تاريخ الأمة المحمدية زاخر بالمواقف والمشاهد التي تكررت عبر عصور هذه الأمة، والتي تحكي وتكشف لنا عن حقيقة العلماء الربانيين، والأئمة الكبار الذين يعلمون يقينا الدور المنوط بهم، وتبعات هذا الدور الهام الشريف، لذلك فإننا نعجب كثيرا إذا ما رأينا أن رد فعل هؤلاء العلماء أمام الفتن والمحن، واحد لا يتغير، فردهم وجوابهم على المحنة، هو الثبات على الحق، الثبات حتى الممات، الثبات والأخذ بالعزمات، والإعراض عن الرخصات، لا لشيء إلا لأنهم قدوات متبوعة، بترخصهم يترخص الكثيرون، وبضعفهم يتضعضع بنيان الدين، وهذه قصة واحد من أعلامهم، بثباته ثبت أهل مصر جميعا.
الإمام البويطي هو الإمام العلاّمة، سيد الفقهاء، وكبير الشافعية، جبل العلم، أبو يعقوب يوسف بن يحيي القرشي البويطي، أخص تلاميذ الإمام الشافعي، وأنجبهم، وأقربهم إلى قلبه، ووارث حلقته، وخليفته في درسه بعد وفاته.
لا يعلم على وجه التحديد متى ولد، ولكنه يرجع لأرومة قرشية أصيلة، والبويطي نسبة إلى قرية بويط بصعيد مصر، حيث استقرت اسرته منذ الفتح الإسلامي لمصر في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
تلقى العلم على يد شيوخ قريته الصغيرة؛ بويط، ثم انتقل إلى العاصمة؛ الفسطاط التي كانت تعتبر أحد القلاع العلمية في العالم الإسلامي وقتها، فجلس إلى شيخ المالكية وكبيرهم؛ الإمام ابن وهب، وحمل عنه علما كثيرا، فلما دخل الشافعي - رحمه الله - مصر سنة 198ه، في رحلته العلمية الشهيرة، جلس إليه البويطي، فانبهر بعلمه، وأدرك أنها فرصة لا تعوض، فلزم مجلسه ولم يفارقه، فتخرج به على الأصول والفروع، فحاز علم المذهبين؛ المالكي والشافعي.
وكان البويطي ذا حظ وافر من الفهم والذكاء وسرعة البديهة، فصار أكبر وأنجب تلاميذ الشافعي، واكثرهم فهما لدقائق مذهبه ومسائله.
ثناء الشافعي والناس عليه:
قد كان للبويطي منزلة عظيمة عند الإمام الشافعي، فقد كان الشافعي معجبًا بنجابة تلميذه وحبه للعلم ومقدرًا لنبوغه، قال الربيع: كان أبو يعقوب من الشافعي بمكان مكين، وربما يسأله أحد عن المسألة فيقول: سل أبا يعقوب فإذا أجاب أخبره، فيقول: هو كما قال، ولعل الدافع لذلك كان نابعًا عن رغبة الإمام الشافعي في أن يكون البويطي خليفة له في حلقة العلم مما كان يبعثه على إعداده وتأهيله وتعريف الناس بعلمه، وتأكد الجميع من وصوله إلى الدرجة التي تؤهله إلى خلافته، ومن ثم رأينا الإمام الشافعي يقول: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف بن يحيى، وحين مرض الشافعي بمصر كان في حلقته من كبار تلامذته البويطي ومحمد ابن عبد الله بن عبد الحكم والمزني، فاختلفوا في الحلقة أيهم يقعد فيها، وتنازعوا الرياسة فبلغ محمد بن إدريس الشافعي، فقال الحلقة ليوسف بن يحيى البويطي من شاء يقعد فيها ومن شاء قام، وليس أحد من أصحابي أعلم منه.
وقد كان البويطي فصيح اللسان قوي البيان ناصع الحجة جريئًا في الحق، وقد روي عن الإمام الشافعي أنه قال: أبو يعقوب لساني، وربما جاء إلى الشافعي رسول صاحب الشرطة فيوجه أبا يعقوب البويطي ويقول هذا لساني، وذلك لردع المفسدين والانكار على المجنة والفاسقين، الأمر الذي يجسد ثقة الإمام الشافعي القوية في ذكاء البويطي وجراءته، وقدرته على الرد والإقناع.
وقد بلغ البويطي درجة عظيمة في العلم حتى قال الشافعي: ليس في أصحابي أعلم من البويطي، وقد اختاره من دونهم كما عرفنا ليخلفه في حلقة العلم، فكانت حلقته أعظم حلقة في المسجد، ورجع الناس والسلطان إليه في الفتيا. وقال النووي: إن أبا يعقوب البويطي أجل من المزني والربيع المرادي، ولكي نعرف المدى الذي وصل إليه البويطي لابد أن نعرف أن المزني والربيع المرادي قاماتان شامختان في العلم والدين، وكان لهما مكانهما عند الإمام الشافعي، فأما الربيع فقد قال الشافعي فيه: إنه أحفظ أصحابي، وقد كان الناس يرحلون إليه من أقطار الأرض ليأخذوا عنه علم الشافعي، ويرووا كتبه، وأما المزني فكان زاهداً عالماً مجتهداً مناظراً محجاجاً غواصاً على المعاني الدقيقة صنف كتباً كثيرة، قال الشافعي: المزني ناصر مذهبي.
أما عن مؤلفات البويطي لفه كتاب "المختصر" المشهور، والذي اختصره من كلام الشافعي رضي الله عنه، قال أبو عصام: هو في غاية الحسن، على نظم أبواب المبسوط، ولهذا الكتاب مكانة كبيرة في الفقه الشافعي، ومن الطرائف أن المختصر كان سببًا في تسمية أحد العلماء وهو أبو عبد الله النسوي الشافعي بالبويطي، فقد كان عنده مختصر البويطي في الفقه على مذهب الشافعي، فكان يقول قرأت البويطي، وكررت البويطي، فلقب بالبويطي. وفي العصر الحديث أشعل الدكتور زكي مبارك جدلاً واسعًا حين ألف كتابًا سماه "إصلاح أشنع خطأ في تاريخ التشريع الإسلامي": كتاب الأم لم يؤلفه الشافعي، وإنما ألّفه البويطي، وتصرف فيه الربيع بن سليمان"، وقد رد عليه مجموعة من العلماء ردًا فندوا فيه ما ادعاه في كتابه، ومن هؤلاء المحقق العلامة أحمد شاكر فِي مقدمة تحقيقه للرسالة للشافعي، والشيخ محمد أبي زهرة في كتابه "الشافعي".
أما عن زهده وورعه وعبادته، فقد قال عنه الإمام الذهبي في ترجمته في السير: " كان إماما في العلم، وقدوة في العمل، زاهدا، ربانيا، متهجدا، دائم الذكر ". وصفه الإمام السبكي بأنه: " متنوع في صنائع المعروف كثير التلاوة لا يمر يوم وليلة حتى يختم. وقد روى أصحابه ما يدل على عمق تقواه وشدة ورعه وزهده، ففي بيته كانت حياته عبادة حيث كان دائم التقرب إلى الله بالصلاة وقراءة القرآن، قال أبو الوليد ابن أبي الجارود: كان البويطي جاري فما كنت أنتبه ساعة من الليل إلا سمعته يقرأ ويصلي، وأما في خارج بيته فلم يكن ذكر الله ليغيب عنه لحظة، يقول الربيع بن سليمان: كان البويطي أبداً يحرك شفتيه بذكر الله تعالى، وما رأيت أحداً أنزع بحجة من كتاب الله من أبي يعقوب البويطي، وقد كان في تقواه شبيهًا بأستاذه الشافعي، ويبدو أنه لم يستفد من علمه فحسب بل تأثر بزهده وورعه وتقواه، فسار على نهجه في الذروة من العبادة والعلم والعمل. قال ابن خلكان: "البويطي صاحب الشافعي - رحمه الله -، كان واسطة عقد جماعته، وأظهرهم نجابة، وكان صالحا متنسكا، عابدا، زاهدا ".
محنته وجراءته وثباته:
يعتبر الحسد هو الباعث الرئيس لمحنة الإمام البويطي، فقد كان رحمه الله وارث علم الشافعي وخليفته في مجلسه، وأكثر علماء مصر قبولا وهيبة وأتباعا، فقد كانت حلقته في المسجد أعظم الحلقات، ومجلسه غاص بالطلبة من مصر وخارجها، حتى صار تلاميذه بعشرات الآلاف في مصر وخارجها. في هذه الفترة كانت بدعة القول بخلق القرآن قد بدأت تروج في المشرق الإسلامي، خاصة بعاصمة الخلافة بغداد، على يد المعتزلة الذين وجدوا دولة تحتضنهم، وسلطة ترعاهم، هي دولة الخليفة المأمون العباسي الذي كان يحب علوم الفلسفة والكلام والمنطق، دون بصيرة ولا آلة تكمنه من بيان الحق، والتفرقة بين الغث والسمين، فوقع في حبائل المعتزلة، واستولوا على عقله، ومجامع فؤاده، فصارت الدولة لهم، ومع الوقت حملوه على القول بخلق القرآن، ودعوة الناس لقول بها.
ونظرا لوجود العلماء والفقهاء والمحدثين بكثرة وقتها في العراق، فقد وجد المأمون صعوبة في إقناع الناس بذلك، ولكن مع دخول سنة 218 ه قرر المأمون حمل الناس على القول بهذه البدعة الكفرية، وإلزام الناس كافة بما فيهم العلماء والمحدثين والأئمة بالقول بها. لم يطل الأمر بالمأمون كثيرا ليري ثمرة فعلته الآثمة، فمات من عامه ذلك، وتولى الخلافة بعده أخوه المعتصم وكان شجاعا عسكريا مشغولا بالفتوحات والغزو، ولكنه كان في نفس الوقت أميا جاهلا، فأوصاه أخوة المأمون بمواصلة إجبار الناس على القول بخلق القرآن، وبالفعل أجاب وصية أخيه، وكانت محنة الإمام أحمد الشهيرة.
وتوفي المعتصم سنة 227 ه، وخلفه ابنه الواثق وكان أشد الناس اعتناقا بالبدعة، وأشدهم أيضا رغبة في نشرها، والسر في ذلك استيلاء قاضي المحنة وإمام البدعة " أحمد بن أبي دؤاد الإيادي " عليه وثقته العمياء في هذا الشيطان المريد قد دفعته لإطلاق يديه في التصرف في هذا الشأن بالصورة التي تحلو له، ومن ثم كانت المحنة العامة لأهل السنة عامة، وللأئمة الأعلام خاصة.
استغل أحمد بن أبي دؤاد طاعة الواثق العمياء له، فوضع خطة واسعة من أحل نشر هذه البدعة بين المسلمين بشتى الطرق، فأقنع الواثق بضرورة تعيين كل القضاة والولاة والأئمة وجميع موظفي الدولة، حتى معلمي الصبيان في الكتاتيب ممن يقول بهذه البدعة، وتتبع كل من يقول بخلافها، والقضاء عليه والتنكيل به، ووصل الأمر لذروته بأنه قد أمر باختبار الأسرى المسلمين لدى الروم فمن قال منهم بخلق القرآن افتكه، ومن رفض تركه أسيرا لدى الروم في سابقة لم يعرف التاريخ مثلها من قبل.
نظرا لهذه السياسة الشنيعة تم تولية القاضي المعتزلي أبي بكر الأصم في منصب قاضي مصر، فلما دخلها هاله مكانة الإمام البويطي وطاعة الناس له، وكان البويطي جرئيا في الحق لا يبالي في سبيل ذلك ببطش طاغية، ولا بوشاية خسيس. كان البويطي أيضا سدا منيعا أمام انتشار هذه البدعة في مصر، فسعى به أبو بكر الأصم عند قاضي المحنة بن أبي دؤاد، وكتب إليه أن البويطي يحول بين نشر البدعة في الديار المصرية، فكتب بن أبي دؤاد إلى والي مصر وأمره بامتحان البويطي على خلق القرآن فإن أجاب وإلا وضعه في السجن. وكان الوالي محبا للبويطي، معظما لعلمه وورعه، ويكره أن يكون سببا في سجنه، فلما مثل البويطي بين يديه، أمر الوالي بإخلاء المجلس، وسارر البويطي بالأمر وقال له: "يا أبا يعقوب ابق على نفسك، وقل بالأمر سرا بيني وبينك، فأنا لا أملك مخالفة ابن أبي دؤاد، وأنت تعلم مكانه من الواثق ". فإذا بالأمام البويطي يضرب مثالا رائعا في فهم مكانة الإمام، وطبيعة دوره في قيادة الأمة وقت الفتن والأزمات، حيث أبى الترخص في الأمر، وعمل بالعزيمة، وقال للوالي: " إنه يقتدي بي مائة ألف أو يزيدون، لا يدرون أني أتظاهر فقط بالموافقة، وإن أجبت أجابوا هم أيضا ".
فلما علم الطاغية بن أبي دؤاد أمر بسجنه وحمله إلى بغداد في الحديد الثقيل وذلك سنة 233 ه. ويصور لنا الربيع بن سليمان مشهدًا بقدر ما يكشف لنا عن بشاعة التعذيب الذي واجهه البويطي بقدر ما يكشف لنا عمق الإيمان، وقوة الإصرار والصلابة والثبات للنفس المؤمنة التي ترفض الإقرار إلا بما يمليه الضمير، وتأبى إلا أن تكون قدوة في التمسك بالحق مهما كان الثمن، ومهما عظمت التضحية، يقول الربيع بن سليمان: رأيت البويطي على بغل، في عنقه غل وفي رجليه قيد، وبين الغل والقيد سلسلة من حديد فيها طوبة وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: إنما خلق الله - سبحانه - الخلق بِكُنْ، فإذا كانت كن مخلوقة فكأن مخلوقاً خلق مخلوقاً، فوالله لأموتن في حديدي حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه مات في هذا الشأن قوم في حديدهم، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه يعني الواثق. فانظر إلى أمانة العالم وحرصه على الدفاع عن الحق وتبليغ رسالته حتى في أحلك الظروف.
حمل البويطي من الفسطاط إلى بغداد في القيود والأغلال، وهي مسافة طويلة تستغرق عدة أسابيع، ومع ذلك كان طوال الرحلة آمارا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، مرشدا واعظا، معلما مربيا، لكل من مر عليه من المسلمين، مما زاد من حنق ابن أبي دؤاد عليه، فلم يمتحنه مثلما فعل مع غيره، ولم يدخله على الخليفة كما هي العادة مع كبار العلماء، خشية أن يقنع الواثق بالحق، فقد كان البويطي في هذا الوقت من أعلم أهل الأرض وأكثرهم فقها. فأمر ابن أبي دؤاد بإلقائه في غياهب السجون مباشرة. ظل البويطي في غياهب السجون لشهور عديدة مثالا للعالم الرباني، يوسفي السيرة والمسيرة، صلاة وذكر وعبادة وقراءة وتضرع، وتعليم للمساجين، ومناظرة للمبتدعة الذين كان يرسلهم لطاغية كل يوم من أجل مناظرة البويطي في المسألة.
وفي سجن أبي يعقوب نرى مشهدًا آخر يرقق الأفئدة، ويعظم من مكانة هذا الرجل حيث يشعرنا بعمق إيمانه، وقوة صلته بالله - عز وجل -؛ فقد كان أبو يعقوب إذا سمع المؤذن وهو في السجن يوم الجمعة اغتسل ولبس ثيابه ومشى حتى يبلغ باب الحبس فيقول له السجان: أين تريد؟ فيقول: حيث داعي الله فيقول: ارجع عافاك الله، فيقول أبو يعقوب: اللهم إنك تعلم أني قد أجبت داعيك فمنعوني.
هذه الأحوال الربانية، والثبات العجيب زاد في غضب ابن أبي دؤاد، وحقده وغله على البويطي، فأمر بتشديد الأغلال والقيود عليه، فلفوه كله بالحديد، حتى لم يعد قادرا على الحركة إلا بصعوبة كبيرة. أثر ذلك التشديد في نفسية الإمام تأثيرا بالغا، فقد عرف الطاغية أن يناله في مقتل، ويضيق عليه في أعز ما يملك؛ الصلاة وقيام الليل والعبادات، فكان الإمام يعاني من صعوبة بالغة في الحركة ودخول الخلاء والتطهر للصلاة، ولنقرأ هذه الرسالة المؤثرة التي أرسلها من محبسه إلى الإمام الذهلي وهو من كبار علماء الحديث في خراسان واصفا حاله، فكتب له يقول: " يا أبا يحيي قل لإخواني أصحاب الحديث، وطلبة العلم أن يدعو الله تعالى أن يفك كربتي، فلقد كبلوني بالحديد حتى أني لم أعد أتطهر وأصلي كما ينبغي، عسى الله أن يفرج عني ما أنا فيه بدعائهم ". فلما قرأ الإمام الذهلي الرسالة على المجلس بكى وبكوا جميعا وضجوا له بالدعاء.
ظل البويطي يدعو الله أن يخلصه من هذا الكرب العظيم بعد أن عجز عن الحركة ودخول الخلاء والصلاة من القيود والأغلال، وسرعان ما جاء الفرج، كأن أبواب السماء كانت مفتوحة عند دعائه، فجاء الفرج سريعا من رب السماء إلى عبده ووليه البويطي، وأخرجه الله - عز وجل - من السجن الكبير، أخرجه من سجن الدنيا التي لاقى فيها من أهلها الظلم والعنت والحسد والحقد والوشاية، أخرجه المولى سبحانه إلى الأفق الرحب، والسعادة السرمدية، والراحة الأبدية، أخرجه إلى جنات عرضها السموات والأرض ــ فيما نحتسبه على الله ــ ومات البويطي في محبسه وقيوده وأغلاله، وأمر أن يدفن في قيوده لا تفك عنه، ليخاصم أعداءه أمام الله تعالى يوم القيامة، وخرجت روحه الطاهرة منتصرة على خصومه الذين لم ينالوا إلا من دنياه. وهكذا العلماء الربانيون، ثابتون على الدرب، صامدون أمام الباطل، غير مبالين بضغوط ولا إغراءات، فما عند الله عز وجل خير، وأبقى، ولكن أكثر علماء الزمان لا يعلمون.
الإمام البويطي هو الإمام العلاّمة، سيد الفقهاء، وكبير الشافعية، جبل العلم، أبو يعقوب يوسف بن يحيي القرشي البويطي، أخص تلاميذ الإمام الشافعي، وأنجبهم، وأقربهم إلى قلبه، ووارث حلقته، وخليفته في درسه بعد وفاته.
لا يعلم على وجه التحديد متى ولد، ولكنه يرجع لأرومة قرشية أصيلة، والبويطي نسبة إلى قرية بويط بصعيد مصر، حيث استقرت اسرته منذ الفتح الإسلامي لمصر في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
تلقى العلم على يد شيوخ قريته الصغيرة؛ بويط، ثم انتقل إلى العاصمة؛ الفسطاط التي كانت تعتبر أحد القلاع العلمية في العالم الإسلامي وقتها، فجلس إلى شيخ المالكية وكبيرهم؛ الإمام ابن وهب، وحمل عنه علما كثيرا، فلما دخل الشافعي - رحمه الله - مصر سنة 198ه، في رحلته العلمية الشهيرة، جلس إليه البويطي، فانبهر بعلمه، وأدرك أنها فرصة لا تعوض، فلزم مجلسه ولم يفارقه، فتخرج به على الأصول والفروع، فحاز علم المذهبين؛ المالكي والشافعي.
وكان البويطي ذا حظ وافر من الفهم والذكاء وسرعة البديهة، فصار أكبر وأنجب تلاميذ الشافعي، واكثرهم فهما لدقائق مذهبه ومسائله.
ثناء الشافعي والناس عليه:
قد كان للبويطي منزلة عظيمة عند الإمام الشافعي، فقد كان الشافعي معجبًا بنجابة تلميذه وحبه للعلم ومقدرًا لنبوغه، قال الربيع: كان أبو يعقوب من الشافعي بمكان مكين، وربما يسأله أحد عن المسألة فيقول: سل أبا يعقوب فإذا أجاب أخبره، فيقول: هو كما قال، ولعل الدافع لذلك كان نابعًا عن رغبة الإمام الشافعي في أن يكون البويطي خليفة له في حلقة العلم مما كان يبعثه على إعداده وتأهيله وتعريف الناس بعلمه، وتأكد الجميع من وصوله إلى الدرجة التي تؤهله إلى خلافته، ومن ثم رأينا الإمام الشافعي يقول: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف بن يحيى، وحين مرض الشافعي بمصر كان في حلقته من كبار تلامذته البويطي ومحمد ابن عبد الله بن عبد الحكم والمزني، فاختلفوا في الحلقة أيهم يقعد فيها، وتنازعوا الرياسة فبلغ محمد بن إدريس الشافعي، فقال الحلقة ليوسف بن يحيى البويطي من شاء يقعد فيها ومن شاء قام، وليس أحد من أصحابي أعلم منه.
وقد كان البويطي فصيح اللسان قوي البيان ناصع الحجة جريئًا في الحق، وقد روي عن الإمام الشافعي أنه قال: أبو يعقوب لساني، وربما جاء إلى الشافعي رسول صاحب الشرطة فيوجه أبا يعقوب البويطي ويقول هذا لساني، وذلك لردع المفسدين والانكار على المجنة والفاسقين، الأمر الذي يجسد ثقة الإمام الشافعي القوية في ذكاء البويطي وجراءته، وقدرته على الرد والإقناع.
وقد بلغ البويطي درجة عظيمة في العلم حتى قال الشافعي: ليس في أصحابي أعلم من البويطي، وقد اختاره من دونهم كما عرفنا ليخلفه في حلقة العلم، فكانت حلقته أعظم حلقة في المسجد، ورجع الناس والسلطان إليه في الفتيا. وقال النووي: إن أبا يعقوب البويطي أجل من المزني والربيع المرادي، ولكي نعرف المدى الذي وصل إليه البويطي لابد أن نعرف أن المزني والربيع المرادي قاماتان شامختان في العلم والدين، وكان لهما مكانهما عند الإمام الشافعي، فأما الربيع فقد قال الشافعي فيه: إنه أحفظ أصحابي، وقد كان الناس يرحلون إليه من أقطار الأرض ليأخذوا عنه علم الشافعي، ويرووا كتبه، وأما المزني فكان زاهداً عالماً مجتهداً مناظراً محجاجاً غواصاً على المعاني الدقيقة صنف كتباً كثيرة، قال الشافعي: المزني ناصر مذهبي.
أما عن مؤلفات البويطي لفه كتاب "المختصر" المشهور، والذي اختصره من كلام الشافعي رضي الله عنه، قال أبو عصام: هو في غاية الحسن، على نظم أبواب المبسوط، ولهذا الكتاب مكانة كبيرة في الفقه الشافعي، ومن الطرائف أن المختصر كان سببًا في تسمية أحد العلماء وهو أبو عبد الله النسوي الشافعي بالبويطي، فقد كان عنده مختصر البويطي في الفقه على مذهب الشافعي، فكان يقول قرأت البويطي، وكررت البويطي، فلقب بالبويطي. وفي العصر الحديث أشعل الدكتور زكي مبارك جدلاً واسعًا حين ألف كتابًا سماه "إصلاح أشنع خطأ في تاريخ التشريع الإسلامي": كتاب الأم لم يؤلفه الشافعي، وإنما ألّفه البويطي، وتصرف فيه الربيع بن سليمان"، وقد رد عليه مجموعة من العلماء ردًا فندوا فيه ما ادعاه في كتابه، ومن هؤلاء المحقق العلامة أحمد شاكر فِي مقدمة تحقيقه للرسالة للشافعي، والشيخ محمد أبي زهرة في كتابه "الشافعي".
أما عن زهده وورعه وعبادته، فقد قال عنه الإمام الذهبي في ترجمته في السير: " كان إماما في العلم، وقدوة في العمل، زاهدا، ربانيا، متهجدا، دائم الذكر ". وصفه الإمام السبكي بأنه: " متنوع في صنائع المعروف كثير التلاوة لا يمر يوم وليلة حتى يختم. وقد روى أصحابه ما يدل على عمق تقواه وشدة ورعه وزهده، ففي بيته كانت حياته عبادة حيث كان دائم التقرب إلى الله بالصلاة وقراءة القرآن، قال أبو الوليد ابن أبي الجارود: كان البويطي جاري فما كنت أنتبه ساعة من الليل إلا سمعته يقرأ ويصلي، وأما في خارج بيته فلم يكن ذكر الله ليغيب عنه لحظة، يقول الربيع بن سليمان: كان البويطي أبداً يحرك شفتيه بذكر الله تعالى، وما رأيت أحداً أنزع بحجة من كتاب الله من أبي يعقوب البويطي، وقد كان في تقواه شبيهًا بأستاذه الشافعي، ويبدو أنه لم يستفد من علمه فحسب بل تأثر بزهده وورعه وتقواه، فسار على نهجه في الذروة من العبادة والعلم والعمل. قال ابن خلكان: "البويطي صاحب الشافعي - رحمه الله -، كان واسطة عقد جماعته، وأظهرهم نجابة، وكان صالحا متنسكا، عابدا، زاهدا ".
محنته وجراءته وثباته:
يعتبر الحسد هو الباعث الرئيس لمحنة الإمام البويطي، فقد كان رحمه الله وارث علم الشافعي وخليفته في مجلسه، وأكثر علماء مصر قبولا وهيبة وأتباعا، فقد كانت حلقته في المسجد أعظم الحلقات، ومجلسه غاص بالطلبة من مصر وخارجها، حتى صار تلاميذه بعشرات الآلاف في مصر وخارجها. في هذه الفترة كانت بدعة القول بخلق القرآن قد بدأت تروج في المشرق الإسلامي، خاصة بعاصمة الخلافة بغداد، على يد المعتزلة الذين وجدوا دولة تحتضنهم، وسلطة ترعاهم، هي دولة الخليفة المأمون العباسي الذي كان يحب علوم الفلسفة والكلام والمنطق، دون بصيرة ولا آلة تكمنه من بيان الحق، والتفرقة بين الغث والسمين، فوقع في حبائل المعتزلة، واستولوا على عقله، ومجامع فؤاده، فصارت الدولة لهم، ومع الوقت حملوه على القول بخلق القرآن، ودعوة الناس لقول بها.
ونظرا لوجود العلماء والفقهاء والمحدثين بكثرة وقتها في العراق، فقد وجد المأمون صعوبة في إقناع الناس بذلك، ولكن مع دخول سنة 218 ه قرر المأمون حمل الناس على القول بهذه البدعة الكفرية، وإلزام الناس كافة بما فيهم العلماء والمحدثين والأئمة بالقول بها. لم يطل الأمر بالمأمون كثيرا ليري ثمرة فعلته الآثمة، فمات من عامه ذلك، وتولى الخلافة بعده أخوه المعتصم وكان شجاعا عسكريا مشغولا بالفتوحات والغزو، ولكنه كان في نفس الوقت أميا جاهلا، فأوصاه أخوة المأمون بمواصلة إجبار الناس على القول بخلق القرآن، وبالفعل أجاب وصية أخيه، وكانت محنة الإمام أحمد الشهيرة.
وتوفي المعتصم سنة 227 ه، وخلفه ابنه الواثق وكان أشد الناس اعتناقا بالبدعة، وأشدهم أيضا رغبة في نشرها، والسر في ذلك استيلاء قاضي المحنة وإمام البدعة " أحمد بن أبي دؤاد الإيادي " عليه وثقته العمياء في هذا الشيطان المريد قد دفعته لإطلاق يديه في التصرف في هذا الشأن بالصورة التي تحلو له، ومن ثم كانت المحنة العامة لأهل السنة عامة، وللأئمة الأعلام خاصة.
استغل أحمد بن أبي دؤاد طاعة الواثق العمياء له، فوضع خطة واسعة من أحل نشر هذه البدعة بين المسلمين بشتى الطرق، فأقنع الواثق بضرورة تعيين كل القضاة والولاة والأئمة وجميع موظفي الدولة، حتى معلمي الصبيان في الكتاتيب ممن يقول بهذه البدعة، وتتبع كل من يقول بخلافها، والقضاء عليه والتنكيل به، ووصل الأمر لذروته بأنه قد أمر باختبار الأسرى المسلمين لدى الروم فمن قال منهم بخلق القرآن افتكه، ومن رفض تركه أسيرا لدى الروم في سابقة لم يعرف التاريخ مثلها من قبل.
نظرا لهذه السياسة الشنيعة تم تولية القاضي المعتزلي أبي بكر الأصم في منصب قاضي مصر، فلما دخلها هاله مكانة الإمام البويطي وطاعة الناس له، وكان البويطي جرئيا في الحق لا يبالي في سبيل ذلك ببطش طاغية، ولا بوشاية خسيس. كان البويطي أيضا سدا منيعا أمام انتشار هذه البدعة في مصر، فسعى به أبو بكر الأصم عند قاضي المحنة بن أبي دؤاد، وكتب إليه أن البويطي يحول بين نشر البدعة في الديار المصرية، فكتب بن أبي دؤاد إلى والي مصر وأمره بامتحان البويطي على خلق القرآن فإن أجاب وإلا وضعه في السجن. وكان الوالي محبا للبويطي، معظما لعلمه وورعه، ويكره أن يكون سببا في سجنه، فلما مثل البويطي بين يديه، أمر الوالي بإخلاء المجلس، وسارر البويطي بالأمر وقال له: "يا أبا يعقوب ابق على نفسك، وقل بالأمر سرا بيني وبينك، فأنا لا أملك مخالفة ابن أبي دؤاد، وأنت تعلم مكانه من الواثق ". فإذا بالأمام البويطي يضرب مثالا رائعا في فهم مكانة الإمام، وطبيعة دوره في قيادة الأمة وقت الفتن والأزمات، حيث أبى الترخص في الأمر، وعمل بالعزيمة، وقال للوالي: " إنه يقتدي بي مائة ألف أو يزيدون، لا يدرون أني أتظاهر فقط بالموافقة، وإن أجبت أجابوا هم أيضا ".
فلما علم الطاغية بن أبي دؤاد أمر بسجنه وحمله إلى بغداد في الحديد الثقيل وذلك سنة 233 ه. ويصور لنا الربيع بن سليمان مشهدًا بقدر ما يكشف لنا عن بشاعة التعذيب الذي واجهه البويطي بقدر ما يكشف لنا عمق الإيمان، وقوة الإصرار والصلابة والثبات للنفس المؤمنة التي ترفض الإقرار إلا بما يمليه الضمير، وتأبى إلا أن تكون قدوة في التمسك بالحق مهما كان الثمن، ومهما عظمت التضحية، يقول الربيع بن سليمان: رأيت البويطي على بغل، في عنقه غل وفي رجليه قيد، وبين الغل والقيد سلسلة من حديد فيها طوبة وزنها أربعون رطلاً، وهو يقول: إنما خلق الله - سبحانه - الخلق بِكُنْ، فإذا كانت كن مخلوقة فكأن مخلوقاً خلق مخلوقاً، فوالله لأموتن في حديدي حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه مات في هذا الشأن قوم في حديدهم، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه يعني الواثق. فانظر إلى أمانة العالم وحرصه على الدفاع عن الحق وتبليغ رسالته حتى في أحلك الظروف.
حمل البويطي من الفسطاط إلى بغداد في القيود والأغلال، وهي مسافة طويلة تستغرق عدة أسابيع، ومع ذلك كان طوال الرحلة آمارا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، مرشدا واعظا، معلما مربيا، لكل من مر عليه من المسلمين، مما زاد من حنق ابن أبي دؤاد عليه، فلم يمتحنه مثلما فعل مع غيره، ولم يدخله على الخليفة كما هي العادة مع كبار العلماء، خشية أن يقنع الواثق بالحق، فقد كان البويطي في هذا الوقت من أعلم أهل الأرض وأكثرهم فقها. فأمر ابن أبي دؤاد بإلقائه في غياهب السجون مباشرة. ظل البويطي في غياهب السجون لشهور عديدة مثالا للعالم الرباني، يوسفي السيرة والمسيرة، صلاة وذكر وعبادة وقراءة وتضرع، وتعليم للمساجين، ومناظرة للمبتدعة الذين كان يرسلهم لطاغية كل يوم من أجل مناظرة البويطي في المسألة.
وفي سجن أبي يعقوب نرى مشهدًا آخر يرقق الأفئدة، ويعظم من مكانة هذا الرجل حيث يشعرنا بعمق إيمانه، وقوة صلته بالله - عز وجل -؛ فقد كان أبو يعقوب إذا سمع المؤذن وهو في السجن يوم الجمعة اغتسل ولبس ثيابه ومشى حتى يبلغ باب الحبس فيقول له السجان: أين تريد؟ فيقول: حيث داعي الله فيقول: ارجع عافاك الله، فيقول أبو يعقوب: اللهم إنك تعلم أني قد أجبت داعيك فمنعوني.
هذه الأحوال الربانية، والثبات العجيب زاد في غضب ابن أبي دؤاد، وحقده وغله على البويطي، فأمر بتشديد الأغلال والقيود عليه، فلفوه كله بالحديد، حتى لم يعد قادرا على الحركة إلا بصعوبة كبيرة. أثر ذلك التشديد في نفسية الإمام تأثيرا بالغا، فقد عرف الطاغية أن يناله في مقتل، ويضيق عليه في أعز ما يملك؛ الصلاة وقيام الليل والعبادات، فكان الإمام يعاني من صعوبة بالغة في الحركة ودخول الخلاء والتطهر للصلاة، ولنقرأ هذه الرسالة المؤثرة التي أرسلها من محبسه إلى الإمام الذهلي وهو من كبار علماء الحديث في خراسان واصفا حاله، فكتب له يقول: " يا أبا يحيي قل لإخواني أصحاب الحديث، وطلبة العلم أن يدعو الله تعالى أن يفك كربتي، فلقد كبلوني بالحديد حتى أني لم أعد أتطهر وأصلي كما ينبغي، عسى الله أن يفرج عني ما أنا فيه بدعائهم ". فلما قرأ الإمام الذهلي الرسالة على المجلس بكى وبكوا جميعا وضجوا له بالدعاء.
ظل البويطي يدعو الله أن يخلصه من هذا الكرب العظيم بعد أن عجز عن الحركة ودخول الخلاء والصلاة من القيود والأغلال، وسرعان ما جاء الفرج، كأن أبواب السماء كانت مفتوحة عند دعائه، فجاء الفرج سريعا من رب السماء إلى عبده ووليه البويطي، وأخرجه الله - عز وجل - من السجن الكبير، أخرجه من سجن الدنيا التي لاقى فيها من أهلها الظلم والعنت والحسد والحقد والوشاية، أخرجه المولى سبحانه إلى الأفق الرحب، والسعادة السرمدية، والراحة الأبدية، أخرجه إلى جنات عرضها السموات والأرض ــ فيما نحتسبه على الله ــ ومات البويطي في محبسه وقيوده وأغلاله، وأمر أن يدفن في قيوده لا تفك عنه، ليخاصم أعداءه أمام الله تعالى يوم القيامة، وخرجت روحه الطاهرة منتصرة على خصومه الذين لم ينالوا إلا من دنياه. وهكذا العلماء الربانيون، ثابتون على الدرب، صامدون أمام الباطل، غير مبالين بضغوط ولا إغراءات، فما عند الله عز وجل خير، وأبقى، ولكن أكثر علماء الزمان لا يعلمون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق