كتبه/ محمد سرحان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
السلطان الكبير يمين الدولة فاتح الهند أبو القاسم "محمود بن سبكتكين" الغزنوي:
قال عنه شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ولما كانت مملكة محمود بن سبكتكين من أحسن ممالك بني جنسه؛ كان الإسلام والسنة في مملكته أعز؛ فإنه غزا المشركين من أهل الهند، ونشر مِن العدل ما لم ينشره مثله، فكانت السنة في أيامه ظاهرة، والبدع في أيامه مقموعة".
وقال عنه ابن كثير -رحمه الله-: "يمين الدولة، وأمين الملة، وصاحب بلاد غزنة وما والاها، سار فيهم وفي سائر رعاياه سيرة عادلة، وقام في نصر الإسلام قيامًا تامًا، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها، وعظُم شأنه، واتسعت مملكته وامتدت رعاياها، وطالت أيامه؛ لعدله وجهاده وما أعطاه الله إياه".
وقال عنه الذهبي -رحمه الله- في السير: "خافته الملوك، واستولى على إقليم خراسان، ونَفَّذ إليه القادر بالله خلع السلطنة، ففرض على نفسه كل سنة غزو الهند، فافتتح بلادًا شاسعة، وكسر الصنم "سومنات" الذي كان يعتقد كفرة الهند أنه يحيي ويميت ويحجونه ويقربون له النفائس".
وقال السبكي -رحمه الله- في طبقات الشافعية: "أحد أئمة العدل ومن دانت له البلاد والعباد وظهرت محاسن آثاره، كان إمامًا عادلاً شجاعًا مفرطـًا، فقيهًا فهمًا، سمحًا جوادًا، وهو أحد أربعة لا خامس لهم في العدل بعد عمر بن عبد العزيز، ونور الدين محمود زنكي، وصلاح الدين، ونظام الملك.
كان -رحمه الله- مائلاً إلى الأثر إلْبًا على القرامطة والإسماعيلية وعلى المتكلمين على بدعة فيه فيما قيل؛ فقد كان من الكرَّامية ويغضب لهم -والكرامية إحدى فرق المرجئة-؛ فيغفر الله له هذه البدعة(1).
ورد إليه كتاب من "الحاكم" -الخليفة الفاطمي- يدعوه إلى طاعته، فخرق كتابه وبصق عليه.
قدم عليه "التاهرتي" الداعي من مصر يدعوه سرًا إلى مذهب الباطنية، وكان "التاهرتي" يركب بغلاً يتلون كل ساعة من كل لون، ففهم السلطان سر دعوتهم، فغضب وقتل "التاهرتي" الخبيث، وأهدى بغله إلى القاضي أبي منصور محمد بن محمد الأزدي شيخ هراة، وقال: كان يركبه رأس الملحدين، فليركبه رأس الموحدين.
دخل عليه ابن فورك(2)، فقال للسلطان: لا يجوز أن يوصف الله بالفوقية؛ لأن لازم ذلك وصفه بالتحتية، فمن جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت، فقال السلطان: ما أنا وصفته حتى يلزمني، بل هو وصف نفسه؛ فبهت ابن فورك، فلما خرج مِن عنده مات.
وكان مع ما هو فيه من الملك والسلطان جمَّ التواضع خاضعًا لخليفة المسلمين "القادر بالله"، فممَّا يدل على ذلك ما كتبه إلى أمير المؤمنين القادر بالله كتابه القائل فيه: "لقد كان العبد -يقصد نفسه- يتمنى قلع هذا الصنم "سومنات" ويتعرف الأحوال، فوصف له المفاوز إليه وقلة الماء وكثرة الرمال، فاستخار العبد اللهَ في الانتداب لهذا الواجب طلبًا للأجر".
نشر العلم في مملكته، وقرَّب العلماء والتقاة الصالحين، قال عبد الغافر الفارسي في ترجمته: "كان صادق النية في إعلاء الدين، مظفرًا كثير الغزو، وكان ذكيًا بعيد الغور صائب الرأي، وكان مجلسه مورد العلماء".
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وكان في غاية الديانة والصيانة وكراهة المعاصي وأهلها، لا يحب منها شيئًا ولا يألفه ولا أن يسمع به، ولا يجسر أحد أن يظهر معصية ولا خمرًا في مملكته ولا غير ذلك، ولا يحب الملاهي ولا أهلها، وكان يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم، ويحب أهل الخير والدين والصلاح ويحسن إليهم".
وقال ابن كثير أيضًا: "وكان عادلاً جيدًا، اشتكى إليه رجل أن ابن أخت الملك يهجم عليه في داره وعلى أهله في كل وقت فيخرجه من البيت ويختلي بامرأته، وقد حار في أمره، وكلما اشتكاه لأحد من أولي الأمر لا يجسر أحد عليه؛ خوفـًا وهيبة للملك، فلما سمع الملك ذلك غضب غضبًا شديدًا، وقال للرجل: ويحك متى جاءك فأتني فأعلمني، ثم تقدم إلى الحجبة وقال لهم: إن هذا الرجل متى جاءني لا يمنعه أحد من الوصول إليَّ من ليل أو نهار، فذهب الرجل مسرورًا داعيًا.
فما كان إلا ليلة أو ليلتين حتى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه من البيت واختلى بأهله، فذهب باكيًا إلى دار الملك، فقيل له: إن الملك نائم، فقال: قد تقدم إليكم أن لا أُمنع منه ليلاً أو نهارًا، فنبَّهوا الملك، فخرج معه بنفسه وليس معه أحد حتى جاء إلى منزل الرجل، فنظر إلى الغلام وهو معه المرأة في فراش واحد، وعندهما شمعة تَقد.
فتقدم الملك، فأطفأ الضوء، ثم جاء فاحتز رأس الغلام، وقال للرجل: ويحك ألحقني بشربة ماء، فأتاه بها فشرب ثم انطلق الملك ليذهب.
فقال له الرجل: بالله لمَ أطفأت الشمعة؟ قال: ويحك إنه ابن أختي، وإني كرهت أن أشاهده حالة الذبح.
قال: ولم طلبت الماء سريعًا؟ فقال: إني آليت -حلفت- على نفسي منذ أخبرتني أن لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أنصرك وأقوم بحقك، فكنت عطشان هذه الأيام كلها حتى كان ما كان مما رأيت!
فدعا له الرجل، وانصرف الملك راجعًا إلى منزله، ولم يشعر بذلك أحد.
جهاده -رحمه الله-:
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وفتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة لم تتفق لغيره من الملوك لا قبله ولا بعده، وغنم مغانم كثيرة لا تنحصر ولا تنضبط من الذهب واللآلئ والسبي، وكسر من أصنامه شيئًا كثيرًا، وأخذ من حليها، ومن جملة ما كسر من أصنامهم صنم يقال له: "سومنات"، وهو صنمهم الأعظم، وقد كانوا يفدون إليه من كل فج عميق كما يفد الناس إلى الكعبة وأعظم، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة التي لا توصف ولا تُعَدُّ، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية ومدينة مشهورة، وعنده ألف رجل يخدمونه وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم، وقد تم له ذلك سنة 418 هجرية.
بلغ ما تحصل من حليته من الذهب عشرين ألف ألف دينار، وكسر ملك الهند الأكبر الذي يقال "حينان"، وقهر ملك الترك الأعظم الذي يقال له: "إيلك خان"، وأباد مُلك "السامانية" وقد ملكوا العالم في بلاد سمرقند وما حولها ثم هلكوا.
وبنى على "جيحون" جسرًا تعجز الملوك والخلفاء عنه غرم عليه ألفي ألف دينار، وهذا شيء لم يتفق لغيره، وكان في جيشه أربعمائة فيل تقاتل، وهذا شيء عظيم هائل" اهـ.
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "وقد ذكر غير واحد أن الهنود بذلوا للسلطان محمود أموالاً جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الأعظم، فأشار مَن أشار مِن الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم، فقال: حتى أستخير الله -عز وجل-، فلما أصبح قال: إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة: أين محمود الذي كسر الصنم؟ أحب إليَّ من أن يقال: ترك الصنم لأجل ما يناله من المال".
قال الدكتور عدنان النحوي في كتابه "ملحمة الإسلام في الهند": "لما جاء السلطان محمود الغزنوي كان همه الأول نشر الإسلام وإزاحة الشرك والوثنية، واستمر جهاده في الهند خمسًا وعشرين سنة؛ فهزم الملك "جيبال"، وفتح السلطان قلعة "كواكير"، وحطم أصنامهم التي بلغت ستمائة صنم، وهزم الملك "أنندبال" في صحراء "بيشاور"، وأبلت النساء المسلمات في الحرب بلاءً عظيمًا، وفتح قلعة "نكركوت"، وحطم صنمهم الأعظم هناك، وكذلك اتجه إلى "تهانسير" ليحطم الصنم الذي كانوا يعظمونه كثيرًا، وحاول أحد ملوك الهندوس ثنيه عن عزمه هذا بإغرائه بالمال الوفير، فأجابه السلطان محمود: إننا مسلمون نعمل لنشر الإسلام وهدم الأصنام ومعابدها، وبذلك نجد أضعافًا مضاعفة من الأجر والثواب عند الله، ولا حاجة لنا بهذا المال.
وعندما توجه إلى كشمير أسلم ملكها على يديه، ثم توجه إلى "كجرات"، وقصد معبد "سومنات" فيها، وحاول الوثنيون إقناعه بالعدول عن عزمه ذلك وعرضوا عليه الأموال، فأبى وقال: ما خرجت إلا لتحطيم الأصنام وإعلاء كلمة الله.
وفتح أماكن عدة في الهند، وينتقل من نصر يمن الله به عليه إلى نصر، ويدعو إلى الإسلام ويحطم الوثنية بكل صورها".
وقال أيضًا: "لقد قام السلطان محمود الغزنوي من "غزنة" عاصمة ملكه في أفغانستان، فتابع حملاته إلى داخل الهند، وقاد سبع عشرة حملة على شبه القارة الهندية بين 389هـ - 416هـ، وتوفي وترك دولة مسلمة واسعة تضم: زابلستان، وخوارزم، وخراسان، وطبرستان، وأصفهان، وكرمان، ومكران، والسند، والبنجاب.
وطيوف "غزنة" لم تزل في ساحها أصـداء فـرسـان وخفق مـهـنـد
أبـلى بها "محمـود" حتى أسـلـمــت لله أفــئـــدة ولـهــفــة أكــــبـــد
طــوبـى لـسـلطـان أبــَرَّ مـجــاهـــــد جمع الأئمة في وغى أو مسجد
جـمـع الأئـمـة حـولـه فــي مـــوكـب مـــاض لـمـلحمة وأكرم مـورد
للاستزادة:
البداية والنهاية - سير أعلام النبلاء - طبقات الشافعية - الكامل - ملحمة الإسلام في الهند - أطيب الكلام في ذكر الخلفاء وملوك الإسلام.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إن كانت قد وقعت منه، والظن أنه لم تقم عليه الحجة؛ لشدة حرصه على الخير. كتبه/ ياسر برهامي.
(2) ابن فورك: من الاشاعرة نفاة صفة العلو والفوقية.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
السلطان الكبير يمين الدولة فاتح الهند أبو القاسم "محمود بن سبكتكين" الغزنوي:
قال عنه شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ولما كانت مملكة محمود بن سبكتكين من أحسن ممالك بني جنسه؛ كان الإسلام والسنة في مملكته أعز؛ فإنه غزا المشركين من أهل الهند، ونشر مِن العدل ما لم ينشره مثله، فكانت السنة في أيامه ظاهرة، والبدع في أيامه مقموعة".
وقال عنه ابن كثير -رحمه الله-: "يمين الدولة، وأمين الملة، وصاحب بلاد غزنة وما والاها، سار فيهم وفي سائر رعاياه سيرة عادلة، وقام في نصر الإسلام قيامًا تامًا، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها، وعظُم شأنه، واتسعت مملكته وامتدت رعاياها، وطالت أيامه؛ لعدله وجهاده وما أعطاه الله إياه".
وقال عنه الذهبي -رحمه الله- في السير: "خافته الملوك، واستولى على إقليم خراسان، ونَفَّذ إليه القادر بالله خلع السلطنة، ففرض على نفسه كل سنة غزو الهند، فافتتح بلادًا شاسعة، وكسر الصنم "سومنات" الذي كان يعتقد كفرة الهند أنه يحيي ويميت ويحجونه ويقربون له النفائس".
وقال السبكي -رحمه الله- في طبقات الشافعية: "أحد أئمة العدل ومن دانت له البلاد والعباد وظهرت محاسن آثاره، كان إمامًا عادلاً شجاعًا مفرطـًا، فقيهًا فهمًا، سمحًا جوادًا، وهو أحد أربعة لا خامس لهم في العدل بعد عمر بن عبد العزيز، ونور الدين محمود زنكي، وصلاح الدين، ونظام الملك.
كان -رحمه الله- مائلاً إلى الأثر إلْبًا على القرامطة والإسماعيلية وعلى المتكلمين على بدعة فيه فيما قيل؛ فقد كان من الكرَّامية ويغضب لهم -والكرامية إحدى فرق المرجئة-؛ فيغفر الله له هذه البدعة(1).
ورد إليه كتاب من "الحاكم" -الخليفة الفاطمي- يدعوه إلى طاعته، فخرق كتابه وبصق عليه.
قدم عليه "التاهرتي" الداعي من مصر يدعوه سرًا إلى مذهب الباطنية، وكان "التاهرتي" يركب بغلاً يتلون كل ساعة من كل لون، ففهم السلطان سر دعوتهم، فغضب وقتل "التاهرتي" الخبيث، وأهدى بغله إلى القاضي أبي منصور محمد بن محمد الأزدي شيخ هراة، وقال: كان يركبه رأس الملحدين، فليركبه رأس الموحدين.
دخل عليه ابن فورك(2)، فقال للسلطان: لا يجوز أن يوصف الله بالفوقية؛ لأن لازم ذلك وصفه بالتحتية، فمن جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت، فقال السلطان: ما أنا وصفته حتى يلزمني، بل هو وصف نفسه؛ فبهت ابن فورك، فلما خرج مِن عنده مات.
وكان مع ما هو فيه من الملك والسلطان جمَّ التواضع خاضعًا لخليفة المسلمين "القادر بالله"، فممَّا يدل على ذلك ما كتبه إلى أمير المؤمنين القادر بالله كتابه القائل فيه: "لقد كان العبد -يقصد نفسه- يتمنى قلع هذا الصنم "سومنات" ويتعرف الأحوال، فوصف له المفاوز إليه وقلة الماء وكثرة الرمال، فاستخار العبد اللهَ في الانتداب لهذا الواجب طلبًا للأجر".
نشر العلم في مملكته، وقرَّب العلماء والتقاة الصالحين، قال عبد الغافر الفارسي في ترجمته: "كان صادق النية في إعلاء الدين، مظفرًا كثير الغزو، وكان ذكيًا بعيد الغور صائب الرأي، وكان مجلسه مورد العلماء".
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وكان في غاية الديانة والصيانة وكراهة المعاصي وأهلها، لا يحب منها شيئًا ولا يألفه ولا أن يسمع به، ولا يجسر أحد أن يظهر معصية ولا خمرًا في مملكته ولا غير ذلك، ولا يحب الملاهي ولا أهلها، وكان يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم، ويحب أهل الخير والدين والصلاح ويحسن إليهم".
وقال ابن كثير أيضًا: "وكان عادلاً جيدًا، اشتكى إليه رجل أن ابن أخت الملك يهجم عليه في داره وعلى أهله في كل وقت فيخرجه من البيت ويختلي بامرأته، وقد حار في أمره، وكلما اشتكاه لأحد من أولي الأمر لا يجسر أحد عليه؛ خوفـًا وهيبة للملك، فلما سمع الملك ذلك غضب غضبًا شديدًا، وقال للرجل: ويحك متى جاءك فأتني فأعلمني، ثم تقدم إلى الحجبة وقال لهم: إن هذا الرجل متى جاءني لا يمنعه أحد من الوصول إليَّ من ليل أو نهار، فذهب الرجل مسرورًا داعيًا.
فما كان إلا ليلة أو ليلتين حتى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه من البيت واختلى بأهله، فذهب باكيًا إلى دار الملك، فقيل له: إن الملك نائم، فقال: قد تقدم إليكم أن لا أُمنع منه ليلاً أو نهارًا، فنبَّهوا الملك، فخرج معه بنفسه وليس معه أحد حتى جاء إلى منزل الرجل، فنظر إلى الغلام وهو معه المرأة في فراش واحد، وعندهما شمعة تَقد.
فتقدم الملك، فأطفأ الضوء، ثم جاء فاحتز رأس الغلام، وقال للرجل: ويحك ألحقني بشربة ماء، فأتاه بها فشرب ثم انطلق الملك ليذهب.
فقال له الرجل: بالله لمَ أطفأت الشمعة؟ قال: ويحك إنه ابن أختي، وإني كرهت أن أشاهده حالة الذبح.
قال: ولم طلبت الماء سريعًا؟ فقال: إني آليت -حلفت- على نفسي منذ أخبرتني أن لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أنصرك وأقوم بحقك، فكنت عطشان هذه الأيام كلها حتى كان ما كان مما رأيت!
فدعا له الرجل، وانصرف الملك راجعًا إلى منزله، ولم يشعر بذلك أحد.
جهاده -رحمه الله-:
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وفتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة لم تتفق لغيره من الملوك لا قبله ولا بعده، وغنم مغانم كثيرة لا تنحصر ولا تنضبط من الذهب واللآلئ والسبي، وكسر من أصنامه شيئًا كثيرًا، وأخذ من حليها، ومن جملة ما كسر من أصنامهم صنم يقال له: "سومنات"، وهو صنمهم الأعظم، وقد كانوا يفدون إليه من كل فج عميق كما يفد الناس إلى الكعبة وأعظم، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة التي لا توصف ولا تُعَدُّ، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية ومدينة مشهورة، وعنده ألف رجل يخدمونه وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم، وقد تم له ذلك سنة 418 هجرية.
بلغ ما تحصل من حليته من الذهب عشرين ألف ألف دينار، وكسر ملك الهند الأكبر الذي يقال "حينان"، وقهر ملك الترك الأعظم الذي يقال له: "إيلك خان"، وأباد مُلك "السامانية" وقد ملكوا العالم في بلاد سمرقند وما حولها ثم هلكوا.
وبنى على "جيحون" جسرًا تعجز الملوك والخلفاء عنه غرم عليه ألفي ألف دينار، وهذا شيء لم يتفق لغيره، وكان في جيشه أربعمائة فيل تقاتل، وهذا شيء عظيم هائل" اهـ.
وقال ابن كثير -رحمه الله-: "وقد ذكر غير واحد أن الهنود بذلوا للسلطان محمود أموالاً جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الأعظم، فأشار مَن أشار مِن الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم، فقال: حتى أستخير الله -عز وجل-، فلما أصبح قال: إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة: أين محمود الذي كسر الصنم؟ أحب إليَّ من أن يقال: ترك الصنم لأجل ما يناله من المال".
قال الدكتور عدنان النحوي في كتابه "ملحمة الإسلام في الهند": "لما جاء السلطان محمود الغزنوي كان همه الأول نشر الإسلام وإزاحة الشرك والوثنية، واستمر جهاده في الهند خمسًا وعشرين سنة؛ فهزم الملك "جيبال"، وفتح السلطان قلعة "كواكير"، وحطم أصنامهم التي بلغت ستمائة صنم، وهزم الملك "أنندبال" في صحراء "بيشاور"، وأبلت النساء المسلمات في الحرب بلاءً عظيمًا، وفتح قلعة "نكركوت"، وحطم صنمهم الأعظم هناك، وكذلك اتجه إلى "تهانسير" ليحطم الصنم الذي كانوا يعظمونه كثيرًا، وحاول أحد ملوك الهندوس ثنيه عن عزمه هذا بإغرائه بالمال الوفير، فأجابه السلطان محمود: إننا مسلمون نعمل لنشر الإسلام وهدم الأصنام ومعابدها، وبذلك نجد أضعافًا مضاعفة من الأجر والثواب عند الله، ولا حاجة لنا بهذا المال.
وعندما توجه إلى كشمير أسلم ملكها على يديه، ثم توجه إلى "كجرات"، وقصد معبد "سومنات" فيها، وحاول الوثنيون إقناعه بالعدول عن عزمه ذلك وعرضوا عليه الأموال، فأبى وقال: ما خرجت إلا لتحطيم الأصنام وإعلاء كلمة الله.
وفتح أماكن عدة في الهند، وينتقل من نصر يمن الله به عليه إلى نصر، ويدعو إلى الإسلام ويحطم الوثنية بكل صورها".
وقال أيضًا: "لقد قام السلطان محمود الغزنوي من "غزنة" عاصمة ملكه في أفغانستان، فتابع حملاته إلى داخل الهند، وقاد سبع عشرة حملة على شبه القارة الهندية بين 389هـ - 416هـ، وتوفي وترك دولة مسلمة واسعة تضم: زابلستان، وخوارزم، وخراسان، وطبرستان، وأصفهان، وكرمان، ومكران، والسند، والبنجاب.
وطيوف "غزنة" لم تزل في ساحها أصـداء فـرسـان وخفق مـهـنـد
أبـلى بها "محمـود" حتى أسـلـمــت لله أفــئـــدة ولـهــفــة أكــــبـــد
طــوبـى لـسـلطـان أبــَرَّ مـجــاهـــــد جمع الأئمة في وغى أو مسجد
جـمـع الأئـمـة حـولـه فــي مـــوكـب مـــاض لـمـلحمة وأكرم مـورد
للاستزادة:
البداية والنهاية - سير أعلام النبلاء - طبقات الشافعية - الكامل - ملحمة الإسلام في الهند - أطيب الكلام في ذكر الخلفاء وملوك الإسلام.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إن كانت قد وقعت منه، والظن أنه لم تقم عليه الحجة؛ لشدة حرصه على الخير. كتبه/ ياسر برهامي.
(2) ابن فورك: من الاشاعرة نفاة صفة العلو والفوقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق