الجمعة، 23 أغسطس 2019

منهج الإمام النسائي في سننه الصغرى(المجتبى)


منهج الإمام النسائي في سننه



ً1- ترجمة الإمام النسائي:

اسمه ونسبه ومولده:

هو الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن، أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر الخراساني النسائي.

ولد بنسا في سنة خمس عشرة ومئتين،

طلبه للعلم وشيوخه وتلامذته:

وطلب العلم في صغره، فارتحل إلى قتيبة في سنة ثلاثين ومئتين، فأقام عنده ببغلان  سنة، فأكثر عنه.

وسمع من: إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، ومحمد بن النضر بن مساور، وسويد بن نصر، وعيسى بن حماد زغبة، وأحمد بن عبدة الضبي، وأبي الطاهر بن السرح، وأحمد بن منيع، وإسحاق بن شاهين، وبشر بن معاذ العقدي، وبشر بن هلال الصواف، وتميم بن المنتصر، والحارث بن مسكين، والحسن بن صباح البزار، وحميد بن مسعدة، وزياد بن أيوب، وزياد بن يحيى الحساني، وغيرهم كثير، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: سمع من خلائق لا يحصون.

وقد روى النسائي في " سننه " مواضع يقول: حدثنا أبو داود، فالظاهر أن أبا داود في كل الأماكن هو السجستاني، فإنه معروف بالرواية عن السبعة، لكن شاركه أبو داود سليمان بن سيف الحراني في الرواية عن بعضهم، والنسائي مكثر عن الحراني، وقد روى النسائي في كتاب " الكنى "، عن سليمان بن الأشعث، ولم يكنه، وذكر الحافظ ابن عساكر في "النبل" أن النسائي يروي عن أبي داود السجستاني.

قال الذهبي في السير: حدث عنه: أبو بشر الدولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو علي النيسابوري، وحمزة بن محمد الكناني، وأبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس النجوي، وأبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد الشافعي، وعبد الكريم بن أبي عبدالرحمن النسائي، وأبو بكر أحمد بن محمد بن السني، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، ومحمد بن معاوية بن الأحمر الأندلسي، والحسن بن رشيق، ومحمد بن عبد الله بن حيويه النيسابوري، ومحمد بن موسى المأموني، وأبيض بن محمد بن أبيض، وخلق كثير.

بعض صفاته:

قال الذهبي: وكان شيخنا مهيبا، مليح الوجه، ظاهر الدم، حسن الشيبة.. وكان نضر الوجه مع كبر السن، يؤثر لباس البرود النوبية والخضر، ويكثر الاستمتاع، له أربع زوجات، فكان يقسم لهن... ومع ذلك فكان يصوم صوم داود ويتهجد

عقيدته ومذهبه:

قال قاضي مصر أبو القاسم عبد الله بن محمد بن أبي العوام السعدي: حدثنا أحمد بن شعيب النسائي، أخبرنا إسحاق بن راهويه، حدثنا محمد بن أعين قال: قلت لابن المبارك: إن فلانا يقول: من زعم أن قوله تعالى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني) [ طه: 14 ] مخلوق، فهو كافر. فقال ابن المبارك: صدق، قال النسائي: بهذا أقول.

وأما رمي به من التشيع والانحراف عن خصوم علي، فبسبب تأليفه لكتاب خصائص علي رضي الله عنه، فمن أحسن ما يعتذر له به ما قاله هو لما سُئل عن ذلك:

قال الوزير ابن حنزابة: سمعت محمد بن موسى المأموني صاحب النسائي قال: سمعت قوما ينكرون على أبي عبد الرحمن النسائي كتاب: " الخصائص" لعلي رضي الله عنه، وتركه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك، فقال: دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير، فصنفت كتاب: " الخصائص"، رجوت أن يهديهم الله تعالى.

وبالنسبة لمذهبه الفقهي فقد قال ابن الأثير في أول " جامع الأصول ": كان شافعيا، له مناسك على مذهب الشافعي، وكان ورعا متحريا.

قال الذهبي في معرض ثنائه على النسائي: إلا أن فيه قليل تشيع وانحراف عن خصوم الإمام علي، كمعاوية وعمرو، والله يسامحه.

ثناء العلماء عليه:

قال ابن منده: الذين خرجوا الصحيح وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب أربع: البخاري ومسلم وبعدهما أبو داود والنسائي.

قال الحافظ أبو علي النيسابوري: أخبرنا الإمام في الحديث بلا مدافعة أبو عبد الرحمن النسائي.

وقال أبو الحسن الدارقطني: أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره.

قال محمد بن المظفر الحافظ: سمعت مشايخنا بمصر يصفون اجتهاد النسائي في العبادة بالليل والنهار، وأنه خرج إلى الفداء مع أمير مصر، فوصف من شهامته وإقامته السنن المأثورة في فداء المسلمين، واحترازه عن مجالس السلطان الذي خرج معه، والانبساط في المأكل، وأنه لم يزل ذلك دأبه إلى أن استشهد بدمشق من جهة الخوارج.

قال الذهبي في السير: وكان من بحور العلم، مع الفهم، والإتقان، والبصر، ونقد الرجال، وحسن التأليف، جال في طلب العلم في خراسان، والحجاز، ومصر، والعراق، والجزيرة، والشام، والثغور، ثم استوطن مصر، ورحل الحفاظ إليه، ولم يبق له نظير في هذا الشأن.. وقال أيضاً: ولم يكن أحد في رأس الثلاث مئة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن أبي عيسى، وهو جار في مضمار البخاري، وأبي زرعة.

بعض مؤلفاته:

له مؤلفات كثيرة من أهمها "السنن الكبرى" و"السنن الصغرى(المجتبى)" و" مسند علي " وأما كتاب "خصائص علي " فهو داخل في " سننه الكبير " كما قال الذهبي، وكذلك كتاب "عمل يوم وليلة" (وكتاب ابن السني كالمستخرج على كتاب النسائي" وله كتاب " التفسير " و" الضعفاء" و"الكنى" وغيرها

وفاته:

قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ سمعت علي بن عمر يقول كان أبو عبد الرحمن النسائي أفقه مشايخ مصر في عصره وأعرفهم بالصحيح والسقيم من الآثار وأعلمهم بالرجال فلما بلغ هذا المبلغ حسدوه فخرج إلى الرملة، فسئل عن فضائل معاوية فأمسك عنه فضربوه في الجامع، فقال: أخرجوني إلى مكة فأخرجوه إلى مكة وهو عليل وتوفي بها مقتولا شهيدا قال الحاكم أبو عبد الله: ومع ما جمع أبو عبد الرحمن من الفضائل رزق الشهادة في آخر عمره.

قال أبو سعيد بن يونس في تاريخه كان النسائي إماما حافظا ثبتا خرج من مصر في شهر ذي القعدة سنة اثنتين وثلاث مائة وتوفي بفلسطين يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاث مائة، ولعل هذا الأرجح أنه توفي بفلسطين.

مصادر ترجمته: وفيات الأعيان(1/ 78،77)، تهذيب الكمال(1/ 25،23)، تذهيب التهذيب(1/ 12/ 1)، تهذيب التهذيب(1/ 37، 36)، تذكرة الحفاظ(2 /701،698 )، العبر( 2 / 124،123)، دول الإسلام(1/ 184) الوافي بالوفيات(6/417 ،416)، طبقات الشافعية للسبكي(3/ 16،14)، البداية والنهاية(11/ 124،123)



2ً- كتاب (المجتبى) السنن للنسائي:

اسم الكتاب:

أطلق عليه اسم "الصحيح " كل من ابن منده وابن السكن وأبي علي النيسابوري والدارقطني وابن عدي والخطيب البغدادي، فلعل مقصودهم من هذه التسمية: تحريه وشدة شرطه إذا قورن بشرط غيره من أصحاب السنن.

ويسمى " السنن الصغرى" تمييزاً له عن الكبرى.

ويسمى " المجتبى" لأن النسائي اصطفاه وانتقاه من السنن الكبرى، ومنه قوله تعالى:]فاجتباه ربه[

ويسمى " المجتنى" - بالنون- من: جنى الثمرة واقتطفها وجرّها إليه، ويصح إطلاق هذا الاسم على السنن الصغرى لأنه اقتطفها من السنن الكبرى.

قيمة الكتاب العلمية وثناء العلماء عليه:

قال الحاكم: كلام النسائي على فقه الحديث كثير، ومن نظر في سننه تحير في حسن كلامه.

قال ابن رشيد: كتاب النسائي أبدع الكتب المصنفة في السنن تصنيفاً وأحسنها ترصيفاً، وهو جامع بين طريقي البخاري ومسلم مع حظٍ كبير من بيان العلل التي كأنها كِهانة من المتكلم.

قال السِّلفي: الكتب الخمسة اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب.

هل السنن الصغرى (المجتبى) من تصنيف الإمام النسائي أو ابن السني؟ هناك رأيان في المسألة:

1- الرأي الأول: أنها تنسب إلى ابن السني، وقد قال بهذا القول: الذهبي وتبعه ابن ناصر الدين الدمشقي. قال الذهبي في تاريخ الإسلام: والذي وقع لنا من سننه هو الكتاب المجتبى من انتخاب أبي بكر بن السني

2- الرأي الثاني: أنها تنسب للإمام النسائي، وهو رأي أكثر العلماء، ومنهم ابن الأثير وابن كثير والعراقي والسخاوي، وغيرهم، ولعل هذا الرأي هو الراجح، ومن الأدلة عليه:

•1- حكاية مفادها أن أمير الرملة لما اطلع على السنن الكبرى للنسائي سأله: هل كل ما في هذا الكتاب صحيح؟ قال: لا ، فقال: أخرج لي الصحيح منه، فانتقى هذا المجتبى ( قلت: وهذه القصة ضعفها كثير من العلماء فإن الواقع يكذبها، فكم من حديث في السنن الصغرى أعله النسائي نفسه).

•2- ما نقله ابن خير في الفهرست(ص116): عن أبي علي الغساني(ت498هـ) قوله:( كتاب الإيمان والصلح ليسا من المصنف إنما هما من المجتبى له بالباء في السنن المسندة لأبي عبد الرحمن النسائي اختصره من كتابه الكبير المصنف..)

•3- وجود نسخ خطية قديمة تفيد بأن السنن الصغرى من تأليف النسائي وأن ابن السني مجرد راوٍ لها عن النسائي.

•4- أن ابن الأثير عندما ضم المجتبى في جامع الأصول ساقه بإسناده إلى النسائي من طريق ابن السني، ففيه نص ظاهر أنها من تأليف النسائي، ولو كانت من تأليف ابن السني لنص عليه ابن الأثير ولاكتفى بالإسناد إلى ابن السني.

•5-   أن ابن السني ذاته نص أنه سمع المجتبى من النسائي في مواضع من الكتاب.

وقد قال ابن كثير في ترجمة النسائي من البداية والنهاية( 11/123): "وقد جمع السنن الكبير، وانتخب ما هو أقل حجماً منه بمرات، وقد وقع لي سماعهما."

رواة السنن عن النسائي:

روى السنن عن مصنفها جماعة، منهم:

ابنه عبد الكريم، وأبو بكر أحمد بن إسحاق الدينوري ابن السني، وأبو الحسن أحمد بن محمد بن أبي التمام، وأبو محمد الحسن بن رشيق العسكري، وأبو محمد بن معوية القرشي الأندلسي ابن الأحمر، وغيرهم.

شرطه في كتابه:

قال الإمام ابن طاهر المقدسي في "شروط الأئمة الستة"ص88: وأما أبو داود فمن بعده فإن كتبهم تنقسم على ثلاثة أقسام:

•1- القسم الأول: صحيح؛ وهو الجنس المخرج في هذين الكتابين للبخاري ومسلم، فإن أكثر ما في هذه الكتب مخرج في هذين الكتابين، والكلام عليه كالكلام على الصحيحين فيما اتفقا عليه واختلفا فيه.

•2- والقسم الثاني: صحيح على شرطهم، حكى أبو عبد الله بن منده أن شرط أبي داود والنسائي: (إخراج أحاديث أقوام لم يجمع على تركهم، إذا صح الحديث باتصال الإسناد من غير قطع ولا إرسال)، ويكون هذا القسم من الصحيح...

قلت: قال الحافظ ابن حجر: المراد إجماعاً خاصاً، وذلك أن كل طبقة لا تخلو من متشدد ومتوسط ..فإذا أجمع أصحاب الطبقة الواحدة على ترك رجل ٍ تركاه، وإن اختلفوا فيه خرجا حديثه.

•3- والقسم الثالث: أحاديث أخرجوها للضدية في الباب المتقدم، وأوردوها لا قطعاً منهم بصحتها، وربما أبان المخرِّج لها عن علتها بما يفهمه أهل المعرفة. فإن قيل: لم أودعوها كتبهم ولم تصح عندهم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: رواية قومٍ لها واحتجاجهم بها، فأوردوها وبينوا سقمها لتزول الشبه.

والثاني: أنهم لم يشترطوا ما ترجمه البخاري ومسلم على ظهر كتابيهما من التسمية بالصحة، فإن البخاري قال: ما أخرجت في كتابي إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطول. ومسلم قال: ليس كل حديث صحيح أودعته هذا الكتاب، وإنما أخرجت ما أجمعوا عليه. ومن بعدهم لم يقولوا ذلك، فإنهم كانوا يخرجون الشيء وضدَّه.

والثالث: أن يقال لقائل هذا الكلام: رأينا الفقهاء وسائر العلماء يوردون أدلة الخصم في كتبهم، مع علمهم أن ذلك ليس بدليل، فكان فعلهما - يعني أبا داود والنسائي- هذا كفعل الفقهاء، والله أعلم.

وقال الحازمي في "شروط الأئمة الخمسة "(ص150) بعد أن ذكر مذهب من يخرج الصحيح: .. وهذا باب فيه غموض، وطريقه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم. ولنوضح ذلك بمثال، وهو أن تعلم أن أصحاب الزهري مثلا على طبقات خمس، ولكل طبقة منها مزية على التي تليها وتفاوت. فمن كان في الطبقة الأولى فهو الغاية في الصحة، وهو غاية مقصد البخاري والطبقة الثانية شاركت الأولى في العدالة، غير أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري، حتى كان فيهم من يُزامله في السفر ويُلازمه في الحضر، والطبقة الثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة فلم تمارس حديثه، وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى، وهم شرط مسلم. والطبقة الثالثة: جماعة لزموا الزهري مثل أهل الطبقة الأولى، غير أنهم لم يسلموا من غوائل الجرح، فهم بين الرد والقبول، وهو شرط أبي داود والنسائي.

وقال الحافظ ابن طاهر: سألت سعد بن علي الزنجاني عن رجل، فوثقه، فقلت: قد ضعفه النسائي، فقال: يا بني ! إن لأبي عبد الرحمن شرطا في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم.

قلت- أي الذهبي -: صدق، فإنه لين جماعة من رجال صحيحي البخاري ومسلم.

وقال أبو طالب أحمد بن نصر الحافظ: من يصبر على ما يصبر عليه النسائي ؟ عنده حديث ابن لهيعة ترجمة ترجمة يعنى عن قتيبة، عن ابن لهيعة قال: فما حدث بها.

وقال حمزة بن يوسف السهمي: وسئل يعني الدارقطني إذا حدث أبو عبد الرحمن النسائي وابن خزيمة بحديث أيما تقدمه؟ فقال: أبو عبد الرحمن، فإنه لم يكن مثله ولا أقدم عليه أحدا، ولم يكن في الورع مثله لم يحدث بما حدث ابن لهيعة وكان عنده عاليا عن قتيبة

وقال السخاوي في ختمه على النسائي (ص61): وقد سئل شخنا - رحمه الله - عن ذكر النسائي لبعض الأئمة في ضعفائه، فأجاب بقوله: ( النسائي من أئمة الحديث، والذي قاله إنما هو بحسب ما ظهر له وأدَّاه إليه اجتهاده، وليس كل أحدٍ يؤخذ بجميع قوله سيما وقد وافق النسائي في مطلق  القول جماعة).

ومن تشدده في الرجال أنه تجنب إخراج أحاديث جماعة ممن أخرج لهم صاحبا الصحيحين، مثل: إسماعيل بن أبي أويس، بل إن الدارقطني جمع مصنفا في أسماء الرواة الذين ضعفهم النسائي وأخرج لهم الشيخان في صحيحيهما.

وقد صرح النسائي بأنه لا يترك حديث الراوي حتى يجمع الجميع على تركه، وهذا في الظاهر مذهب متسع كما قال ابن منده، وليس كذلك بل مقصوده إجماعاً خاصاً كما بين ابن حجر؛ وهو أن كل طبقة لا تخلو من متشدد ومتوسط، فالنسائي لا يترك حديث الراوي حتى يجمع علماء الطبقة الواحدة على تركه.. مثال ذلك: أنه أخرج حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم ثم قال: " ابن خثيم ليس بالقوي في الحديث، ويحيى بن سعيد القطان لم يترك ابن خثيم ولا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي- إلا أن علي بن المديني قال: ابن خثيم منكر الحديث". فهذا الراوي مختلف فيه، فلذلك أخرج حديثه لأنه لم يجمع الجميع تركه.

وقد نصَّ ابن حجر في تهذيب التهذيب على أن النسائي من المتشددين في الجرح والتعديل.

منهج الإمام النسائي في المجتبى:

قال السخاوي: ولعمري فكتابه بديعٌ لمن تدبره، وتفهَّم موضوعه وكرَّره، وكم من جواهرٍ اشتمل عليها، وأزاهر انتعشت الأرواح بالدخول إليها وذلك:

•1- أنه يفسِّر الغريب أحيانا: -كقوله في حديث الأعرابي الذي بال: " لا تزرموه" يعني: " لا تقطعوا عليه" ومرة: " لا تقطعوه" ...

•2-   ويعيِّن المهمل: - كقوله فيما رواه من جهة بكر: - وهو بن مُضر-

•-       وفيما رواه من جهة عبد الله: - وهو ابن القِبطية -

وقد يذكره - أي المهمل - مع الشك ...

•3-   ويسمي المبهم:

- في أصل السند: كإيراده حديث محمد بن عبد الرحمن عن رجل عن جابر رضي الله عنه مرفوعا... ثم ساقه من طريق محمد - أيضاً - فقال: ( عن محمد بن عمرو بن حسن عن جابر) ...

-  وكذلك في المتن: - كقوله في حديث ذي اليدين: فقام إليه رجل يقال له: الخِرباق. بل أورده كذلك في موضع آخر مسمىً في أصل رواية أخرى.

- والمكنى: كقوله فيما رواه: - من جهة أبي مُعَيد: هو حفص بن غيلان.

- ومن جهة أبي هشام: هو المغيرة بن سلمة.



•-       كقوله: أخبرنا زكريا بن يحيى: هو أبو كامل ..

•-         وذكوان: أبو صالح

•-       وذكوان: أبو عمرو.

•5-   ويشير للمتفِق والمفترق، ومنه: آخر الأمثلة في الذي قبله.

•6-   ونحوه مما يندفع به تعدد الواحد، " كهارون بن أبي وكيع وهو هارون بن عنترة"

ولما يزول به اللبس من ذلك، فساق: من طريق ابن المبارك عن أبي جعفر عن أبي سلمان، وقال: ( وليس بأبي جعفر الفرّاء)

•7-   وهو كثيراً ما يسمي المنقطع مرسلاً، وكثيراً ما يرجح المرسل على المتصل بقرينة على ذلك.

•8- يحرص النسائي في الباب الواحد على إخراج الحديث الصحيح إذا وجده، فإن لم يجد أخرج بعض الأحاديث الضعيفة التي يرى أن رواتها المضعفين ممن لم يجمع الأئمة على ضعفهم وترك حديثهم، وربما أخرج الحديث الصحيح ثم أعقبه ببعض الأحاديث الضعيفة وذلك لكون الحديث الضعيف تضمن زيادة لم ترد في الحديث الصحيح. وهو يبين أصح ما في الباب، كقوله عقب حديث عبد الله بن عُكيم:" كتب إلينا رسول الله r: لا تستمتعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" :( أصح ما في هذا الباب في جلود الميتة إذا دُبغت حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة: ألا دبغتم إهابها فاستمتعتم به)

•9- اعتنى رحمه الله بالناحية الفقهية، فكتابه جامع بين الناحيتين الفقهية والحديثية، كما هو صنيع الترمذي في كتابه، ومن الأدلة على عنايته بالناحية الفقهية:

•1- تكراره للحديث، فإنه يكرر الحديث في مواضع متعددة، كما هو الحال عند البخاري. والذي دعاه لذلك كثرة التفريعات والتفصيلات في الباب الواحد في كتابه، حتى إن القارئ ليشعر أنه يتناول كتاباً فقهياً يخرج للفقهاء آراءهم ويبين مستندهم.. ومثال ذلك: حديث " إنما الأعمال بالنيات" كرره ست عشرة مرة.

•2- أنه أحيانا يقتصر على موضع الشاهد من الحديث، ويختصر المتون، وهذه نزعة إلى الفقه أقرب منها إلى الحديث.

•3-   أنه أحيانا يورد كلاماً من عنده يدل على فقه الحديث.

•4- أنه يورد أحيانا بعض الأحاديث المتعارضة في الباب الواحد إذا صحت عنده، وكأنه يشير إلى جواز العمل بهذا وذاك، كما في أحاديث الجهر والإسرار بالبسملة، فإنه أورد أحاديث الجهر والإسرار بها، وكذلك فعل في الإسفار والتغليس لصلاة الفجر (1/271)

•5- أن كتابه لا يخلو من نقلٍ عن الفقهاء، وإن كان ذلك قليلاً، مثال ذلك: في (8/314) نقل عن مسروق فتوى في الهدية والرشوة وشرب الخمر.

•6- ينقل صور كتب فقهية في المزارعة والشركات والتدبير، وهذا عمل فقهي محض، مثاله: قال أبو عبد الرحمن: كتابة المزارعة على أن البذر والنفقة على صاحب الأرض، وللمزارع ربع ما يخرج الله عز وجل منها هذا كتاب فلان وفلان..

ومن الأدلة على عنايته بالناحية الحديثية:

•1- أنه يعتني بعلل الأحاديث، وينقد المتون التي ظاهرها الصحة. ويوجد في كتابه ما لا يوجد في غيره من بيان العلل والتنبيه على أوهام بعض الحفاظ، مثال ذلك: قوله في (7/88): أخبرنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا الأنصاري، قال: حدثنا محمد بن عمرو عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت قال:... الحديث ثم قال: قال أبو عبد الرحمن: محمد بن عمرو لم يسمعه من أبي الزناد. وأيضاً في (3/49) قال أبو عبد الرحمن: أنبأنا قتيبة بهذا الحديث مرتين، ولعله أن يكون قد سقط عليه منه شطر.

•2- ويبين الحديث المنقطع ، كقوله في حديث مخرمة بن نُكير عن أبيه: (مخرمة لم يسمع من أبيه شيئاً).. ويبين المرسل، كقوله في حديث لجرير عن منصور عن رِبعي عن حذيفة رفعه: " لا تقدَّموا الشهر" :( أرسله الحجاج بن أرطاة عن منصور بدون حذيفة)

•3- يعتني بنقد الرجال، وهو في الغالب لا يسكت عن الضعيف، بل يبينه، ومثال ذلك: قوله في عمرو: ليس بالقوي في الحديث، وإن كان روى عنه مالك. وقوله في محمد بن الزبير الحنظلي عقب حديث" لا نذر في غضب..": ضعيف لا تقوم بمثله حجة، وقد اختلف عليه في هذا الحديث، ثم بدأ يسوق اختلاف رواياته التي اضطرب بها مدللاً على كلامه (المجتبى 7/28)، وكلامه في العلل والجرح والتعديل كثير حتى لا يكاد يخلو كتاب من كتب الرجال من نقلٍ عن النسائي، وقد تلقى العلماء ذلك من سننه ومن كتبه الأخرى، وقد اعتمدوا على جرحه وتعديله لأنه كان في غاية التحري والدقة. وهذا الأمر غير موجود في صحيح البخاري ولا صحيح مسلم، ويوجد بقلة عند الترمذي وبشكل نادر عند أبي داود وابن ماجه.

•4- تسميته لبعض المكنين وتكنيته لبعض المشهورين بأسمائهم، مما قد يلتبس في الأسانيد، مثاله: في (5/49) قال أبو عبد الرحمن: أبو عمار اسمه عريب بن حميد، وعمرو بن شرحبيل يكنى أبا ميسرة.

•5- محافظته على سياق الأحاديث بإسنادها، فيندر أن تجد معلقاً ولعله لا يوجد في المجتبى سوى موضعين لهما صورة المعلق ويمكن أن يحملا على الاتصال.

•6- حكمه على الأحاديث؛ وقد استعمل كثيراً من المصلحات الحديثية السائدة في عصره، فكثيرا ما يقول: هذا حديث منكر أو غير محفوظ، أو ليس بثابت، أو أخطأ فيه فلان، أو هذا حديث صحيح. وقد اعتنى الأئمة بنقل أحكام النسائي على الأحاديث لأنه إمام مطلع.

•7- ويشير إلى الحديث المنكر، والغريب، والموقوف، ولما يعلم منه عدم التلازم بين السند والمتن حيث وصف سند بالحسن ومتنه بالنكارة، وللمدرج، ولما يدرج في حديث بعض الرواة مما هو عند غيرهم، ولما يشير به لنوع من التدليس، ولما لعله يقع تصحيفاً، ويشير لما يثبت به العلة أو يدفعها، وإذا اختلف الرواة في شيء رجح بالأثبتية ونحوها، وربما يشير لإيضاح النسبة، ويسرد نسب شيخه أحياناً، وكذا لقبه، وللمحل الذي سمع من شيخه فيه، ولما يزول به اللبس كقوله: (أخبرنا عبد الله بن محمد الضعيف- شيخ صالح- والضعيف: لقبٌ لكثرة عبادته)، ونحوه:( الضال لكونه ضل الطريق).( ختم السخاوي على سنن النسائي باختصار وتصرف يسير)

•8- سياقه الروايات وبيان الخلافات في الأسانيد والمتون، ويرجح بينها اعتماداً على الأحفظ والأكثر، كما نص على ذلك ابن حجر في ( نتائج الأفكار ص45).

أوجه الشبه بين منهج الإمام النسائي ومنهج الإمامين البخاري ومسلم:

•1- يشبه منهج البخاري في تدقيق الاستنباط والتبويب لما يستنبطه بحيث يكرر لذلك المتون، ومثاله: قصة عائشة رضي الله عنها في اتباعها سراً للنبي r لما خرج من عندها ليلاً إلى البقيع.  فإنه ذكرها في:

0 الأمر بالاستغفار للمؤمنين من الجنائز.

0 وأعادها في الغيرة من النكاح بسندها ومتنها سواء، ولكن بزيادة في نسب شيخه فقط، وباختصار يسير في آخر المتن، مع زيادة طريقين للحديث...

•2-   وكذا شابه البخاري في التقليل من الإتيان بحاء للفصل بين السندين، بل هي عنده قليلة جداً.

•3- ووافقه على جواز الرواية بالمعنى ومنه: روايته من جهة ابن عليَّة عن أيوب وابن عون وسلمة بن علقمة وهشام بن حسان؛ دخل حديث بعضهم في بعض كلهم عن محمد بن سيرين. قال سلمة - فقط - في روايته: نبِّئتُ عن أبي الجعفاء. وقال الباقون: عنه. بلا واسطة.

•4- وفيما ذهب إليه من المسمى أصح الأسانيد وإن خالفه في نفس التراجم، فقال: إن أصح الأسانيد ما رواه ابن شهاب عن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده... وذكر تمام أربع تراجم.

•5- وشابه مسلماً في كثير مما اعتنى به معهما. كالإشارة لصاحب اللفظ ممن يورد المتن عنهم أو عنهما. وربما يقول: لفظ فلان كذا، ولفظ الآخر كذا. ومنه: ما رواه من طريق حجاج ورَوْح كلاهما عن ابن جريج، وساق الحديث " من شك في صلاته فليسجد سجدتين" قال حجاج: "بعدما يسلِّم" وقال رَوح: " وهو جالس".

•6- وكذا شابه مسلماً في الاعتناء بصيغة التحديث، كقوله: " أخبرني: الحسن بن إسماعيل وأيوب بن محمد قالا: حدثنا حجاج بن محمد" قال أيوب: حدثنا، وقال حسن: أخبرني شعبة.

•7-   وشابهه في بيان ما عند الراويين من لفظ:( النبي) و(الرسول)..

•8-   وشابهه في إرداف العام بالمخصص، والمجمل بالمبيَّن المنصص، والمنسوخ بالناسخ له، ونحوه..

•9- وفي الكناية عن الضعيف إذا قُرن في الرواية بثقة، كروايته في غير موضع عن محمد بن عبد الله بن يزيد المُقرئ عن أبيه عن حَيْوة، وذكر آخر كلاهما عن شرحبيل بن شريك، فإن المبهم هنا هو ابن لهيعة، كما صرحت به رواية لأحمد في مسنده في أمثلة لذلك عن ابن لهيعة وغيره ... والظاهر من حاله في التثبت أنه عرف أن لفظهما أو معناهما سواء، وفائدة ذلك: الإشعار بضعف المبهم، وكونه ليس من شرطه، وكثرة الطرق ليترجح بها الخبر عند المعارضة. ( بغية الراغب المتمني في ختم النسائي بتصرف يسير)

ما انفرد به النسائي عن بقية الكتب الستة:

انفرد بعقد:

كتابٍ للتطبيق، ذكر فيه: حديث النهي عن وضع اليدين بين الركبتين، وكذا الإمساك بالركب في الركوع، ونحو ذلك.

وكتابٍ للشروط مما ينتفع به القضاة والموثقون.. (ختم السخاوي على النسائي )

الانتقاد الموجه إليه والجواب عن هذا الانتقاد:

انتقد الإمام النسائي بإخراجه عن رجال مجهولين حالاً أو عيناً، والجواب عن هذا الانتقاد: أن إخراجه عن هؤلاء الرجال لا يغضُّ من قيمة مصنفه خصوصاً المجهولي الحال، وذلك أن هذا الصنيع مذهبٌ لعدد من المحدثين كابن حبان وغيره، وقد ارتضى هذا المذهب غير واحد من الأئمة منهم ابن حجر حيث عدَّ هذا الفعل من قبيل إدخال الحسن في قسم الصحيح وذلك اصطلاح لا مشاحة فيه، كما أن ابن حجر قد ارتضى رواية النسائي عن شيوخه مجهولي الحال والعين توثيقاً وتعديلاً ورفعاً للجهالة عنهم حيث قال في تهذيب التهذيب(1/89) - مستدركاً على الذهبي تجهيله لأحمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني- : قلت: بل يكفي رواية النسائي عنه في التعريف بحاله وتوثيقه له.

ومن شدة انتقاء النسائي وتحريه استنتج التهاوني نتيجة مهمة في كتابه "قواعد في علوم الحديث" حيث قال: وكذا من حدَّث عنه النسائي فهو ثقة. (وينبغي أن تقيَّد هذه القاعدة فيما إذا لم يضعفه النسائي نفسه)

ومن الانتقاد الموجه له: أن ابن الجوزي أورد حديثاً موضوعاً من سنن النسائي. ويجاب: بأن الأئمة الذهبي وابن حجر والسيوطي وغيرهم قد ردُّوا على ابن الجوزي صنيعه هذا وبينوا أنه لا يوجد في السنن حديثاً موضوعاً

أعلى ما عند النسائي في كتابه وأنزل ما عنده:

لم يقع للنسائي أسانيد ثلاثية كما وقعت للبخاري (وقد بلغت 22 حديثا كما في الحطة ص86)، وللترمذي (حديثاً واحداً في كتاب الفتن )، ووقع عند ابن ماجه خمسة أحاديث ثلاثية لكنها ضعيفة، فأعلى ما عند النسائي الأسانيد الرباعية، وأنزل ما عنده إسناد عشاري.

من الدراسات حول سنن الصغرى:

الشروح:

1- شرح لأبي العباس أحمد بن أبي الوليد بن رشد (563هـ)

2- شرح سراج الدين ابن الملقن (804هـ) زوائده على الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي.

•3-   شرحه السيوطي شرحا مختصرا وسماه: "زهر الربى على المجتبى"

•4-   حاشية لأبي الحسن محمد بن عبد الهادي السندي (1136هـ)، وهي مطبوع مع "زهر الربى"

•5-   شرح محمد آدم الإثيوبي الولوي، وهو شرح موسع، وهو مطبوع.

•6-   التعليقات السلفية على سنن النسائي لمحمد عطاء الله حنيف.

واعتنى بتسمية شيوخ النسائي في سننه:

•1-   أبو محمد عبد الله بن محمد بن أسد الجهني (ذكره ابن خير في الفهرست ص221)

•2-   أبو علي الحسين بن محمد الجياني (498هـ)

•3-   رجال النسائي، لأبي محمد الدورقي (ذكره الكتاني في الرسالة المستطرفة)

•4-   شيوخ النسائي، لأبي بكر محمد بن إسماعيل بن خلفون (636هـ)

واعتنى الشيخ الألباني بالتمييز بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة في سنن النسائي في كتابيه "صحيح النسائي" و"ضعيف النسائي"

وهناك دراسة عن سنن النسائي لقاسم علي سعد، في خمس مجلدات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

زياد علي

زياد علي محمد