من سيرة العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله
لفضيلة الدكتور عبد الرحمن العدوي / مستشار الجامعة الإسلامية
شيخ جليل مهيب، أخلص للّه في تعليم المسلمين أمور دينهم، ونشر عقيدة الإسلام وأحكامه بينهم، وهو من أهالي بلدة عنيزة من أعمال القصيم في شمال نجد عاش فيها حياته وكان فيها مقره الأخير.
كنا في عام 1373هـ الموافق 1953م اثنين من علماء الأزهر الشريف مبعوثين للتدريس في المملكة العربية السعودية وكانت إدارة المعارف حينذاك في مكة في مواجهة المسجد الحرام وكان على رئاستها الشيخ محمد بن مانع رحمه اللّه، وقد رأى أن أسافر مع زميلي الشيخ محمد الجبة للتدريس في المدرسة الثانوية بعنيزة، وسافرنا وبدأنا عملنا في المدرسة التي كان بها فصلان في السنة الأولى فقط، ولم يمض شهر حتى صدر الأمر الملكي بنقلنا إلى المعاهد العلمية التابعة لآل الشيخ.
وكانت هذه هي الطريقة التي تستكمل بها المعاهد العلمية حاجتها من المدرسين، ولم يكن المعهد العلمي موجوداً بعد، فطلب منا أن نعلن عن افتتاحه ونستقبل طلبات الراغبين في الإلتحاق به ونحدد مستواهم العلمي ونوزعهم على السنوات الدراسية وقد تم كل ذلك في فترة وجيزة وبدأت الدراسـة في المعهد العلمي بعنيزة في شهر ربيع الثاني من عام 1373هـ، وفي الوقت بلغنا أن الشيخ عبد الرحمن السعدي قد عين مشرفاً على المعهد من الناحية العلمية وكان تعيينه براتب شهري قدره ألف ريال، ولكن الشيخ رحمه الله تعالى أرسل إلى رئاسة المعاهد العلمية أنه على استعداد للإشراف على المعهد حسبة لوجه الله تعالى وأنه لا يريد أن يكون له على ذلك أجر مادي وقبلت الرئاسة شاكرة له هذا الصنيع الذي لا يصدر إلا من عالم زاهد يبتغي وجه الله.
وبدأت صلتنا بالشيخ عبد الرحمن السعدي في المعهد أولاً ثم التقينا به كثيراً في المسجد الجامع فقد كان شيخاً له، وفي منزله المتواضع الذي رفع قدره وأعلى صرحه سلوك صاحبه وسيرته في الناس.
كان رحمه الله يأتي إلى المعهد بانتظام يوم الثلاثاء من كل أسبوع وكان يخلع نعليه عند دخول الفصل أثناء الدرس مع أن في نجد لا يخلعون نعالهم عند دخول المسجد ولا عند الصلاة ولكنه الأدب الراقي واحترام العلم ومجلسه، ثم يدخل آخر صف ويجلس فيه وكأنه أحد طلاب هذا الفصل، ويكرر هذا العمل في أكثر من فصل ويستمع إلى أكثر من مدرس ولم يكن في المعهد من المدرسين المصريين سواي وزميلي أما بقية المدرسين فكانوا من أبناء الشيخ علمهم في المسجد الجامع إلى درجة تسمح لهم بالقيام بتدريس المواد التي تعلموها على يديه.
وكان منهم حمد البسام، وسليمان البسام، وعبد الله البربكان، ومحمد بن عثيمين. ومضت فترة بعد وصولنا عنيزة أحسسنا فيها بالغربة والوحشة وكنا نتأثر بجفاء بعض الناس في التعامل واللقاء وعدم رد التحية لا بأحسن منها ولا بمثلها، وكان يحدث أحياناً ونحن وقوف للصلاة أن يأتي أحد البدو ولعله من غير أهل عنيزة فيقف بجوار أحدنا وينظر إليه نظرة استغراب ثم يخط بعصاه خطاً فاصلاً في الرمال يفصل بينه وبين من يجاوره منا ثم يقول بصوت مسموع ( أعوذ بالله ) وبعدها يكبر للصلاة وقال لي صاحبي: لماذا يتعوذ هؤلاء؟ فقلت لعلهم يعتقدون أننا لسنا من بلاد الإسلام، وما علينا إلا أن نزيل هذا الظن الخاطئ فتقسيم الأمور وتصح المعاملة، قال: ولكن كيف السبيل إلى ذلك ونحن مدرسون في المعهد لطلاب قد يتحدثون مع ذويهم عنا وقد لا يتحدثون؟ قلت: السبيل في رأيي أن نعطي الناس دروساً في التفسير والحديث والفقه بين المغرب والعشاء في المسجد الذي نصلي فيه، وبها نؤدي واجبنا ونزيل التباساً.
وعرضنا الفكرة على الشيخ عبد الرحمن السعدي فاستحسن ذلك أيما استحسان وشجعنا وأوصانا بألا تضيق صدورنا فإن من خلق العلماء الصبر والإحتمال والحرص على تبليغ رسالة الله في كل الظروف وبدأنا التدريس في مسجد ( السويطي ) بين المغرب والعشاء وزاد عدد الحاضرين يوماً بعد يوم حتى كاد المسجد على سعته أن تملئ بالمصلين، وبعد أسبوعين تقريباً حدث أمر شرح صدورنا وأحسسنا معه بالود والمحبة، فقد تقدم إلينا شيخ كبير وأشار بيده إلى سجادتين مفروشتين خلف الإمام وقال: هذا مكان صلاتكما فأنتم أهل العلم والفضل وعلينا أن نكرم العلماء، وكان لهذه اللفتة أثرها الطيب الحميد فقد أحسسنا صفاء قلوب القوم وزالت العوارض التي كانت تؤثر تأثيراً متعباً فما كانت إلا تصرفاً شخصياً من بعض الجهال لا يعبر عن السلوك العام، ثم زادت الصلة بيننا وبين الناس وتوثقت فدعينا إلى شرب القهوة بالعبارة النجدية الحلوة " نبغى نقاهويك يا أستاذ " وتكرر ذلك والموعد بعد صلاة العشاء الآخرة وكان معنا في المعهد سكرتير من أهل عنيزة اسمه (عبد الله) فكان يتولى تدوين المواعيد ويرشدنا إلى منازل، وفي كل ليلة نجد صاحب المنزل قد دعا أكثر من عشرين شخصاً مبالغة منه في الإحتفاء بنا ثم يدور الحديث حول مسائل من الدين والأخلاق وعادات الناس وتصير الجلسة ندوة علم وأدب وحديث نافع وتعبير عن المحبة والود والأخوة كما ارتضاها الله لعباده المؤمنين.
وكنا نزور الشيخ بين الحين والحين ويكاد يكون لقاؤنا معه يوم الجمعة بانتظام نذهب إلى بيته قبل الصلاة بساعات ونجلس معه ثم ننزل معاً عندما تقرب موعد الصلاة، وذات لقاء قلت له: يا فضيلة الشيخ، لماذا لا تستخدم مكبر الصوت ( الميكروفون ) في الخطبة فإن أكثر الناس لا يسمعون صوتك ولا يستفيدون مما تلقيه عليهم من المواعظ والأحكام، فابتسم الشيخ وكان له بسمة خفيفة جميلة تنم عن الرضا والسرور وقال: إن مكبر الصوت لم يدخل المساجد في بلاد نجد ولا أحب أن أكون أول من يستخدمه. قلت: ولماذا؟ ألست الشيخ العلم القدوة إذا لم تفعل أنت ما تراه نافعاً فمن يفعله؟ أليس في استعماله خير وهو نشر تعاليم الدين وآدابه وإسماع أكبر عدد ممكن بواسطته، والنساء في بيوتهن حول المسجد يستمعن الخطبة عن طريق مكبر الصوت فيكون الخير قد تجاوز حدود المسجد، ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ذلك لأنه سيتعرض لجهل الجاهلين، ونقد الناقدين وسيصيبه من أقوال الناس وإيذائهم واستنكارهم لما لم يألفوه شيء كثير فيكون له من أجل ذلك الأجر الكثير، ثم إنك يا فضيلة الشيخ إذا لم تستخدم مكبر الصوت في خطبة الجمعة فلن يجرؤ أحد على استخدامه من بعدك، وسيقول الناس: لو كان فيه خير لاستقدمه الشيخ السعدي، فتكون قد منعت استخدامه مستقبلاً من حيث لا تدري ولا تريد. فاتسعت الإبتسامة على شفتي الشيخ وقد استمع لكلامي كله مصغياً ومتأملاً، وهز رأسه يميناً وشمالاً في هدوء رتيب وقال: ما شاء الله لقد حدثني في ذلك غيرك، وما شرح الله صدري لذلك مثل ما شرحه الآن، وأعدك أن يكون في المسجد ( مكبر صوت ) في الجمعة القادمة إن شاء الله وبر الشيخ بوعده وأمر بإحضار مكبر للصوت ذي ثلاث سماعات يعمل بواسطة البطارية فلم تكن عنيزة قد عرفت الكهرباء بعد وفرح الناس وتحدثوا عن استماعهم للخطبة في غير جهد، وحرصت على أن أسمع رأيهم فلم أجد معارضاً وما سمعت إلا كلمات الإستحسان والسرور، وذهبت إلى الشيخ في بيته لأنقل إليه استحسان الناس وسرورهم فإذا به ينقل إلى بشرى سارة مؤداها أن الشيخ عبد الله السليمان كان يصلي هذه الجمعة في مسجد عنيزة وقد أعجبه أن يكون في المسجد مكبر للصوت فقابل الشيخ بعد الصلاة وأبلغه أنه تبرع.. بماكينة كهرباء للمسجد تضئ خمسين لمبة ( مصباحاً كهربائياً ) ويشتغل عليها مكبر الصوت. فقلت: الحمد لله. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
لقد كان الشيخ عبد الرحمن السعدي من الناحية الدينية هو كل شيء في عنيزة فقد كان العالم والمعلم والإمام والخطيب والمفتي والواعظ والقاضي وصاحب مدرسة دينية له فيها تلاميذ منتظمون.
كان يصلي الفجر بالناس ثم يجلس لأداء الدرس حتى تطلع الشمس ويذهب بعد ذلك إلى بيته حتى الضحوة الكبرى فيعود إلى المسجد يعلم أبناه الفقه والتفسير والحديث والعقيدة والنحو والصرف في دروس منتظمة وكتب اختارها لطلابه ويستمر معهم حتى صلاة الظهر فيصلي بالناس ويعود إلى بيته يستريح فيه إلى صلاة العصر ثم يذهب إلى المسجد فيصلي العصر بالناس ويعطيهم عقب الصلاة وهم جلوس بعض الأحكام الفقهية في دقائق لا تؤخرهم عن الإنصراف سعياً وراء أرزاقهم وعندما تغرب الشمس يصلي بالناس المغرب ويجلس للدرس حتى يصلي العشاء. ويتكرر ذلك في كل يوم.
وطلاب الشيخ الذين علمهم في المسجد هم الذين تولوا التدريس في المدارس والمعاهد التي فتحتها الدولة في بلدتهم، فكان الشيخ يكتب بيده شهادة يقول فيها إن فلاناً درس علوم كذا وكذا في كتب كذا وكذا وهو يصلح لتدريس هذه المواد في المستوى الإبتدائي أو الإعدادي أو الثانوي، وتأخذ الدولة بشهادات الشيخ التي أثبتت التجربة فيما بعد أنها معبرة عن الحقيقة أصدق تعبير.
وكان من سيرته - عليه رحمة الله - أنه في موسم الحصاد تأتي إليه ثمار النخيل والبساتين التي وقفها أصحابها على المسجد الجامع ليؤدي رسالته الإسلامية العظيمة، فكان الشيخ يجمع كل هذه الثمار في المسجد ويوزعها على الفقراء والمساكين ولا يأخذ تمرة واحدة يدخلها فاه أو ينقلها إلى بيته. وسألت أحد الأبناء المقربين إليه: من أين ينفق الشيخ على حاجات معيشته؟ فأخبرني أن له ابنين يعملان بالتجارة في الرياض ويرسلان إليه ما يحتاج من النفقة ولا مورد له غير هذا ؟ فقلت: سبحان الله: إن خير ما يأكل المرء ما كان من كسب يده، وإن ولد الإنسان من كسبه، وهكذا تكون سيرة العلماء في الإكتفاء بالقليل والزهد فيما يزيد على ذلك مع الإجتهاد في أداء الواجب والإخلاص فيه.
ومرت الأيام.. وفي نهاية عام 1375هـ الموافق 1956م بدأ العدوان الثلاثي على مصر وهاجمت فرنسا وإنجلترا وإسرائيل أرض مصر ولكل دولة منهم دوافعها الخاصة فقد كانت فرنسا تريد أن تعاقب مصر على مساندة ثورة الجزائر ضدها. هذه المساندة التي وصلت إلى درجة تهريب الأسلحة والذخائر للثوار المسلمين في الجزائر وقد وقعت الباخرة ( عايدة ) المصرية في يد الفرنسيين وهي تحمل الأسلحة إلى ثوار الجزائر ضد الإستعمار الفرنسي فأضمرت لذلك شراً وكان هجومها على مصر، أما إنجلترا فكان هجومها من أجل أسهمها في قناة السويس التي أممتها مصر وأعادتها إلى الشعب المصري الذي حفر القناة بجهود أبنائه ودمائهم، وكانت مع ذلك تراودها الرغبة في إعادة سيطرتها مرة أخرى على مصر ولم يكن جلاء قواتها عن الأراضي المصرية قد جاوز العامين بعد، وانتهزت إسرائيل رغبة الدولتين الكبيرتين في الهجوم على مصر واتفقت معهما لخدمة أغراضها التوسعية العدوانية ولضرب القوة العربية الإسلامية على أرض مصر.
وعرف الشيخ السعدي هذه الأبعاد كلها وخطب الناس الجمعة في هذا الموضوع ورفع الناس معه أكف الضراعة إلى الله أن يحمي القوة الإسلامية وأن ينصر المسلمين ويرد كيد الكافرين، وقد استجاب الله دعاء، فخطب الشيخ في جمعة تالية مهنئاً ومبشراً ومذكراً بقول الله تعالى:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}.
وقد كان للشيخ اهتمامات ظاهرة بأحوال المسلمين في كل بلادهم وكانت مقالاته في الصحف والمجلات في داخل المملكة وخارجها تظهر هذه الإهتمامات وكان يسألنا كثيراً عن أخبار مصر وأحوال المسلمين فيها وجهود علمائها في إقامة السنة وإزالة البدعة مع دعاء حار وأمل كبير في أن يصلح الله أحوال المسلمين.
ومع هذه الجهود المضنية التي كان يبذلها الشيخ كان كثير الكتابة والتأليف فقد كتب تفسيراً للقرآن الكريم كله سماه ( منحة اللطيف المنان في تفسير القرآن ) وله كتاب في الخطب المنبرية ورسائل في العقيدة وسؤال وجواب وفي بعض الموضوعات والقضايا الإسلامية وقد تبرع بكتبه كلها وطبعها أهل الخير المحبون للشيخ وعلمه ووزعوها بالمجان على أهل العلم وطلبته.
وفي شهر ربيع الثاني من عام 1376هـ توفي الشيخ عبد الرحمن السعدي عليه رحمة الله ورضوانه وحملت مع الناس نعشه وكانوا يعرفون صلتي الوثيقة به فكانوا يفسحون لي كلما رغبت واقتربت قائلين إنه كان يحبك. وإني لا أجد ما أصف به فضل هذا الشيخ وجهاده ومنزلته بين العلماء أحسن مما سمعته من عجوز جالسة على طريق الجنازة فقد قالت ونحن نمر عليها نحمل نعشه قالت العجوز في صدق وحرارة: " نجم هوى ".
رحم الله الشيخ عبد الرحمن السعدي وجعل سيرته الطيبة وأعماله الصالحة في موازين حسناته وأكثر من أمثاله الذين يزهدون في الدنيا ويبتغون ما عند الله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا "
رواه مسلم.
************************
لفضيلة الدكتور عبد الرحمن العدوي / مستشار الجامعة الإسلامية
شيخ جليل مهيب، أخلص للّه في تعليم المسلمين أمور دينهم، ونشر عقيدة الإسلام وأحكامه بينهم، وهو من أهالي بلدة عنيزة من أعمال القصيم في شمال نجد عاش فيها حياته وكان فيها مقره الأخير.
كنا في عام 1373هـ الموافق 1953م اثنين من علماء الأزهر الشريف مبعوثين للتدريس في المملكة العربية السعودية وكانت إدارة المعارف حينذاك في مكة في مواجهة المسجد الحرام وكان على رئاستها الشيخ محمد بن مانع رحمه اللّه، وقد رأى أن أسافر مع زميلي الشيخ محمد الجبة للتدريس في المدرسة الثانوية بعنيزة، وسافرنا وبدأنا عملنا في المدرسة التي كان بها فصلان في السنة الأولى فقط، ولم يمض شهر حتى صدر الأمر الملكي بنقلنا إلى المعاهد العلمية التابعة لآل الشيخ.
وكانت هذه هي الطريقة التي تستكمل بها المعاهد العلمية حاجتها من المدرسين، ولم يكن المعهد العلمي موجوداً بعد، فطلب منا أن نعلن عن افتتاحه ونستقبل طلبات الراغبين في الإلتحاق به ونحدد مستواهم العلمي ونوزعهم على السنوات الدراسية وقد تم كل ذلك في فترة وجيزة وبدأت الدراسـة في المعهد العلمي بعنيزة في شهر ربيع الثاني من عام 1373هـ، وفي الوقت بلغنا أن الشيخ عبد الرحمن السعدي قد عين مشرفاً على المعهد من الناحية العلمية وكان تعيينه براتب شهري قدره ألف ريال، ولكن الشيخ رحمه الله تعالى أرسل إلى رئاسة المعاهد العلمية أنه على استعداد للإشراف على المعهد حسبة لوجه الله تعالى وأنه لا يريد أن يكون له على ذلك أجر مادي وقبلت الرئاسة شاكرة له هذا الصنيع الذي لا يصدر إلا من عالم زاهد يبتغي وجه الله.
وبدأت صلتنا بالشيخ عبد الرحمن السعدي في المعهد أولاً ثم التقينا به كثيراً في المسجد الجامع فقد كان شيخاً له، وفي منزله المتواضع الذي رفع قدره وأعلى صرحه سلوك صاحبه وسيرته في الناس.
كان رحمه الله يأتي إلى المعهد بانتظام يوم الثلاثاء من كل أسبوع وكان يخلع نعليه عند دخول الفصل أثناء الدرس مع أن في نجد لا يخلعون نعالهم عند دخول المسجد ولا عند الصلاة ولكنه الأدب الراقي واحترام العلم ومجلسه، ثم يدخل آخر صف ويجلس فيه وكأنه أحد طلاب هذا الفصل، ويكرر هذا العمل في أكثر من فصل ويستمع إلى أكثر من مدرس ولم يكن في المعهد من المدرسين المصريين سواي وزميلي أما بقية المدرسين فكانوا من أبناء الشيخ علمهم في المسجد الجامع إلى درجة تسمح لهم بالقيام بتدريس المواد التي تعلموها على يديه.
وكان منهم حمد البسام، وسليمان البسام، وعبد الله البربكان، ومحمد بن عثيمين. ومضت فترة بعد وصولنا عنيزة أحسسنا فيها بالغربة والوحشة وكنا نتأثر بجفاء بعض الناس في التعامل واللقاء وعدم رد التحية لا بأحسن منها ولا بمثلها، وكان يحدث أحياناً ونحن وقوف للصلاة أن يأتي أحد البدو ولعله من غير أهل عنيزة فيقف بجوار أحدنا وينظر إليه نظرة استغراب ثم يخط بعصاه خطاً فاصلاً في الرمال يفصل بينه وبين من يجاوره منا ثم يقول بصوت مسموع ( أعوذ بالله ) وبعدها يكبر للصلاة وقال لي صاحبي: لماذا يتعوذ هؤلاء؟ فقلت لعلهم يعتقدون أننا لسنا من بلاد الإسلام، وما علينا إلا أن نزيل هذا الظن الخاطئ فتقسيم الأمور وتصح المعاملة، قال: ولكن كيف السبيل إلى ذلك ونحن مدرسون في المعهد لطلاب قد يتحدثون مع ذويهم عنا وقد لا يتحدثون؟ قلت: السبيل في رأيي أن نعطي الناس دروساً في التفسير والحديث والفقه بين المغرب والعشاء في المسجد الذي نصلي فيه، وبها نؤدي واجبنا ونزيل التباساً.
وعرضنا الفكرة على الشيخ عبد الرحمن السعدي فاستحسن ذلك أيما استحسان وشجعنا وأوصانا بألا تضيق صدورنا فإن من خلق العلماء الصبر والإحتمال والحرص على تبليغ رسالة الله في كل الظروف وبدأنا التدريس في مسجد ( السويطي ) بين المغرب والعشاء وزاد عدد الحاضرين يوماً بعد يوم حتى كاد المسجد على سعته أن تملئ بالمصلين، وبعد أسبوعين تقريباً حدث أمر شرح صدورنا وأحسسنا معه بالود والمحبة، فقد تقدم إلينا شيخ كبير وأشار بيده إلى سجادتين مفروشتين خلف الإمام وقال: هذا مكان صلاتكما فأنتم أهل العلم والفضل وعلينا أن نكرم العلماء، وكان لهذه اللفتة أثرها الطيب الحميد فقد أحسسنا صفاء قلوب القوم وزالت العوارض التي كانت تؤثر تأثيراً متعباً فما كانت إلا تصرفاً شخصياً من بعض الجهال لا يعبر عن السلوك العام، ثم زادت الصلة بيننا وبين الناس وتوثقت فدعينا إلى شرب القهوة بالعبارة النجدية الحلوة " نبغى نقاهويك يا أستاذ " وتكرر ذلك والموعد بعد صلاة العشاء الآخرة وكان معنا في المعهد سكرتير من أهل عنيزة اسمه (عبد الله) فكان يتولى تدوين المواعيد ويرشدنا إلى منازل، وفي كل ليلة نجد صاحب المنزل قد دعا أكثر من عشرين شخصاً مبالغة منه في الإحتفاء بنا ثم يدور الحديث حول مسائل من الدين والأخلاق وعادات الناس وتصير الجلسة ندوة علم وأدب وحديث نافع وتعبير عن المحبة والود والأخوة كما ارتضاها الله لعباده المؤمنين.
وكنا نزور الشيخ بين الحين والحين ويكاد يكون لقاؤنا معه يوم الجمعة بانتظام نذهب إلى بيته قبل الصلاة بساعات ونجلس معه ثم ننزل معاً عندما تقرب موعد الصلاة، وذات لقاء قلت له: يا فضيلة الشيخ، لماذا لا تستخدم مكبر الصوت ( الميكروفون ) في الخطبة فإن أكثر الناس لا يسمعون صوتك ولا يستفيدون مما تلقيه عليهم من المواعظ والأحكام، فابتسم الشيخ وكان له بسمة خفيفة جميلة تنم عن الرضا والسرور وقال: إن مكبر الصوت لم يدخل المساجد في بلاد نجد ولا أحب أن أكون أول من يستخدمه. قلت: ولماذا؟ ألست الشيخ العلم القدوة إذا لم تفعل أنت ما تراه نافعاً فمن يفعله؟ أليس في استعماله خير وهو نشر تعاليم الدين وآدابه وإسماع أكبر عدد ممكن بواسطته، والنساء في بيوتهن حول المسجد يستمعن الخطبة عن طريق مكبر الصوت فيكون الخير قد تجاوز حدود المسجد، ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ذلك لأنه سيتعرض لجهل الجاهلين، ونقد الناقدين وسيصيبه من أقوال الناس وإيذائهم واستنكارهم لما لم يألفوه شيء كثير فيكون له من أجل ذلك الأجر الكثير، ثم إنك يا فضيلة الشيخ إذا لم تستخدم مكبر الصوت في خطبة الجمعة فلن يجرؤ أحد على استخدامه من بعدك، وسيقول الناس: لو كان فيه خير لاستقدمه الشيخ السعدي، فتكون قد منعت استخدامه مستقبلاً من حيث لا تدري ولا تريد. فاتسعت الإبتسامة على شفتي الشيخ وقد استمع لكلامي كله مصغياً ومتأملاً، وهز رأسه يميناً وشمالاً في هدوء رتيب وقال: ما شاء الله لقد حدثني في ذلك غيرك، وما شرح الله صدري لذلك مثل ما شرحه الآن، وأعدك أن يكون في المسجد ( مكبر صوت ) في الجمعة القادمة إن شاء الله وبر الشيخ بوعده وأمر بإحضار مكبر للصوت ذي ثلاث سماعات يعمل بواسطة البطارية فلم تكن عنيزة قد عرفت الكهرباء بعد وفرح الناس وتحدثوا عن استماعهم للخطبة في غير جهد، وحرصت على أن أسمع رأيهم فلم أجد معارضاً وما سمعت إلا كلمات الإستحسان والسرور، وذهبت إلى الشيخ في بيته لأنقل إليه استحسان الناس وسرورهم فإذا به ينقل إلى بشرى سارة مؤداها أن الشيخ عبد الله السليمان كان يصلي هذه الجمعة في مسجد عنيزة وقد أعجبه أن يكون في المسجد مكبر للصوت فقابل الشيخ بعد الصلاة وأبلغه أنه تبرع.. بماكينة كهرباء للمسجد تضئ خمسين لمبة ( مصباحاً كهربائياً ) ويشتغل عليها مكبر الصوت. فقلت: الحمد لله. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
لقد كان الشيخ عبد الرحمن السعدي من الناحية الدينية هو كل شيء في عنيزة فقد كان العالم والمعلم والإمام والخطيب والمفتي والواعظ والقاضي وصاحب مدرسة دينية له فيها تلاميذ منتظمون.
كان يصلي الفجر بالناس ثم يجلس لأداء الدرس حتى تطلع الشمس ويذهب بعد ذلك إلى بيته حتى الضحوة الكبرى فيعود إلى المسجد يعلم أبناه الفقه والتفسير والحديث والعقيدة والنحو والصرف في دروس منتظمة وكتب اختارها لطلابه ويستمر معهم حتى صلاة الظهر فيصلي بالناس ويعود إلى بيته يستريح فيه إلى صلاة العصر ثم يذهب إلى المسجد فيصلي العصر بالناس ويعطيهم عقب الصلاة وهم جلوس بعض الأحكام الفقهية في دقائق لا تؤخرهم عن الإنصراف سعياً وراء أرزاقهم وعندما تغرب الشمس يصلي بالناس المغرب ويجلس للدرس حتى يصلي العشاء. ويتكرر ذلك في كل يوم.
وطلاب الشيخ الذين علمهم في المسجد هم الذين تولوا التدريس في المدارس والمعاهد التي فتحتها الدولة في بلدتهم، فكان الشيخ يكتب بيده شهادة يقول فيها إن فلاناً درس علوم كذا وكذا في كتب كذا وكذا وهو يصلح لتدريس هذه المواد في المستوى الإبتدائي أو الإعدادي أو الثانوي، وتأخذ الدولة بشهادات الشيخ التي أثبتت التجربة فيما بعد أنها معبرة عن الحقيقة أصدق تعبير.
وكان من سيرته - عليه رحمة الله - أنه في موسم الحصاد تأتي إليه ثمار النخيل والبساتين التي وقفها أصحابها على المسجد الجامع ليؤدي رسالته الإسلامية العظيمة، فكان الشيخ يجمع كل هذه الثمار في المسجد ويوزعها على الفقراء والمساكين ولا يأخذ تمرة واحدة يدخلها فاه أو ينقلها إلى بيته. وسألت أحد الأبناء المقربين إليه: من أين ينفق الشيخ على حاجات معيشته؟ فأخبرني أن له ابنين يعملان بالتجارة في الرياض ويرسلان إليه ما يحتاج من النفقة ولا مورد له غير هذا ؟ فقلت: سبحان الله: إن خير ما يأكل المرء ما كان من كسب يده، وإن ولد الإنسان من كسبه، وهكذا تكون سيرة العلماء في الإكتفاء بالقليل والزهد فيما يزيد على ذلك مع الإجتهاد في أداء الواجب والإخلاص فيه.
ومرت الأيام.. وفي نهاية عام 1375هـ الموافق 1956م بدأ العدوان الثلاثي على مصر وهاجمت فرنسا وإنجلترا وإسرائيل أرض مصر ولكل دولة منهم دوافعها الخاصة فقد كانت فرنسا تريد أن تعاقب مصر على مساندة ثورة الجزائر ضدها. هذه المساندة التي وصلت إلى درجة تهريب الأسلحة والذخائر للثوار المسلمين في الجزائر وقد وقعت الباخرة ( عايدة ) المصرية في يد الفرنسيين وهي تحمل الأسلحة إلى ثوار الجزائر ضد الإستعمار الفرنسي فأضمرت لذلك شراً وكان هجومها على مصر، أما إنجلترا فكان هجومها من أجل أسهمها في قناة السويس التي أممتها مصر وأعادتها إلى الشعب المصري الذي حفر القناة بجهود أبنائه ودمائهم، وكانت مع ذلك تراودها الرغبة في إعادة سيطرتها مرة أخرى على مصر ولم يكن جلاء قواتها عن الأراضي المصرية قد جاوز العامين بعد، وانتهزت إسرائيل رغبة الدولتين الكبيرتين في الهجوم على مصر واتفقت معهما لخدمة أغراضها التوسعية العدوانية ولضرب القوة العربية الإسلامية على أرض مصر.
وعرف الشيخ السعدي هذه الأبعاد كلها وخطب الناس الجمعة في هذا الموضوع ورفع الناس معه أكف الضراعة إلى الله أن يحمي القوة الإسلامية وأن ينصر المسلمين ويرد كيد الكافرين، وقد استجاب الله دعاء، فخطب الشيخ في جمعة تالية مهنئاً ومبشراً ومذكراً بقول الله تعالى:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}.
وقد كان للشيخ اهتمامات ظاهرة بأحوال المسلمين في كل بلادهم وكانت مقالاته في الصحف والمجلات في داخل المملكة وخارجها تظهر هذه الإهتمامات وكان يسألنا كثيراً عن أخبار مصر وأحوال المسلمين فيها وجهود علمائها في إقامة السنة وإزالة البدعة مع دعاء حار وأمل كبير في أن يصلح الله أحوال المسلمين.
ومع هذه الجهود المضنية التي كان يبذلها الشيخ كان كثير الكتابة والتأليف فقد كتب تفسيراً للقرآن الكريم كله سماه ( منحة اللطيف المنان في تفسير القرآن ) وله كتاب في الخطب المنبرية ورسائل في العقيدة وسؤال وجواب وفي بعض الموضوعات والقضايا الإسلامية وقد تبرع بكتبه كلها وطبعها أهل الخير المحبون للشيخ وعلمه ووزعوها بالمجان على أهل العلم وطلبته.
وفي شهر ربيع الثاني من عام 1376هـ توفي الشيخ عبد الرحمن السعدي عليه رحمة الله ورضوانه وحملت مع الناس نعشه وكانوا يعرفون صلتي الوثيقة به فكانوا يفسحون لي كلما رغبت واقتربت قائلين إنه كان يحبك. وإني لا أجد ما أصف به فضل هذا الشيخ وجهاده ومنزلته بين العلماء أحسن مما سمعته من عجوز جالسة على طريق الجنازة فقد قالت ونحن نمر عليها نحمل نعشه قالت العجوز في صدق وحرارة: " نجم هوى ".
رحم الله الشيخ عبد الرحمن السعدي وجعل سيرته الطيبة وأعماله الصالحة في موازين حسناته وأكثر من أمثاله الذين يزهدون في الدنيا ويبتغون ما عند الله.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا "
رواه مسلم.
************************
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق