحه. فمدينة سُكود تقع على مُرتفعٍ يسهل الدفاع عنه من جهة، وعلى الطريق الرئيسي المُمتد من القُسطنطينيَّة إلى قونية من جهةٍ أُخرى، وتكمن أهميَّة هذا المركز بِفعل التجزئة السياسيَّة لِلمنطقة التي أعطت الوحدات الصغيرة أهميَّة أكثر من ذي قبل. وأتاحت مُجاورته لِأراضي الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة توجيه نشاطه نحو الحرب والجهاد لاستكمال رسالة السلطنة السُلجوقيَّة الروميَّة بِفتح الأراضي الروميَّة كافَّة، وإدخالها ضمن الأراضي الإسلاميَّة والخلافة العبَّاسيَّة، وشجَّعهُ على ذلك حال الضعف الذي دبَّ في جسم الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة وأجهزتها، حيثُ أتاح لهُ ذلك سُهولة التوسُّع باتجاه غربيّ الأناضول، وفي عُبور مضيق الدردنيل إلى أوروپَّا الشرقيَّة الجنوبيَّة، أكثر ممَّا أتاح لهُ الالتفات نحو جيرانه المُسلمين، بالإضافة إلى انهماك البيزنطيين بالحُروب في أوروپَّا. إلَّا أنَّهُ على الرُغم من ذلك لا يُمكن المُبالغة في تراجع القُوَّة البيزنطيَّة في هذه المنطقة، إذ قام البيزنطيّون خلال عهد كُلٌ من ميخائيل الثامن وأندرونيقوس الثاني (681 - 728هـ \ 1282 - 1328م) بِتحصين حُدود منطقة بيثينيا لِصدِّ الغزوات الإسلاميَّة التي كان عليها أن تقطع نهر صقارية إلى مُدن هذه المُقاطعة، لكنَّ هذه التحصينات كانت عديمة الفائدة أمام التحرُّك العُثماني على طول مجرى النهر، من الجنوب إلى الشمال والغرب. يُضاف إلى ذلك، فقد وصلت كُلٌّ من السلطنة السُلجوقيَّة والإمبراطوريَّة البيزنطيَّة إلى حال إعياءٍ شديد نتيجة الصراع الطويل بينهما، وتعرُّض الدولة الأولى لِلغزو المغولي، والدولة الثانية لِلغزو اللاتيني خلال الحملة الصليبيَّة الرابعة، ما أحدث فراغًا سياسيًّا وعسكريًّا في الأناضول هيَّأ لِظُهور دولة تملأ هذا الفراغ على أنقاض الدولتين المُتداعيتين.
ومن الناحية السياسيَّة، فقد أظهر عُثمان مقدرةً فائقة في وضع النُظم الإداريَّة لِإمارته، بحيثُ قطع العُثمانيون في عهده شوطًا بعيدًا على طريق التحوُّل من نظام القبيلة المُتنقلة إلى نظام الإدارة المُستقرَّة، ما ساعدها على توطيد مركزها وتطوُّرها سريعًا إلى دولةٍ كُبرى، ثُمَّ أنَّ مركز الإمارة في الشمال الغربي للأناضول، بِجوار العالم المسيحي، قد فرض على العُثمانيين سياسة عسكريَّة مُعيَّنة بِوصفها إمارة حُدوديَّة، والمعروف في تاريخ الأناضول أنَّ الإمارات التي نشأت على الحُدود كانت أوفر حظًا في عوامل النُمو والتطوُّر من إمارات الداخل. وتبدو أهميَّة موقع الإمارة العُثمانيَّة من ناحية بُعدها عن مناطق الغزو المغولي وعن نُفوذ الإمارات التُركمانيَّة القويَّة في جنوبي الأناضول وجنوبه الغربي، ووُقوعها بالقُرب من طريق الحرير الذي يربط المناطق الروميَّة في الغرب بالمناطق التي يُسيطر عليها المغول في الشرق، الأمر الذي جعل لها خصائص استراتيجيَّة واقتصاديَّة بارزة. أضف إلى ذلك، شكَّلت الإمارة الرباط الوحيد الذي يُواجه المناطق البيزنطيَّة التي لم تُفتح بعد، فجلب إليها هذا الوضع الخاص أعدادًا كثيرة من التُركمان الطامعين في الغزو والجهاد، والدراويش الباحثين عن المُريدين، والمُزارعين الفارين من وجه المغول، وقد وجدوا في أراضيها الخصبة مكانًا مُلائمًا لِمُمارسة نشاطهم الزراعي.
حُلم عُثمان
تنص المصادر العُثمانيَّة على قصَّةٍ حدثت في بداية عهد عُثمان، علَّق عليها المُؤرخون المُسلمون قديمًا (وخُصوصًا الأتراك) الكثير من الأهميَّة لِرمزيَّتها. على أنَّ المُؤرخين المُعاصرين يتفقون على أنَّ هذه القصة ليست أكثر من وسيلة لِتعليل ظُهور وتقدُّم الدولة العُثمانيَّة وإحاطة هذا بهالةٍ روحانيَّة، لا سيَّما وأنَّ خُلفاء عُثمان حققوا الكثير من المُنجزات الهامَّة، فتمكنوا من توحيد البلاد الإسلاميَّة بعد قُرونٍ من تمزّقها، وأعادوا إحياء الخلافة الفعليَّة بعد أن أصبحت خلافة صُوريَّة تحت حماية سلاطين المماليك بِمصر مُنذ أن قتل المغول المستعصم بالله آخر خُلفاء بني العبَّاس في بغداد، وحققوا ما لم تقدر عليه أيَّة سُلالة إسلاميَّة أُخرى، ألا وهو فتح القُسطنطينيَّة وتخطوها إلى أوروپَّا الشرقيَّة. أضف إلى ذلك المُصادفة حيثُ تختصر تلك القصة أحداث قرنين من حياة الدولة العُثمانيَّة قبل أن تقع.
أمَّا تفاصيل هذه القصة، فتُفيد أنَّ عُثمان كان يبيتُ في تكيَّة مُعلِّمه الشيخ «إده بالي»، كما اعتاد أن يفعل مُنذ صغره، ليتقرّب من الشيخ سالِف الذِكر وينتفع بعلمه. وفي إحدى المرَّات رأى مُصادفةً «مال خاتون» ابنة الشيخ المذكور، فتعلَّق بها ورغب أن يتزوَّجها، ولكنَّ والدها أبى أن يُزوجها له. فحزن عُثمان لِذلك وأظهر الصبر والجَلَد ولم يرغب الاقتران بغيرها حتَّى قبل أبوها بعد أن قصَّ عليه عُثمان منامًا رآه ذات ليلة، وهو أنَّهُ رأى الهلال صعد من صدر هذا الشيخ وبعد أن صار بدرًا نزل في صدره (أي في صدر عُثمان)، ثُمَّ خرجت من صُلبه شجرة كالسراي نمت في الحال حتَّى غطَّت العالم بِظلِّها، واستقرَّت جبالٌ ثلاثة تحتها، وخرجت أنهارُ النيل ودجلة والفُرات والطونة (الدانوب) من جذعها، ورأى ورق هذه الشجرة كالسُيوف والرماح يُحوِّلُها الريح نحو مدينة القُسطنطينيَّة. وتحت الأغصان وقف صبيانٌ نصارى شُقر وعلى رؤوسهم تُل أبيض ينشدون الشهادة يتبعها عهد الولاء للسُطان. وكان الخلق من حول هؤلاء الصبيان بلا عدد على شُطوط الأنهار وفي خلجانها، يشربون ويزرعون ويصطنعون الفساقي. وكانوا يتوالدون والخير يورف في ديارهم، دونما يكف الصبيان عن الاستظلال بغصون الشجرة والإنشاد. فتفائل الشيخ من هذا المنام وأظهر سُروره الكبير وقبل تزويج ابنته إلى عُثمان، وبشَّره بأن أسرته ونسله سوف يحكمون العالم، وقال له واصفًا ما يكون عليه الحاكم الصالح:
عثمان الأول أيَ بُني! الآن أصبحت ملكًا! من الآن فصاعدًا، نحنُ نغتاظ؛ وأنت تُسعد! لنا الشَّقاء؛ وعليك الهناء! لنا الاتهام؛ وعليك الاحتمال! نحنُ العاجزون الخطَّاؤون؛ وأنت الصبور! نحنُ المُتقاتلون؛ وأنتم العادلون! نحنُ الحاسدون النمَّامون المُفترون؛ وأنتم المُتسامحون! أيَ بُني! من الآن فصاعدًا، نحنُ نُشرذم؛ وأنت تُوحِّد! نحنُ نتكاسل؛ وأنت تُنذر وتدفع! أيَ بُني! الصَّبر الصَّبر، فالزهرة لا تتفتح قبل أوانها. إيَّاك والنسيان: إرعى شعبك، وستزدهر دولتك! أيَ بُني! حملُك ثقيل، وشأنك عسير، وسُلطتك مُعلقة بِشعرة! أعانك ربُّ العالمين! عثمان الأول
وبحسب الرواية البكطاشيَّة، التي لا يُمكن الحُكم على دقَّتها كونها لم ترد إلَّا في المصادر البكطاشيَّة، ولم تُؤكَّد عبر مصدرٍ مُستقل، ولم تتمتَّع بِتأييدٍ كبيرٍ من غالبيَّة الباحثين؛ فإنَّ زوجة أبي عُثمان كانت تعيش مع الحاج بكطاش وليّ الذي كان في الوقت نفسه من دراويش الطريقة الوفائيَّة، وتحديدًا من مُريدي الشيخ بابا إلياس الخُراساني، وهو شيخ الطريقة البابائيَّة، ولمَّا تُوفي إلياس المذكور أصبح الحاج بكطاش وليّ والشيخ إده بالي خلفتين من خُلفاء بابا إلياس الستون، وكانا يُنظمان جماعات الآخية الفتيان المُحاربة والعاملة في الصناعة والزراعة، والذين كان لهم نُفُوذٌ كبير في أوساط الناس، فلمَّا تزوَّج عُثمان بنت الشيخ إده بالي، استطاع عن طريق تلك المُصاهرة تأمين وضعه بِالسيطرة على الآخيات وجعلها تابعةً له. نتيجة تلك المُصاهرة، دخل مشايخ الآخيات تحت رئاسة العُثمانيين، مما يُحتمل أن يكون قد لعب دورًا كبيرًا في تأسيس الإمارة العُثمانيَّة وتطوُّرها بعد وفاة عُثمان إلى دولةٍ في زمن ابنه أورخان.
العلاقات السياسيَّة في بداية عهد عُثمان
جرى ربط ظُهور عُثمان على الساحة السياسيَّة، واكتسابه لِوصف زعيم الجهاد بالعلاقة التي ربطته بالشيخ «إده بالي» التي تُوِّجت بالمُصاهرة كما سلف. ويميلُ بعض المُؤرخين إلى اعتبار زواج عُثمان بإبنة هذا الشيخ أوَّل خُطوةٍ سياسيَّةٍ بارعةٍ منه، إذ أنَّ هذا الشيخ كان قائدًا لِلفرقة البابائيَّة المنسوبة إلى بابا إسحٰق الذي قاد ثورةً ضدَّ سلاجقة الروم مُنذ حوالي سنة 1239م إلى أن قُبض عليه وشُنق سنة 1241م. وتُفسِّر علاقة المُصاهرة بين العُثمانيين والشيخ القائد لِهذه الجماعة، علاقة العداء التي قامت بين العُثمانيين وبين إمارة كرميان. فالمعروف أنَّ أُسرة كرميان قد كوفئت من قِبل السلاجقة بِسبب خدماتها في إخضاع الثورة البابائيَّة. أظهر عُثمان، في بداية عهده، براعةً سياسيَّةً في علاقاته مع جيرانه، حيثُ التحالفات تتجاوز الخُطوط القبليَّة والإثنيَّة والدينيَّة، ورُبما تبع في ذلك غريزته ومُتطلبات تطلُّعاته السياسيَّة، إلَّا أنهُ لم يُخطئ في تقدير النتائج المُستقبليَّة لِلعلاقات العائليَّة التي أقامها لِنفسه وضمنها لابنه من بعده. فأعاد تشكيل الثقافة السياسيَّة لِسلاجقة الروم بما يتوافق مع حاجات إمارته، فكان أكثر إبداعًا من جيرانه التُركمان في عمليَّات الدمج بين التقاليد التُركيَّة والإسلاميَّة والبيزنطيَّة. وتعاون عُثمان مع جيرانه البيزنطيين من قادة المُدن والقُرى الروميَّة، فكانت عشيرته حين تنتقل بين مناطق الرعي في الصيف تترك حاجيَّاتها في قلعة «بيله جك» البيزنطيَّة، وعند عودتها كانت تُهدي مسؤولي هذه القلعة عربون تقدير لِخدماتهم، من الجبن وزُبدة الحليب المحفوظة في جُلود الحيوانات، والسجَّاد الجيِّد، الأمر الذي يعكس علاقة التعايش بين الرُعاة والمُزارعين أو ساكني المُدن. وشكَّلت علاقة الصداقة بين عُثمان و«كوسه ميخائيل» حاكم قرية هرمنكايا ذُروة هذا التعايش والامتزاج بين المُسلمين والروم. أمَّا علاقاته بِخُصومه من الجماعات الإثنيَّة الأُخرى كالمغول، الذين انتقل مُعظمهم إلى مناطق الأطراف في غربيّ الأناضول، والكرميانيين؛ فقد كانت عدائيَّة لأنَّ التُرك بِعامَّة كانوا في حال عداء مع المغول، ثُمَّ أنَّ الكرميانيين كانوا من غير الغُز (الأوغوز) على الأرجح، فقد اصطدم مع «جغدار»، أحد قادة المغول في أرض كرميان، والواضح أنَّ الصراع مع المغول والكرميانيين كان أشد في أوائل عهد الإمارة.
وتحالف عُثمان مع الآخية الفتيان، وهؤلاء هم الجماعات المُنظمة التي كان أعضائها يعملون في حرفةٍ واحدة وقد جعلوا واجبهم حفظ العدل ومنع الظلم وإيقاف الظالم عند حده واتباع الشريعة الإسلاميَّة وما تُمليه الأخلاق الحميدة وتنفيذ واجبات عسكرية إن دعت الحاجة للدفاع عن حقوقهم وحُقوق المُسلمين. كما تحالف مع القبائل التُركمانيَّة القادمة إلى الأناضول، والتي شكَّلت القلب النابض لِهذه المُقاطعات الحُدوديَّة بشكلٍ عام، والإمارة العُثمانيَّة بِشكلٍ خاص، لأنَّهم كانوا أكثر نشاطًا وفعاليَّةً من التُرك المُستقرِّين في المُدن، كما أغرى الكثير من التُركمان القاطنين في منطقة المياندر وبفلاغونية على الانضمام إلى قُوَّاته. وكان هؤلاء التُركمان مُحاربين جيدين، يتلهفون إلى الجهاد والغزو، وانتسب كُلٌّ منهم إلى أحد شُيوخ الطُرق وإلى إحدى التكايا، حيثُ تعلَّموا معنى الجهاد في سبيل الله إلى جانب الكثير من المبادئ الشرعيَّة الإسلاميَّة. إلَّا أنَّ قسمًا آخر من هؤلاء التُركمان لم تكن لديهم روابط وثيقة بالدين الإسلامي لِأسبابٍ مُختلفة، فعهد عُثمان إلى الشُيوخ والدراويش أن يقوموا بِتربية هؤلاء تربيةً إسلاميَّة ويُشبعونهم بالقِيم التي تتمثل في تعظيم فتح الأقطار لاكتساب أراضٍ جديدة لِتوسيع رقعة دار الإسلام. والواقع أنَّ هؤلاء الشُيوخ والدراويش كانوا شديدي التحمُّس لِترويج طُرق «أولياء خُراسان»، فأقبلوا على تعليم النازحين الجُدد بشراهةٍ واضحة. أمَّا من حيث التراتُبيَّة الرئاسيَّة، فقد كان عُثمان تابعًا في البداية لِأمير بنو شيان في قسطموني، ثُمَّ للسُلطان السُلجوقي من خلال أمير كرميان في كوتاهية، الذي كان تابعًا بدوره إلى الإلخان المغولي في تبريز. وفي الحقيقة كان السُلطان السُلجوقي قد فقد في هذه الفترة القُدرة الفعليَّة على تسيير الأُمور، وكان الإلخان يُسيِّر أعماله بِواسطة الوُلاة العاملين الذين هُم في الوقت ذاته قادة عامّون يُعينهم في الأناضول، وكان على الأُمراء الحُدوديين - ومن بينهم عُثمان - أن يُرسلوا الجُند في حالة طلب الإلخان ذلك. وبطبيعة الحال، فإنَّ أئمة المساجد كانوا يُذكرون على المنابر أولًا اسم الخليفة العبَّاسي في مصر، ثُمَّ الإلخان المُقيم في تبريز، ثُمَّ السُلطان السُلجوقي في قونية، وأخيرًا اسم الأمير المحلّي.
تمدُّد الإمارة العُثمانيَّة
الغزوات الأولى وفتح قلعة قراجة حصار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق